مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينمعالم

من حكماء هذه الأمة: العالم، العابد، الزاهد: أبو الدرداء الأنصاري رضي الله عنه.

نهض عويمر بن مالك الخزرجي([1]) المكنى بأبي الدَّرداء([2]) من نومه مبكِّرا، ومضى إلى صنمه الذي نصبه في أشرف مكان من بيته، فحيَّاه وضمَّخه([3]) بأنفس ما حواه متجره الكبير من الطِّيب، ثم ألقى عليه ثوباً جديداً مِن فاخر الحرير، أهداه إليه بالأمس أحد التُّجَّار القادمين عليه من “اليمن”.

ولمَّا ارتفعت الشَّمس غادر أبو الدرداء منزله مُتَوَجِّهاً إلى متجره.

فإذا شوارع “يثرب” وطرقاتها تضيق بأتباع محمَّد، وهم عائدون من “بدر”، وأمامهم أفواجُ الأسرى من قريش، فازْوَرَّ([4]) عنهم؛ لكنه ما لبث أن أقبل على فتًى منهم ينتمي إلى الخزرج وسأله عن عبد الله بن رواحة([5])، فقال له الفتى الخزرجي: لقد أبلى في المعركة أكْرَمَ البلاءِ وعاد سالماً غانماً، وطمْأنه عليه.

ولم يستغرب الفتى سؤال أبي الدرداء عن عبد الله بن رواحة؛ لِمَا كان يَعْلَمُ النَّاسُ جميعاً مِنْ أواصر([6]) الأخُوَّة التي كانت تَرْبِطُ بيْنَهُما؛ ذلك لأنَّ أبا الدَّرداء، وعبد الله بن رواحة كانا مُتآخيين في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اعتنقه ابنُ رواحة، وأعْرَضَ عنه أبو الدَّرداء.

لكنَّ ذلك لم يَقْطَعْ ما بين الرَّجُلين مِنْ وثيق الأواصر([7])؛ إذْ ظَلَّ عبد الله بن رواحة يتعهَّدُ أبا الدَّرداء بالزِّيارة، ويدعوه إلى الإسلام، ويُرَغِّبُهُ فيه، ويأْسفُ على كلِّ يوم يمضي مِنْ عُمُرِه وهو مُشْرِكٌ.

وصل أبو الدَّرداء إلى متجره، وتَرَبَّعَ على كُرْسِيِّه العالي، وجعل يبيعُ ويشتري، ويأْمُرُ غِلْمَانه وينهاهُم…وهو لا يعلم شيئاً مِمَّا يَجْرِي في منزله…

ففي ذلك الوقت كان عبد الله بن رواحة يَمْضِي إلى بيت صاحبه أبي الدَّرداء وقد عَزَمَ على أَمْرٍ…فلمَّا بلغ البيت رأى بابهُ مفتوحاً وأبصرَ أُمَّ الدَّرداءِ في فِنَائِه([8])، فقال: السَّلامُ عَلَيْكِ يا أَمَةَ الله.

فقالت: وعليك السلام يا أخا أبي الدَّرداء. فقال: أين أبو الدَّرداء؟. فقالت: ذَهَبَ إلى مَتْجَرِهِ، ولا يَلْبَثُ أَنْ يَعُود. فقال: أَتَأْذَنِين؟. فقالت: على الرَّحْبِ والسَّعَة، وأفْسَحت له الطريق، ومضت إلى حُجْرَتِهَا، وانْشَغَلت عنه بإِصْلاح شأن ورعاية أطفالها.

دخل عبد الله بن رواحة إلى الحُجرة التي وَضَعَ فيها أبو الدَّرداء صنمه، وأَخْرَجَ قَدُوماً أحضرهُ معه، ومال على الصَّنَمِ وجَعَلَ يُقَطِّعُهُ به وهو يقول:

أَلاَ كُلُّ ما يُدْعَى مع الله باطلٌ… أَلاَ كُلُّ ما يُدْعَى مع الله باطلٌ… ([9])

فلمَّا فَرَغَ مِنْ تَقْطِيعه غَادَر البَيْت.

دَخَلَتْ أُمُّ الدَّرْدَاء إلى الحُجْرَةِ التي فيها الصَّنَمُ، فَصُعِقَتْ حِينَ رَأَتْهُ قَدْ غَدَا جُذَاذاً([10])…وَوَجَدَتْ أَشْلاَءَهُ([11]) مُبَعْثَرَةً على الأرض…وَجَعَلَتْ تَلْطِمُ خَدَّيْهَا وهي تقول: أَهْلَكْتَنِي يا ابْنَ رَوَاحَةَ…أَهْلَكْتَنِي يا ابْنَ رَوَاحَةَ…

لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قليلٍ حتى عاد أبو الدَّرداء إلى منزله، فرأى امرأته جالسة عند باب الحُجْرَةِ التي فيها الصَّنَمُ وهي تبكي وتَنْشِجُ([12])، وعلاماتُ الخَوْفِ منه باديةٌ على وَجْهِهَا، فقال: ما شَأْنُكِ([13])؟…قالت:

أخُوك عبد الله بن رواحة جَاءَنَا في غَيْبَتِكَ، وَصَنَعَ بِصَنَمِكَ ما ترى.

فنظر إلى الصَّنَمِ فوجده حُطاما، فاسْتشاط([14]) غَضَباً، وَهَمَّ أَنْ يَثْأَرَ له، لكنَّهُ ما لَبِثَ قليلاً حتَّى هَدَأَتْ ثَائِرَتُهُ، وَسَكَتَ عنهُ غَضَبُهُ؛ فَفَكَّرَ فيما حَدَثَ، ثُمَّ قال: لَوْ كان في هذا الصَّنَمِ خَيْرٌ لَدَفَعَ الأذى عَنْ نَفْسِه.

ثُمَّ انْطَلَقَ مِنْ تَوِّهِ إلى عبد الله بن رواحة، وَمَضَيَا معاً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعْلَنَ دُخوله في دين الله، فكان آخر أهْلِ حَيِّهِ إسلاماً.

آمن أبو الدَّرْدَاء- منذ اللَّحْظَةِ الأولى- بالله ورسوله إيماناً خالطَ كُلَّ ذَرَّةٍ في كِيَانِه.

وَنَدِمَ ندماً كبيراً على ما فاته مِنْ خيرٍ، وأدرك إدراكاً عميقاً ما سَبَقَهُ إليه أصحابه مِنْ فِقْهٍ لدين الله، وحِفْظٍ لكتاب الله، وعبادةٍ وتَقْوَى ادَّخَرُوهما لأنفسهم عند الله.

فَعَزَمَ على أنْ يَسْتَدْرِكَ ما فاته بالجُهْدِ الجاهد، وأن يُواصلَ كَلاَلَ اللَّيْلِ([15]) بِكَلاَلِ النَّهار حتَّى يَلْحَقَ بِالرَّكْبِ ويتقَدَّمَ عليه.

فانصرف إلى العبادة انْصِراف مُتَبَتِّلٍ([16])، وأقبل على العِلْمِ إِقْبَال ظَمْآنَ، وأَكَبَّ([17]) على كتاب الله يَحْفَظُ كلماته، ويتعمَّقُ فَهْمَ آياته.

ولمَّا رأى التِّجارة تُنَغِّصُ([18]) عليه لَذَّةَ العبادة، وَتُفَوِّتُ عليه مَجَالِسَ العِلْمِ تَرَكَهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ ولا آسِفٍ.

وقد سألهُ في ذلك سائلٌ فأجاب: لقد كُنْتُ تاجراً قَبْلَ عَهْدِي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أَسْلَمْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ التِّجارة والعبادة فَلَمْ يَسْتَقِمْ لِي ما أَرَدْتُ، فَتَرَكْتُ التِّجارةَ وَأَقْبَلْتُ على العبادة…

والذي نَفْسُ أبي الدَّرْداء بِيَدِه، ما أُحِبُّ أنْ يَكُونَ لِيَ اليَوْمَ حَانُوتٌ على بَابِ المسجد فلا تَفُوتُنِي صَلاَةٌ مع الجماعة، ثُمَّ أَبِيعُ وأشْتَرِي فأَرْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ ثلاثمائة دينار. ثُمَّ نَظَرَ إلى سائله وقال:

إنِّي لا أقولُ: إنَّ الله عَزَّ وجل حَرَّمَ البيْع… ولكِنِّي أُحِبُّ أنْ أكُون مِنَ الذين لا تُلْهِيهِمْ تِجَارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله.

لَمْ يَتْرُكْ أبو الدَّرْدَاء التِّجارة فَحَسْبُ وإنَّما تَرَكَ الدُّنيا، وأعْرَضَ عن زِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا، واكْتفى مِنْهَا بِلُقْمَةٍ خَشِنَةٍ تُقِيمُ صُلْبَهُ([19])، وثَوْبٍ صَفِيقٍ([20])، يَسْتُرُ جسَدَهُ.

فقد نزَلَ به جماعةٌ في ليلةٍ شديدةِ القَرِّ([21]) قاسية البَرْدِ، فأرسَلَ إليهمْ طعاماً ساخناً، ولم يَبْعَثْ إليهم باللُّحُفِ، فلمَّا هَمُّوا بالنَّوْمِ جَعَلُوا يتشاورون في أَمْرِ اللُّحُفِ، فقال واحدٌ منهم: أنا أذْهَبُ إليه وأُكَلِّمُهُ…

فقال له آخر: دَعْهُ، فَأَبَى، ومَضَى حتَّى وَقَفَ على باب حُجْرَتِهِ فَرَآهُ قَد اضْطَجَعَ، وامْرَأَتُهُ جالسَةٌ قَريباً منه ليس عليها وعليه إلاَّ ثوبٌ خفيفٌ لا يَقِي مِنْ حَرٍّ ولا يَصُونُ مِنْ بَرْدٍ، فقال الرَّجُلُ لأبي الدَّرْداء:

ما أراك بِتَّ إلاَّ كَمَا نَبِيتُ نَحْنُ !!…أين متاعُكُمْ؟!.

فقال: لنا دارٌ هُناك نُرْسِلُ إليها تِبَاعاً كُلَّ ما نحصُلُ عليه من متاعٍ، ولو كُنَّا اسْتَبْقَيْنَا في هذه الدَّار شَيْئاً منه لَبَعَثْنَا به إليكم…

ثُمَّ إنَّ في طريقنا الذي سَنَسْلُكُهُ إلى تلك الدَّار عَقَبَةً كَؤُوداً([22]) المُخِفُّ فيها خيرٌ مِنَ المُثْقَلِ، فَأَرَدْنَا أن نَتَخَفَّفَ من أثْقالها عَلَّنا نَجْتازُ.

ثم قال للرَّجُلِ: أَفَهِمْتَ؟. فقال: نَعَمْ فَهِمْتُ، وَجُزِيتَ خَيْراً.

وفي خلافة الفاروق رضوان الله عليه أراد مِنْ أبي الدَّرْدَاءِ أَنْ يَلِيَ([23]) له عَمَلاً في الشَّام فَأَبَى، فَأَصَرَّ عليه فقال أبو الدَّرْدَاء:

إذا رَضِيتَ مِنِّي أَنْ أَذْهَبَ إليهم لِأُعَلِّمَهُمْ كتاب رَبِّهِمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ، وَأُصَلِّي بِهِمْ ذَهَبْتُ، فَرَضِيَ مِنْهُ عُمَرُ بذلك، ومضى هُوَ إلى “دِمَشْقَ”، فلمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ النَّاسَ قد أُولِعُوا بالتَّرَفِ، وانْغَمَسُوا في النَّعيم، فَهَالَهُ ذلك، ودعا النَّاسَ إلى المَسْجِدِ؛ فاجْتَمَعُوا عليه فَوَقَفَ فِيهِمْ وقال:

يا أهل “دِمَشْقَ” أنتمُ الإخوانُ في الدين، والجيرانُ في الدَّار، والأنصار على الأعْداء…

يا أهل “دمشق”، ما الذي يَمْنَعُكُم من مودَّتي والاستجابة لنصيحتي وأنا لا أبتغي منكم شيئاً؛ فنصيحتي لكم، ومُؤْنَتِي([24]) على غيركم.

ما لي أرى عُلماءَكم يَذْهَبُون([25])، وجُهَّالكم لا يتعلَّمُون؟!…وأراكم قد أقبلتم على ما تكفَّلَ لكم به الله عزَّ وجل، وتركتم ما أُمرتم به؟!.

ما لي أراكم تَجْمَعُونَ ما لاَ تأْكُلُون !!. وتبنون ما لا تسكنون !!. لقد جَمَعَتِ الأقْوامُ التي قبلكم وأمَّلَتْ…فما هو إلاَّ قليلٌ حتى أصبح جمعُهم بُوراً([26])…وَأَمَلُهُمْ غُروراً…وبيوتهُم قُبُوراً…

هذه “عَادٌ”([27])– يا أهل دمشق”- قَد مَلَأتِ الأرض مالاً وولداً…فمن يَشتري منِّي تركة “عَادٍ” اليوم بدرهمين؟.

فجعل الناس يبكُون حتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُم([28]) مِنْ خارج المسجد.

ومنذ ذلك اليوم طَفِقَ أبو الدَّرداء يَؤُمُّ([29]) مجالس الناس في “دمشق” ويطوف بأسواقهم، فَيُجِيبُ السَّائل، ويُعَلِّمُ الجاهل، ويُنَبِّه الغافل، مُغْتَنِماً كُلَّ فُرْصَةٍ مُستفيداً من كُلِّ مناسبة.

فها هو ذا يَمُرُّ بجماعة قد تَجَمْهَرُوا على رَجُلٍ وجعلوا يَضْرِبُونه ويشتُمُونه، فأَقبل عليهم وقال: ما الخَبَرُ؟!.

قالوا: رَجُلٌ وَقَعَ في ذَنْبٍ كبير. قال: أرأيتم لو وَقَعَ في بئرٍ أَفَلَمْ تكونوا تَسْتَخْرِجُونَهُ منه؟.

قالوا: بلى.

قال: لا تسُبُّوه ولا تضربوه، وإنما عِظُوهُ وبصِّرُوه، واحْمَدُوا الله الذي عافاكُم من الوُقُوع في ذنبه.

قالوا: أفلا تُبْغِضُهُ؟!.

قال: إنَّما أُبْغِضُ فِعْلَهُ؛ فإذا تَرَكَه فهو أخي.

فأخذ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ ويُعْلِنُ توبته.

وهذا شابٌّ يُقْبِلُ على أبي الدَّرداء ويقول: أوصِنِي يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له: يا بُنَيَّ، اذْكُرِ الله في السَّرَّاء يَذْكُرْكَ في الضَّرَّاء…

يا بُنَيَّ، كُنْ عالماً أو مُتَعَلِّماً أو مُسْتَمِعاً ولا تكن الرَّابع([30]) فَتَهْلَكَ.

يا بُنَيَّ، لِيَكُنِ المسجد بَيْتَكَ، فإنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (المساجد بيتُ كُلِّ تَقِيّ)، وقد ضَمِنَ الله عزَّ وجل لِمَنْ كانت المساجدُ بيوتَهُم الرَّوْحَ([31])، والرَّحْمَةَ، والجَوَازَ([32]) على الصِّراطِ إلى رضوان الله عزَّ وجل.

وهؤلاء جماعةٌ من الشُّبَّان جَلَسُوا على الطَّريق يتحَدَّثُون وينظُرُون إلى المارِّين، فَيُقْبِلُ عليهم ويقول: يا بَنِيَّ، صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فيه نَفْسَهُ وبصَرَهُ، وإيَّاكُم والجُلُوسَ في الأسواق فإنَّهُ يُلْهِي ويُلْغِي.

وفي أثناء إقامة أبي الدَّرداء “بدمشق” بَعَثَ إليه وَالِيهَا مُعاوية بن أبي سُفيان يخطُبُ ابنته “الدَّرداءَ” لابنِهِ يَزِيد، فأَبَى أن يُزَوِّجَهَا له، وأعطاها لِشَابٍّ من عامَّة المُسلمين رَضِيَ دينه وَخُلُقَه.

فَسَارَ ذلك في الناس، وَجَعَلُوا يَقُولُون: خَطَبَ يَزيد بن معاوية بِنْتَ أبي الدَّرْدَاء فرَدَّهُ أبوها، وَزَوَّجَهَا لرجُلٍ مِنْ عامَّة المُسلمين.

فسألهُ سائلٌ عَنْ سَبَبِ ذلك؟ !. فقال: إنَّمَا تَحَرَّيْتُ فيما صَنَعْتُهُ صلاحَ أمْرِ الدَّرْدَاء. فقال: وكيف؟.

فقال: إنَّما تَحَرَّيْتُ فيما صَنَعْتُهُ صلاحَ أمْرِ الدَّرداء. فقال: وكيف؟.

فقال: ما ظَنُّكُمْ بالدَّرداء إذا قام بيْنَ يَدَيْهَا العَبِيدُ يَخْدمُونَهَا، وَوَجَدَتْ نَفْسَهَا في قصورٍ يَخْطَفُ لأْلاَؤُهَا البَصَر…أيْنَ يُصْبِحُ دِينُهَا يومئذ؟!.

وفي خلال وجود أبي الدَّرداء في بلاد الشَّام قَدِمَ عليهم أمير المؤمنين عُمر بن الخطَّاب مُتَفَقِّداً أحْوالهَا، فَزَارَ صاحبَهُ أبا الدَّرْدَاء في منزلِهِ لَيْلاً، فَدَفَعَ الباب، فإذا هو بِغَيْرِ غَلَقٍ، فدخل في بيْتٍ مُظْلِمٍ لا ضوء فيه، فلَمَّا سَمِعَ أبو الدَّرْدَاء حِسَّهُ قام إليه، ورحَّبَ به وأجْلَسَهُ.

وأخذ الرَّجُلاَنِ يتفاوضَان([33]) الأحاديث، والظَّلاَمُ يَحْجُبُ كُلاًّ مِنْهُمَا، فَجَسَّ عُمر وِسَادَ أبي الدرداء فإذا هُو بَرْذَعَةٌ([34])…وَجَسَّ فِراشه فإذا هُو حَصًى…وَجَسَّ دِثَارَهُ([35]) فإذا هو كِسَاءٌ رقيقٌ لا يَفْعَلُ شيئاً في بَرْدِ “دِمَشْق”. فقال له: رحمك الله ألم أُوَسِّعْ عَلَيْكَ؟ ! أَلَمْ أَبْعَثْ إليك؟!.

فقال له أبو الدَّرداء: أتذْكُرُ- يا عُمر- حديثاً حَدَّثَنَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال: وما هو؟.

قال: ألم يَقُلْ: “لِيَكُنْ بَلاَغُ([36]) أحَدِكُمْ مِنَ الدُّنيا كَزَادِ راكبٍ” ([37])؟. قال: بلى.

قال: فماذا فَعَلْنَا بَعْدَهُ يا عُمَر؟!!.

فبكى عمر وبكى أبو الدَّرداء. وما زالا يَتَجاوبان([38]) بالبُكاء حتَّى طلع عليهما الصُّبْحُ.

ظَلَّ أبو الدَّرداء في “دِمَشْق” يَعِظُ أهلها ويُذَكِّرُهُم ويُعَلِّمُهُم الكتاب والحِكْمَةَ حتَّى أتاه اليقين([39])

فلمَّا مَرِضَ مَرَضَ الموت، دَخَلَ عليه أصحابه، فقالوا: ما تَشْتَكِي؟. قال: ذُنُوبِي. قالوا: وما تَشْتَهِي؟. قال: عَفْوَ رَبِّي.

ثُمَّ قال لِمَنْ حَوْلَه: لَقِّنُونِي: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله. فما زال يُرَدِّدُها حتى فارق الحياة.

ولمَّا لَحِقَ أبو الدرداء بجوار رَبِّهِ رأَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِي([40]) فيما يَرَاهُ النَّائِمُ مَرْجاً أَخْضَرَ فَسِيحَ الأرجاء وَارِفَ الأَفْيَاءِ فيه قُبَّةٌ عظيمةٌ مِنْ أَدَمٍ([41])، حَوْلَهَا غَنَمٌ رَابِضَةٌ لَمْ تَرَ العَيْنُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقال: لِمَنْ هذا؟!. فقيل له: لِعَبْد الرَّحمن بنِ عَوْف([42]).

فَطَلَعَ عليه عَبْدُ الرَّحمن مِنَ القُبَّةِ، وقال له: يا بْنَ مالكٍ، هذا ما أعطانا الله عزَّ وجل بالقرآن. وَلَوْ أَشْرَفْتَ على هذه الثَّنِيَّةِ([43]) لَرَأَيْتَ ما لم تَرَ عينُكَ، وَسَمِعْتَ ما لم تَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَوَجَدْتَ ما لَمْ يَخْطُرْ على قَلْبِك.

فقال ابن مالك: وَلِمَنْ ذلك كلُّهُ يا أبا مُحَمَّدٍ؟!.

فقال: أعدَّهُ الله عزَّ وجل لأبي الدرداء لأنه كان يَدْفَعُ عنه الدُّنيا بالرَّاحَتَيْنِ والصَّدْرِ([44]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

  • لغة العرب عرفت منذ قديم الزمن أن الاسم (العَلَم) يُقَسَّمُ إلى ثلاثة أقسام:
  • الاسم؛ كمحمد، وأحمد مثلاً. ب ـ الكُنْيَةُ؛ كأبي الدَّرْدَاء، وأبي حَفْص. جـ ـ اللقب؛ كالفاروق، والصِّدِّيق.
  • عبادة الأصنام، ومَن هم في درجة الأصنام، لا تنفع، ولا تضر، بل وقد تضر أحياناً؛ لتأثيرها على نفسية العابد لها. وصدق الله العظيم: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا ينْفَعُ النَّاس فَيَمْكُثُ فِي الاَرض كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الاَمْثَال)([45]).
  • الصَّديق الحقُّ هو الذي يتفانَى في جَلْبِ الخير لصديقه، ويَدْفَعُ عنه الأذَى بكل وسيلة ممكنة.
  • الغضب من أقبح وأوسع أبواب الشَّرّ، والغاضب قد يرتكب من الأخطاء ما لا ينفع معها علاج، ولا يُرْجَى من بعدها إصلاح. ونصيحة الرَّسول، صلى الله عليه وسلم، بقوله: “لا تَغْضَب…” ([46])؛ هي البَلْسَمُ الشافي، والدَّواء الكافي.
  • الإسلام يَحُثُّ على التَّوسُّط والاعتدال في الأمور كلِّها؛ لأن الانغماس الكُلِّي في الأعمال الدُّنيوية؛ كالتجارة مثلاً قد تُفَوِّتُ على صاحبها خيراً كثيراً، يحظَى به الذين مدحهم الله بقوله: (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله…)([47])، وقد عَاتَبَ الله عزَّ وجل مَنْ تَعَلَّقَ باللَّهْوِ والتجارة، وآثرهُما على كل خير، فقال: (وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِما قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِين)([48]).
  • من مظاهر الزُّهْد: القناعة باليسير، والتَّزوُّد للمسير، والخشية من شر العاقبة وسوء المصير.
  • الموعظة الحسنة تُؤْخَذُ من حال أهل الله، ومن أقوالهم، وأفعالهم، والاقتداء بهم. قال الشاعر:

هَذَا الزَّمَانُ الَّذِي قَالَ الرَّسُولُ لَنَا ** خِفُّوا الرِّحَالَ فَقَدْ فَازَ المُخِفُّونَا([49]).

  • الوظيفةُ أمانةٌ ثمينة، ومسؤولية جسيمة، وكانت قديما لا تُعْطَى لمن يطلبها، ولا تُسْنَدُ لمن لا يستحقُّها، ولا لمن لا يُقَدِّرُها حَقَّ قدرها.
  • أفضل الأعمال: الدَّعْوَةُ إلى الله عزَّ وجل، وهي مُهِمَّةُ الأنبياء والمرسلين، والعلماء العاملين، وعباد الله الصالحين المخلصين (وَمَن اَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِن)([50]).
  • النَّصيحة الصَّادقة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وأحدثت تأثيراً عميقاً في قلب السَّامع، وأثْمرت النتائج الطَّيِّبة، والعكس صحيح.
  • الأمْرُ النبوي لكافة المسلمين بتزويج بناتهم لمن يُرْضَى دِينُهُ وَخُلُقُه([51]).
  • تجب الخشية على دين الأطفال- ذكوراً، وإناثا- وأخلاقِهم، ولغتهم، وتاريخهم…وتلك مسؤولية كبرى أمام الله في أعناق الوالدين.

والحمد لله رب العالمين

————————————————————————

([1]) الخزرجي: نسبة إلى الخزرج؛ وهي قبيلة يمانية الأصل ارتحلت إلى المدينة واستقرت فيها، وكانت هي والأوس تُكَوِّنَانِ جمهرة الأنصار.

([2]) كُنِّيَ باسم ابنتِه: “الدَّرْدَاء”.

([3]) ضمَّخه: دهنه

([4]) ازْوَرَّ عنهم: أعْرض عنهم.

([5]) عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي: شاعر مشهور، أحد السَّابقين إلى الإسلام، شهد بدراً واستشهد بمؤتة سنة 8 هجرية، وكان ثالث قوادها.

([6]) أواصر الأخوَّة: روابط الأخوَّة.

([7]) وثيق الأواصر: متين الصِّلات.

([8]) فِناء المنزل: باحته.

([9]) من البحر الطويل.

([10]) جُذَاذاً: قطعا.

([11]) أَشْلاءَه: أعضاءَه وأجزاءَه.

([12]) النَّشيجُ: البكاء بصوت عال.

([13]) ما شأنك؟: ما خبرك، ما أمرك؟.

([14]) استشاط غضباً: اتقد غضباً.

([15]) كلال الليل بكلال النَّهار: تعب اللَّيل بتعب النَّهار.

([16]) المُتَبَتِّل: المنقطع عن الدُّنيا، المنصرف إلى الله.

([17]) أَكَبَّ على الشيء: أقبل عليه ولزمه.

([18]) تُنَغِّصُ: تُكَدِّرُ.

([19]) تُقِيمُ صُلْبَهُ: تقيم أوده.

([20]) ثوب صَفِيق: ثوب خشن.

([21]) شديدة القَرِّ: شديدة البرد.

([22]) عقبة كؤوداً: عقبة صعبة المرتقى.

([23]) أن يلي له عملاً: أن يتولى له ولاية.

([24]) مؤنتي على غيركم: نفقتي على غيركم.

([25]) يذهبون: يأخذهم الموتُ.

([26]) بُوراً: هالكاً خرباً.

([27]) عاد: قوم نبي الله هود، عصوا نبيهم فأهلكهم الله.

([28]) نَشِيجُهُم: صَوْت بكائهم.

([29]) يؤم مجالس النَّاس: يتردد على مجالس النَّاس ويغشاها.

([30]) أراد بالرَّابع: الجاهل.

([31]) الرَّوْح: الرَّاحة والسّعة.

([32]) الجواز: المرور.

([33]) يتفاوضان الأحاديث: يتبادلان الأحاديث ويتجاذبانها.

([34]) البرذعة: كساء يُلقى على ظَهر الدَّابة.

([35]) دِثَارَه: غطاءه.

([36]) بلاغ أحدكم: كِفاية أحدكم ومالُه.

([37]) رواه الطبراني في: المعجم الكبير، رقم: (6160) 6/ 261، والقُضَاعِي في: مسند الشِّهَاب، رقم: (728) 1/ 424، والبيهقي في: شعب الإيمان، رقم: (9909) 13/ 34. وصححه الحافظ أبو بكر إسحاق الدينوري في: القناعة، باب ما يُحَبَّبُ إلى الإنسان القناعة، رقم: (23) 1/ 52، والحاكم النيسابوري في: المستدرك على الصحيحين، كتاب الرِّقَاق، رقم: (7891)، بلفظ: “بُلْغَةُ” و”مِثْل زَادُ الرَّاكِب”: 4/ 353.

([38]) يتجاوبان بالبكاء: يجيب كل منهما صاحبه بالبكاء.

([39]) اليقين: الموت.

([40]) عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني: صحابي من الشجعان الرُّؤساء، كانت معه راية “أشجع” يوم الفتح، نزل حمص وسكن دمشق.

([41]) من أدم: من جلد.

([42]) عبد الرَّحمن بن عوف: صحابي جليل، وأحد الثمانية السَّابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وأحد النَّفر الذين كانوا يُفْتُونَ في المدينة، ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ قائمٌ بيْن ظَهْرانَي المسلمين، وأحد السِّتَّة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض.

([43]) الثَّنِيَّةُ: الطريق.

([44]) القصة من كتاب: صور من حياة الصحابة؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 201- 210.

([45]) سورة: الرَّعْد، من آية: 17.

([46]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم: (6116) 8/ 28.

([47]) سورة: النور، من آية: 37.

([48]) سورة: الجمعة، آية: 11.

([49]) البيت من البحر: البسيط.

([50]) سورة: فُصِّلَتْ، من آية: 33.

([51]) ونص الحديث: “إذا أتاكم من ترضون خُلُقَهُ وَدِينَهُ فزوِّجُوه، إلاَّ تفعلُوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض”. أخرجه ابن ماجه في سُننه، كتاب النكاح، باب الأكفاء، رقم: (1967) 1/ 632. والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينه فزوِّجُوه، رقم: (1084) 2/ 385. وحسَّنه الألباني في: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السَّبيل، رقم: (1868) 6/ 267.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق