وحدة الإحياءدراسات محكمة

من هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، في التعايش مع الآخر.. ميثاق نصارى نجران نموذجا

تعد السيرة النبوية باعتبارها مرحلة بناء الأنموذج الذي أتى على أصول الحياة جميعا، دليلا لكيفية التعامل مع حياة الناس، وتنزيل قيم القرآن عليها… وتعتبر المساحات الكبيرة التي قدمتها السيرة النبوية للتعامل مع الآخر بشتى أنواع التعامل من التصالح والتسالم والتعاهد والتحاور والتعاقد والتحالف والمواجهة.. جزءًا مهما من حوادث السيرة وبعدا أصيلا من أبعادها المقاصدية.

وفي حقبة الانفتاح العالمي، واختزال الزمان والمكان واستحقاقات “حقبة العولمة” ومعاهدات الشراكة على المستويات السياسية والاقتصادية والمعلوماتية.. تصبح الحاجة آكد إلى استلهام فترة السيرة النبوية وعطائها في هذا المجال، ليشكل لنا أداة عمل وإشارات هادية على الطريق الطويل، فكثيرة هي العهود التي أبرهما الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع المخالف دينيا وعقيديا، والتي تمثل معالم رئيسية لكيفية التعامل مع الآخر؛ كما تمثل حلا مناسبا لمجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم في زمننا المعاصر.

ومن بين هذه الوثائق والعهود، ميثاقه، صلى الله عليه وسلم، مع نصارى نجران وهو ذلك العهد[1] الذي أبرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع نصارى نجران حين قدومهم عليه عقب غزوة تبوك عام 9ﻫ[2] وهو عهد “يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية[3]” والذي بفضله تمكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، من استيعاب كل “النصارى؛ نصارى نجران وكل المتدينين بالنصرانية، في صلب الأمة الواحدة..[4]” ومن تبديد “هاجس خوف النصارى من  تكرار المحرقة اليهودية التي ظل  نصارى نجران يعانون منها طيلة سنوات خلت[5]“. فما الذي ضمنه الميثاق لنصارى نجران؟

لقد جاءت نصوص العهد ضامنة لنصارى نجران من الحقوق ما يحفظ إنسانيتهم ويصون كرامتهم إذ نص الميثاق على:

أولا: الحرية

1. احترام حرية الاعتقاد؛ فالفقرة 60 من العهد تنص على أنه “لا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام[6]“، بما ينسجم كليا مع قوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾ (البقرة: 255)، ويتوافق تماما مع قوله عز وجل: ﴿فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر﴾ (الكهف: 29).

ومن مظاهر حرية الاعتقاد التي كفلها الميثاق لنصارى نجران:

أ‌. حرية الحوار الديني؛ إذ جاء في الفقرة 20: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ (العنكبوت: 46)، ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيثما كانوا وأينما حلوا[7]. وهو نص واضح الدلالة في التأكيد على ضرورة سلك أحسن السبل في الحوار مع النصارى ووجوب التزام المنهج القرآني في الحوار مع أهل الكتاب، بما ينسجم وقوله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل: 125). ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾.

ب‌. حرية ممارسة الشعائر التعبدية؛ إذ نصت الفقرة 30 من العهد على احترام الأساقفة والرهبان وعدم التعرض لهم بالتغيير “ولا تغيير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانية[8]” وقد أعطى الرسول، صلى الله عليه وسلم، القدوة في الالتزام بهذا الأمر، يشهد لذلك موافقته، صلى الله عليه وسلم، وفد نصارى نجران أداء طقوسهم التعبدية وإقامة صلاتهم بمسجده[9].

ج‌. حق إقامة المعابد؛ إذ نصت الفقرة 33 من الميثاق على عدم “هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين[10]“. ولا يقف الميثاق عند حد إقرار حق إقامة المعابد للنصارى، بل يتجاوز ذلك في تسامح كبير إلى حد التعهد بالدفاع عن كنائس وبيع وبيوت صلوات النصارى؛ إذ نقرأ في الفقرة 18 من الميثاق “وأدب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران، أو سهل أو رمل، وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا، من بر أو بحر، شرقا وغربا، بما أحفظ به نفسي وخاصتي، وأهل الاسلام من ملتي..”[11][12].

د‌. الحرية في التزوج بالمسلمين؛ جاء في الفقرة 72 من الميثاق أن النصارى “لا يحملوا من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يضاروا في ذلك إن منعوا خاطبا وأبوا تزويجا؛ لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم ومسامحة  أهوائهم[13]“.

ولا يحق للمسلم إكراه النصرانية على تغيير دينها إن قبلت الزواج منه، بل عليه الرضا بذلك والتسليم به، وفي هذا نقرأ من الميثاق “إذا صارت النصرانية عند المسلم، فعليه أن يرضى بنصرانيتها، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها والأخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها ذلك[14]“.

ويسجل ابن قيم الجوزية في كتاب “أحكام أهل الذمة” حوارا حول مسلم تزوج بذمية، سأل فيه، هل له أن يمنعها  من شرب الخمر؟

قال: يأمرها.

قيل: لا تقبل منه، أله أن يمنعها؟

قال: لا[15].

وفي هذا دلالة قاطعة على مدى احترام الإسلام للآخر ولخصوصياته الدينية والثقافية… إلى حد بعيد… من منطلق إنسانية الإنسان وكرامته الآدمية.

ثانيا: العدل والمساواة

إلى جانب تقرير الميثاق لكل أشكال الحرية بما يحفظ إنسانية وكرامة النصارى، نص على أن “العدل في القضاء والمساواة في تحمل الأعباء المالية… فريضة إلهية شاملة لكل الأمة على اختلاف معتقداتها الدينية[16].”

ففي الفقرة 48 من الميثاق نقرأ “ولا خراج ولا جزية إلا على من يكون في يده ميراث من ميراث الأرض ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله، ولا يجار عليه، ولا يحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلف شططا، ولا يتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه[17].”

ومن تجليات “كامل المساواة” بين المختلفين في الدين، الذي حرص الميثاق على تقريرها، قوله صلى الله عليه وسلم: “لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم[18].”

ثالثا: التعاون والتكافل

بقدر اهتمام الميثاق بالقيم ذات الطابع السياسي (الحرية، العدل، المساواة..) بقدر اهتمامه بالقيم والأخلاق الاجتماعية؛ إذ نص العهد على ضرورة التكافل الاجتماعي والتعاون على الخير بين المسلمين والنصارى، حتى يكونوا يدا واحدة على من عاداهم؛ إذ جعل الميثاق من واجبات الطرفين التعاون في الدفاع المشترك على حرمات بعضهم البعض، والتعاون في وفاء الدين على الغارمين من الفريقين. إذ نقرأ في الفقرة 66 من الميثاق أنه “إن أجرم أحد من النصارى أو جني جناية، فعلى المسلمين نصره، والمنع والذب عنه، والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين من جني عليه، فإما من عليه، أو يفادى به، ولا يرفضوا ولا يخادلوا ولا يتركوا هملا[19].”

رابعا: أعلى قمم التسامح

وقد ألزم الميثاق المسلمين بتقديم يد العون والمساعدة للنصارى، وإن تعلق الأمر بإصلاح وترميم كنائسهم، وهذه قمة في التسامح لم تبلغها إلا أخلاق القرآن، التي جاءت لنشر السلم وتحقيق الأمن بين مختلف أتباع الديانات، وبالتالي القضاء على أجواء الاحتقان الديني والتعصب المذهبي الذي عانى من ويلاته العالم قبل مجيء الإسلام، وعن تلك الصورة السامقة من التسامح القرآني نقرأ في الميثاق الفقرة :81 “ولهم إن احتاجوا في مرمة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد[20] من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يرفدوا على ذلك ويعانوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم[21].”

“أي مستوى هذا من [التعاون والتسامح والعدالة]! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة، التي لا يبلغها البشر وحدهم، بل لا يعرفها البشر وحدهم، إلا أن ينقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟[22].”

خامسا: واجبات أهل الذمة

ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطني والقومي والحضاري، “اشترط هذا العهد على نصارى “نجران” أن يكون الولاء خالصا والانتماء كاملا لهذه الأمة الواحدة ولهذه الدولة الإسلامية، فالولاء كل الولاء لها وحدها، والبراء كل البراء من جميع أعدائها[23].”

 لهذا نجد الميثاق في الفقرات 90-93-102 قد اشترط على نصارى نجران أمورا يجب عليهم الوفاء بها، منها: “ألا يكون أحد منهم عينا ولا رقيبا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم، ولا في شيء من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يوفدوا أحدا من أهل الحرب على المسلمين بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.

ولا يقروا من نزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام بلياليها في أنفسهم ودوابهم، حيث كانوا وحيث مالوا، يبذلون لهم القرى الذي منه يأكلون، ولا يكلفوا سوى ذلك فيحملوا الأذى عليهم والمكروه، وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يأووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشوا به ما كانوا  مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئا من الواجب عليهم[24].”

سادسا: الإطلاقية (الاستمرار والثبات)… لا النسبية (التغير والتبدل)

متى التزم النصارى بهذه الشروط، فإن العهد معهم يكسب صفة الإطلاقية والاستمرارية، لا ينقض ولا يغير حتى تقوم الساعة إن شاء الله، جاء في الفقرة الأخيرة من الميثاق “.. وعليهم العهود والمواثيق التي أخذت عن الرهبان وأخذتها، وما أخذ كل نبي على أمته من الأمان، والوفاء لهم وحفظهم به، ولا ينقض ذلك ولا يغير حتى تقوم الساعة إن شاء الله[25]“. مما ينسجم مع قوله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود﴾ (المائدة: 1)؛ ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾ (النحل: 91)؛ ﴿وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسئولا﴾ (الاِسراء: 34)؛ والمؤمنون حقا يصفهم القرآن بأنهم ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا﴾ (البقرة: 176)؛ وبأنهم ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ (الرعد: 22). إن الوفاء بالعهد عام على كل عهد، وأنه مبدأ عام يشمل التعامل بين المسلمين وغيرهم على مر العصور حتى قيام الساعة، ما دام الطرف الآخر لم يخرج على شروطه وينقض العهد. بما ينسجم مع قوله تعالى: ﴿فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين﴾ (التوبة: 7).

وفي حالة ابتداء الطرف الآخر بنقض الميثاق والإخلال بأحد شروطه، فإن المسلمين يكونون في حل من العهد المبرم بينهم؛ فقد جاء في الفقرة الأخيرة من الميثاق: “فمن نكث شيئا من هذه الشرائط وتعداها إلى غيرها فقد بريء من ذمة الله وذمة رسوله[26]” وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ اِليهم على سواء، اِن الله لا يحب الخائنين﴾ (الاَنفال: 59).

يقول صاحب “في ظلال القرآن” في تفسيره لهذه الآية: “إن الإسلام يعاهد ليصون عهده؛ فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية؛ ولم يخن ولم يغدر؛ ولم يغش ولم يخدع؛ وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم… وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة.. إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ، ولا يروع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم… إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع؛ ويريد للبشرية أن تعف؛ فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة… إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود؛ ومن تم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة… إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة… وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية؛ لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات[27].”

إن الوفاء بالعهود مبدأ عام في الإسلام، يشمل التعامل بين المسلمين وبعضهم وبينهم وبين غيرهم في وقت السلم وفي وقت الحرب على حد سواء.

بعد هذا الاستطراد الضروري[28] نعود فنقول: إن النصارى من أهل الكتاب قد عاشوا حياة مطمئنة آمنة في عهد رسول الله؛ لأن الميثاق الذي أبرمه معهم قد “بدد هاجس خوفهم وجعل من حفظ كرامتهم حقا وواجبا على دولة الإسلام التي كانت تفاوضهم من مركز قوة لا تشوبها شائبة ضعف ولكنها حفظت لهم، مع ذلك، الكرامة كحق إلهي[29].”

وفي ضوء تلك العهود والمواثيق التي أبرمها رسول الله مع أهل الكتاب من يهود ونصارى، وفي الاتجاه نفسه، نقرأ من تعليمات الرسول، صلى الله عليه وسلم، بخصوص أهل الكتاب الموجهة إلى المسلمين: “ألا من ظلم معاهدا، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة[30]. “من قتل قتيلا من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة[31]“؛ “إن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانا لأهل ذمتنا[32].”

 ونحن نقرأ هذه الأحاديث الداعية إلى حسن معاملة أهل الذمة من يهود ونصارى لا ينبغي أن تغيب عنا، أصول الرؤية القرآنية المؤسسة لعلاقة المسلمين بغيرهم، والتي تعد بمثابة محددات منهاجية ضابطة لتلك العلاقة والتي جماعها التوحيد، بما يقرره من تكريم للإنسان ومساواة بين البشر ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون﴾ (المومنون: 53).

وبهذا انصهر أتباع الديانات الثلاث في المجتمع الإسلامي، وذابت الفروق بينهم لما وفره الإسلام، بفضل قدراته الاستيعابية، من فرص للتعايش السلمي والتفاعل الحضاري بين شعوب العالم المختلفة، وقد ترتب عن هذا التعايش الثلاثي تشريعات أساسية، أسهمت في توطيد العلاقة بينهم، وقوت فرص التلاحم والتعارف بين مختلف المتساكنين في الوطن الإسلامي، ومن ذلك:

1. إباحة التزوج بالكتابيات[33]

لقد سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين في بناء الأمة الواحدة، فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين في دائرة “أولي الأرحام” عند المسلمين وتلك قمة التلاحم والاندماج، وعنها يقول محمد عبده: “أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية أو يهودية وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها والقيام بفروض عبادتها والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهي منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبه في العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه، لم يفرق الدين في حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية، ولم تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى: ﴿ومن ـاياته أن خلَق لكم من اَنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، اِن في ذلك ءلايات لقوم يتفكرون﴾ (الروم: 20). فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهي كما هي، وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له، أين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الأولاد وأخوالهم وذوي القربى لوالدتهم، أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذي لم يعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه[34][35].

ولذلك، وحتى يكون هذا الزواج سبيلا لهذا التلاحم، “حرص عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع نصارى “نجران” على أن يتوفر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول، فالمرأة لابد في زواجها من ولي، وأولياء الكتابية كتابيون، فلابد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار، وعن هذا المبدأ الإسلامي جاء في ميثاق نصارى نجران[36].”

“ولا يحملوا من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يضاروا في ذلك أن منعوا خاطبا وأبوا تزويجا؛ لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، وسماحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به[37].”

2. إباحة أكل ذبائحهم

فلقد أباح الإسلام للمسلمين أكل ذبائح أهل الكتاب[38] “وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي… إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة والمجاملة والخلطة، فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك ليتم التجاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة[39].”

فالحكمة من مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم تكمن في “إزالة الفجوة التي تحجبهم عن محاسن الإسلام، وذلك ليعرفوا حقيقة الإسلام الذي هو أصل دينهم قد أكمله الله تعالى بحسب سننه في الترقي البشري والتدريج في كل شيء إلى أن ينتهي إلى كماله وهذا من مناسبات جعل الآية بعد الآية المصرحة بإكمال الدين[40][41].

ويزيد من سمو هذا الانفتاح الإسلامي، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج على أهل الديانات الوضعية أيضا، فلم يقف المسلمون في تعاملهم بمقتضيات منهاج القرآن في العلاقة بالآخر، عند اليهود  “أهل التوراة”، والنصارى “أهل الانجيل” فقط، وإنما عمموها لتشمل “المجوس”  و”الهندوس” و”البوذيين”، فعندما فتح المسلمون بلاد فارس وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما؛ للخير والنور، وثانيهما، للشر والظلمة. عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذا الأمر والواقع المستجد على مجلس الشورى في مسجد المدينة وقال:

كيف أصنع بالمجوس؟

فوثب عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه فقال:

أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سنوا فيهم سنة أهل الكتاب[42]“.

ولم يتوقف المنهاج القرآني في التعامل مع الآخر المختلف دينيا عند حد أهل الديانات فحسب، إنما امتد ليشمل “المشركين المسالمين للإسلام، مما يوضح البعد الشامل الذي أعطاه الإسلام لإستراتيجية التعايش السلمي والاعتراف بالآخر[43]“. سواء كان من أهل الكتاب أو مشركا وثنيا.

إجمالا، إن منظومة القيم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، كما يدل على  ذلك ميثاق نصارى نجران، تتمثل في التعددية وحرية العقيدة والعدل والمساواة والحرية.. وهي قيم ومبادئ جعلت من التسامح الديني سمة بارزة في الميثاق،تسامح لم تعهده الشعوب من قبل؛ إذ أصبح أهل الأديان آمنين محميين من الإكراه الديني، متمتعين بجميع حقوقهم الإنسانية من حيث هم بشر، بغض النظر عن عقائدهم الدينية وألسنتهم وألوانهم..

الهوامش


[1]. راجع نص العهد: على اختلاف رواياته: محمد حميد الله، بيروت: دار النفائس ط6، ص175 وما بعدها، كما تجد في نفس الكتاب دعوته لأساقفة نجران، ص174.

[2]. راجع ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مكتبة الصفا، ط(1426ﻫ/2004م) ج2، ص323.

[3]. عماد الدين خليل، المسلم والآخر: رؤية تاريخية، م.إسلامية المعرفة، س.9.ع33-34 ،2003م ص95.

[4]. محمد عمارة، حرية الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي، م.إسلامية المعرفة، م، س، ص131.

[5]. عبد الهادي بوطالب، من قضايا الإسلام المعاصر، مطبعة النجاح، البيضاء ط1، 2004م، ص76.

[6]. محمد حميد الله، م، س، ص188.

[7].المرجع نفسه.

[8]. المرجع نفسه، ص187.

[9]. راجع: ابن القيم الجوزية، م، س، ج2، ص323.

[10]. محمد حميد الله، م، س، ص187.

[11]. المرجع نفسه.

[12]. وقد أعطى المسلمون هذه الحقوق نفسها لكل البلاد التي دخلت سيطرتهم، وإذا كان بعض الفقهاء قد تشدد في وضع بعض القيود على بناء المعابد والكنائس، فإن هذا لم يكن مؤثرا كثيرا في الواقع الفعلي، يقول السيرتوماس أرنولد: “ربما اتفق أصحاب المذاهب لسبب أو لآخر على أن الذميين لا يسمح لهم أن يبنوا دورا للعباد ة في المدن التي أسسها المسلمون، ولكن السلطة المدنية (بفتوى من فقيه مصر الليث بن سعد) أباحت للقبط أن يبنوا كنائس في القاهرة العاصمة الجديدة، كما سمح للمسيحيين أن يؤسسوا في بعض المدن الأخرى كناس وأديرة جديدة”. الدعوة إلى الإسلام، ص84، نقلا عن محمد عثمان الخشت: المجتمع المدني والتعددية والتسامح في سياق الحضارة الإسلامية، م. التسامح، سلطنة عمان، ع12، السنة 3، خريف (1426ﻫ/2005م)، ص61-62.

[13]. محمد حميد الله،، م، س، ص189.

[14]. المرجع نفسه.

[15]. ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، دار العلم للملايين، ط2، 1401(ﻫ/1981م)، ج2، ص439.

[16]. محمد عمارة، حرية الأقليات غير المسلم في العالم الإسلامي، م، س، ص131.

[17]. محمد حميد الله، م، س، ص188.

[18]. المرجع نفسه، ص188-189.

[19]. المرجع نفسه، ص188.

[20]. رفد: “وإن استرفدتم ترفدون” الاسترفاد: الاستعانة. والإرفاد: الإعانة، محمد حميد الله، م، س، ص605.

[21]. المرجع نفسه، ص190.

[22]. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق ط30، (1422ﻫ/2001م)، ج2، ص751.

[23]. محمد عمارة، حرية الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي، م، س، ص134.

[24]. محمد حميد الله، م، س، ص190.

[25]. المرجع نفسه.

[26]. المرجع نفسه.

[27]. سيد قطب، في ظلال القرآن، م، س، ج3، ص1542.

[28]. ويكسب هذا الاستطراد أهميته من خلال اعتبار العديد من المفسرين أن المواثيق التي أبرمها الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أهل الكتاب تتخذ طابع المرحلية وهي ليست بالأحكام النهائية وإنما كانت تلك المواثيق “تكتيكا” خاضعا لظروف الدولة الإسلامية، وإنه لما تقوت شوكة الدولة الإسلامية، فإن تلك المواثيق لم تعد ملزمة لها.

[29]. عبد الهادي بوطالب، من قضايا الإسلام المعاصر، م، س، ص95.

[30]. سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات، رقم الحديث 3052.

[31].  سنن النسائي، (المجتبى)، كتاب القسامة، باب تعظيم قتل المعاهد، رقم الحديث 4750.

[32]. مسند أحمد، شعب الإيمان، الحادي والستون من شعب الإيمان وهو باب في مقاربة أهل الدين، رقم الحديث 8798.

[33]. للاطلاع على أقوال الفقهاء واختلافاتهم بخصوص هذه المسألة راجع القرطبي، دار الحديث،القاهرة ط(1413ﻫ/2002م)، ج3، ص449.

[34]. محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، 1993، ج 3، ص312، نقلا عن محمد عمارة، حرية الأقليات غير المسملة في العالم الإسلامي، م، س، ص132.

[35]. ورد في سفر التثنية من العهد القديم، الإصحاح7، “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوبا كثيرة من أمامك… لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم ابنتك، لا تعط لابنه، وابنته لا تأخذ لابنك… ولكن هكذا تفعلون بهم تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم… لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك”.

[36]. محمد عمارة، حرية الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي، م، س، ص 133.

[37]. محمد حميد الله، م، س، ص189.

[38] . اختلف أهل العلم بخصوص هذه المسألة على أقوال كثيرة، راجع القرطبي، م، س، ج3، ص449، والراجح إباحة أكل ذبائحهم وهو ما يتناسب مع قوله تعالى: ﴿اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم﴾ (المائدة: 6).

[39] . سيد قطب، في ظلال القرآن، م، س، ج2، ص848.

[40] . الآية المصرحة بإكمال الدين هي قوله تعالى ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا﴾ (المائدة: 3).

[41] . محمد رشيد رضا، تفسير المنار، دمشق: دار الفكر، ط2، د. ت، ج6، ص195.

[42] . البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق: صلاح الدين المنجد، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1956، ج1، ص327.

[43] . عبد الهادي بوطالب، من قضايا الإسلام المعاصر، م، س، ص77.

Science
الوسوم

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق