مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية (6) إرهاصات قبل مولد سيد السادات صلى الله عليه وسلم

ظهور نجم أحمد صلى الله عليه وسلم في السماء

هاجر اليهود إلى مكة والمدينة ينتظرون ولادة النبي الخاتم أحمد صلى الله عليه وسلم الموجودة أوصافه في التوراة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾. [الصَّف/6]، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: “يعني: التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي المكي أحمد، فعيسى عليه السلام، هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، قد أقام في ملاْ بني إسرائيل مبشراً بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة”[1].

ونجم أحمد  عليه السلام هو نجم لامع في السماء، له خصائص تختلف عن غيره من النجوم، وقد عرف به اليهود أن أحمد خاتم الأنبياء قد وُلِدَ، روى ابن إسحاق عن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: “والله، إني لغلام يفعةٌ (شبَّ ولم يبلغ)، ابن سبع سنين أو ثمان سنين، أعقل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا وهو على أطمةً (حصن) يثرب يصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا قالوا: ويلك ما لك؟ فقال: قد طلع نجم الذي يُبعث الليلة”[2]، وروى أبو نعيم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حَبْرٌ من أحبار الشام: “قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه”[3].

لقد كانت مكة على موعد مع حدث عظيم سيظل يشرق بنوره على الكون كله إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، إنه ميلاد سيد الكونين والثقلين الحبيب المصطفى سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة، والنور الساري في جميع الكون، فنوره صلى الله عليه وسلم يوجد فينا ومعنا، فهل نحن حقا نحس به؟ وهل نحن حقا نعيش معه، ونستمتع به؟ إنه القرآن الكريم، وكذا صحبة الصالحين والعلماء الربانيين، فبخصوص الأول: فهو كلام الله تعالى النوراني، قال عز من قائل: ﴿وأنزلنا إليكم نورا مبينا﴾. [النساء/174]، ويقول الله تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾. [الأنعام/122]، فمن عاش مع القرآن عاش مع النور، وهو في نور، وانفلقت في سويداء قلبه أنوار القرآن.

 وأما صحبة الصالحين والعلماء الربانيين، لماذا تعتبر نورا محمديا ساريا فينا إلى يوم الدين؟ لأن العلم بصفة عامة نور، فكيف إذا كان العلم مستمدا من نور مشكاة النبوة، أي العلم الذي تركه فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أن العلماء كما في الحديث ورثة الأنبياء، فإن أرواح العلماء والعارفين وجميع عباد الله الصالحين، تحمل معها هذا النور المقتبس من مشكاة النبوة، فأرواحهم “تتلقى العلم والحكمة والمعارف الربانية والأسرار الملكوتية من روحه صلى الله عليه وسلم.

فكل ما يرد على القلوب من المنح الإلهية، فمنه وبواسطته صلى الله عليه وسلم، إذ هو الهادي والمهدي لكل من اهتدى، وغيره من الهداة نوابه وفروعه”[4]، لذلك فالنور المحمدي الممتد لا ينقطع أبدا، فهو “الممد للخاصة بعلم الباطن، ولعامة العلماء بعلم الظاهر، فهو الواسطة في علم الحقيقة الذي من خلا منه تفسق، وفي علم الشريعة الذي من خلا منه تزندق”[5]. من أجل ذلك حاز علماء الأمة المحمدية شرفا عظيما ومقاما كبيرا، بسبب هذا السر العجيب المتمثل في النور المحمدي.

فعندما قرب شروق مولده صلوات الله وسلامه عليه كانت له إرهاصات وأحداث فريدة، وقد أكثر المؤلفون في ذكر تلك الإرهاصات والحوادث، التي اقترنت بميلاده صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الإمام البوصيري هذه الآيات الباهرة التي حدثت أثناء مولده صلى الله عليه وسلم في البردة بقوله[6]:

أبان مولده عن طيب عنصره    يا طيب مبتدأ منه ومختتم

يوم تفرس فيه الفرس أنهم    قد أنذروا بحلول البؤس والنقم

وبات إيوان كسرى وهو منصدع    كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم

والنار خامدة الأنفاس من أسف    عليه والنهر ساهي العين من سدم

وساء ساوة أن غاضت بحيرتها    وردّ واردها بالغيظ حين ظمي

كأنّ بالنّار ما بالماء من بلل    حزنا، وبالماء ما بالنّار من ضرم

والجنّ تهتف والأنوار ساطعة    والحقّ يظهر من معنى ومن كلم

عموا وصمّوا، فإعلان البشائر لم    يسمع، وبارقة الإنذار لم تشم

من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم    بأن دينهم المعوج لم يقم

وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب    منقضة وفق ما في الأرض من صنم

حتى غدا عن طريق الوحي منهزم    من الشياطين يقفو إثر منهزم

كأنهم هربا أبطال أبرهة    أو عسكر بالحصى من راحتيه رُميّ

نبذا به بعد تسبيح ببطنهما    نبذ المُسبح من أحشاء ملتقم

إن مولده صلى الله عليه وسلم قد أحاطه الله تعالى بعنايته، وشمله برعايته، وجعل له دلائل باهرة وعلامات ظاهرة، تدل على عظم شأن النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، وبأن ظهور خير خلق الله سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، لابد أن تحفه آيات باهرة ومعجزات ظاهرة، تليق بعظيم جنابه الشريف، وعلو منزلته المنيفة، كيف لا وهو حبيب رب العالمين، كيف لا وهو الذي لولاه لم تخرج الدنيا من العدم.

الهوامش

[1] تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420هـ/2000م، 1869.

[2] المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، اعتنى به: صالح اللحام، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الدار العثمانية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 1428هـ/2007م، 3/ 591.

[3] البداية والنهاية، 2/ 282.

[4] رياض الرقائق، 69-70.

[5] رياض الرقائق، 70.

[6] العمدة في شرح البردة، 97-98.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق