مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية (3) نسب النبي صلى الله عليه وسلم

   يعد نسب النبي صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله، وحكمة من حكمه الجليلة، فهو يجمع مجموعة من الدلالات والإشارات، من تأملها يعرف سر الاختيار الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين، ولماذا اختاره الله أن يكون رحمة للإنسانية جمعاء، ونورا يهتدي به الناس كافة، يقول القاضي عياض: “وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشئه، فممّا لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ولا بيان مُشكل ولا خفي منه، فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمُها، وأشرف العرب وأعزهم نفرا من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة، من أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده”[1].

وفيما يلي أسرار وحكم نسب النبي صلى الله عليه وسلم.

1- ينتهي نسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام أبو الأنبياء

   كما هو معلوم هو سيدنا ومولانا محمد ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارَ بْنِ مَعَدَّ بْنِ عَدْنَانَ.

   هذا ما أجمع عليه النسابون، وما فوق عدنان ففيه خلاف واضطراب كبير بين العلماء، إلا أن مما لا خلاف فيه أن عدنان من ولد سيدنا إسماعيل نبي الله ابن سيدنا إبراهيم خليل الله عليهما الصلاة والسلام، كما أن الله تبارك وتعالى قد اصطفاه من أجل القبائل، وأزكى البطون، وأطهر الأصلاب، فما خالط شيء من سفاح الجاهلية إلى نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم.

   عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) [2]، وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: (مَن أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا)[3].

2- عائلة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أشراف لهم إنجازات عظيمة

– قصي: جد النبي صلى الله عليه وسلم الكبير هو الذي جمع قبائل قريش بعدما كانوا في نزاع وحروب.

– هاشم: جد النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أقام الولائم في مكة لإطعام الحجيج.

– عبد المطلب: جد النبي صلى الله عليه وسلم المباشر هو الذي أعاد حفر بئر زمزم بعدما ارتدم.

   يمكن أن نستخلص من نسب النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة هامة في الحياة وهي: (الإنجازات العظيمة تصنع العظماء)، فالمؤمن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم، يستلهم من حبيبه وقدوته أسس النجاح وسبيل الكفاح من أجل تحقيق إنجازات عظيمة، والإبداع في كل مناحي الحياة وفق أسس أخلاقية ربانية، فلنحرص على أن تكون لنا في الحياة طموحات كبيرة من أجل تحقيق إنجازات عظيمة.

3- نسب النبي صلى الله عليه وسلم يجمع ولا يفرق

   إذا تأملنا نسب النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه يتكون من ثلاثة مسائل رئيسية:

   أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ينتسب إلى قريش، فجد النبي صلى الله عليه وسلم قصي هو الذي جمع قريشا بعد تفرقها وتشتتها، فكان نسب النبي صلى الله عليه وسلم مدخلا لجمع قبائل قريش بعد تفرقها، وهو مدخل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في جمع الناس على أسس الخير والفضيلة، ونبذ كل أشكال التفرقة والتشرذم.

   ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ينتسب إلى سيدنا إسماعيل عليه السلام، الذي هو أب العرب، فنسبه الشريف صلى الله عليه وسلم يجمع بين كل القبائل العربية، ليدل على أنه صلى الله عليه وسلم يجمع ولا يفرق، فنسبه الشريف وسيلة لجمع قريش وتوحدها وجمع كافة العرب.

   ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ينتسب إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي هو أب الأنبياء، فكل الديانات السماوية مشتقة من سيدنا إبراهيم عليه السلام، ليدل على أن نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم، فيه تعايش ورحمة ومحبة مع جميع الديانات السماوية، وهذا ما تدل عليه الرسالة المحمدية من احترام وتقدير جميع أتباع الديانات من غير تعصب ولا تمييز.

   يتضح من خلال ما سبق أن نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم مدخل للتعايش والسلم العالميين، وأن الله سبحانه وتعالى هيأ لنبيه الكريم كل أسباب الرحمة، وقد تجلت لنا مدى الرحمة المكتنزة في أعماق نسبه الشريف، كل ذلك لنفهم معنى قوله تعالى في حق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). [الأنبياء/107].

4- نسب النبي صلى الله عليه وسلم أوسع بكثير من مجرد اسم العائلة، فهو منتسب إلى الله تعالى

   فاسمه سيدنا محمد بن عبد الله، فمن عجيب نسب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون اسم أبيه عبد الله، ليكتمل معنى العبودية ظاهرا وباطنا في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم لله، فأعظم تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم انتسابه إلى الله، حتى أنه صلى الله عليه وسلم لما شرفه الله تعالى بكريم قدسه في ليلة الإسراء والمعراج، ونال ما لم ينله نبي قط من المفاخر والحلل البهية، أنزل الله تعالى آية تصفه بأعظم وصف، وهو العبودية المطلقة لله تعالى، قال سبحانه: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا﴾. [الإسراء/1].

   فهل نحن نشعر بأننا منتسبون إلى الله؟ وهل نحن متعلقون بالله خالقنا ومصورنا جل جلاله؟

   فمن خلال نسبه الشريف نرى معنى أكبر للنسب، إنه الانتساب إلى الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلا إِنِّي جَعَلْتُ نَسَبًا، وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلا أَنْ تَقُولُوا: فُلانُ بْنُ فُلانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلانِ بْنِ فُلانٍ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟)[4]. فالمتقون هم من تحققت فيهم شروط العبودية الحقة لله سبحانه.

5- كل واحد فينا له حظ من الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كيف؟

   المحبة هي نسبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأ إن شئت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ)[5].

   وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ)[6].

   فإذا كان النسب يربط العائلة برباط قوي ومتين، فإن المحبة تربط المحبين بعضهم ببعض أكثر من أي شيء، وكيف إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الحبيب؟ لذلك فقد اشتاق صلى الله عليه وسلم إلى أحبائه شوقا كبيرا وسماهم إخوة، تأكيدا على أن نسبه صلى الله عليه وسلم ممتد إلى هذه الفئة التي رغبت وفنت واشتاقت إليه صلى الله عليه وسلم.

   يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)[7]، فكل الأنساب تنقطع فائدتها ويتلاشى نفعها إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سيكرمه الله تعالى.

6- النسب الأخلاقي

   مفهوم النسب في السيرة النبوية مفهوم واسع وسار في كل عصر ومصر، وليس مفهوما ضيقا وخاصا، كيف ذلك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا جد كل تقي)، فكل من سرت فيه صفات التقوى، والرقي الأخلاقي الإسلامي فهو منتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أحبَّكُم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا)([8])، وفي رواية أخرى: (إنَّ أحبَّكُم إليَّ أحسنُكم أخلاقا)([9])، فكلما كانت أخلاقنا حسنة وفاضلة كلما كنا أقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، قربا حسيا ومعنويا، على خلاف ما إذا كانت الأخلاق سيئة ودنيئة، حينها لا ينفع لا نسب ولا حسب، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بطَّأ به عمَلُهُ لم يُسرع به نَسبُهُ)([10]).

   وخلاصة القول أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليوسع مفهوم النسب من خلال أربعة مسائل هامة:

– الانتساب إلى الله قبل أي شيء.

– نسب يجمع الناس ولا يفرقهم لنتعايش ونحيا في سلام وحب ووئام.

– أن المحبة نسبنا ووسيلتنا إلى الظفر بالقرب المحمدي.

– الانتساب إلى الأخلاق قبل الأسماء والألقاب.

الهوامش

[1] الشفا، 1 /58-59.

[2] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. رقم الحديث: 2276.

[3] سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 3608.

[4]  المعجم الصغير للطبراني، بَابُ الْعَيْنِ، مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ.

[5] صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم الحديث: 249.

[6] المصدر السابق، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله، رقم الحديث: 2832.

[7] صحح الحديث بمجموع طرقه الشيخ أبو الحسن مصطفى إسماعيل في كتاب: كشفُ الغُـمَّـة ببيان خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص ص: 131- 135.

[8] مسند الإمام أحمد بن حنبل، شرحه وصنع فهارسه: حمزة أحمد الزين، دار الحديث، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1416هـ/1995م، رقم الحديث: 17661، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

[9] رواه الطبراني في المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة: 1415هـ/1995هـ، رقم الحديث: 7697. 7 /350.

[10] صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم الحديث: 2699.

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق