مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

وقفات مع حديث: « لكم أنتم أهل السفينة هجرتان»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراًوبعد؛

     فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري قال: «بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم: أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، -إما قال في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو: اثنين وخمسين رجلا في قومي-، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا -يعني: لأهل السفينة -سبقناكم بالهجرة . ودخلت أسماء بنت عميس -وهي ممن قدم معنا- على حفصة زوج النبي صلى الله عليه  وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة -وأسماء عندها- فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: آلحبشية هذه؟  البحرية هذه ؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقانكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار – أو في أرض – البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله ورسوله صلى الله عليه و سلم، وايم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن كنا نؤذي ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم وأسأله والله، ولا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه . فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا ؟ قال: « فما قلت له ؟» . قالت: قلت له كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم – أهل السفينة – هجرتان». قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم . قال أبو بردة: قالت أسماء: رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني([1]).

من خلال هذا الحديث الشريف أقف وإياكم وقفات نتأمل فيها معانيه الغزيرة، وفوائده ودرره المنيفة، ومن المعاني المستمدة من الحديث  نذكر:

وقفات مع هذا الحديث

الوقفة الأولى: في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأسماء  بنت عميس رضي الله عنها: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم» إشارة  إلى  جواز الفرح بفضل الله ورحمته والتحدث بذلك. قال الأبي: « إن هذا القول منه إنما على وجه الفرح بنعمة الله تعالى والتحدث بها؛ لما علم من عظيم شأن أجر الهجرة، لا على وجه الفخر، ولما سمعت أسماء ذلك غضبت على وجه المنافسة في الأجر»([2]).

الوقفة الثانية: لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أحق الصحابة به عليه الصلاة والسلام، وأن لهم أجر الهجرتين (الحبشة والمدينة) دلالة على أن ذلك خاص بهم، والخصوصية لا تقتضي التفضيل، فلا يقال أنهم أفضل من غيرهم.

الوقفة الثالثة: وفي قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا» دلالة على أهمية تأليف القلوب بالمال في الدعوة إلى الله تعالى. قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم»([3])، وهذا فيه بيان فضيلة عظيمة للذين هاجروا الهجرة الأولى إلى الحبشة.

الوقفة الرابعة: وفي قول أسماء:«فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث» فيه تصريح إلى أهمية الحرص على أخذ العلم من مصادره  مباشرة بدون واسطة عند الاستطاعة.

الوقفة الخامسة: وفي قول أسماء لعمر: «كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم»دلالة على أهمية الصبر وتحمل الصعاب رغبة فيما عند الله من الأجر والثواب.

الخاتمة:

     أرجو بعد هذه الوقفات أن أكون قد وفقت في بيان معنى هذا الحديث، وما اشتمل عليه من الفوائد والحكم، واللَّهَ أسأل أن يجعل عملي صالحاً،  ولوجهه خالصاً، وأن يجمعني وإياكم مع نبينا ﷺ في جنات النعيم، وينفعنا بهذه الوقفات إنه جواد كريم.

***************

هوامش المقال:

([1]) أخرجه البخاري في صحيحا (3/ 140) كتاب: المغازي باب: غزوة، باب: غزوة خيبر، برقم: (4230)، ومسلم في صحيحه (2/1168) كتاب: فضائل الصحابة، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب، وأسماء بنت عميس، وأهل سفينتهم رضي الله عنهم برقم: (2502).

([2]) إكمال إكمال المعلم (6 /343).

([3]) صحيح البخاري (2 /399) كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين برقم: (3136)، ومسلم في صحيحه (2 /1168) كتاب: فضائل الصحابة ، باب: ومن فضائل جعفر بن أبي طالب، برقم: (2502).

****************

المراجع المعتمدة:

-صحيح مسلم. أبو الحسين مسلم بن الحجاج مع شرحه: إكمال إكمال المعلم أبو عبد الله الأبي وشرحه المسمى: مكمل إكمال الإكمال أبو عبد الله محمد بن محمد السنوسي. دار الكتب العلمية بيروت. (د-ت)

-الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

-صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

*راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق