مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

وظيفة الإشارة في توصيل التنمذج

     إذا الغرض من التخليق هو كما قلنا التسلف العملي، وكانت وسيلته التحصيلية في ذلك هي التنمذج، فإن وسيلته التوصيلية[1] فيه هي «الإشارة»، ومرادنا في هذا الموضع هو التدليل على الثانية:

من المعلوم أن أهل التخليق يختصون بخطاب يتميز بسمتين جوهرتين:

    -أولاهما: أنه مزود بمعجم اصطلاحي تقني دقيق على معانيه إلا من اشتغل بعلم التخليق، وانخرط في سلك المتسلفين.

     -ثانيهما: أنه مختص بإيثار التعبير غير المباشر على التعبير المباشر.

    فإذا كانت الخاصية الاصطلاحية للخطاب التخليقي مشتركة بينه وبين كل المجالات المعرفية التي يتعاطى أصحابها التدقيق للمفاهيم والتشقيق للألفاظ، حتى تجتمع لهم حصيلة اصطلاحية لا يستوعبها إلا المختص، فلا حاجة للوقوف عندها، ولا وجه مقبول للتحامل الذي يتعرض له أهل التخليق بهذا الصدد، على الرغم مما امتاز به علمهم من آليات محكمة في الاصطلاح، لم يسبقوا إليها، بل لم يعرفها غيرهم في ممارستهم للميادين العلمية الأخرى.

    أما تفضيل أهل التخليق للتعبير غير المباشر، فهو خاصية يكاد هؤلاء يتفردون بها إذا نحن أدخلنا في الاعتبار مدى انتشار هذا الاستعمال في كلامهم ومدى أخذهم بالتأويل.

    ويصطلح هؤلاء على هذا الأسلوب الخاص في التبليغ باسم «الإشارة»حتى عرفوا به، فقيل «أهل الإشارة»، وقد جيء بتعديلات مختلفة لهذه الظاهرة اللغوية منها:

    أ-أن المعاني الروحية أسرار غيبية لا ينبغي البوح بها لغير أصحابها، ويحتمل هذا التعليل مفهوما وهو أنه بالإمكان إفشاء هذه المعاني بطريق اللغة لمن صار منتسبا إلى أصحاب هذه المعاني.

    ب-أن هذه المعاني رقائق متعالية على التجربة العادية التي وضعت اللغة الطبيعية أصلا للتعبير عنها، لذا تقصر عن أدائها قوالب هذه اللغة الكثيفة ومقولات العقل المجرد الذي يتحكم فيها.

    ج-أن هذه المعاني متفاوتة فيما بينها، إذ تختلف باختلاف المراحل التي ينتقل فيها المتقرب، فلا يدرك المعنى إلا صاحبه، ويخفى على الذي لم يبلغ مستواه التخلقي، فتكفي الإشارة حتى يأخذ منه ما يناسبه.

    د-أن هذه المعاني تقوم في المعاناة الداخلية والمعايشة الفعلية، ولا يمكن نقلها إلى اللغة الطبيعية نقلا يوفيها حقها من حيث هي تجربة مباشرة، ولو فعلنا، لفقدت هذه المعاني دلالتها الحية، وحالت إلى تصورات ميتة ربما حادت بالمدلول إلى خلافه.  

    وعلى ما في بعض هذه التبريرات لإشارية الخطاب التخليقي من الصواب، فإنها جميعها تغفل جانب التنمذج الذي يقوم عليه التخليق، والذي يجعل هذا الخطاب أنسب وسيلة تبليغية لنقل مقاصد النموذج إلى المتقرب نقلا يسمح له بأن يستفيد من هذه المقاصد على الوجه الأفضل. 

    وعندنا، أن الإشارة لها من الأوصاف التبليغية ما يجعلها أوفى بغرض النموذج من العبارة، لأن هذه الأوصاف تقابل ما عند النموذج من الأوصاف التخليقية، فلنتأمل في هذا التقابل الوصفي بين الإشارة والنموذج.

الإشارة مشخصة تشخص النموذج.

    من المعلوم أن الحقيقة النموذجية تختلف عن القانون الأخلاقي العقلي، ذلك أن هذا القانون لا يحصل قيمته إلا بقدر ما يكون متغلغلا في العموم والتجريد، ومستقلا عن كل تلوين بالواقع المتعين، أما النموذج، فيظهر في خصوصية واقعية وتاريخية تجعل كل فعل خلقي صادر منه فعلا مشخصا في ظروف مكانية وصروف زمانية مشخصة، وليس يخفى أن هذا التشخص أدل على السلوك الذي ينبغي اتباعه من القانون الأخلاقي العقلي، وأغنى من أن يحتاج إليه هذا القانون من أدلة عقلية مختلفة لإثباته وإقناع الغير به.

    فكما أن النموذج حقيقة مشخصة، فكذلك الإشارة تعبير مشخص، فمعلوم أن الإشارة هي دلالة اللفظ على المعنى غير معنى الذي وضع له أصلا لعلاقة المشابهة بين المعنيين، وأن المتسلف إذا ألقى إليه النموذج بجملة كانت هذه الجملة بمنزلة إشارة، أي لها دلالة لا يحملها ظاهر الجملة، فكان لابد لهذه الدلالة أن تنتمي لمجال دلالي معين هو التجربة الروحية التي يحياها المتسلف في مقام الكلام والتي يصطلح عليها باسم «الحال» والحال يتميز بالصفتين التاليتين:

    أ-أنه تجربة وجودية لا لغوية، بمعنى أن التبليغ فيه لا يقع إلا بطريق المشاركة والعلم بهذه المشاركة.

    ب-أنه تجربة وجدانية لا نظرية مجردة، بمعنى أنه شعور حي يجده المتسلف في قلبه.

ولما كانت الإشارة معنى وجوديا وجدانيا، وجب لها وصف التشخص، مثلها مثل النموذج، هذا التشخص الذي ينتقي على مستوى «العبارة» التي هي الدلالة الحقيقية للجملة في مقابل الإشارة، فلا يمكن للعبارة أن تقوم مقام المعنى المشخص الذي يقترن بالإشارة لأنها لا تخلو من أحد الأمرين، إما أنها قول منطوق أو قول مكتوب.

    فإن كانت قولا منطوقا، فإنها تنطوي على تصورات مجردة لا توفي بغرض التشخص المميز للحال، وهذا بالذات وضع «الوعظ» و «الإرشاد»، فمن البين أن لا تلازم بين الجملة الوعظية وبين العمل بها، فقد يدرك مضمون الوعظ، ولا يقوم معناه بالقلب، فضلا عن الجهل بكيفية العمل التي لا تنفع فيها الشهادة، وإنما المشاهدة، ولا تفيد فيها الحكاية، وإنما المحاكاة.

    وإن كانت العبارة قولا مكتوبا، فإنها تفقد بغياب قائلها، وبذهاب زمانها ومكانها، الأسباب الفاعلة في الإفادة الروحية والعملية، فضلا عن القصور الذي تشترك فيه مع المنطوق.

    وعلى هذا، فالإشارة على خلاف العبارة هي معنى لا ينفك عن التشخص كما لا ينفك عنه النموذج.  

هــــــــــــــــوامـــــــــــش

[1] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، ص 198-201. 

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق