مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

وسطية المذهب الأشعري

«ومع اتفاق المذهب الأشعري مع آراء الفقهاء والمحدّثين فيما شجر بينهم وبين المعتزلة من خلاف، وأخذه بظواهر النصوص أخذا مطلقا لا يعتمد فيه إلى أيّ تأويل، كان بعيدا عن أهل الأهواء بعدا مطلقا، وفي الحقيقة أن آراءه كانت وسطاً بين المغالين، بين النفي والإثبات، والمتجاذبين لأطراف النزاع من المعتزلة والحشوية والجبرية. وإن الدَّارس لحياة الأشعري يجد أن الذي يتفق مع اطّلاعه هو أن يختار مذهبا وسطا بعيدا عن المغالاة على أي شكل كانت المغالاة، وكتابه”مقالات الإسلاميين” لهذه الآراء، وهو قد اختار ذلك الوسط في الآراء الفلسفية التي لها صلة بالقرآن، وإن كان يتفق مع بعض الفقهاء في كل أمر ورد فيه أثر أو قرآن ولا يصعب على المتقصّي أن يثبت ذلك التوسُّط في كل فكرة من أفكاره.
فرأيه في الصفات وسط بين المعتزلة ومعهم الجهمية، وبين الحشوية والمجسمة، فالأوَّلون نفَوْا الصفات التي وردت في القرآن، ولم يثُبتوا إلا الوجودَ والقدَم والبقاءَ والوحدانيةَ، ونفَوْا السَّمع والبصَر والكلامَ وغيرها من الأوصاف الذاتية، وقالوا: ليست شيئا غير الذات، وقالوا: إنها في القرآن أسماءٌ لله تعالى كالرحمن والرحيم. والحشوية والمجسمة شبَّهوا ذاته تعالى في أوصافها بصفات الحوادث-تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وجاء الأشعري فأثبت الصفات التي وردت كلها في القرآن والسنة، وقرَّرَ أنها صفات تليق بذاته تعالى، ولا تشبه صفات الحوادث التي تسمَّى باسمها، فسمعُ الله تعالى ليس كسمع الحوادث، وبصرُه ليس كبصرهم، وكلامُه ليس ككلامهم.
ورأيُه في قدرة الله تعالى وأفعال الإنسان وسطٌ بين الجبرية والمعتزلة، فالمعتزلة قالوا: إن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إياه، والجبرية قالوا: إن الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء بل هو كالريشة في مهب الريح، فقال الأشعري: إن الإنسان لا يستطيع إحداث شيء، ولكن يقدر على الكسب.[1]وبالنسبة لرؤية الله يوم القيامة، قال المعتزلة: الله سبحانه وتعالى لا يُرى، وأوَّلوا النصوص القرآنية، ولم يأخذوا بالأحاديث النبوية لأنها أخبار آحاد، وقال المشبهة: إن الله يُرى يوم القيامة مكيَّفًا محدوداً، وسلك الأشعري مسلكا وسطا فقال: يُرى من غير حلول ولا حدود.
وبالنسبة للألفاظ التي وردت موهمة للتشبيه في القرآن والحديث مثل(يد الله فوق أيديهم)[2] قال المعتزلة: المراد سلطان الله تعالى فوقهم، وقال الحشوية(أي العامة من المنتسبين للعلم) يدُه يدٌ جارحة، وقال الأشعري: يده تليق بذاته الكريمة، وليست يدا جارحة كأيدينا، بل يده يد صفة كالسمع والبصر، وهذا ما جاء في كتاب الإبانة فإنه قد صرَّح بالتفويض بأن فوَّض اليد، ونفى التشبيه..
 وبالنسبة للقرآن قال المعتزلة: القرآن مخلوق محدث، خلقه الله تعالى، وقال الحشوية: الحروف المقطعة والأجسام التي يكتب عليها والألوان التي يكتب بها وما بين الدفتين غير مخلوق[3]، فسلك الأشعري طريقا وسطا، وقال: القرآن كلام الله غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع، وأما الحروف المقطعة والألوان والأجسام والأصوات فمخلوقات مخترعات.
وبالنسبة لمرتكب الكبيرة قال المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته إذا لم يتب عن كبيرته لا يخرج من النار، وقال المرجئة من غير أهل السنة: من أخلص لله سبحانه وتعالى وآمن به فلا تضرُّه كبيرةٌ مهما تكن، فسلك الأشعري طريقا وسطا، وقال: المؤمن الموحّد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة.
وبالنسبة للشفاعة قال الإمامية: إن للرسول شفاعة وللأئمة مثلها، وقال المعتزلة: لا شفاعة لأحد من العباد، فسلك الأشعري مسلكا وسطا، وقال إن للرسول صلوات الله وسلامه عليه شفاعة مقبولة في المؤمنين المستحقين للعقوبة، يشفع لهم بأمر الله وإذنه، ولا يشفع إلا لمن ارتضى، كسائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين..
وقد سلك الأشعري في الاستدلال على العقائد مسلك النقل ومسلك العقل، فهو يثبت ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف من أوصاف الله تعالى ورسله واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب، ويتجه إلى الأدلة العقلية والبراهين المنطقية يستدل بها على صدق ما جاء في القرآن والسنة عقلا، بعد أن وجب التصديق بها كما هي نقلا، فهو لا يتخذ من العقل حاكما على النصوص ليؤوّلها أو يُمضي ظاهرَها، بل يتخذ العقل خادماً لظواهر النصوص يؤيّدها. وقد استعان في سبيل ذلك بقضايا فلسفية، ومسائل عقلية خاض فيها الفلاسفة وسلكها المناطقة، والسبب في سلوكه ذلك المسلك العقلي:
أ‌- أنه تخرَّج على المعتزلة، وتربَّى على موائدهم الفكرية، فنال من مشربهم وأخذ من منهلهم، واختار طريقتهم في الاستدلال لعقائد القرآن، ولم يسلك طريقتهم في فهم نصوص القرآن والحديث، وقد سلك المعتزلة في طريقتهم في الاستدلال مسلك المناطقة والفلاسفة.
ب‌- وأنه قد تصدَّى للرَّد على المعتزلة ومهاجمتهم، فلابد أن يلحن بمثل حجتهم، وأن يتبع طريقتهم في الاستدلال ليفلج عليهم ويقطع شبهاتهم ويفحمهم بما في أيديهم ويرد حجتهم عليهم.
ج‌- وأنه قد تصدَّى للرَّد على الفلاسفة، والقرامطة، والباطنية وغيرهم، وكثير من هؤلاء لا يفحمه إلا الأقيسة المنطقية، ومنهم فلاسفة لا يقطعهم إلا دليل العقل.
وفي الحق أنه قد ضعُف شأن المعتزلة في القرن الثالث والقرن الرابع الهجري، وقد كانوا متصدين للرد على أهل الأهواء، وعلى الذين يهاجمون الإسلام، وأبلَوْا في ذلك بلاءً حسنا، فلما ضعُف شأنهم كان لابد أن يكون بين علماء السنة من يتولى ذلك العمل الكبير الخطير، لأنه تلميذ المعتزلة، وعرف بلاءهم في هذا الأمر، ولأنه صار إمام السنة المعروف في ذلك العصر، بعد أن زالت دولة المعتزلة.
وقد نال الأشعري لذلك منزلة عظيمة وصار له أنصار كثيرون، ولقي من الحكام تأييدا ونصرة، فتعقب خصومه من المعتزلة وأهل الأهواء والكفار، وبث أنصاره في الأقاليم يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها، ولقبه أكثر علماء عصره بإمام أهل السنة والجماعة..»
[تاريخ المذاهب الإسلامية-محمد أبو زهرة-دار الفكر العربي/مصر-طبعة/2009-ص:174-175-176-177]

 

الهوامش:

[1] تبيين كذب المفتري لابن عساكر-تحقيق:أحمد حجازي السقا-دار الجيل/بيروت –الطبعة الأولى/1995-ص:157-158
[2] سورة الفتح/الآية:10
[3] تبيين كذب المفتري-ص: 157-158

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق