وحدة الإحياءدراسات محكمة

من خصائص خطاب التوجيه الخلقي في الأدب الصوفي المغربي

لا ريب أن خطاب التوجيه الخلقي المقصود هنا من صميم السلوك الصوفي، تكمن أهميته بالأساس في بعده الوظيفي، وما يكتنزه من آداب وأخلاق يلزم المريد المتصوف التحلي بها والتخلي عما يخالفها، وإلا ضل طريق الصواب وعسر عليه الترقي أو استحال.

لقد بلغ خطاب التوجيه الخلقي في الأدب الصوفي المغربي مداه، ونال حظا وافرا من الاهتمام، وفي ذلك وعي صلت بقيمته في مسار التجربة الصوفية سلوكا وإبداعا؛ ترغيبا وترهيبا، وتعليلا وتحليلا، ونشرا وتحبيبا.

إنا لو حاولنا استخلاص بعض أهم خصائص هذا الجنس الموضوعي من الكتابة الصوفية الأدبية في المغرب لما استطعنا تجاوز ما يلي:

1. تجمع تجربة التوجيه الخلقي في الأدب الصوفي بين الدعوة إلى التصوف كممارسة وسلوك عملي، والدعوة إلى اتخاذ شيخ ومعلم ومرب واحترام مقامه والتأدب بآدابه، والدعوة إلى التعلق بالله ورسوله ومحبتهما لذاتهما، هكذا، في مسار تصاعدي مناسب للمسار المقامي للتجربة الصوفية؛ من تربية النفس وتأهيلها للبحث عن الصفاء والكمال إلى الاتصال بالشيخ المرشد والموجه إليهما، ثم إلى محبة الرسول كمثال أعلى لهما، وأخيرا إلى مقام الله مانحهما، حيث لكل مقام أخلاقه وآدابه التي تناسبه وإن كانت كلها نابعة من المحبة الإلهية والرغبة في الارتواء من رائح صفائها.

2. تتميز لغة أدب التوجيه الخلقي بالبساطة، وسيادة الأسلوب الخطابي التقريري البعيد عن الإيحاء والرمز والمراعي لطبيعة المتلقي ووظيفة الإبلاغ والإقناع والتربية والتعليم، حيث يكثر الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وأدوات النداء، والتكرار الذي يفيد الإلحاح في الطلب، وجمل الشرط الدالة على التحليل والتعليل، والطباق الذي يقوي تحسين الحسن وتقبيح القبيح” ذلك أن من يريد إقناع الآخرين بمعنى من المعاني، كما يقول جابر عصفور، يشرحه له بادئ ذي بدء، ويوضحه توضيحا يغري بقبوله والتصديق به”[1].”

3. يتبين، تبعا لذلك، أن أدب التوجيه الصوفي تهيمن عليه الوظيفة الإفهامية، والغرض منها إقناع المتلقي المقصود بالحمولة الدلالية لخطاب التوجيه، وتوعيته بما يتطلبه السفر الصوفي من مجاهدات وأخلاق وآداب، بفضل ما توفره اللغة الأدبية من سرعة في الحفظ وقدرة على التأثير والإثارة، سواء أكان المتلقي عاديا أو مريدا مبتدئا أو متصوفا سائرا في الطريق.

4. يكثر خطاب التوجيه الخلقي في التصوف شعرا ونثرا، مما يدل على أهميته التربوية والتعليمية ودوره في جلب المريدين وشحذ أرواحهم بمكارم الأخلاق ومحامدها، وبذلك يغدو جليا أن التصوف تجربة جماعية فضلا عن كونه تجربة فردية وذاتية، بل إن هذه الأخيرة كانت دائما منطلق الأولى    ما دام مرسل خطاب التوجيه لا يمكن أن يكون إلا صوفيا واصلا عاش تجربته وانطلق ليوجه غيره.

5. إن خطاب التوجيه، بهذه الميزات، ليس محصورا كله في صنف المتصوفة، بل منه ما يفيد عامة الناس مادام الغرض منه هو التربية وتهذيب أخلاق الشخصية الإسلامية.

صفوة القول إن أدب تجربة التوجيه عملي وخلقي في مضامينه ومعانيه، ومقصده وبعده الوظيفي، ومساره المقامي، ولغته، ومرسله ومتلقيه.

للاقتراب أكثر من مقام التوجيه الخلقي في مدارج الأدب الصوفي المغربي، لا بأس من التمثيل ببعض المقال، وذلك من خلال التبيان المختصر للدعوة إلى حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، استنادا إلى بعض النماذج الشعرية الصوفية:

الدعوة إلى حب الله ورسوله

 إن محبة الله ورسوله هي أصل الأخلاق و”الرؤيا الهدف” في التجربة الصوفية، وكل ما يمكن أن يوجد من آداب وأخلاق في الدعوة إلى التصوف والدعوة إلى التعلق بالشيخ نابع من هذه المحبة وتابع لها؛ إذ لا مفر من الاستعداد الكامل لولوج عالمها بتربية النفس والزهد في الدنيا، ومزاولة تجربة المجاهدة تحت رعاية شيخ واصل ومرب كامل.

وفق هذا التسلسل يكون خطاب التوجيه الخلقي قد بلغ مداه بطرق باب الدعوة إلى حب الرسول والتعلق به كمثال أعلى للإنسان الكامل، والدعوة إلى حب الله كهدف أسمى تتحقق بوصاله غاية الصوفي ورؤياه، فجوهر حبهما المقصود في هذه الدعوة هو ما نعته الصوفية “بالموهبة” التي لا تنال بالتعلم، وعبروا عنها بألفاظ مثل المنحة الربانية، والسر الإلهي، والنور الساطع في القلب، و”المحبة ميل دائم بقلب هائم[2] مما يفيد أن الدعوة إلى الحب وما تحمله من توجيهات خلقية لا تعدو أن تكون تحريكا للأرواح وتنبيها لها، وتأكيدا لمبدأ المحبة كأصل للتصوف وهدف يتوخاه المتلقي المتأثر بالخطاب التوجيهي، وليس تعليما ولا تقنينا لسبل ممارستها.

انطلاقا من هذا المفهوم للمحبة دعا الشعراء المحب إلى ملازمتها بالصبر على محنها، والتلذذ بمشاقها ومعاناتها وشكر المحبوب على ذلك والفرح به، وسلب الإرادة له تعبيرا عن صدقه تجاهه، سواء كان هذا المحبوب هو الله أو رسوله،  صلى الله عليه وسلم، وفي هذا قال: “محمد الحراق” البسيط.

 لازم هواك ولا تجزع من التيه          فالوصل والهجر كل من معانيه

واصبر إذا أظهر المحبوب عزته        فالحب للحب حقا من يواتيه

وكن شكورا إذا أرضاه ما صنعت      بك المشيئة من شيء تقاسيه

فسيمة الصدق منك أن ترى فرحا  بكل حال لك المحبوب يبديه[3]

وإذا كانت محبة الرسول “ومعرفته، صلى الله عليه وسلم، هي رأس المال في الدخول إلى حضرة الجمال والجلال[4]” الإلهيين، فلنحاول الاقتراب أكثر من كوامن هذه الدعوة من خلال مرافقة الشعراء وهم يدعون إلى المحبة المحمدية حينا والمحبة الإلهية حينا آخر، ولنبدأ بمحبة الرسول ما دامت تشكل في المسار المقامي باب الحضرة الإلهية.

أ. الدعوة إلى المحبة المحمدية

إن محبة الصوفية للرسول محبة بالبصيرة الباطنة لا بالحواس الظاهرة؛ تتعدى ذاته إلى معناه كأصل للوجود والكمال الإنساني ومنبع لهما بعناية الرحمان، ولذلك نعته محمد بن عبد الكبير الكتاني “بالمبدأ الفياض وقطب الدوائر الوجودية في قوله الطويل:

هو المبدأ الفياض والدولب الذي        يفيض على الأدوار سر الألوهية

   هو العنصر الكلي والدورة التي          بها كان بسط الدائرات الوجودية[5]

فالرسول، صلى الله عليه وسلم، هو باب مقام الحضرة الربانية حيث عين الكمال وفيض الجمال، والوصول لا يتم دون التعلق به والتمسك بحبه والمجاهدة لمشاهدة جماله، يقول ابن عجيبة:

تمسك بحب الرسول           فإنه باب الوصول

ونوره أصل الأصول          وسره بحر يجول

تحظى بالوصال                لعين الكمال

          وتسقى زلال                  من فيض الجمال[6]

 وقد كان الشعراء يتوسلون في دعوتهم إلى محبة الرسول وتعظيمه بشتى صفات السمو والعلو، حتى تقترب لغتهم ما أمكن من معاني حقيقته، صلى الله عليه وسلم، وتوحي بما يلزم في حقها من مجاهدات، معتمدين إلى جانب ذلك على الأسلوب الخطابي البسيط مع الإكثار من فعل الطلب وجوابه لتحفيز المتلقي وإغرائه بالنهل من محبته. وهم في ذلك ينطلقون من تجاربهم الذاتية ويصدرون عن إحساسهم الصادق بنشوة صفاء محبته وجمالها مما يذكي نغمة التحبيب ويهز كيان المتلقي بقوة، كما هو الحال في قول: “عبد الرحمان بن عبد الهادي السجلماسي”

الكامل:

عظم جناب الهادي طه وشرف             وانشد مدائح في علاه وصنف

وانشر درا من حديث كماله                وسماع أذنك بالثناء فشنف

واملأ فؤادا من محبة ” أحمد”              واجعل مديحه حال خير تصوف

واشرب سلافة سر شوق غرامه            والق الرغيب وكل حقد مترف

فهو الصبابة، والنزاهة والمنى             وهو الغنى من كل هم مرجف

فاعلق به تلق النجاة لأنه                  غوث وغيث، باهي القد، اهتف

نور، سراج، فاضل، متفضل               ختم لأولى العزم، هاد مصطف

فاصب إليه بحالة تجلي الصدا             عن قلب حب رضاه دون توقف[7]

هكذا تكون الدعوة إلى المحبة المحمدية في ذاتها دعوة خلقية في مبناها ومعناها ما دام الوصول إلى مقام الله لا يمكن أن يتم دونها.

ب. الدعوة إلى حب الله والتعلق به

تعتبر هذه الدعوة آخر مقام في تجربة التوجيه الصوفي، وهي بذلك تتناسب مع مقام الله تعالى الذي   لا يصله إلا متصوف تدرج في سلم الترقي تحت جناح رعاية شيخه، وتعلق بالرسول كباب لمقامه سبحانه. وقد ركز الشعراء في دعوتهم هذه على محبة الله لما هو عليه من كمال وجلال وجمال ثم محبة لذاته بالدعوة إلى سلب الإرادة له، يقول ابن عجيبة على لسان الحضرة الإلهية:

فلا تضع قدرك بعد الرفع              بخوض وهمك في كل وادي

سلب الإرادة معي جميل               وغاية الكمال والرشاد[8]

ويقول الشيخ الحاج علي الإلغي الكامل:

الله قل وذر الوجود وما حوى          إن كنت مرتادا بلوغ كمال

             فالكل دون الله إن حققته                 عدم على التفصيل والإجمال[9]

ويقول حمدون بن الحاج السلمي في المعنى  نفسه  توشيح:

كل شي هالك إلا       عظيم القدر والشان

                     فعلى حبه عول          ليس في الخلق سوى الشان[10]

فبلوغ الكمال يكون بسلب الإرادة لله والبقاء به دون سواه، وذلك بالتذلل لعزه سبحانه، والخضوع له، وإيثاره على غيره بالكلية، بحيث يصير المحبوب هو سبحانه:

تذلل لعز الحبيب              تفوز بوصل قريب

وتكسى بعز عجيب           يدوم في نسل حسيب

اخضع يا نديم           لرب عظيم

      تشهد القديم            بقلب سليم[11]

فانطلاقا من هذه النماذج وغيرها يظهر أن الحب الإلهي هو عين: المقدس والصفاء الخالص، وكل من يرغب فيه وجب عليه أن يتعلق بالله ويصبر على مشاق المحبة إلى أن يشاهد أنوار الكمال؛ إذ “لا يوجد كامل إلا بتكميله[12]” سبحانه كما قال الشيخ “أحمد زروق”.

الهوامش:


1. جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، بيروت: دار التنوير،ط 2، 1983، ص332-333.

2. معراج التشوق إلى حقائق التصوف، مخ.خ.ع بالرباط، د 1974، ص86-87.

3. محمد الحراق: الديوان: ص20، نشر وتقديم جعفر ابن الحاج السلمي، منشورات جمعية تطاون أسمير، ط I: 1996.

4. عبيدة بن محمد الصغير الشنجيطي، ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التجانية، المطبعة الرسمية بتونس: 1911، ص225.

5. محمد الباقر الكتاني، ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد، مطبعة الفجر، 1962، ص112-113.

6. ابن عجيبة، الفهرسة، حققها وقدم لها وعلق عليها: عبد الحميد صالح حمدان، القاهرة: دار الغد العربي، ط1، 1990.

7. عبد الرحمان السجلماسي، غنيمة العبد الضعيف المحتاج في ذكر الصلاة على صاحب المغفر والتاج، مخ.خ.ع بالرباط، 1841، ص13-14.

8. الفهرسة، م، س، ص120.

9. محمد المختار السوسي، الترياق المداوي في أخبار سيدي الحاج علي السوسي الدرقاوي، المطبعة المهدية تطوان 1961، ص145.

10. حمدون بن الحاج، الديوان، العام، 2/416، تقديم وتحقيق: أحمد العراقي، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية– ظهر المهراز – فاس، ط1، 1995.

11. الفهرسة، م، س، ص119.

12. أحمد زروق، قواعد التصوف، المطبعة العلمية، مصر1318، ص59.

Science

د. عبد الوهاب الفيلالي

أستاذ التعليم العالي،

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز-فاس

منسق ماستر: “التصوف في الأدب المغربي: الفكر والإبداع”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق