وحدة الإحياءفنون

مِنْ أَجل تلق جمالي ذائق لسماعنا الصوفي المغربي

يتناول الباحث في هذه المساهمة الجمالية المقصود بالسماع الصوفي، وكذلك الإضافات الفنية النوعية التي أضافها المغاربة إلى هذا النوع من الفن. 

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر[1]“.

وَاسْمَعْ إذَا غنَّتِ المَثـَـانِي      ***       تقولُ يا هُو لبيـكَ يا هُـو

وَاطْرَبْ بِذِكْرِ الحَبِيبِ وَافْرَحْ      ***      قَدْ بَلَغَ الشَّـوْقُ مُنْتَهــاهُ

لإمام المسمعين أبي الحسن الششتري

1. ماء الذكر

الذكر هو الركن الأعظم في طريق القوم. ذاك ما يلهج به مقالُ وحالُ صوفية المشرق والمغرب. فبه تطمئن القلوب الكليلة، وبه تنصقل الأفئدة العليلة، وبمائه تتطهر من جنابة الغفلة وعلل النفس، لتتجرد من كل تهافت على الحظوظ، أو طلب للرياسة واللحوظ؛ أو قل في عبارة: بمرهم الذكر يتحرر العبد من رق السوى والتعلق بالأغيار. لذا كان الذكر، من حيث هو صقال القلوب ومرهم أدوائها، مفتاحا لباب الشهود، يقول الشيخ محمد الحراق (تـوفي 1261ﻫ/1845م): “ما رأيت أنفع للقلب المتوجه الصادق من ذكر الله”، ونقرأ له أيضا في إحدى رسائله: “لم يتخذ المشايخ، والله أعلم، بابا للمشاهدة ولكن لقنوا أصحابهم أنواع الذكر التي تحصل على شدة المحبة الماحية لمقام الخوف والرجاء والتوكل والتسليم وغير ذلك من كل حاجب عن الله؛ لأن المحبة كلما عظمت زاد المتصف بها توغلا في الحضور مع محبوبه حتى ينتسخ وجوده بوجوده ويرتفع شهوده بشهوده”.

ويدخل في معنى الذكر تلاوة القرآن الكريم والاستغفار والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الهيللة أو اسم من أسماء الله الحسنى أو الاسم المفرد، كما يُلحق به ما ساد بين القوم من نصوص الأوراد والأحزاب والمناجيات والصلوات والأدعية، وهي نصوص يستحضرون بها عظمة الحق سبحانه، لتترسخ أسرار أسمائه ومعاني جلاله وجماله وكماله في الأفئدة والقلوب. فهذه الأخيرة إذا ما جُليَ عنها الصدأ وانصقلت مراياها وتطهرت من سقام أوهامها، صارت مضغا صالحة، وتلطفت غاية اللطافة، وتأهلت بالصفاء وإخلاص الطوية وصدق التوجه ونقاء الفكرة وجمع القصد في الله وبالله لتغدو بيوتا لله. فقد جاء في الحديث القدسي الأثير عند القوم: “ما وسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن”. وهو ما يشير إليه أيضا الإمام أبو الحسن الششتري (تـ.668هـ/1269م) بقوله:

وَطَهّرِ بيوتَ الله من كل صورةٍ    ***      فما البيتُ إلا القلبُ إن كنتَ ذا عقلِ

إذ بحصول هاته الطهارة يتحقق العبد بحقيقة العبودية، ويستكنه ذوقا معنى الربوبية، فتبدو عليه أمارات الطرب وعلامات الفرح؛ لا فرحا بنفسه وتقواها، بل زهوا بمولاه الذي ارتضاه عبدا. يروى عن عتبة الغلام أنه دخل في بعض الأيام على رابعة العدوية، رضي الله عنها، وعليه قميص جديد وهو يتبختر في مشيته بخلاف ما سبق من عادته، فقالت له: “يا عتبة، ما هذا التيه والعجب الذي لم أره من شمائلك قبل اليوم؟ فقال: يا رابعة، ومن أولى بهذا التيه مني وقد أصبح لي مولى، وأصبحت له عبدا”. وفي حكاية أخرى تشير إلى ذات المعنى قال بعضهم: “كنت مسافرا إلى مكة، فبينما أنا أمشي إذ رأيت شيخا بيده مصحف وهو ينظر فيه ويرقص، فتقدمت إليه فقلت: يا شيخ، ما هذا الرقص؟ قال: دعني عنك، قلت في نفسي، عبد من أنا؟ وكلام من أتلو؟ وبيت من أنا قاصد؟ فاستفزني الوجد فرقصت، وأنشد في هذا المعنى:

قــومٌ تخللهـم زهوٌ بسيدهــمْ      ***       والعـبدُ يزهـو على مقدار مــولاهُ

تاهُــوا برؤيته عمَّـا سـواه لهُ      ***       يا حسَن رؤيتِهمْ في حسِن ما تَاهُــوا”

إن ذينك التيه والزهو المشار إليهما في الحكايتين هما من ثمار الذكر الذي يفتح باب الشهود، وعنهما تصدر موسيقى القوم وإليهما تشير. لذلك كان سيدي ادريس الحراق (تـ.1353هـ/1933م) -الشيخ الثالث من شيوخ الطريقة الحراقية-، إذا ذكر قصة عتبة الغلام، تغنى ببرولة جده “جاد الزمان” التي تترجم معاني الزهو بالحبيب والتبختر بين أكنافه، والتي يقول فيها الشيخ الحراق:

وازهـــــى في أيامك لو تعيش نهــــار

وهي إشارة إلى الزهو بالله من حيث هو  تحدث بآلائه الذوقية التي تشرق شموس بهائها على القلوب المعمرة بمعاني الحق وأسمائه، زهو يجد “تعبيره” الجمالي والباطني، ضمن الطريقة الحراقية، في الفرح والطرب بالله. مما يمثل وجها من أوجه الخلفية الصوفية المسوغة للإنشاد والتغني في السماع الصوفي. فما المقصود هنا بالسماع؟ وما هي أبرز علاماته المغربية؟

2. طربُ الفقَرَا

السماع، هوية، هو ترتيل الأشعار الصوفية ببهي الأنغام وشجي الألحان في إطار شكل موسيقي روحي مخصوص يتوسل بالشعر والنغم لبلوغ غايات روحية تتفق مع مرامي ومراقي طريق القوم ومسلكهم الصوفي. وقد ظهر السماع بتواز مع انتعاش التصوف كعلم حادث في الملة منذ القرن الثالث للهجرة/القرن التاسع للميلاد، مع تلاميذ ومريدي صوفية كبار مثل ذي النون المصري (تـ.245هـ/859م) وسيد الطائفة أبي القاسم الجنيد (تـ.297هـ/910م) وأبي الحسين النوري (تـ.295هـ/908م). ثم راح يتطور ويتبلور إلى أن اتخذ منحى متميزا في المغرب مع انطلاق الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في الغرب الإسلامي خلال القرن السابع للهجرة (القرن الثالث عشر للميلاد) مع العزفيين ثم الموحدين؛ والذي صار مع المرينيين عيدا رسميا في المغرب. وخلال هذا المسار أفاد السماع من موقعه الخاص في الزوايا الصوفية التي ازدهرت في المغرب، كما أفاد خصوصا من ظهور أسماء شعرية صوفية كبرى سيكون لنصوصها بليغ الأثر وعظيم الصدى في المادة الإنشادية للسماع، أمثال سلطان الأولياء أبي مدين الغوث (تـ.594هـ/1198م)، وإمام المادحين شرف الدين البوصيري (تـ.608هـ/1211م)، وسلطان العاشقين عمر بن الفارض (تـ.632هـ/1235م)، وسلطان العارفين محيي الدين ابن العربي (تـ.638هـ/1240م)، وإمام المسمعين أبي الحسن الششتري (تـ.668هـ/1269م). وقد اتخذ السماع ملمحه المغربي حين صيغت ألحانه على نسق الطبوع الأندلسية المغربية، ووفق أساليب التلحين والتطريب فيها. كما تبلورت مغربيته من خلال التنويع الشعري الذي ازدهر في الغرب الإسلامي مع الموشحات والأزجال الأندلسية ثم مع الملحون المغربي؛ وخصوصا البراول، فضلا عن التلاقح الفني والموسيقي الكبير الذي حصل بين التراث الموسيقي الأندلسي، الذي حمله إلى المغرب المهاجرون الأندلسيون، وبين الخصائص الفنية الغنية التي كانت تؤثث البيئة المغربية بمختلف روافدها العربية والأمازيغية والإفريقية. وهذا ما أسفر لنا عن أسلوب في الإنشاد أضحى متميزا بعلاماته المغربية والتي ظلت تنتعش وتتثقَّفُ شعرا ونغما وأداء لتعبر عن مواجيد الصوفية المغاربة الذين حفلت بهم وبنفحاتهم مختلف جهات المغرب. واليوم مازالت الزوايا المغربية تعتني بهذه الموسيقى الروحية التي ننعتها بـ”طرب الفقرا”؛ لأنها تتصل بالتجارب الروحية لشيوخ القوم اتصالا عضويا بموجبه ترمز إلى مقامات هؤلاء الشيوخ وأحوالهم وأذواقهم وأوقاتهم، وتنبي عن مسالك وجدهم وتجليات مكاشفاتهم، وكذا عن طرائقهم في تربية وتأهيل الفقراء والسالكين. وهي إشارات يُفجرها طرَبٌ تتبلبل له الأسماع وتنتشي له الأرواح، كما يعبر عن ذلك أحد المكتوين بسر ذكر الحبيب حين ينشد:

    يا سعــدُ كرر لنـا تذكاره فلقد      ***     بلبلت أسمــاعنا يا مطرب الفقرا

إنها معان لطيفة تتدفق في لغة سكرى بالحيرة في المحبوب، فضلا عن نِغَمٍ بها تصبو الروح المبللة بالسر الصوفي إلى معنى الكمال والجمال المطلق. وهذا النسغ الروحاني هو ما يبلل تلاحين القوم بالبهاء، حيث للإنصات الدَّهِشِ عبيرُ الرقص الصوفي الملتهب في الحروف والكلمات، والمترقرق على الحناجر والأصوات، أو في الأوتار المسبحة بسر الوِتْرِ واللاهجة بذكر الحق سبحانه، يقول الششتَري:

    واسمــــع إذا غنت المثــاني      ***        تقـول يا هو لبيك يا هــــو

ويقول أبو مدين الغوث:

    لا تحسب الزمر الحـرام مرادنــا     ***        مزمارنــا التسبيح والأذكـار

إنه أيضا عبير غيبي ينبجس في اصطلام الأجساد وسط حِلقِ الذكر وفي نشوةِ الأرواح عند اهتياج الوجد.

3. منازه الأرواح

حِلَقُ الذكر رياض الجنة. ذاك ما يبشرنا به الحديث الشريف. والسماع لما كان ملحقا بالذكر كان مَنزهاً من منازه الجنان، لكنه منزهٌ لجنان المعارف لا جنان الزخارف، فيه تجول الأرواح في معاني الحب الذي تتشيد عليه العلاقة بين العبد ومولاه؛ بعيدا عن عبادة النّوَالْ التي يُعبد فيها الله على حرفٍ طمعا في نعيم أو خوفا من جحيم. إنه منزه يجلي حقيقة إيمان المحب التي نبهتنا إليها رابعة العدوية، رضي الله عنها، حين سألها ذات يوم عثمان الثوري قائلا: لكل عبد شريطة، ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فأجابت: “ما عبدت الله خوفا من النار فأكون كالعبد السوء إن خاف عمل، ولا حبا للجنة فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل، ولكن عبدته حبا له وشوقا إليه”.

إن جوهر المحبة الصوفية إذن هو التجرد عن الأغراض وطلب المحبوب المطلق لذاته،      لا لشيء خلقه أو لشيء معه. من هنا كان حب السماع مقرونا لدى القوم ببغض الدنيا، فقد سئل أبو الحسين النوري عن التصوف فقال: “بغض الدنيا وحب السماع”؛ بغض الدنيا لأنها غير وسوى، ومن التعلق الأعمى بها تَنشأ أهواء النفس ورعوناتها؛ وحب السماع لأنه يقدح في أفئدة القوم ما ملأها من وجد وعمرها من شوق وشغف بالحق سبحانه، إذ بالسماع تَحِنُّ الروح لأصلها في عالم اللطافة والأزل. ذات مرة سئل جنيد: “ما بال الإنسان يكون هادئا، فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله: “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا: بَلَى”، استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك”. وإلى هذا المعنى يشير سيدي أبو مدين الغوث في نونيته الشهيرة حين يقول:

أَمَا تنْظُرُ الطَّيْرَ الـمقفـصَ يا فَتَى      ***      إذَا ذكرَ الأَوطـانَ حنَّ إلى المَغـْـنَى

يـُـفَرِّجُ بالتـغرِيدِ ما بفـــؤادِهِ       ***       فتضطربُ الأعضاءُ في الحِسِّ والمعْنَى

وترقصُ في الأقفاصِ شوقاً إلى اللِّقَا     ***       فتهتزُّ أربـابُ العقـولِ إذا غَــــنَّى

كذلكَ أرواحُ المحبـِـين يا فــتَى       ***       تُهَزْهِزُهَا الأشـواقُ للعالمِ الأسْـــنَى

من هنا كان التنزهُ الذي نقترحه من خلال عملنا الفني “منازه الأرواح”، مهدىً لأرواح المحبين؛ تلك الأرواح الفائضة بالشوق للمعنى المتعالي، والذي تجسدن الأشعار والأنغام والأذكار والأوتار بعضاً من رنينه وصداه وظلاله.

الهوامش


 1. حديث شريف

د. محمد التهامي الحراق
باحث في التصوف والسماع الصوفي

 

 

يتناول الباحث في هذه المساهمة الجمالية المقصود بالسماع الصوفي، وكذلك الإضافات الفنية النوعية التي أضافها المغاربة إلى هذا النوع من الفن.

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر “.

وَاسْمَعْ إذَا غنَّتِ المَثـَـانِي               تقولُ يا هُو لبيـكَ يا هُـو
وَاطْرَبْ بِذِكْرِ الحَبِيبِ وَافْرَحْ               قَدْ بَلَغَ الشَّـوْقُ مُنْتَهــاهُ
لإمام المسمعين أبي الحسن الششتري

1. ماء الذكر
الذكر هو الركن الأعظم في طريق القوم. ذاك ما يلهج به مقالُ وحالُ صوفية المشرق والمغرب.          فبه تطمئن القلوب الكليلة، وبه تنصقل الأفئدة العليلة، وبمائه تتطهر من جنابة الغفلة وعلل النفس، لتتجرد من كل تهافت على الحظوظ، أو طلب للرياسة واللحوظ؛ أو قل في عبارة: بمرهم الذكر يتحرر العبد من رق السوى والتعلق بالأغيار. لذا كان الذكر، من حيث هو صقال القلوب ومرهم أدوائها، مفتاحا لباب الشهود، يقول الشيخ محمد الحراق (تـوفي 1261ﻫ/1845م): “ما رأيت أنفع للقلب المتوجه الصادق من ذكر الله”، ونقرأ له أيضا في إحدى رسائله: “لم يتخذ المشايخ، والله أعلم، بابا للمشاهدة ولكن لقنوا أصحابهم أنواع الذكر التي تحصل على شدة المحبة الماحية لمقام الخوف والرجاء والتوكل والتسليم وغير ذلك من كل حاجب عن الله؛ لأن المحبة كلما عظمت زاد المتصف بها توغلا في الحضور مع محبوبه حتى ينتسخ وجوده بوجوده ويرتفع شهوده بشهوده”.
ويدخل في معنى الذكر تلاوة القرآن الكريم والاستغفار والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الهيللة أو اسم من أسماء الله الحسنى أو الاسم المفرد، كما يُلحق به ما ساد بين القوم من نصوص الأوراد والأحزاب والمناجيات والصلوات والأدعية، وهي نصوص يستحضرون بها عظمة الحق سبحانه، لتترسخ أسرار أسمائه ومعاني جلاله وجماله وكماله في الأفئدة والقلوب. فهذه الأخيرة إذا ما جُليَ عنها الصدأ وانصقلت مراياها وتطهرت من سقام أوهامها، صارت مضغا صالحة، وتلطفت غاية اللطافة، وتأهلت بالصفاء وإخلاص الطوية وصدق التوجه ونقاء الفكرة وجمع القصد في الله وبالله لتغدو بيوتا لله. فقد جاء في الحديث القدسي الأثير عند القوم: “ما وسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن”. وهو ما يشير إليه أيضا الإمام أبو الحسن الششتري (تـ.668هـ/1269م) بقوله:
وَطَهّرِ بيوتَ الله من كل صورةٍ            فما البيتُ إلا القلبُ إن كنتَ ذا عقلِ
إذ بحصول هاته الطهارة يتحقق العبد بحقيقة العبودية، ويستكنه ذوقا معنى الربوبية، فتبدو عليه أمارات الطرب وعلامات الفرح؛ لا فرحا بنفسه وتقواها، بل زهوا بمولاه الذي ارتضاه عبدا. يروى عن عتبة الغلام أنه دخل في بعض الأيام على رابعة العدوية، رضي الله عنها، وعليه قميص جديد وهو يتبختر في مشيته بخلاف ما سبق من عادته، فقالت له: “يا عتبة، ما هذا التيه والعجب الذي لم أره من شمائلك قبل اليوم؟ فقال: يا رابعة، ومن أولى بهذا التيه مني وقد أصبح لي مولى، وأصبحت له عبدا”. وفي حكاية أخرى تشير إلى ذات المعنى قال بعضهم: “كنت مسافرا إلى مكة، فبينما أنا أمشي إذ رأيت شيخا بيده مصحف وهو ينظر فيه ويرقص، فتقدمت إليه فقلت: يا شيخ، ما هذا الرقص؟ قال: دعني عنك، قلت في نفسي، عبد من أنا؟ وكلام من أتلو؟ وبيت من أنا قاصد؟ فاستفزني الوجد فرقصت، وأنشد في هذا المعنى:
قــومٌ تخللهـم زهوٌ بسيدهــمْ               والعـبدُ يزهـو على مقدار مــولاهُ
تاهُــوا برؤيته عمَّـا سـواه لهُ               يا حسَن رؤيتِهمْ في حسِن ما تَاهُــوا”
إن ذينك التيه والزهو المشار إليهما في الحكايتين هما من ثمار الذكر الذي يفتح باب الشهود، وعنهما تصدر موسيقى القوم وإليهما تشير. لذلك كان سيدي ادريس الحراق (تـ.1353هـ/1933م) -الشيخ الثالث من شيوخ الطريقة الحراقية-، إذا ذكر قصة عتبة الغلام، تغنى ببرولة جده “جاد الزمان” التي تترجم معاني الزهو بالحبيب والتبختر بين أكنافه، والتي يقول فيها الشيخ الحراق:
وازهـــــى في أيامك لو تعيش نهــــار
وهي إشارة إلى الزهو بالله من حيث هو  تحدث بآلائه الذوقية التي تشرق شموس بهائها على القلوب المعمرة بمعاني الحق وأسمائه، زهو يجد “تعبيره” الجمالي والباطني، ضمن الطريقة الحراقية، في الفرح والطرب بالله. مما يمثل وجها من أوجه الخلفية الصوفية المسوغة للإنشاد والتغني في السماع الصوفي. فما المقصود هنا بالسماع؟ وما هي أبرز علاماته المغربية؟

2. طربُ الفقَرَا
السماع، هوية، هو ترتيل الأشعار الصوفية ببهي الأنغام وشجي الألحان في إطار شكل موسيقي روحي مخصوص يتوسل بالشعر والنغم لبلوغ غايات روحية تتفق مع مرامي ومراقي طريق القوم ومسلكهم الصوفي. وقد ظهر السماع بتواز مع انتعاش التصوف كعلم حادث في الملة منذ القرن الثالث للهجرة / القرن التاسع للميلاد، مع تلاميذ ومريدي صوفية كبار مثل ذي النون المصري (تـ.245هـ/859م) وسيد الطائفة أبي القاسم الجنيد (تـ.297هـ/910م) وأبي الحسين النوري (تـ.295هـ/908م). ثم راح يتطور ويتبلور إلى أن اتخذ منحى متميزا في المغرب مع انطلاق الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في الغرب الإسلامي خلال القرن السابع للهجرة (القرن الثالث عشر للميلاد) مع العزفيين ثم الموحدين؛ والذي صار مع المرينيين عيدا رسميا في المغرب. وخلال هذا المسار أفاد السماع من موقعه الخاص في الزوايا الصوفية التي ازدهرت في المغرب، كما أفاد خصوصا من ظهور أسماء شعرية صوفية كبرى سيكون لنصوصها بليغ الأثر وعظيم الصدى في المادة الإنشادية للسماع، أمثال سلطان الأولياء أبي مدين الغوث (تـ.594هـ/1198م)، وإمام المادحين شرف الدين البوصيري (تـ.608هـ/1211م)، وسلطان العاشقين عمر بن الفارض (تـ.632هـ/1235م)، وسلطان العارفين محيي الدين ابن العربي (تـ.638هـ/1240م)، وإمام المسمعين أبي الحسن الششتري (تـ.668هـ/1269م). وقد اتخذ السماع ملمحه المغربي حين صيغت ألحانه على نسق الطبوع الأندلسية المغربية، ووفق أساليب التلحين والتطريب فيها. كما تبلورت مغربيته من خلال التنويع الشعري الذي ازدهر في الغرب الإسلامي مع الموشحات والأزجال الأندلسية ثم مع الملحون المغربي؛ وخصوصا البراول، فضلا عن التلاقح الفني والموسيقي الكبير الذي حصل بين التراث الموسيقي الأندلسي، الذي حمله إلى المغرب المهاجرون الأندلسيون، وبين الخصائص الفنية الغنية التي كانت تؤثث البيئة المغربية بمختلف روافدها العربية والأمازيغية والإفريقية. وهذا ما أسفر لنا عن أسلوب في الإنشاد أضحى متميزا بعلاماته المغربية والتي ظلت تنتعش وتتثقَّفُ شعرا ونغما وأداء لتعبر عن مواجيد الصوفية المغاربة الذين حفلت بهم وبنفحاتهم مختلف جهات المغرب. واليوم مازالت الزوايا المغربية تعتني بهذه الموسيقى الروحية التي ننعتها بـ”طرب الفقرا”؛ لأنها تتصل بالتجارب الروحية لشيوخ القوم اتصالا عضويا بموجبه ترمز إلى مقامات هؤلاء الشيوخ وأحوالهم وأذواقهم وأوقاتهم، وتنبي عن مسالك وجدهم وتجليات مكاشفاتهم، وكذا عن طرائقهم في تربية وتأهيل الفقراء والسالكين. وهي إشارات يُفجرها طرَبٌ تتبلبل له الأسماع وتنتشي له الأرواح، كما يعبر عن ذلك أحد المكتوين بسر ذكر الحبيب حين ينشد:
يا سعــدُ كرر لنـا تذكاره فلقد             بلبلت أسمــاعنا يا مطرب الفقرا
إنها معان لطيفة تتدفق في لغة سكرى بالحيرة في المحبوب، فضلا عن نِغَمٍ بها تصبو الروح المبللة بالسر الصوفي إلى معنى الكمال والجمال المطلق. وهذا النسغ الروحاني هو ما يبلل تلاحين القوم بالبهاء، حيث للإنصات الدَّهِشِ عبيرُ الرقص الصوفي الملتهب في الحروف والكلمات، والمترقرق على الحناجر والأصوات، أو في الأوتار المسبحة بسر الوِتْرِ واللاهجة بذكر الحق سبحانه، يقول الششتَري:
واسمــــع إذا غنت المثــاني                تقـول يا هو لبيك يا هــــو
ويقول أبو مدين الغوث:
لا تحسب الزمر الحـرام مرادنــا                مزمارنــا التسبيح والأذكـار
إنه أيضا عبير غيبي ينبجس في اصطلام الأجساد وسط حِلقِ الذكر وفي نشوةِ الأرواح عند اهتياج الوجد.

3. منازه الأرواح
حِلَقُ الذكر رياض الجنة. ذاك ما يبشرنا به الحديث الشريف. والسماع لما كان ملحقا بالذكر كان مَنزهاً من منازه الجنان، لكنه منزهٌ لجنان المعارف لا جنان الزخارف، فيه تجول الأرواح في معاني الحب الذي تتشيد عليه العلاقة بين العبد ومولاه؛ بعيدا عن عبادة النّوَالْ التي يُعبد فيها الله على حرفٍ طمعا في نعيم أو خوفا من جحيم. إنه منزه يجلي حقيقة إيمان المحب التي نبهتنا إليها رابعة العدوية، رضي الله عنها، حين سألها ذات يوم عثمان الثوري قائلا: لكل عبد شريطة، ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فأجابت: “ما عبدت الله خوفا من النار فأكون كالعبد السوء إن خاف عمل، ولا حبا للجنة فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل، ولكن عبدته حبا له وشوقا إليه”.
إن جوهر المحبة الصوفية إذن هو التجرد عن الأغراض وطلب المحبوب المطلق لذاته،      لا لشيء خلقه أو لشيء معه. من هنا كان حب السماع مقرونا لدى القوم ببغض الدنيا، فقد سئل أبو الحسين النوري عن التصوف فقال: “بغض الدنيا وحب السماع”؛ بغض الدنيا لأنها غير وسوى، ومن التعلق الأعمى بها تَنشأ أهواء النفس ورعوناتها؛ وحب السماع لأنه يقدح في أفئدة القوم ما ملأها من وجد وعمرها من شوق وشغف بالحق سبحانه، إذ بالسماع تَحِنُّ الروح لأصلها في عالم اللطافة والأزل. ذات مرة سئل جنيد: “ما بال الإنسان يكون هادئا، فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله: “أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا: بَلَى”، استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك”. وإلى هذا المعنى يشير سيدي أبو مدين الغوث في نونيته الشهيرة حين يقول:
أَمَا تنْظُرُ الطَّيْرَ الـمقفـصَ يا فَتَى                 إذَا ذكرَ الأَوطـانَ حنَّ إلى المَغـْـنَى
يـُـفَرِّجُ بالتـغرِيدِ ما بفـــؤادِهِ                فتضطربُ الأعضاءُ في الحِسِّ والمعْنَى
وترقصُ في الأقفاصِ شوقاً إلى اللِّقَا                فتهتزُّ أربـابُ العقـولِ إذا غَــــنَّى
كذلكَ أرواحُ المحبـِـين يا فــتَى                تُهَزْهِزُهَا الأشـواقُ للعالمِ الأسْـــنَى
من هنا كان التنزهُ الذي نقترحه من خلال عملنا الفني “منازه الأرواح”، مهدىً لأرواح المحبين؛ تلك الأرواح الفائضة بالشوق للمعنى المتعالي، والذي تجسدن الأشعار والأنغام والأذكار والأوتار بعضاً من رنينه وصداه وظلاله.

 

Science
الوسوم

د. محمد التهامي الحراق

• دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط.
• المسؤول الثقافي والفني عن مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع ـ الرباط
• عضو في مركز خديجة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
• نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث ـ فرع الرباط.
• مشرف ومعد للعديد من البرامج التلفزية والإذاعية حول التصوف، منها:”عباد الرحمن”، و”ذكر ومذاكرة”، و”مرحبا بالمصطفى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق