وحدة الإحياءدراسات محكمةتراث

نحو تأسيس علم المراجعات في التراث الإسلامي

لقد تعلّم المهتمّون بـ”العلوم النقلية/الشرعية الإسلامية” أن العلم الحقيقي يمكن أن يكون مرادفا للتأمل المجرّد في نص أو خطاب إلهي؛ لاستنباط معنى أو مقصد أو حكمة أو علة أو سبب أو شرط أو ما شابه ذلك، فإذا بلغ ذلك فقد وصل المبتغى بعد بذل الجهد اللازم؛ لأن الأئمة المتقدمين قد حصروا “العلم” بما قال الله وبما صدر عن رسوله، صلى الله عليه وسلم، غير القرآن كما قال ابن عبد البر: “العلم قال الله قال رسوله”[1]؛ ولذلك فإن “النظر” الذي يرى أن العلم تلاؤم بين “الخبرة العلمية والفكر والنظر والمنطق والمنهج[2] لم يكن واردا في أذهان المتصلين بهذا النوع من “المعرفة” حتى بعد ترجمة التراث اليوناني، ومزج المنطق الأرسطي في مقدمات العلوم، ويمكن القول بأن جمهرة الكاتبين في هذا النوع من “المعرفة” قديما وحديثا يرون إمكان اكتشاف هذا النوع من المعرفة بالاستنباط من “لغة النص وفحواه وإشارته ومنطوقه ومفهومه” بضوابط منطقية أرسطية متعارف عليها بينهم، في عصور ما بعد عصر الترجمة، كما يمكن الوصول إلى بعض أنواعها بالتأمل المجرد أو التفسير أو التأويل السائغ أو المتعسف.

وأما “الخبرة العلمية” فهي قليلة الشأن، ضئيلة التداول في تلك المعارف، لا يلقي الكثيرون إليها بالا إلا في مسائل فقهية نادرة، يرجع فيها إلى ذوي الخبرة، إن صح أن يُطلق على تلك الأمور أنها أمور عرفت أو تُعرف بـ“الخبرة العلمية”[3] فالخبرة العلمية في هذه الأمور لا توصّل إلى علم، بل هي وسيلة، وقد تصبح حائلا، في بعض الأحيان، بين الباحث الفقيه أو الأصولي أو المفسّر أو المحدّث والعلم الذي يريد الوصول إليه؛ لأنها خبرة تقوم، غالبا، على استقراء ناقص أو تتبُّع محدود.

1. التأصيل للمراجعات

احتلت قضايا المراجعات في تراثنا الإسلامي وتاريخنا الفكري أهمية كبيرة، ذلك لأن علمائنا أدركوا في وقت مبكر أن من لا يراجع تراثه بنفسه ومن منطلق الالتزام به، فسوف يراجعه له خصومه وأعداؤه بعين سخط، وقد تنال منه فتزيف قضاياه، وتشوّه موضوعاته، وتغير طبيعته.

إن علم المراجعات جدير بأن نعمل على إرساء مبادئه وقواعده؛ ليأخذ شكله العلميّ الدقيق المتميِّز، وتتيسر دراسته، والمهارة فيه وإتقانه وتداوله بين الباحثين؛ لتنضجه حوارات العلماء وجهود الباحثين؛ ويصبح بذلك علما يتخذ من “العلوم والمعارف النقليّة” خاصّة –دون نفي لإمكان التعميم- موضوعا وميدانا لبحثه ودراسته، فيعمل على دراسة وتحليل النظم والأنساق المعرفيّة التي تكونت هذه المعارف في إطارها، ومراجعة نظرياتها المعرفيّة ومصادرها ونماذجها ومناهجها وفلسفتها وتاريخها وآثارها ونتائج تفاعلها مع الإنسان والكون والحياة.

2. منطلقات علم المراجعات

ـ مراجعة العلوم النقلية “بالمنهجية المعرفية القرآنية”.

ـ النقد العلمي المنهجي لنظرية المعرفة المهيمنة على هذه العلوم تناولا نقديا علميا، بحيث يمكن اكتشاف الإطار المرجعي لهذه المعارف بكل تفاصيله ودقائقه؛ واكتشاف تأثيره المتنوع على تلك العلوم والمعارف التي أخذت في تراثنا أسماء متنوعة.

فأطلق عليها بعضهم “العلوم الشرعية”؛ لأن “الشريعة” كانت المدار الأساسي الذي دارت حوله هذه المعارف من حيث الكشف عن مصدر الشريعة، وأدلتها ومداركها وأحكامها، وكيفيّة الوصول إلى معرفة ما هو مشروع، وما ليس بمشروع من مباحثها. وذلك لضبط شئون وشجون الحياة الإنسانيّة بضوابط الشريعة الإلهية وتأسيس “فقه الدين” لإقامة عمليّات ممارسة “التديُّن” على قواعده السليمة دون غلوٍّ ولا تفريط ولا إفراط ولا ابتداع.

وأطلق عليها بعضهم “العلوم الإسلامية”؛ وذلك لتأكيد ارتباطها التام بالإسلام منهجا وغاية ومصدرا. ولتتميّز عن “علوم الأوائل” و”العلوم الفلسفيّة” بصفة عامة.

وأطلق عليها بعضهم “العلوم النقلية“، لاعتمادها على مناهج النقل والرواية في تعلُّمها وتعليمها وتناقلها وتداولها، وبناء مسائلها وجزئيّاتها، وتكوين الملكة البحثيّة فيها، وإن كانت أكثر جزئياتها قد بنيت على مناهج استنباط!

وأطلق عليها بعضهم “علوم الدّين” لدورانها حول “الخطاب أو النص الديني” ابتداء وتاريخا وآثارا وإنشاء وكشفا عن دلالته ومعانيه؛ ولأنها الدليل المرشد في ممارسة “التديُّن”.

وهي علوم ومعارف نشأت عن تصوُّر ذي مواصفات خاصَّة للقراءة في “الخطاب القرآني” وبيانه التطبيقي العملي في السنن النبوية القولية والفعلية والتقريرية، قائم على فرز وميز ما له علاقة بإنشاء الأحكام التكليفية والوضعية أو الكشف عنها وما لا علاقة له بذلك كأن يكون جبليّا فطريا، وقد نمت هذه العلوم وكملت لتكون بعد ذلك في خدمة ذلك الخطاب احتجاجا له وتفسيرا وبيانا لمحتواه وفقها فيه، وتوضيحا لكيفية التعامل معه والعمل به، وبناء قواعد التوحيد والتزكية والعمران عليه.

3. ضرورة المراجعات الشاملة

إنني أحسب، والله أعلم، أن إخراج الأمة الوسط، المخرجة للناس من هذه الأزمة يقتضي مراجعة شاملة ذات منطلقات منهجية معرفية لتراثنا كله قد تتطلب تجنيد مئات الباحثين، وعقد العديد من اللقاءات والندوات العلمية المتخصصة لدراسة وتحليل تراثنا كله لرصد سائر تلك الأفكار السامّة والمريضة، وتمييزها عن السليم الصحيح من تراثنا؛ لئلا تستمر تلك الأفكار السامة في الفتك بالسليم الصحيح من تراثنا وتستمر حالة التردي، فذلك هو الذي سيعين الأمة إن شاء الله، ولو بعد حين، على تجاوز الحالة الراهنة والخروج من أزمتها الفكرية الموروثة والمعاصرة، وإعادة تشكيل العقل المسلم بحيث يعود عقلا متألقا كما كان يصدر عن كتاب الله وإليه يعود، وإلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرد الأمر في بيانه وفهمه وإليه وإلى منهجية التأسي يرجعه.

وحين تتم العودة إلى مرجعية الوحي المقروء المتعبد بتلاوته، المتحدّي بأقصر سورة من سوره، والنبوة الخاتمة يستطيع العقل السليم أن يكتشف خصائص الإسلام العامة، ويكيف فكره وفقهه ويصوغه بمقتضاها، وأهم هذه الخصائص ما يلي:

أولا: عالمية الإسلام أو كونية وعموم رسالته وشمولها، وعدم اختصاصه بشعب أو زمن أو مكان.

ثانيا: حاكمية وهيمنة كتاب الله تعالى على كل ما عداه؛ فهو الحكم والمرجع والمصدر المنشئ لا للأحكام وحدها، ولكن لسائر تصورات المسلم وأفكاره ومواقفه ومنطلقاته، والقواعد الأساسية.

ثالثا: شرعة تخفيف ورحمة ناسخة لكل ما سبقها من شرائع الإصر والأغلال ومهيمنة عليها.

رابعا: نبوّة خاتمة تمثل رسالات الأنبياء كافة، وتشتمل على الهدى كله، فلم تعد البشرية بحاجة بعدها إلى نبي مرسل، ووحي يوحى، بل إلى تدبُّر وتلاوة وفهم وقراءة تنفي عن الرسالة الخاتمة تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلات الجاهلين.

خامسا: أمة مخرجة للناس نموذجا ومثالا، ومكونة بحيث تكون قادرة على استقطاب البشرية، كلها، نحو الهدى لتصبح أمة قطبا، لا أمة مَرْكزًا.

وهكذا أخرج الله هذه الأمة المسلمة للناس وبناها وأسسها في مبتدأ أمرها بحيث لا تحتاج بعد ما ذكر، إلا إلى علماء ربانيين ومجتهدين قادرين على حماية وعيها، يجددون لها فهم دينها وينزلون آيات ربها على واقعها أو ينزلون الواقع على قيم الوحي مهما كانت حقيقة الدين من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلات الجاهلين في كل عصر ومصر، ويعرفون كيف يربطون الناس بالكتاب الكريم وبالسنة النبوية المطهرة في كل عصر ومصر، ويردّونهم إلى كل منهما ردًّا جميلاً، كلما طال عليهم الأمد وقست منهم القلوب.

4. الفرق بين الوحي والتراث

وقبل أن نقدم ما به نتأكد من ضرورة مراجعة تراثنا، ونقد الكثير من جوانبه نقد الصياريف، فإنه لابد لنا من التفريق الواضح بين التراث البشري، والوحي الإلهي الذي كان مصدر نشوء وانطلاق هذا التراث في فترة التكوين، فكل ما ذكرنا أو سنذكر فإننا نريد به مراجعة التراث البشري ذاته لا المصادر الموحاة، ونقد فقه التدين وهو فقه بشري إنساني، وهذا التفريق ضروري بين المطلق والنسبي.

لقد ختمت النبوة ما في ذلك شك عند أي مؤمن بالنبوة، عدا القاديانية وأولئك الذين لم يعترفوا بخاتم النبيين وظلوا ينتظرون نبيًّا خاتمًا يتمثل بالمسيح عند النصارى، والمسايا عند اليهود، وسيطول انتظارهم، وقد بقي الكتاب مطلقًا مستمرًّا في إطلاقه مع صيرورة الزمان، ومتغيرات المكان، وتعاقب القرون والأجيال من بني الإنسان ليعطي هذا القرآن للإسلام آفاقه المتجددة على تعاقب العصور مؤصلا لعقيدة الإسلام، فهو الدين الإلهي الذي أمر الله البشرية أن تدين به منذ الإيحاء إلى أول نبي حتى إرسال خاتم النبيين، ولكن بمفهوم شامل عالمي عام، وبفهم متجدد دائم التجدد ومستمر فيه لكتاب الله، جل شأنه، الخالد المطلق، ولسيرة وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتي تمثل بمجموعها منهجا للفهم والتأسي والاقتداء والاتباع لا التقليد.

وإن الإسلام بقواعده الأخيرة التي اشتمل عليها القرآن، دين الله الذي لا يقبل الله من أحد من عباده غيره، وهذا يقتضي هيمنة القرآن الكريم هيمنة دائمة مستمرة على كل ما عداه، إذ لا يمكن لفهم بشري لأهل أي عصر من العصور أن يحيط به، ويهيمن عليه، ويضع مدلولاته في قوالب فهم بشرية نهائية لا تسمح بأي فهم آخر، فالتسليم بذلك قد يفقد القرآن العزيز صفة الإطلاق، ويحيله إلى نص نسبي في زمانه ومكانه، يمكن الهيمنة على معانيه بالتفسير والتأويل الإنساني الخاضع لمتعينات ومتغيرات الزمان والمكان والإنسان والحوادث.

ولعل هذه كانت الحكمة في أنه لم يقيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معاني الكتاب المطلق بتفسير نهائي كامل شامل، بل جسد بسنته وسيرته تعاليم الكتاب وأحكامه بشكل يوضح منهجية التأسي والاتباع اللذين أمر الله الناس بهما، وهذا ظاهر واضح في آيات الأحكام التي لا تتجاوز على أعلى التقديرات آية واحدة من اثنتي عشرة من آيات الكتاب الكريم، أما الباقي فجله آيات مطلقة يستطيع أهل كل عصر أن يستفيدوا من معانيها بالتلاوة والتدبر ما ييسره لهم الله سبحانه وتعالى من مكنونها الذي يتكشف فيما إذا تدبروا هذا القرآن الميسر للذكر والتأمل والتدبر لكل متدبر ومتذكر، فالسنة النبوية المطهرة تمثل، في غير جوانب الأحكام والبيان الضروري والمباشر لآيات الكتاب، بجانبها العلمي تطبيقا هو أعلى مراتب الفهم والتطبيق، وفي جانبها التقريري القولي تمثل أدق أنواع البيان لآيات الكتاب الكريم لتقدم السنة –بمجموعها- منهجية التأسي برسول، الله صلى الله عليه وسلم.

وكل تراثنا بعد ذلك يندرج أمام إطلاقية القرآن الكريم في دائرة النسبيِّ الذي من حقنا بل من واجبنا مراجعته ونقده على الدوام والتصديق على قضاياه بكتاب الله تعالى الذي اتصف بالتصديق على تراث النبوات كلها، فأي فهم بشري للقرآن الكريم عدا فهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعدا قواعد الاتباع ومنهجية التأسي برسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الربط بين الوحي والواقع، فهو موضع للمراجعة والنقد؛ ولذلك كان أئمة الأمة يؤكدون على هذه المعاني، وكثيرًا ما رددوا نحو: “إذا صح الحديث فهو مذهبي” ونحو: “إذا وجدتم عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط”. 

5. مراجعات ضرورية

إنه ليس من شأن الدراسة أن تقدم معالجات شاملة، بل من شأنها أن تثير قضايا وتطرح أسئلة ليتولى الباحثون معالجتها والتعمق فيها؛ ولذلك فقد وددت أن لا أخرج عن هذا الإطار، فأطرح على الباحثين ما أعتبره ضروريًّا للقيام بالمراجعات المطلوبة.

أولا: ما خصائص البيئة العربية قبل البعثة، وخاصة الخصائص الفكرية الثقافية؟ فإن ابن خلدون قد أورد في مقدمته كلامًا يلفت النظر حيث قال ما نصه: “إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى“، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حِمْير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل بدء الخليقة وما يرجع إلى الأحداث والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم.

وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين كانوا يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنه بعُد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقى الناس أقوالهم بالقبول من يومئذ!

هذا الكلام من ابن خلدون خطير، لاسيما وهو فقيه وقاض وعالم اجتماع ومؤرخ، وما قاله، إن صح، يعطي مؤشرات حول طبيعة وخصائص البيئة التي واجهها الوحي أول نزوله، وطبيعة الحال الثقافية التي كانت سائدة، وهي ثقافة شفوية غير مدونة، وقد تكمن أهمية تلك الخصائص بأن تراثنا الإسلامي، كله، قد ولد وتكونت ملامحه قبل عصر التدوين، والتدوين قد بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز وسار نحو التكامل[4]، وذلك التراث نتيجة تفاعل جدلي بين النص المتمثل بالكتاب الكريم وبيانه المتمثل بالسنة النبوية وبين الواقع بكل خصائصه، فما خصائص وأوضاع مجتمع مكة قبل النبوة وأثناءها وبعدها؟ وما أنماط العلاقات بين الناس؟ وما مكونات وعيهم؟ وما عناصر سلوكهم وعاداتهم؟ وكذلك الحال بالنسبة لمجتمع المدينة ثم الجزيرة العربية بأسرها. فلهذا النوع من الدراسات أثره البالغ في معرفة معالم السقف المعرفي، إذا صح التعبير، الذي كان، ومعرفة كيفية تأثير الوحي فيه، وكيف استقبل الوحي ذلك الواقع؟

ثانيا: إن القرآن الكريم قد تناول بني إسرائيل وأحوالهم باستفاضة، فكيف استقبلت بيئة النزول هذا؟ وكيف فهمته؟ أو نظرت إليه؟ خاصة أن بعض الأسئلة التي أجاب القرآن عنها كانت أسئلة موجهة من يهود مباشرة أو إيحاءً منهم لبعض المشركين؟!

ثالثا: إعجاز القرآن وتحديه وعصمته لفظاً وعلى مستوى الحرف من أي تحريف، واتخاذ الرسول، صلى الله عليه وسلم، عددا من الكتّاب يسارع عليه الصلاة والسلام بتلاوة ما يوحى إليه عليهم، ويأمرهم بتقييده بالكتابة، ولم يحظ أي كتاب سماوي بمثله، فما معنى هذا وما دلالاته؟

6. نماذج من التراث

والآن أود أن أنتقل إلى تقديم نماذج مما ورد في تراثنا وله دلالات فكرية معينة، وربما كان له أثر في إنشاء مفاهيم أو تصورات أو أفكار لها أثرها في محيطنا الثقافي.

وقد يكون ما ذكره ابن خلدون وغيره حول الاتصال الثقافي بين العرب واليهود قبل البعثة وأثناءها في بروز تلك القضايا وتأثر بعض المعارف الإسلامية بعد ذلك بها بشكل أو بآخر.

أما التاريخ والتفسير والحديث فإن الأمر فيها لا يحتاج إلى كبير عناء ليفهم، فمعظم المراجع من كتب التاريخ يكفي أن يستعرض فهرسها لتدرك الخلط في قضايا التاريخ، ومدى العناية التي أعطاها مؤرخونا للتاريخ الإسرائيلي بكل تفاصيله، وتلك التفاصيل في عامتها منقولة عن التلمود والتوراة وخاصة أسفار التثنية والخروج والملوك وكذلك التكوين بالنسبة لخلق آدم وحواء ودخولهما الجنة وإخراجهما وهبوطهما وغير ذلك، وقد تجاوز بعض هؤلاء ما ورد في القرآن لصالح سفر التكوين، ونحا كثير من المفسرين نحوهم، وفي الحديث رغم كل الجهود الهائلة التي بذلتها أجيال المحدثين في الرواية والدراية، والتي كان يمكن أن تبذل في شيء وآخر، غير أن الفُرقة والاختلاف أبقت كثيرًا من تلك الأحاديث.

7. نماذج من علم الكلام

وفي إطار العقيدة “علم الكلام” الذي يعتبر العلم المسئول عن تعزيز وحماية عقائد المسلمين، وردِّ الشبهات عنها تجد الإسرائيليات فاشية، وتجد لها أشنع وأبشع الآثار، فمن أخطر المقالات التي ترتب عليها فتنة واختلاف، تلك التي عرفت بفتنة خلق القرآن التي تبنتها المعتزلة، وفي مقدمتهم القاضي أحمد بن داود والخليفة المأمون وشغلوا علماء الأمة وفتنوها بها، وهي مقولة تبناها وبثها لبيد ابن الأعصم اليهودي الذي قاس القرآن على التوراة، وأراد من ترويج القول بخلق القرآن إزالة صفة الإطلاق عنه، وتأكيد نسبيّته ليسهل على من يريد الزيادة والنقص فيه ممارسة ذلك.

ولو قمنا بدراسات مكثفة للكشف عن الصلة بين قضايا الجبر والتشبيه والخلط في قضايا السببية وسواها لوجدنا هذه المقالات نتيجة فهم غير سليم لما جاء به الكتاب الكريم ففُسر بشكل غير سليم، أو أسقطت عليه فهوم أخرى، وأخطر من ذلك كله ما يتعلق بالخلط في دائرة المفاهيم، كمفاهيم الدين والعبادة والإنسان والكون والألوهية وعلاقة الله بالإنسان وغيرها، فإذا انتقلنا إلى تراثنا الأصولي نجد جملة من المسائل تحتاج إلى بحث ومراجعة في ضوء ما نقدمه منها:

ـ هل كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متعبدا بشرع من قبله قبل النبوة وبعدها؟

ـ هل الكفار مخاطبون بفروع الشرائع الإسلامية أم ليسوا مخاطبين بها؟

ـ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ.

ـ حكم الأشياء قبل الشرع.

ـ الحسن والقبح العقليان.

من المعروف أن “علم أصول الفقه” و”علم الحديث”، خاصة “علم الرجال” و”علم الجرح والتعديل” هما من علوم هذه الأمة ومبتكراتها وهما من مفاخرها، ومناقشة المسائل التي ذكرناها في علم أصول الفقه دليل على أن وراءها أسئلة مثارة، وإلا لما طُرحت ودار حولها حوار، ودخلت أبواب هذا العلم، وذلك بقطع النظر عن عدد أو حجم القائلين بها أو ما ترتب عليها من مسائل فقهية، وعند التحليل نجد لكل من هذه المسائل دلالاتها الفكرية والثقافية، وما يترتب عليها.

وكل من هذه المسائل في حاجة إلى دراسة تحليلية لمعرفة كيفية طرحه على العقل المسلم، ومتى وفي أي البيئات بدأت صياغته كسؤال فكري وثقافي؟ وكيف أجاب العقل المسلم عليه؟ وما صلة هذه القواعد ببعض الاتجاهات الفقهية التي لا يصعب رصدها في تراثنا الفقهي؟ وما علاقتها بالإسرائيليات التي تراكمت في مجالات التفسير والحديث والتاريخ وغيرها؟خطر من ذلك كله

إن المراد هو معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت هذه الموضوعات تدخل دوائر البحث الفقهي والأصولي في البيئة المسلمة، فلا يحتاج الباحث على كبير عناء ليقرر أن مسألة شرع من قبلنا ما لم يرد ناسخ.

سؤال لا يتوقع طرحه في وسط أمة من المعلوم لديها بالضرورة أن شريعتها تحمل خصائص العموم والشمول والكمال والنسخ الكلي للشرائع السابقة، كما أن القرآن الكريم ينصُّ على اختصاص هذه الأمة القطب بشرعة ومنهاج: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” (المائدة: 50)، وقد حددت خصائص ومميزات هذه الشريعة، وأهمها التخفيف عن الخلق: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” (الحج: 76)، ورفع الإصر والأغلال ونسخ شرائعهما. والتحاكم إلى الكتاب الكريم المحفوظ المعصوم وختم النبوة لتوحيد وتركيز المرجعية في كتاب الله الحاكم الخاتم الميسر للتلاوة والذكر والتدبر، والمصدِّق لما بين يديه والمهيمن على كل ما عداه.

كما حُددت سمات المنهاج بوضوح، وأهم هذه السمات أن لهذا الدين رؤية وتصورا وعقيدة وشريعة ومنهاجا وفكرا وفقها، واتجاها عمرانيا ومصدرين أساسيين فقط، لا ثالث لهما، وهذان المصدران هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.

فمصدر الدين والشريعة الإنشائي الوحيد هو القرآن الكريم الذي جاء تبيانا لكل شيء، يقول الله عز وجل: “ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من اَنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شيء وهدى رحمة وبشرى للمسلمين” (النحل: 89).

ويقول سبحانه وتعالى: “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله” (المائدة: 50) “وأن احكم بينهم بما أنزل الله” (المائدة: 51) “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” (المائدة: 46) “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون” (المائدة: 47) “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون” (المائدة: 49) فالقرآن هو المصدر الوحيد الذي ينشئ النظريات والمبادئ العامة التي تقوم عليها القواعد التفصيلية، والمصدر التفسيري التطبيقي الملزم هو سنة رسول، الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعل له الله تعالى أن يبيِّن للناس ما نزل إليهم تطبيقا وقولا لاتباعه، يقول سبحانه: “وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نزِّل إليهم ولعلَّهم يتفكَّرون” (النحل: 44) كما يقول الإمام الشافعي[5]: “لا تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصّا وجملة” والنص في لغته هو الحكم التفصيلي الدقيق التحديد في شأن واقعة ما، والجملة يقصد بها المبدأ العام الذي يتسع لأن ينسلك في حكمه جميع أنواع جنسه، وقد أتت السنة في بيانها للقرآن بنماذج تطبيقية تنسلك في مبادئ جاءت في القرآن عامة، والنبي، صلى الله عليه وسلم، لا يقعِّد القواعد إلا بوحي، والنبي، صلى الله عليه وسلم، يقول كما في مسلم بشرح النووي، كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا: “إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على اللهويقول: “إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به”، والله تعالى يقول: “وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر: 7) ويقول: “من يطع الرسول فقد اَطاع الله” (النساء: 79)، وهذا يثبت أن بيان السنة ملزم سواء أكان البيان شرحا للقرآن أم تطبيقا لمبدأ من مبادئه العامة.

وفي هذا المعنى جاء حديث معاذ بن جبل، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، فقال: فإن لم تجد قال في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله[6].

ودفعا لكل لبس في قوله: فإن لم تجد في كتاب الله نذكر أن المقصود هو: إذا لم يجد حكم الواقعة يقضي فيها منصوصا عليه في شانها، بالتحديد في القرآن ولا في سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتهد؛ أي عاد إلى القرآن الذي جاء: “تبيانا لكل شيء” نصًّا أو جملة؛ أي عاد إلى المبادئ القرآنية العامة ليدخل مجتهدًا، الواقعة الجديدة في حكم المبدأ العام الذي يرى أنها تعتبر نوعًا من جنسه.

أما “شرع من قبلنا” فقصارى ما يمكن أن يقال فيه: إنّه وثيقة تاريخية، وإذا كانت القوانين الوضعيَّة تعتمد الوثائق التاريخية، وقد تستقي منها مضمون تشريعٍ ما فإن الإسلام لا يعتد بذلك، ولا يلجأ إليه، ويبدو أن معظم المستشرقين الذين زعموا أن الشريعة الإسلامية قد بينت على ما سبقها وتضمنت كثيرًا من التشريعات التلموديّة والكنسية والمجوسيّة والرومانيّة والبابليّة، قاسوا الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية فذهبوا إلى ما ذهبوا إليه، وربما عززوا مذاهبهَم بمثل هذه القواعد نحو “شرع من قبلنا شرع لنا” وبعض الأقوال المتعلقة بحكم الأشياء قبل الشرع، وتعبُّد النبي، صلى الله عليه وسلم، بشرع من قبله، ولو أن شيئًا من ذلك كان لما كان هذا الحصر.

8. الفكر الفقهي وتأثير الإسرائيليات

إن بعض الفقهاء قد توسعوا في بحث المسائل ومد سلطان “الأرأيتين” وبسطه على مختلف جوانب الحياة، فاضطروا للتوسع في الأدلة تحت ضغط تصور خاطئ بأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، وقد رد ابن حزم وغيره مثل هذا الادعاء فشفى وكفى، فليراجع في موضعه من إحكام الأحكام في مباحث القياس والاستحسان، خاصة في الباب التاسع والثلاثون منه، ولقد بلغ عدد الأدلة المختلف فيها عند بعض متأخري الأصوليين سبعة وأربعين دليلا بعضها لم تبن عليه إلا مسألة واحدة من مسائل الفقه.

ولا شك أن هذا قد فتح بابا واسعا لدخول كثير من الفقه الدخيل إلى هذه الأمة في سائر الأبواب، وإنا ذاكروا بعض الأمثلة التي نقل ابن حزم في الأحكام جملة منها في 5/161 وما بعدها قال: حرّم بعض المالكيِّين ما وجد من ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب، وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرَّم على اليهود، ولا هو متفق عليه عندهم، لكنّه شيء انفردت به الربانية منهم، وأما العاناتيَّة والعيسويَّة والسامريَّة فإنَّهم متفقون على إباحة أكله لهم.

يقول ابن حزم معقِّبا على ذلك بلهجته الساخرة القاسية… فتحرى هؤلاء القوم –وفقنا الله وإياهم- أن لا يأكلوا شيئًا من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود –لعنهم الله- اختلاف، وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخي الربانية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

واحتجوا أيضًا في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلانا قتله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لو أعطى قوم بدعواهم لادَّعى رجال دماء قوم وأموالهم”[7]، فأباحوا ذلك بدعوى المريض.

واحتجوا بما ذكره بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضُرب ببعض البقرة عادت إليه الحياة، وقال: فلان قتلني.

قال أبو محمد: “وهذا ليس في نص القرآن“، وإنما فيه ذكر قتل النفس والتداري فيها، وذبح البقرة وضربه ببعضها، وكذلك يحيي الله الموتى، فمن زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية فقد كذب وادّعى ما لا علم لديه، فكيف أن يستبيح بذلك دمًا حرامًا ويعطي مدعيًا بدعواه، وقد حرم الله تعالى ذلك، فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة، ولا في خبر مسند إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مثل هذه العظائم.

ثم استعرض أبو محمد أقوى ما أورد في تفاصيل قصة بقرة بني إسرائيل من آثار ملأت مطولات التفسير والآثار لم يتعرض القرآن المجيد لها بل جاءت في روايات الآثار فقال: … وهذه؛ “أي الروايات” مرسلات وموقوفات، لو أتت فيما أنزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلاً، فكيف فيما أنزل في غيرنا؟

ثم ذكر من استنباط من قوله تعالى: “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان” (الأنبياء: 77-78)، وجوب جذ ما أتلفت الغنم من زرع أو كرم ليلاً على أصحابها، وبين بطلان ذلك ثم ذكر استدلال الفقهاء بقوله تعالى: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين” (المائدة: 47) فخطا المستدلين بهذه الآية الكريمة على القصاص، وقال: … أما نحن فلا نأخذ بهذا؛ لأننا لم نؤمر به، وإنما أمر به غيرنا.

ثم استدل على إيجاب القصاص بالآيات التي خوطبنا نحو قوله تعالى: “فمن اِعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اَعتدى عليكم” (البقرة: 193)، وقوله تعالى: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به” (النحل: 126) “وجزآؤا سيِّئةٍ سيِّئة مثلها” (الشورى: 37).

ثم استعرض جملة من الأحكام المتفق على نسخها مما ورد في شرائع السابقين، وتوقف عند تلك التي تمسك مخالفو الظاهرية من الفقهاء بها وناقشها، ومنها قول بعضهم بوجوب رجم اللوطي؛ أي من يفعل فعل قوم لوط متخبطًا أو مستأنسا برجم الله قوم لوط وقراهم بالحجارة[8]، ومن الملفت للنظر أن هناك نماذج في كل باب من أبواب الفقه تقريبا على هذا النوع من المذاهب والأقوال، بل إن أفكار المسخ التي كانت سائغة قبل الإسلام، ورحم الله البشرية منها بالإسلام، أخذت تفرض نفسها على بعض الفقهاء ليقولوا فيها كلمتهم مثل تشكل الجن بأشكال الإنس، إذا حدث هذا فهل يحسب هؤلاء في نصاب المصلين يوم الجمعة؟ وموضوع زواج الإنس بالجن، وادِّعاء الزانية الحبل من جني، وهل يُدرأ الحد به أو لا؟ وقد نقل “جولدتسهير” بعض هذه الاهتمامات الفقهية بطريقته، وشنَّع عليها[9]، ومن المفيد أن نورد هنا ما قاله المعلقون الأفاضل، من العلماء المسلمين، على ما أورده “جولدتسهير” قالوا رحمهم الله:

العلاقات الجنسية بين الإنس والجن ضرب من الأساطير، انتقل بطريق غير مباشر من الأفكار البابلية على العقل اليهودي، ثم إلى القصص الشعبي عن العرب، ومن ثم إلى الخيال الشعبي لدى المسلمين، فتذكر فيها الشخصيات العربية القديمة وغيرها من الأمم الأخرى التي كانت ثمرة هذا الاتحاد المختلط، والجاحظ يسفه هذه الخرافات وينكرها[10]، ويسمى الأشخاص الذين يسلمون بصحتها: علماء السوء، ويعمد إلى إغفالهم ولا يذكرهم إلا في حذر وحيطة[11].

وقد وردت في أعمال جمعية البحث الأثري الخاص بالتوراة[12]  أمثلة عن المعتقدات الشعبية الإسلامية، توهم أن مثل هذا الزواج مستمد من القرآن استنادًا إلى قوله تعالى: “واستفزز من اِستطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاَموال والاَولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا” (الإسراء: 64) وغيرها من الآيات الكريمة الأخرى.

ومن وجهة نظر الشرع الإسلامي أثبت بعض العلماء بطلان هذا الزواج استنادا إلى قوله تعالى: “والله جعل لكم من اَنفسكم أزواجا” (النحل: 72) واستنادا على أن اختلاف الجنس مانع يحول دونه، غير أن هذا لا يقره جمهور العلماء[13].

ومما هو مثار الخلاف استحالة هذا الزواج شرعا، ومما يؤيد ذلك أن يحيى بن معين وفقهاء آخرين من أهل السنة، ينسبون ما كان عليه بعض العلماء الذين ذكروا أسماءهم من الذكاء وسرعة الخاطر إلى أن واحدا من آبائهم كان من الجن[14]. ويحكي “الفرديل” أن أهل تلمسان يعتقدون أن واحدا من أهل مدينتهم توفي حديثا سنة 1908 كان له فضلا عن زوجته الشرعية علاقات جنسية جنّية (أهل تلمسان المسلمين) وقد بحث العلماء من الوجهة الشرعية مسألة ما إذا كان للملائكة والجن حق الملك[15]، ويمكن هنا أن نشير إلى الشافعي، الذي خالف النزعة الغالبة على جمهور الفقهاء، فقد روي عنه هذا المبدأ العام: “من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته” لقول الله تعالى: “إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم” إلا أن يكون نبيا، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم[16] قلت: لكن مذهب الإمام الشافعي لم تسلط عليه الأضواء في هذه المسألة، ولذلك استمر المسلمون إلى عهد قريب جدًّا يلقبون بعض المفتين بأنه مفتي الثقلين أي: الإنس والجن، وهناك من ينسب إلى بعض الأفاضل الأحياء المعاصرين أنه يتحدث إلى الجن، وأن هناك من دخل الإسلام منهم على يديه، بل إن هناك من أخذ يُجري مقابلات صحفية ينشرها مع زميل له يبدو أنه من هيئة الإعلام أو وزارة الإعلام لإخواننا الجن: كأن المسلمين المساكين لا تكفي لإذهاب ما بقي من عقولهم أجهزة الإعلام المعاصرة العِملاقة فاستعانوا عليهم بإعلام إخواننا الجن. وقد اطلعت، مؤخرا، على كتاب مطبوع تحت عنوان: حديث صحفي مع الجني المسلم الأخ كينجور.

9. فقه المخارج والحيل

نعود إلى الفقه وما دخل إليه، وما احتمله مركبه تحت ضغط ذلك التراث المختلط، والإصر والأغلال التي استحييت والتي لابد من أن تحل قيود وأغلال الأمم بالكتاب المنير والنور الذي جاء به القرآن، والهدى الذي حمله خاتم النبيين إذ بذلك التراث يحيط بنا ويدفع بعض الفقهاء إلى اللجوء إلى ما عرف بفقه المخارج والحيل.

وقد عُرفت الحيل الفقهية بأنها الطرق الخفية، التي يلجأ إليها للتوصّل إلى غرض ممنوع فقهاً، وما كان المسلمون يعرفون الحيل إلا بأنها ما يكون مخلصا شرعيا لمن ابتلي بحادثة دينية، ويسميها بعضهم المخارج.

وعرفها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بأنها: إبراز عمل ممنوع شرعا في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتدٍّ به شرعا في صورة عمل معتد به… أما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته أو إيجاد وسائله فليس تحيلا ولكنه يسمى تدبيرا أو حرصا أو ورعا.

وما كان المسلمون بحاجة إليها لو التفتوا للقواعد التي اشتمل القرآن العظيم عليها والمبادئ التشريعية التي تقوم على التيسير والتخفيف والرحمة ورفع أي حرج، وكيف يحتاج الناس إلى مخارج وحيل تخلصهم من شريعة بنيت كل قواعدها على نسخ الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة  وتبنت في سائر قواعدها التخفيف والرحمة واليسر؟

لا شك أن تلك الاتجاهات الفقهيّة التي أشرنا إلى بعض معالمها قد وضعت على المسلمين قيودا وإصرا وأغلالا، ثم عادوا يبحثون عن حيل ومخارج يؤصَّل لها، ويلجأ إليها، ولم تكن إطلاقية القرآن، ومنهجيته المعرفية الضابطة لكل صغيرة وكبيرة، باعتباره كتابًا يتضمن الوحي الإلهي المهيمن على ما سبق بحاكميته وخاتميته، والمهيمن على ما يلحق بإطلاقيّته، بحاجة إلى فقه يسمّى بفقه المخارج والحيل. فصدور هذا الفقه والتأصيل له –في حد ذاته- دليل ارتباك وإحساس بالحرج أمام جملة من القضايا الفقهية والأحكام التي تبدو فيها الشد، وذلك يتعارض مع روح هذه الشريعة ومقاصدها في التخفيف ورفع الحرج واعتبار الأصل في المنافع الحل، والأصل في المضار المنع، فطرح فكرة المخارج والحيل ضمن الأصول والفروع، وبالذات في مجال الفقه والتشريع أدى إلى بروز مشكلات في مجالات كثيرة، وآثار عقلية ونفسيّة لا تخفى على المراقب الفاحص المتتبع لأطوار الفكر الإسلامي.

ومن تلك المشكلات التغافل عن الكثير من الكليات والغايات والمقاصد القرآنية، والانصراف الكلي إلى الدليل الجزئي ومناهج تأصيله وقراءته والاستدلال به، وذلك شأن العقليات التقنينية الجزئية، أما النبوة، فإنها تعمل على إيجاد العقلية الكلية المقاصدية، ولذلك حددت المهام الأساسية للنبوة بقوله تعالى: “يتلو عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة” (آل عمران: 164).

فالنبوة تقرن بين تعليم الكتاب والحكمة والتزكية والتطهير، ولا يتم ذلك إلا بتلاوة، لا مجرد قراءة الحرف، فذلك قد يحدث فصاما بين النظرية والتطبيق، ويقضي على فقه التدين، أما التلاوة فمن شأنها التدبر والتأمل والتعلُّم، ولا يتحقق ذلك من غير رد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، وربط الأعمال كلها بالمقاصد والغايات.

أما فكرة التعبُّد، بمعنى تجاوز الحِكم والعلل والمقاصد وتعضية القرآن وإعمال التجزئة والتشطير والتقنين القائم على ملاحظة الجزء باعتباره كيانا مستقلا عن الكل، فكل تلك الأفكار لا يمكن أن تنسجم مع مهام النبوة ولا الخلافة التي على منهاجها وهي تصطدم بختم النبوة، وختم الوحي وعالمية الرسالة وشمولها، ويضطر الناس في إطار ذلك الفهم الجزئي إلى البحث عن الحيل والمخارج، والتفلُّت من الضوابط الجزئية بشكل قد يحملهم على إهمال الكليات، وتجاوز الغائيّة والتشبث بالشكليات والغفلة عن الحِكم والمقاصد.

فحين ضاق الناس ببعض الأحكام الفقهيَّة التي استُنبطت بتلك الطريقة التجزيئية، واشتد عليهم الضنك في حياتهم نتيجة لذلك، وللأخذ بما يشبه شرائع الإصر والأغلال المنسوخة، أصلا، لجؤوا إلى هذا النوع من فقه المخارج والحيل والتأصيل له، ولو رجعوا إلى الأصل القرآني وإلى خصائصه التشريعية الأساسية في التخفيف والرحمة ورفع الحرج، لما احتاجوا لأن يبتكروا نوعا جديدا من الفقه يبقى على هذه الازدواجية المفتعلة والمدسوسة، ويحاول التخفيف من آثارها.

وفي الوقت الذي حاول فيه بعض الفقهاء الخروج من أزمات الفقه الذي دخله سرطان الإصر والأغلال، بما يسمى بالمخارج والحيل، حاول فريق آخر التخلص من الدليل الشرعي أو النقلي وتقليص دوائر عمله، ما أمكن، موجهين إلى هذه الأدلة النقلية من الكتاب والسنة اتهامات التشابه والتعارض؛ لينصرفوا عنها نحو الدليل العقلي، فتلك الأدلة في نظر بعضهم لا ينبغي أن يتصل بها الناس؛ لأنهم لن يفهموها كما يستطيعون فهم أقوال الأئمة ناسين أو متناسين خاصية القرآن الأساسية: “ولقد يسّرنا القرءان للذِّكر فهل من مدّكِر” (القمر: 17-32-40).

فبالإضافة إلى ما ذكره الكرخي، يمكن أن يُفهم في هذا الإطار ما ذكره إمام الحرمين في البرهان وما نقله فخر الدين الرازي وغيره من المتكلمين عن البعض من أن الأدلة اللفظية لا تفيد إلا الظن لبنائها على مقدمات ظنية، ولتوقف القطع بالدليل اللفظي على القطع بأمور عشرة[17]، كما يمكن أن تفهم تلك المعارك، وردود الأفعال التي أدت إلى مزيد من التشبث بالدليل اللفظي حتى ولو كان مجرد أثر من آثار الصحابة، وظهور القول بحجية قول الصحابي، وظهور من عُرفوا بعد ذلك بالحشوية، الذين اتُهموا بقبولهم كل حشو مفهوم أو غير مفهوم من الروايات، كما عرف بهم بعض الكاتبين في الفرق، كصاحب كتاب الحور العين في مواضع عديدة[18].

على أن ترك الدليل العقلي كذلك لم يقتصر خطره على ذلك، بل قد ولّد مشكلات أخرى عديدة، فمن خلال فهم مغلوط ادّعى بعضهم وجود ما هو مشكل في القرآن الكريم من الآيات، وتحول الحديث فيما عرف بمشكل القرآن إلى علم من علوم القرآن، وفي هذا الإطار كتب ابن قتيبة كتابه المعروف “تأويل مشكل القرآن” كما كتب كتابا آخر أسماه “تأويل مشكل الحديث” وحاشا كتاب الله أن يكون فيه مشكل وتنزه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحيح حديثه أن يكون فيه شيء من ذلك.

فلم يكن هناك مشكل لا في القرآن ولا في الحديث، ولكنه الفهم الخاطئ لمفهوم المتشابه من ناحية، ولوجود قطاع كبير من المشتغلين بالمعارف العقلية أراد أن يقلص من مساحة وعمل نفوذ الدليل النقلي لحساب الدليل العقلي وغيره في إطار ذلك التصور، ذلك التصور الرافض لشرعة الإصر والأغلال والرافض لفقه المخارج والحيل بذات الوقت حاول البعض أن يبحث عن المخارج الجزئية في الدليل العقلي.

بل إن الآلاف من البحوث والدراسات المتعلقة “بحجية السنة” لو جرى تتبع دقيق لمحاولات تحليل وتفسير منهجي لمعرفة كيفية ظهورها لوجد أنها قد أعدت في إطار محاولة معالجة هذه الإشكالية نفسها، وفي جو من المساجلات الكلامية، وذلك بعد أن وجدت طوائف كثيرة من الأمة تتجادل حول وسائل الخروج من ذلك الحرج الذي أحاط بحياة الناس في إطار ذلك السقف من الفهم والمعرفة للكتاب الكريم والسنة النبوية، فظن أن لا مخرج من ذلك الحرج إلا باعتماد العقل وتعزيز مكانته وخاصة من بعد شيوع الوضع والدس على السنة، ومساهمات بقايا يهود في تأجيج تلك المعارك.

وقد أحدثت هذه النقلة العقلية بدورها، وخاصة على مستوى السنة إشكاليات عديدة؛ إذ أصبحت مصدرا لإثارة الكثير من القضايا وبعضها يندرج في إطار الاعتقاد الإسلامي، وأثرت في تصورات الإنسان المسلم، وشُوهت كثيرا من معالم تصوره ومنهجيته، فبرزت الإشكاليات المتعلقة بصفات البارئ عز وجل، والتأويل وما ترتب على ذلك من مشكلات، صادرت من المسلمين محجتهم البيضاء التي تركهم عليها الرسول، صلى الله عليه وسلم.

من هنا تبدو إشكالياتنا الفكرية مع تراثنا بأنواعه إشكاليات كبيرة، سواء في مجال التفسير أو السنة أو الأصول الفقهية أو في مجال الفقه ذاته أو في مجال علم الكلام وغير ذلك من المجالات الفرعية ذات العلاقة، مما يستدعي استنفار جهود وعقول أذكياء الأمة كافة؛ لمعالجة تلك المشكلات وتحرير العقل المسلم من آثارها، والخروج من سائر الفتن بكتاب الله المخرج منها وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، اللذين لا شك في قدرتهما على تزويد أمم الأرض كلها بفقه عمراني يحقق السعادة في الدارين، ومن لم يكفه النوران العظيمان فلا كفاه الله.

هذا، وإن من أخطر ما يتعلق بالفقه وما دخل فيه تلك الأحكام الفقهية التي ذهب إليها بعض فقهائنا في عصور سابقة، ونسب إلى شريعة الله ما فيها من حرج، قد أثر ذلك في عالمية الشريعة القائمة على وضع الإصر والأغلال، ونذكر منها، على سبيل المثال، موضوع الجروح قصاص الذي مرت الإشارة إليه، وإشارتنا إلى موقف ابن حزم وعلماء آخرين من تطبيق منطوق الآية الكريمة علينا، فهذا الجزء من الآية ورد ضمن أحكام الإصر والأغلال التي فرضها الله على بني إسرائيل لا على المسلمين، والآية الكريمة صريحة في ذلك، قال تعالى: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والاَنف بالاَنف والاُذن بالاُذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون” (المائدة: 47) فإذا ببعض الفقهاء يذهبون إلى الأخذ بمنطوق الآية على قاعدة “شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ” أو على عموم النص لنا ولهم أو على غيرهما من أصول الفقه، مع نسيان مفهوم الهيمنة القرآنية والتصديق، ونسخ شرعة الإصر والأغلال فقرروا القصاص في الجروح، فوقعوا وأوقعوا الأمة معهم في حرج كبير، خاصة حينما جاءوا إلى نوع من الجروح الذي كان يسمى في السابق الشجة والجائفة، وهي أسماء لأنواع من الجروح العميقة، فوجدوا أنهم إذا ما حكموا بالقصاص في مثل هذا النوع من الجروح، فمن الصعب أن يضبط المقتص يده، وقد يعمد إلى شبح أو جرح المعتدي بأكثر من الجرح الذي أحدثه فيه فتتسلسل الخصومة، فعمدوا إلى مخارج وحيل فقالوا بأن يقوَّم المجروح في هذه الحالة كما يقوَّم العبد المملوك فينظر إلى ما ينقص من قيمته بعد الجرح فيقدم مثلها، كتعويض أو دية عن ذلك الجرح، وكذلك في حالة الأعور الذي يفقأ إحدى عيني صحيح العينين يجبر المعتدَى عليه قبول الدية.

ولو أن هذا البعض من الفقهاء أخذوا بقاعدة نسخ شرائع الإصر والأغلال، ومنطوق آية المائدة الدالة على اختصاص القصاص في الجروح بتلك الشرائع المنسوخة لما قامت حاجة إلى مثل ذلك في الماضي ولا في الحاضر؛ حيث لا يزال البعض يفتي بمثل هذه الفتاوى على صفحات الجرائد وفي بعض الإذاعات فيوحي بأن هناك صلةً، لا سمح الله، بين شايلوك تاجر البندقية، وهذه الفتاوى.

لقد ترتب على دخول ذلك التراث وتحويل بعضه إلى قواعد مثل قاعدة “شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ” وما ماثلها إلى أصولنا الفقهية جملة من الأمور والأحكام الفقهية الخطيرة، مثل ما أشرنا إليه في موضوع الجروح قصاص ولو جرى التنبيه إلى منهجية القرآن ومعرفيّته وخصائصه لما أزيلت تلك الحواجز النفسية مع التراث السابق الذي حذر الصادق المصدق، صلى الله عليه وسلم، من التعامل معه، ومع ذلك فقد تعامل بعض الفقهاء مع كل شرائع الإصر والأغلال باستعداد كامل من بعض أصوليينا للنظر فيما يأتي من يهود على أنه أصل مهم يمكن أن يستفاد منه حكم أو توجه أو يستأنس، وبذلك أعطى لأحبار وعلماء تلك الشرائع مرجعية خاصة، تجعل الأمر وكأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مطالبون بالرجوع لأصحاب تلك الأديان والشرائع.

10. من دلالات الآيات إلى منهج القرآن

قد نجد بعض العذر لبعض الأصوليين والفقهاء في تلك المراحل السابقة نظرا إلى بعض الإشكاليات التي أحاطت بالثقافة الشفوية بعصر التدوين منذ عام 143ﻫ وملابسات الدس اليهودي التي أشرنا إليها، ويمكن أن يقال: إن النظر إلى القرآن العظيم على أنه مصدر للأحكام الشرعية أساسا صرف الأنظار عن البحث فيه كمصدر أساسي للمنهجية المعرفية، أو أن السقف المعرفي، آنذاك، لم يهيئ من القدرات المعرفية في تلك المرحلة ما يمكِّن من استكشاف منهجية القرآن الضابطة لموضوعات في شكل كلي موحد، فالمنهجية كناظم معرفي يرد الكثرة إلى الوحدة، والمتشابه إلى المحكم، تتطلب وعيا معرفيا على مناهج التعامل مع النصوص، انطلاقا من المنهجية المعرفية، ربما لم تكن الشروط العلمية لظهور هذه المناهج متوافرة في تلك الفترات من تاريخ العقل البشري أو الذي كان متوافرا منها هو مناهج التعامل مع النص كمصدر للحكم فقط؛ ولذلك اهتم علم أصول الفقه بهذا الجانب فحسب.

إن القرآن الكريم قد اشتمل على جملة من الآيات مبثوثة في كل سورة تفضي بشكل قطعي الدلالة إلى الأخذ بقاعدة رفع الحرج وتأصيل فقه التخفيف والرحمة، واعتبار ذلك قوله تعالى: “وجاهدوا في الله حقّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس” (الحج: 76)، وكذلك: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (البقرة: 184)، وكذلك: “يريد الله أن يخفِّف عنكم وخلق الاِنسان ضعيفا” (النساء: 28)، وتسع معاني هذه الآيات ليستوعبها معنى الرحمة الشاملة: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 106).

فهذه الآيات وغيرها كثير، تؤكد على أنه هذه الشريعة هي شرعة التخفيف والرحمة، وهي شرعة جعلها الله سبحانه أساس الإبلاغ عن خصائص النبي الأمي صلى الله عليه وسلم: “الذين يتبعون الرسول النبيء الاُمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والاِنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاَغلال التي كانت عليهم” (الأعراف: 157) فوجود الإصر والأغلال في هذه الشريعة يمثل نفيا ضمنيا أو صريحا، لا لخواص الشريعة فقط، بل ولصفات النبي الأمي، صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت هناك قاعدة فقهية تقول: أينما وُجدت المصلحة فثمَّ شرع الله فإن بجوارها قاعدة أخرى لابد من الوعي بها ويمكن أن يكون لفظها: “أينما وجد الإصر والأغلال والحرج فثم شرع الله يزيلها ويضعها على الناس” أو أي لفظ آخر.

الله سبحانه وتعالى في إطار شرعة الإصر والأغلال التي فرضها على بني إسرائيل، لم يحرم عليهم الخبائث فقط، ولكن حرم عليهم ما هو طيب في أصله وحلال أيضا بحكم بغيهم وتعديهم، وهكذا قال سبحانه: “فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدِّهم عن سبيل الله كثيرا” (النساء: 159)؛ فإذا كان شرع من قبلنا شرع لنا، فقد يعني ذلك أن طبيعة التكليف في شريعتنا كطبيعة التكليف في شرائعهم، وذلك محال، وكيف يكون هذا الأمر والله سبحانه قد جعل من خصائص النبوة الخاتمة أن الرسول الأمي، صلى الله عليه وسلم، يحل لهم الطيبات التي حرمت عليهم سابقا.

بل إن سيدنا عيسى قال لهم: “ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم“، وفي الإنجيل نصوص منسوبة لعيسى عليه الصلاة والسلام يؤكد فيها أنه لن يستطيع أن يخفف لهم أكثر مما قال؛ لأنه لا يملك أن يغير في الشريعة أي التوراة، ولكن سيأتي ذلك الذي يحمل لكم شرعة جديدة، وإن من أحكام الشرائع ما يمكن أن يندرج في إطار التصديق القرآني، ويعتبر منسوخا بهيمنته عليها، وبالأصل القائل بأن شرعتنا شرعة التخفيف والرحمة، وفقهاء العصر المسلمون في حاجة ماسة إلى التبصر والتدبر في هذه الفوارق المنهجية التي تضفي على أحكام القرآن خصائص التخفيف والرحمة، فإذا تعذر الانطلاق من المنهج فلا أقل من محاولة الانطلاق من آيات الرحمة المبثوثة في كل سور الكتاب لتكون ميزانا عند النظر في بعض القضايا الجزئية التي قد يؤدي التساهل فيها إلى الوقوع في هذه المحاذير.

الهوامش   


1. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.

2. وهو من التعريفات الحديثة للعلم، وراجع المعجم الفلسفي، وقارن بمقدمة ابن خلدون والمواقف للإيجي.

3. مثل قضايا البلوغ وبعض قضايا النساء والمقدَّرات والتجريبيات.

4. على ما ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام، وتابعه السيوطي في تاريخ الخلفاء سنة 143هـ.

5. الأم: 7 – 271.

6. بم تحكم؟ أو بم تقضي؟ لا يصح لا مرفوعا ولا موقوفا؛ أما مرفوعا فيدور على الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل أو رجال أو ناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ، والحارث مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث ومن روى الحارث عنهم مجهولون جهالة عين وانظر في سنن أبي داود (03592)، (018170) والبيهقي الكبرى (20339)، (20126)، (118354)، والترمذي (01327)، (021182)، والدارمي (00168/01)، (035983)، ومسند أحمد (22007)، (061491) و(22061)، (061546) و(22100) (061585). والطيالسي (00560)، (00559)، ومصنف ابن أبي شيبة (22988)، (22988) و(29091)، (29100)، ومعجم الطبراني الكبير (17088)، (20/0362)، (147679)، والمنتخب لعبد بن حميد (00124)، (174356)، وأما موقوفا فيدور على سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه، وسفيان مدلس ولم يصرح بالسماع سواء ابن عيينة أو الثوري اللذان رويا كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني، وانظر في سنن النسائي الكبرى (05399)، والمجتبى (05944).

7. لو يعطى الناس بدعواهم … إلخ: روي في جامع البخاري (04552)، ومسلم (01711/01)، وابن حبان (05082) و(05083)، وسنن ابن ماجه (02321)، والبيهقي الكبر (10803)، (10585) و(11447)، (11229) و(20712)، (20501) و(21197)، (20986) و(21199)، (20988) و(21200)، (20989) و(21201)، (20990) والدارقطني (04268)، والنسائي الكبرى (05994)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (04662) و(04677)، ومسند أبي عوانة (06005) و[06006]، وأبي يعلى (02588)، (02595) وأحمد (03292) و(03427)، ومصنف عبد الرزاق (15272)، (15193) ومعجم الطبراني الأوسط (07971)، والكبير (11224) و(11224) و(11225).

8. الإحكام، 5 / 168- 169.

9. انظر: العقيدة الشريعة، ص: 174.

10. انظر: الحيوان، ج. 1، ص: 58 وما بعدها.

11. انظر: الدميري، ج. 2، ص: 25، مادة سعلاة.

12. بقلم ر.كامبل ثومبسون، م. 28، ص: 83. وفي كتاب الفوكلور، ج. 2، ص: 388، سنة 1900 للسايس.

13. طبقات الشافعية للسبكي، ج. 5، ص: 45.

14. كما في تذكرة الحفاظ للذهبي، ج: 2، ص: 149، وقد ذكر ابن خلكان وفيات، رقم: 763، أن شخصا كان أخا لجني في الرضاع، وانظر أيضا أبحاث في فقه اللغة العربية لجولدتسهير، ج: 2 / 108، وحديثا كتاب مكدونالد المؤلف الديني والحياة والإسلام، ص: 143 وما بعدها، ص: 155.

15. طبقات الشافعية، ج. 5، ص: 179. انظر أيضا أبحاث في فقه اللغة العربية، ج.1، ص: 109.

16. طبقات الشافعية، ج. 1، ص: 258.

17. سردها في المحصول، 1 / 547 وما بعدها، والمحصل 31 والأربعين 424 – 426، ونهاية العقول.

18. ويمكن الاطلاع على بعض المراجع التي تحدثت عن هؤلاء في حاشيتنا على المحصول، 1 / 540.

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق