مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

يقول الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسني رضي الله عنه مبينا أصول الكفر والبدع:

وأما البدعة الناشئة عن تقليد مجرّد ظواهر الكتاب والسنة فكثير جدّا، كأخذ المجسمة الجسمية من ظاهر قوله تعالى: ﴿لِـمَا خلقتُ بيديّ﴾ [ص:75] ونحوه، والاختصاص بجهة فوقٍ بطريق التحيُّز وعمارة الفراغ، كاختصاص الأجرام من قوله تعالى: ﴿على العرش استوى﴾ [طه:5] وقوله تعالى: ﴿يخافُون ربَّهم من فوْقهم﴾ (النحل: 50) ونحو ذلك، وكأخذهم أيضاً الجِسمية والجهة والانتقال بالحركة والسكون من قوله صلى الله عليه وسلم: “ينزل ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل” [أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما، والإمام مالك في موطئه].

ومشكلات الكتاب والسنة كثيرة جدّاً، وقد صنف العلماء في جمعها والكلام عليها تصانيف، والضابط الجُملي في جميعها أن كل مشكل منها مستحيل الظاهر فإنه ينظر فيه، فإذا كان لا يقبل التأويل إلا معنًى واحداً وجب أن يُحمل عليه، كقوله تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ [الحديد: 4]؛ فإن المعيّة بالتحيّز والحلول بالمكان مستحيلة على المولى –تبارك وتعالى-؛ لأنها من صفات الأجسام، فتعين صرف الكلام عن ظاهره، ولا يقبل هنا إلا تأويلاً واحداً دلّ عليه السّياق، وهو المعية بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً.

وإن كان يقبل من التأويل أكثر من معنىً واحدٍ، كقوله تعالى: ﴿تجري بأعيننا﴾ [القمر:14] وقوله جل وعلا: ﴿لِـما خلقت بيديّ﴾ (ص:75) وقوله تعالى: ﴿على العرش استوى﴾ [طه:5] ونحوه، فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب:

-المذهب الأول: وجوب تفويض معنى ذلك إلى الله تعالى، بعد القطع بالتنزيه عن الظاهر المستحيل، وهو مذهب السلف. ولهذا لما سأل السائل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى: ﴿على العرش استوى﴾ [طه:5] قال في جوابه: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن مثل هذا بدعة”، وأمر بإخراج السائل. يعني –رضي الله عنه – أن الاستواء معلوم من لغة العرب ومحامله المجازية التي تصح في حق الله تعالى، والمراد في الآية منها أو من غيرها ممّا لم نعلمه مجهول لنا، والسؤال عن تعيين ما لم يرد نصّ من الشرع بتعيينه بدعة، وصاحب البدعة رجل سوء تجب مجانبته وإخراجه من مجالس العلم؛ لئلا يُدخل على المسلمين فتنةً بسبب إظهار بدعته.

المذهب الثاني: جواز تعيين التأويل للمشكل، ويرجّح على غيره مما يصح بدلالة السياق أو بكثرة استعمال العرب للفظ المشكل فيه، فتُحمل العين على العلم أو البصر أو الحفظ، وتحمَل اليد على القدرة أو النعمة، ويحمل الاستواء على القهر والغلبة، وهذا مذهب إمام الحرمين وجماعة كثيرة من العلماء.

– المذهب الثالث: حمل تلك المشكلات على إثبات صفاتٍ لله تعالى تليق بجلاله وجماله، لا يُعرَف كنهها. وهذا مذهب شيخ أهل السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ورضي عنه.

قلت: والظاهر أن من احتاط وعبّر فيما يذكره من تأويل لذلك المشْكل بلفظ الاحتمال، فيقول: يحتمل أن يكون المراد من الآية أو الحديث كذا، فقد سلِم من التجاسر وسوء الأدب بالجزم بتعيين ما لم يقم دليل قطعيّ على تعيينه، والله أعلم.

 “كتاب شرح المقدمات تحقيق نزار حمادي، تقديم الأستاذ سعيد عبد اللطيف فودة، الطبعة الأولى 1430هـ – 2009، مؤسسة المعارف، بيروت لبنان. ص: 119-120-121-122-123.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق