مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

تأملات قرآنية: (… وليتذكر أولو الالباب)

نصّت آية سورة “ص” (وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الألْبَاب)[ص28] إلى أنَّ التَّذكُّرَ منزلة جليلةّ، ومرتبة منيفة، تنبني على مرتبة أخرى تعد بمثابة التكملة لها، وهي مرتبة حسن التدبر؛ فمن وفق في الثانية، حصّل الأولى ونالها، ومن قام بشيءٍ من حق التَّدبُّر كان له من نصيبه من التذكر على قدر لبّه وعزيمته.

فبعد أن ذكر سبحانه، في هذه الآية الكريمة، أنه أنزل هذا الكتاب الكريم، معظّما نفسه جلّ وعلا، بصيغة الجمع(كتاب أنزلناه إليك)، وأنه كتاب مبارك(مبارك)، وأنّ من حكم إنزاله أن يتدبر الناس آياته، ويتصفحوها، ويتفهموها، ويتعقلوها، ويمعنوا النظر فيها، حتى يدركوا معانيها، ويصلوا إلى هداياتها، ويتحققوا بأنوارها (ليتدبروا آياته).. أرشد سبحانه إلى طرف عزيز من حكم ومقاصد هذا الإنزال المبارك؛ وهي صريح قوله تعالى: (وليتذكر أولو الألباب)[ص28]؛ تذكّرا أوعيته القلوب والعقول، وليس الأفواه والألسن فقط.. منهجه تدبر حقيقة الألفاظ، والوقوف عند معانيها ومشاهدها.. وليس فقط ترديد حروفها وتكرار كلماتها

وأكثر الناس تفكّرا، وتدبرا، وتذكرا لآيات الذكر الحكيم، رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عطاء بن أبي رباح قال: قلت لعائشة: “أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: “وأيُّ شأنه لم يكن عجبًا! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: “ذريني أتعبدُ لربي”، فقام فتوضأ، ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله! ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر”؟ قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا، ولمَ لا أفعل وقد أُنزل علي هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران 190-191] ثم قال: “ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”. أخرجه ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد (620).

والناظر في القرآن الكريم يرى أن كثيرًا ما يقرن السياق القرآني التذكر بأولي الألباب؛ من ذلك قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ) [البقرة269] واللب هو خالص القلب الذي به يكون التفكر والتذكر، وهو ما قرره المولى سبحانه، عندما حث عباده المخلصين على تدبر القرآن الكريم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء 8]

من هنا يظهر أن استفراغ الجهد في التدبّر والتفكر من جليل العبادات وأعظمها، الموصلة إلى بعض حكم هذا الكتاب الكريم، وبعض أسراره، نسأله سبحانه أن يرزقنا فهم بعضها، وأن نندرج في موكب أهلها.

د.محمد المنتار

• مدير البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء.
• رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق