مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

من أقوال الصحابة رضي الله عنهم عند الموت (1)

 

 

 

تقديم واختيار: ذ.نورالدين الغياط. 

إنّ للصحابة رضي الله عنهم فضل كبير في تبليغ الدعوة ونشـر هذا الدين، وقد ورد فضلهم هذا في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشـريفة. لما تمتعوا به من  الصفات العالية والأخلاق الحميدة، فقد كان الصّحابة مثالًا في الورع والصّلاح والتّقوى والبذل في سبيل الله، وكان لكلّ واحدٍ منهم صفة تميّزه عن غيره، فكلّ الصّحابة كانوا مناراتٍ يُهتدى بها في ظلمات الحياة ودياجيرها، نهل جميعهم من نور النبوة والصحبة الشريفة لسيد الخلق بنصيب وافر، وفازوا بذلك فوزا كبيرا.

لذلك فضّلهم النّبي صلّى الله عليه وسلم على غيرهم، فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([1])، كما نهى أن يتعرّض لهم أحد بالسّوء، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسـي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»([2]).

وقد ذكر الإمام مسلم حديثا في الاستفتاح بمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيوجد الرجل، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فيوجد الرجل فيفتح لهم به»([3]).

وقد مدحهم الله تعالى في كتابه العزيز وبيّن كيف أنّهم أشدّاء على الكفّار، رحماء فيما بينهم، حريصون على رضا الله عز وجل وابتغاء فضله ورحمته، متشوقين للقاء ربهم، وقد تميّز عددٌ منهم فكان منهم أصحاب بيعة الرّضوان وأهل بدر، كما تميّز من الصّحابة من بشّره النّبي عليه الصّلاة والسّلام بالجنّة فكان العشرة المبشّرون ، كما تميّز من بينهم الخلفاء الرّاشدون. فلزم على كل مسلم التأدب معهم ومحبتهم والاقتداء بآثارهم وأقوالهم.

قال ابنُ حجر الهَيتميّ: (يَلزَمُ المُسلمَ أن يتأدّبَ مع صحابةِ رسول الله  وأهلِ بيتِه بالتّرضّي عليهم ومعرفةِ فضلهِم وحقِّهم، والإمساكِ عمّا شَجرَ بينهُم مع نَزاهةِ كلٍّ منهُم عن ارتكابهِم شيئاً يُعتقَدُ حِرمَتُه، بل كلٌّ منهم مُجتهدٌ، فهم كلُّهم مجتهدونَ مُثابونَ، المُصيبُ بعشـرةِ أجورٍ، والمُخطئُ منهم بأجرٍ واحدٍ، والعقابُ واللّومُ والنّقصُ مرفوعٌ عن جَميعهِم؛ فتفطَّنْ لذلِك وإلاّ زلَّت قَدمُك، وحَقَّ هلاكُك ونَدمُكَ. ألا وإنّ فَضيلَتَهم على مَن سواهُم من الأمّةِ إنّما هي بفوزِهم بتلكَ الصُّحبةِ الشّـريفةِ، وفضيلةِ المُشاهدةِ التي لا تكونُ لغيْرِ الصّحابةِ… كيفَ لا وهُم الذينَ بَذَلوا أرواحَهُم في محبّةِ المُصطفى، وآثروا رِضاه على هَوى نُفوسهِم، فَنالوا بذلِك رِفعةً وشَرفاً..)([4]).

وقد كانوا جميعهم رضي الله عنهم حريصون على لقاء ربهم، وجلون منه أن يعلق بهم شيء من مفاتن هذه الدنيا الفانية، يرجون فضل الله وإحسانه.

وفيما يلي درر مختارة من أقوال الصحابة رضي الله عنه لمّا حضرهم الموت.

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لمّا اشتد مرض أبي بكر رضي الله عنه بكيت فأغمي عليه، فقلت:

[بحر الرجز]

مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا … يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مَدْفُوقًا

قالت: فأفاق أبو بكر رضي الله عنه، فقال: “ليس كما قلت يا بنية، ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}([5])، ثم قال: أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قالت: فقال: فأي يوم هذا؟ قلت: يوم الاثنين، قال: فإني أرجو من الله ما بيني وبين الليل، قالت: فمات ليلة الثلاثاء، فدفن قبل أن يصبح، قالت: وقال: في كم كفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كنا كفناه في ثلاثة أثواب سُحُولِيَّةٍ جدد بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، قلت: فقال لي: اغسلوا ثوبي هذا، وبه رَدْعُ([6]) زَعْفَرَان أو مَشْق، واجعلوا معه ثوبين جديدين، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّه خَلِق، فقال لها: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو لِلْمُهْلَةِ فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح، أخرجه البخاري([7])، بمعناه في حديث وهيب عن هشام دون ما في صدره من بكاء عائشة، وقولها وقراءته الآية “([8]).

وعن زبيد بن الحارث قال: (لما حضر أبا بكر – رضي الله عنه – الموت أراد أن يستخلف عمر – رضي الله عنه – فقال الناس: تستخلف علينا فظا غليظا؟، ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟، فقال أبو بكر: أبربي تخوفونني؟، أقول: اللهم أستخلف عليهم خير خلقك، ثم أرسل إلى عمر، فقال: إني أدعوك إلى أمر متعب لمن وليه، فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن المتقي آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروض، لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر، يوشك أن تنقطع أمنيته وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم، فإن استطعت أن تجف يدك من دمائهم، وأن تضمر بطنك من أموالهم، وأن تجف لسانك عن أعراضهم، فافعل، وإن لله حقا بالنهار، لا يقبله بالليل، وإن لله حقا بالليل، لا يقبله بالنهار، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، باتباعهم في الدنيا الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا، وإن الله ذكر أهل الجنة بصالح ما عملوا، وأنه تجاوز عن سيئاتهم، فيقول القائل: ألا أبلغ هؤلاء؟، وذكر أهل النار بأسوأ ما عملوا، ورد عليهم صالح ما عملوا، فيقول قائل: أنا خير من هؤلاء، وذكر آية الرحمة وآية العذاب، ليكون المؤمن راغبا وراهبا، لا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة، فإن أنت حفظت وصيتي، لم يكن غائب أحب إليك من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي، لم يكن غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه)([9]).

وعن عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر  رضي الله عنه حين حضره الموت قال: (إني لا أعلم عند آل أبي بكر غير هذه اللّقْحَةِ([10]) وغير هذا الغلام الصيقل، كان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا، فإذا مت فادفعيه إلى عمر)، فلما دفعته إلى عمر قال: (رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده).

وقال الزهري: أوصى أبو بكر أن تغسله امرأته أسماء بنت عُمَيْس، فإن لم تستطع استعانت بابنه عبد الرحمن.

و عن أبي جعفر الباقر، قال: دخل علي علىّ أبي بكر بعد ما سُجِّي، فقال: ما أحد ألقى الله بصحيفته أحبّ إليّ من هذا المُسَجَّى.

وعن القاسم، قال: أوصى أبو بكر أن يُدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر له، وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حِقْوَيْ أبي بكر.

وقالت عائشة: مات ليلة الثلاثاء، ودُفن قبل أن يصبح.([11])  يتبع..

 


([1]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم:4/1963 رقم: 2533.

([2]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب النهي عن سب أصحاب النبي H وفضلهم على من بعدهم:2/465 رقم: 1746.

([3]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة -باب: فيمن رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- أو رأى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أو رأى من رأى أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم:2/464 رقم: 1742.

([4]) أسْنى المَطالب في صلة الأقارب (فَضائلُ صلة الرّحم وتَحْريمُ قَطيعَتها)؛ أبو العباس أحمد بن محمّد بنُ حَجر الهَيتمي، تحقيق: خلاف محمود عبدالسميع، دار الكُتُب العلمية، 2003م.

([5]) سورة ق، الآية:19.

([6])  أي: لطخ لم يعمه كله. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/215.

([7]) أخرجه البخاري في الصحيح-كتاب الجنائز- باب موت يوم الاثنين، 2/102 رقم: 1387.

([8]) أخرجه مالك في الموطأ: 2/314، وابن حبان في الصحيح: 7/308، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 3/560.

([9]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 7/434. وصححه الألباني في إرواء الغليل: 6/80 رقم: 1642.

([10])  اللقحة، بالكسر والفتح: الناقة القريبة العهد بالنتاج. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 4/262.

([11]) سير أعلام النبلاء: 2/365. الناشر: دار الحديث- القاهرة، الطبعة: 1427هـ-2006م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق