مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

مقال في إثبات فتنة القبر

 

   
  قد يُحْكَمُ لأول وهلة بأن الكتابة في موضوع فتنة القبر خوض
في مبحث مستهلك، وأنها لا تعدو في عصرنا الحاضر ضربا من الترف العلمي
العديم الفائدة، خصوصا عند استحضارنا أن علماء الأمة المعتبَرين قد
أفاضوا وأفادوا في معالجة هذا الموضوع والتنظير له داخل سياقه الفكري،
من أمثال البيهقي في “إثبات عذاب القبر”، وحجة الإسلام الغزالي في
“الدرة الفاخرة”، والقرطبي في “التذكرة”، وابن حجر العسقلاني في “رسالة
الجواب الكافي” وفي “الفتاوي العقدية”، والثعالبي في “العلوم الفاخرة”،
والسيوطي في “البدور السافرة” وكذا في “شرح الصدور”، وغيرهم ممن لا يحصى
كثرة، والذين أجمعوا من خلال تلك المصنفات وغيرها على إثبات حقية سؤال
القبر ونعيمه وعذابه. 
   
  قد يصح هذا الحكم لولا أن هذا الموضوع قد طفا إلى السطح من
جديد وغدا حديث الساعة من خلال عدد من المقالات والمحاضرات التي أثثت
بعض المواقع الإلكترونية والمنابر الإعلامية، والتي روج فيها أصحابها من
الإسلاميين المعاصرين لفكرة كون فتنة القبر مجرد خرافة وأسطورة لا يشهد
لها عقل صريح ولا نقل صحيح. 
   
  لذلك، فإن إعادة الكتابة في هذه القضية في هيئة جديدة لها
أكثر من مبرر، ولو لم يكن لها مقتضٍ سوى الحذر من اغترار من ليس لهم قدم
راسخ في العلوم الشرعية بمقالة هؤلاء المنكرين لكان ذلك
كافيا.
   
  لكن، قبل الخوض في صلب الموضوع، تتعين الإشارة إلى أمر مهم
للغاية، وهو أن الاعتقاد قد شاع عند الكثيرين –ومن بينهم بعض
طلبة العلم– بأن الرافضين للقول بثبوت عذاب القبر هم من
المعتزلة الأوائل وأتباعهم اللاحقين؛ والواقع أن هذه المعلومة تحتاج إلى
تصحيح؛ فإن الذين تولوا كِبْرَ هذه المقالة بالأساس هم من الباطنية
الملحدة، وهؤلاء لا يعدون من طوائف الإسلام فضلا عن أن يُعْتَدَّ
بخلافهم؛ وأما السواد الأعظم من المعتزلة فلم يسعهم إلا الإقرار بحقية
هذه القضية الغيبية نظرا لاستفاضة الأخبار الواردة بشأنها، وقلائل منهم
من ذهب إلى إنكارها من أمثال ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر المريسي؛ على
أنه تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء المذكورين غير معترف بانتمائهم إلى مذهب
الاعتزال أصلا، وذلك في نظر المعتزلة أنفسهم.
   
  قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في شأن ضرار بن عمرو:
« اختلط بأصحابنا »1. ولم يخصص له ترجمة مفردة ضمن
“طبقات المعتزلة” له، وفعل مثل ذلك فيما يخص حفصا الفرد وبشرا المريسي.
وسار ابن المرتضى المعتزلي على منوال القاضي عبد الجبار فأقصى الثلاثة
من “طبقاته”.
   
  وقال الخياط المعتزلي: «أما ضرار وحفص الفرد فليسا
من المعتزلة لأنهما مشبّهان»2.
   
  وسعيا إلى درء هذه التهمة عن المعتزلة، قال القاضي عبد
الجبار: «ضرار أول من أنكر عذاب القبر، وكان من أصحاب واصل،
فظنوا أن ذلك ما أنكرته المعتزلة؛ وليس الأمر كذلك، وأكثر أصحابنا
يقطعون على ذلك لظهور الأخبار»3.
   
  وزاد تأكيدا لذلك بأن خصص في كتابه “شرح الأصول الخمسة” فصلا
جمع فيه ما يكفي من الأدلة المثبتة لفتنة القبر، صدَّره بقوله:
«لا خلاف فيه بين الأمة، إلا شيء يُحكى عن ضرار بن عمرو، وكان
من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع
علينا ويقول: إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرون
به»4.
   
  وحكى ابن المرتضى المعتزلي في طبقاته عن الشحام قوله:
«ما من أحد أنكره [أي عذاب القبر]، وإنما يُحكى عن ضرار بن
عمرو »5.
   
  بالنظر إلى هذه الآثار وغيرها مما يضيق المجال عن إيراده،
فقد اتضح أن المعتزلة أنفسهم، أو جمهورهم على الأقل، قد تبرؤوا من نسبة
مقالة إنكار فتنة القبر إلى مدرستهم، واتضح أيضا أن المنكرين لفتنة
القبر من المعاصرين قد خالفوا في ذلك مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب
المعتزلة على السواء. 
   
  وتمهيدا لإيراد الردود التي جادت بها قرائح علمائنا في
الموضوع، يتعين التنبيه على أن عمدة مذهب المنكرين بعد ادعاء مخالفة ذلك
للحس والمشاهدة، هي العقل والنقل :
فأما من جهة العقل، فهم
يدعون أن العدل الإلهي يقتضي أن لا وقوع للجزاء قبل الحساب، وبما أن
الحساب لا يكون إلا بعد البعث من القبور فإن العقل لا يسعه إلا إحالة ما
يسمى بفتنة القبر. 
وأما من جهة النقل،
فيستندون إلى عدم ورود نص صريح في القرآن الكريم يفيد ثبوت فتنة في
القبر، بل ورد فيه ما يفيد نفي وجودها. وأما ما ورد في السنة من أخبار
في شأنها فإنه –في نظرهم– ليس بحجة؛ لأن السنة غير
قطعية الثبوت. 
   
  إذا عُلِمَ ذلك، ففيما يلي أهم الردود الواردة بهذا الخصوص
منتظمة في مسائل :
   
  * المسألة الأولى : 
   
  بما أن مرتكز الإنكار عند أصحابه هو العقل
–بزعمهم– فمن الواجب التنبيه إلى أقسام الحكم
العقلي، وكيفية التفريق بين هذه الأقسام، ثم تعيين القسم الذي تندرج فيه
هذه القضية. 
   
  فأقسام الحكم العقلي ثلاثة ليس غير، وهي الإيجاب والإحالة
والتجويز. 
فالإيجاب هو حكم العقل بأن
الشيء واجب الوجود، أي أنه لا يمكن لهذا الشيء أن يكون معدوما أو عرضة
للعدم والانتفاء.
والإحالة هي أن يحكم العقل
على الشيء باستحالة الوجود بأي وجه كان.
وأما التجويز، فهو أن لا
يستطيع العقل أن يحكم على الشيء لا بوجوب الوجود ولا بالامتناع، فلا
يبقى لديه إلا الحكم بأن هذا الشيء جائز الوجود، أي أنه بالإمكان أن
يكون وبالإمكان أن لا يكون. ولا مناص له في هذه الحالة من الاستعانة
بأدلة خارجة عن نطاقه للترجيح بين الاحتمالين.
   
  إذا عُلِمَ ذلك، يمكن طرح السؤال الآتي: في أي الأقسام
الثلاثة يندرج القول بإثبات سؤال القبر وعذابه؟ 
 
    والجواب كالتالي : ليس بالإمكان القول بأن هذا
الأمر واجب الوجود؛ لأنه يفتقر إلى الدليل القطعي الناشئ إما عن الإدراك
الضروري وإما عن النظر والاستدلال العقلي.
   
  ولا يسوغ أيضا القول بأنه مستحيل الوجود بالاستناد إلى أنه
لا يُدْرَك بالحس؛ فإن الله تعالى قادر على أن يخلقه ويحجبه عن إدراكنا؛
ومعلوم لدى علماء العقيدة والكلام بل عند جميع العقلاء أن القدرة
الإلهية لا تتعلق إلا بالممكن.
   
  ثم إن الاعتماد على المشاهدة في تقرير العقائد من شأنه
الإفضاء إلى إنكار وجود الله تعالى لأننا لا نراه، فضلا عن إنكار وجود
الملائكة والجن والجنة والنار وغير ذلك من الغيبيات؛ والحال أن وجود
الله تعالى مسألة محسومة بالدليل العقلي القطعي عند هؤلاء الإسلاميين
المنكرين لفتنة القبر أنفسهم. فكيف يتوافق القولان: القول بإثبات وجود
الله تعالى بالدليل العقلي مع عدم رؤيته من جهة، والقول الآخر بإنكار
عذاب القبر بالدليل العقلي المستند إلى عدم الرؤية من جهة
أخرى؟! 
   
  من ناحية أخرى، فإن الروح شيء ثابت عند هؤلاء المنكرين مع
أنها لا تُدرَك بالحس؛ فلا يمكنهم الجزم بأنها مع وجودها غير معرضة
للفتنة في البرزخ سواء وحدها أو مع الجسد أو جزء منه، وهذا الجزء قد لا
يتعدى بضع ذرات يمتنع إدراكها بالعين وباقي الحواس؛ وقد أخبرنا الرسول
صلى الله عليه وسلم أن ” كل ابـن آدم يــأكله التراب إلا عَجْبَ الذنَب،
منه خُلِـق ومنه يُـركَّب”6. فلا يستقيم بأي حال من الأحوال الحكم
العقلي باستحالة كينونة فتنة القبر.   
 
    لم يبق إذاً إلا الحكم بأن هذه القضية العقدية
مندرجة حتما في إطار الجواز العقلي والأنطولوجي، أي ينطبق عليها الحكم
بأنها من الممكن أن تكون وأن لا تكون؛ إذ قد تأكد أن العقل على انفراده
ليس له سبيل إلى القطع فيها. 
   
  وفي هذه الحالة، ليس هناك مفر من اللجوء إلى أدلة أخرى للحسم
في المسألة، وأوْلى هذه الأدلة بالاعتبار هي النصوص الشرعية الآتية على
لسان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ثبت صدق رسالته بالدلالة العقلية
والوضعية والعادية للمعجزة. وتلتحق بها الأخبار المأثورة عن الصحابة
–رضي الله عنهم– باعتبار أنه من المعلوم أنهم لا
يجتهدون بالرأي فيما يتعلق بالمسائل الاعتقادية؛ فلا مدرك لهم في ذلك
إلا السماع؛ ولذلك اعتبر كثير من الأصوليين وعلماء الحديث أن الأحاديث
الموقوفة على الصحابة المتعلقة بالغيبيات ترقى إلى درجة الحديث
المرفوع. 
   
  هذه هي سبيل من راودته المرية في مثل هذه الأمور؛ وقد أوضحها
ابن خمير السبتي بقوله: 
   
  « ولو أنصف مَنْ هذه حالُه لَأقرَّ أن الأمر كذلك؛
لكن قد يـمُنُّ الله تعالى عليه بأن ينظر في المعجزة نظرا جميلا،
فتدلَّه على صدق الرسول –عليه السلام– في جميع ما
أخبر به عن الله تعالى، ومما أخبر به عن أحوال القيامة والبرزخ، فيؤمن
بما سمع منها على الجملة؛ فإذا اتسع قلبه خاطر الاستبعاد في التفصيل حتى
يقول: كيف توزن أعماله وهي معدومة؟! ويُعذَّب في قبره ونحن لا نرى عذابه
ولا نسمعه؟! إلى غير ذلك؛ فإذا دهمته هذه المخيلات فزع إلى الدليل على
صدق الرسول، وصَدَّقَ بهذه الأمور »7.
   
  * المسألة الثانية: 
   
  إذا ثبت أن قضية فتنة القبر تدخل في حيز التجويز العقلي، وأن
القول الفصل فيها إثباتا أو نفيا لا يستغني عن مضامين النصوص الشرعية
والأخبار الصحيحة المأثورة، فينبغي أن نستحضر أن هذه النصوص
نوعان: 
فمنها ما هو قطعي الثبوت،
وهو ما وصل إلينا بطريق التواتر؛ والتواتر هو رواية جمع غفير عن جمع
غفير في كل طبقة من سنده إلى منتهاه. ويدخل في هذا القسم القرآن الكريم
والسنة المتواترة. ولا خلاف بين العلماء في أن الخبر المتواتر يفيد
العلم في الأحكام والعقائد، لكن بشرط أن يكون قطعي الدلالة، أي خاليا من
الاحتمال المعنوي.
ومنها ما هو ظني الثبوت،
ويشتمل هذا القسم على أخبار الآحاد التي لم يصل عدد الرواة في إحدى
طبقات سندها إلى درجة التواتر. ومع أن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع
يجب العمل بمقتضاه في الأحكام الشرعية إذا كان صحيح السند واضح الدلالة،
إلا أنهم اختلفوا في وجوب العمل به في العقائد.
   
  وهنا يُطرَح السؤال: هل النصوص الدالة على وجود فتنة القبر
قطعية الثبوت والدلالة أم لا؟     
  
   
  إذا بدأنا بفحص القرآن الكريم الذي هو قطعي الثبوت بالاتفاق
باعتبار أنه منقول إلينا بالتواتر اللفظي، فإننا نجد فيه نوعين من
النصوص: 
ما هو واضح الدلالة متيسر
الفهم عند كل من له علم باللغة العربية؛ وهذا النوع لا يفتقر إلى تفسير
أو تأويل، من قبيل التصريح بوجود الملائكة وحقيقة القيامة والحساب
والجنة والنار ونحو ذلك.
وما هو غير واضح الدلالة
مفتقر إلى تفسير من لدن من هم أهل للتفسير؛ وفي هذا القسم تندرج الآيات
الدالة على فتنة القبر. 
   
  ولنترك سرد تلك الآيات إلى المسألة الموالية لننبه في هذا
الموضع إلى أن القرآن الكريم نفسه قد أرشدنا إلى معرفة من له أهلية
التصدي للبيان والتفسير والاستنباط، وهم الذين سماهم الله تعالى بأهل
الذكر في قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ)8. 
   
  ولا غرو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته
المقربون في مقدمتهم؛ فقد قال تعالى إثر الآية السابقة: (وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)9. ويلتحق بهم العلماء الذين حباهم الله
بقوة الفهم عن الله ورسوله، وهم المشار إليهم في قوله تعالى: (وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)10.
 
    إذاً، فالقرآن نفسه أمرنا بالالتحاد إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم وأهل الذكر من أمته لفهم ما أشكل علينا فهمه فيه؛
فلا محيد عن الرجوع أولا إلى السنة بنص القرآن الذي يدعي هؤلاء المنكرون
التمسك به دون ما سواه.   
   
 وإذا انتقلنا إلى فحص مضامين السنة النبوية، فإن أقل ما يمكن
أن توصف به نصوصها الدالة على ثبوت فتنة القبر هو أنها مستوفية لشرط
التواتر المعنوي، أي أنها وإن كانت كل واحدة منها على حدة منتمية لصنف
أخبار الآحاد، إلا أن جميعها يتوافق على تأدية المعنى ذاته، وعددها
يُقدَّر بالمئات، وفاق عدد الصحابة الراوين لها الأربعين. وأما الأخبار
الموقوفة على الصحابة والتابعين في الموضوع فأوفر من هذا العدد بكثير،
وأكثر منها ما ورد من الأخبار الدالة على أنهم كانوا يستعيذون بالله في
صلواتهم وأذكارهم اليومية من فتنة القبر. وسيأتي ذكر شيء من ذلك في
المسألة الموالية. 
   
  فكيف يمكن للعقل أن يتصور إمكانية اتفاق كل هذا الجم الغفير
ممن كانوا مضرب المثل في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم على
إثبات أمر لم يخبرهم هو به؟! 
   
  * المسألة الثالثة: 
   
  إذا تقرر بالعقل والإنصاف أنه لا مندوحة عن السنة النبوية
الشريفة وآثار الصحابة في فهم ما أشكل علينا من القرآن الكريم، آن لنا
أن نلقي نظرة على بعض النماذج من تلك النصوص الكثيرة :
 
    ولنبدأ بالقرآن الكريم وما ورد في المأثور من
تفسير للآيات المتعلقة بهذه القضية :
   
  أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال في شأن قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآَخِرَةِ)11: “نزلت في عذاب القبر”12.
   
  ومثل ذلك ما أخرجه البيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: “بي يُفْتَتَنُ أهلُ القبور، وفِيَّ نزلت هذه الآية:
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ)”13. 
   
  وأخرج الطبري عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال
في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)14:
“أتدرون ما المعيشة الضنك؟”، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “عذاب
الكافر في قبره”15. ومثله موجود عند الحاكم في “مستدركه”، وأبي يعلى في
“مسنده”، وابن حبان في “صحيحه”، والآجري في “الشريعة”، وابن أبي حاتم في
“تفسيره”، وكثير غيرهم. 
   
  وهذا الحديث المرفوع وإن كان في سنده نظر عند أهل الجرح
والتعديل، فإنه يتقوى بعدد من الأخبار الصحيحة الموقوفة على الصحابة
والمؤدية لنفس المعنى من أمثال أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وقد تقدم
التنبيه في المسألة الأولى على أن الصحابة وتابعيهم لا يجتهدون بالرأي
فيما يتعلق بالمسائل الاعتقادية، وأنه لا مدرك لهم في ذلك إلا
السماع. 
   
  وأخرج الطبري عن ابن عباس أنه قال: « إنكم لتجدون
عذاب القبر في كتاب الله»، ثم قرأ قوله تعالى: (وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ)16. وروى مثل هذا التفسير عن البراء بن عازب17.
 
    ويقوي ذلك ما ورد في “صحيفة أبي طلحة” عن ابن
عباس أنه قال بشأن قوله تعالى: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا
دُونَ ذَلِكَ)18: « عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة
»19.
   
  وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه فسر قوله
تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)20
بقوله : « إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، تغدو على جهنم
وتروح عليها؛ فذلك عرْضُها»21.
   
  وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن علي ابن أبي طالب أنه قال:
« ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: (أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر)22
»23.
   
  وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد تلميذ ابن عباس أنه قال
في قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)24: « الأدنى في القبور، وعذاب الدنيا
»25.
   
  هذا ما يتعلق بتفسير كتاب الله من طرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصحابته المقربين وتابعيهم؛ فإن لم يكن ذلك كافيا للإقناع
فلنسترسل بذكر نزر مما استفاض وروده في صحيح السنة في هذا الموضوع
:
   
  أخرج البخاري ومسلم في “صحيحيهما” عن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة
والعشي؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن
أهل النار؛ يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم
القيامة”26.
   
  ولا يخفى أن مجرد عرض المقعد من النار على صاحبه هو في حد
ذاته عذاب، وهو مع شدته أهون بكثير من عذاب الآخرة؛ وبهذا يتيسر فهم
قوله تعالى في شأن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ)27.
   
  وأخرج الشيخان في “صحيحيهما” وأحمد في “مسنده” وابن حبان في
“صحيحه” وأبو داود في “سننه” والنسائي في “سننه الكبرى” وغيرهم من طريق
قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن العبد
إذا وُضِع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قَـرْعَ نِـعـالِـهم،
أتاه مَلَكان فيُقْعِدانِه، فيـقولان له: مـا كنْتَ تقول في هذا الرجل؟
لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله
ورسوله، فيقـال له: انظر إلى مقعدك من النـار، قد أبدلك اللهُ به مقعدا
من الجنة؛ فيـراهما جميعـا… وأما المنافق والكافر فيقـال له: ما كنت
تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول مـا يقول الناس، فيقـال:
لا دَرَيْتَ ولا تَلَـيْتَ؛ ويُـضرَب بمطـارق من حديد ضربةً فيصيح صيحةً
يسمعهـا مَنْ يـليه غير الـثـقلَيـْن”28.
   
  وأخرج الشيخان في “صحيحيهما” عن أبي هريرة قال: “كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن
عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح
الدجال”29.
   
  وفي “الصحيحين” أيضا عن ابن عباس: “أن الرسول صلى الله عليه
وسلم مر على قبرين فقال: إنهما لَيُعذَّبان، وما يُعذَّبان من كبير؛ ثم
قال: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من
بوله؛ ثم أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم
قال: لعله يُخفَّف عنهما ما لم يـيـبسا”30.
   
  ونظائر هذه الأحاديث تخرج عن الحصر، ومثل ذلك يقال في تعداد
طرقها وأسانيدها؛ وهذا هو السبب في انعقاد إجماع علماء الأمة المعتبرين
على حقية فتنة القبر، وكفى بالإجماع حجة وبرهانا.
   
  فلا يسوغ لعاقل يعتد بعقله أن يتصور فضلا عن أن يصدِّق أن
جميع هؤلاء الرواة والعلماء قد تواطؤوا على الكذب والبهتان والافتيات
على الشارع. 
   
  * المسألة الرابعة: 
   
  وللعلم، فإن هذه القضية العقدية ليست مختصة برسالة النبي
الخاتم وإنما هي موجودة في عقائد أهل الكتاب، مدونة في كتبهم ومروياتهم.
وقد ورد في الصحيح ما يشير إلى هذا الأمر:
   
  فمن ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة أن يهودية دخلت عليها
فذكرت عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب
القبر، فقال: “نعم، عذاب القبر حق”؛ قالت: “فما رأيت رسول الله بعدُ صلى
صلاة إلا تعوَّذَ من عذاب القبر”31. 
   
  وقريب من هذه القصة ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: “يا رسول
الله، إن عجوزين من عُـجُز يهود المدينة دخلتا عليها فزعمتا أن أهل
القبور يُعذَّبون في قبورهم”؛ فقال: “صَدَقَتا، إنهم يُعذَّبون عذابا
تسمعه البهائم”؛ قالت: “فما رأيته بعدُ في صلاة إلا يتعوَّذ من عذاب
القبر”32.
   
  فإذا لم يُسَلَّم بما أفاده هذان الحديثان من وجود فتنة
القبر في تراث أهل الكتاب باعتبار تهوين المعارض من شأن السنة في
العقائد –كما تقدم–، فلا ضير في إحالته على سبيل
المثال إلى “إنجيل لوقا”، حيث نجد سردا لقصة غني وفقير تؤكد ذلك، ونصها
ما يلي :
   
  « كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ
الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ، وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ
مُتَرَفِّهاً، وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَر، الَّذِي طُرِحَ
عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ
الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ
الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. فَمَاتَ الْمِسْكِينُ،
وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ
الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجحيم وَهُوَ
فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي
حِضْنِهِ، فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي
وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ
لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ
فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا، وَالآنَ هُوَ
يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ »33. 
 
    يقول الأب “متى المسكين” -معرِّب “إنجيل لوقا”
وشارحه-: «أما الغني الذي مات ودُفِن وهو بكامل أبهته،
فحُمِلَت روحُه إلى الهاوية، وهو مكان الانتظار قبل الدَّيْنونة [أي قبل
الحساب]… وهذه كلها كنايات عن مقدار العذاب الذي تلقاه أرواح الأشرار
في مكانها، ولعل أعظم عذاب يصيبها هو تيقُّنُها أنها خسرت قضيتها،
وحُكِم عليها بالحرمان من الله إلى الأبد»34.
 
    والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كانت جميع
الأحاديث والآثار الدالة على وجود فتنة القبر مكذوبة –كما
يدعي البعض–، فكيف نفسر وجود هذه العقيدة في الإنجيل السابق
لزمن النبوة؟!
   
  * المسألة الخامسة : 
   
 نتعرض هنا لذكر بعض الشبهات والاعتراضات العقلية والنصية التي
أوردها المعارضون لإثبات عذاب القبر، واقتصروا على الاعتداد بها ضاربين
عرض الحائط بجميع ما ورد في القضية من أدلة؛ وهذه بعض منها مع
أجوبتها:
   
  * أولا: قال بعضهم: إن العقل لا يستسيغ أن يقع العذاب قبل
الحساب؛ فإن ذلك مناف للعدل الإلهي… 
   
  فأُجيبوا بالقول: كيف تفسرون وقوع العذاب الدنيوي قبل
الأخروي على الأقوام المكذبين لأنبيائهم مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط
وغيرهم ممن ورد صراحة في القرآن الكريم نفسه ذكر قصصهم؟!!
 
    ويقال لهم أيضا: ليس في تعجيل جزء من العذاب
منافاة عقلية للعدل؛ فإذا كان ذلك الجزاء مستحَقا فما الفرق حينئذ بين
التقديم والتأخير؟
   
  * ثانيا: قال بعضهم: إن العقل الذي هو مناط التكليف يستند في
أحكامه إلى الضروريات التي من جملتها الحواس الخمس، ونحن نرى عيانا
الشخص المصلوب تتفرق أجزاؤه وتندثر ولا نرى فيه إحياء ولا مساءلة ولا
تعذيبا…
   
  وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأنه قد يكون مقبولا إن كان آتيا
على لسان ملحد لا يؤمن بشيء من الغيبيات، وله حينئذ جواب مناسب له في
محله. وأما إن كان صادرا ممن يدعي التمسك بالقرآن الكريم والإيمان بالله
وملائكته واليوم الآخر مع أنه لا يرى ولا يدرك شيئا من ذلك بحسه، فهذا
الكلام من جانبه أمارة على وجود خلل في تفكيره؛ لأنه لم ينتبه إلى أنه
يلزمه من قوله هذا إنكار العقائد جملة وتفصيلا.
   
  قال ابن خمير السبتي: «وليس العجب من إنكار الملحد
لذلك… وإنما العجب ممن ينكر بعض الخوارق مع إثبات بعضها، والأمر في
الحالتين سواء. وهذا بمثابة من ينكر بعض الأنبياء ويثبت بعضهم، والأمر
في الحالتين سواء؛ فسبحان من يحول بين المرء
وقلبه»35.
   
  على أنه لا يلزم من هذا الجواب نزع الثقة من الإدراكات
الحسية والوقوع في السفسطة؛ كلا، فإن أحكام الحس معتبرة، إلا أن لها
مجالا لا تخرج عنه، وطورا لا تتعداه، وبإمكان العقل أن يستند إليها
جازما في أحكامه، لكن فقط فيما يتعلق بأمور المعاش والإصلاح في الأرض؛
وأما ما فوق ذلك من الغيبيات فهو خارج عن طورها، ودليل ذلك موجود في
الشاهد عند علماء الأحياء الذين أثبتوا وجود حواس عند بعض الحيوانات
تدرك بها ما لا يدركه الإنسان مثل الموجات تحت الحمراء والموجات فوق
الصوتية. 
   
  فإذا صح في الشاهد وجود أمور تفوق الإدراك الحسي عند
الإنسان، فكيف يسوغ له أن يُخضِع الأمور الغيبية الاعتقادية لأحكام
الحس، وقد حباه الله تعالى بالعقل الذي بإمكانه الالتحاد إلى طرق
وأساليب أخرى لدرك حقية تلك الأمور التي بها يتميز المؤمن من المكذب؟!
على أن لكل واحد أن يختار لنفسه ما يشاء، إذ لا إكراه في
الدين.
   
  قال شرف الدين بن التلمساني الفهري: «فإن قالوا:
نحن نرى من ندفنه على حاله، ونعلم بالضرورة كونه ميتا.. قال الإمام: هذا
يُؤذِن مِنْ قائله بعدم طمأنينته إلى الإيمان، وهو بمثابة استبعاد
الكفرة حَشْرَ العظام البالية وتأليفَ الأجزاء المتفرقة في أجواف السباع
وحواصل الطيور وأقاصي التخوم، ومن سَلَّمَ اختصاصَ الرسول برؤية المَلَك
دون القوم، وتعاقُبَ الملائكة فينا، وقولَه تعالى في إبليس وجنوده:
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)36 ،
وجب عليه التصديق بذلك»37.
   
  * ثالثا: لجأ بعضهم إلى النقل مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذَا
الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ)38 لنفي الأخبار الواردة في عرض مقعد النار على
صاحبه في القبر، فقالوا: إن الآية وردت في سياق الحديث عن أحداث يوم
القيامة، وهذا يعني أن النار لا تُسَعَّر قبل ذلك، وإذا تعارض مضمونا
القرآن والحديث كان الأخذ بما في القرآن أولى وأوجب…
 
    والجواب أن التسعير في اللغة مغاير للإيقاد، وهذه
الشبهة إنما أتت من توهم المرادفة بينهما؛ فالتسعير لغة هو تأجيج النار،
وهو مشروط بكونها قد أوقدت قبل ذلك، وبالتالي ليس في الآية دليل على أن
النار غير موقدة الآن، بل فيها الدليل على إثبات ذلك. ويزكيه ما أخرجه
الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اشتكت
النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا؛ فأذِنَ لها بِنَفَسَيْن،
نَفَس في الشتاء ونَفَس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما
تجدون من الزمهرير”39.
   
  * رابعا: قال آخرون: إذا كان عذاب القبر حقا، فإن عذاب
الآخِرين يكون أهون من عذاب الأولين باعتبار قصر المدة التي أمضاها
المتأخِرون في القبور، ويكون إبليس الذي هو السبب في كل الشرور أقل
الخلائق عذابا لأنه لا يُقبَض إلا قبل القيامة بقليل، وهذا مناقض للعدل
الإلهي… 
   
  فيقال لهم: الموت يعني الخروج النهائي من دار الدنيا إلى
البرزخ الذي هو أول منزل من منازل الآخرة بالاتفاق؛ فما الذي سوَّغ لكم
أن تقيسوا أمور الآخرة بموازين الدنيا؟ من أين لكم أن قوانين الزمان
والمكان المعروفة في هذا العالم تنطبق على ما هنالك؟ ألم يثبت العلم
الحديث أن هذه القوانين نسبية متغيرة داخل هذا الكون نفسه؟ فكيف تتحكمون
بطردها فيما هو خارج عن الكون أصلا؟!!
   
  وإذا عدنا إلى القرآن الكريم الذي تُلَوِّحون بالتمسك به دون
ما عداه، فما قولكم في معنى قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ)40؟ أو في قوله عز وجل: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)41؟ 
   
  أتجدون في الآيتين تفريقا بين المتقدمين والمتأخرين في
الجواب؟ ألا يدل جوابهم على أن مقاييس الزمان عند المقبورين مغايرة
للمعهود لدينا؟
   
  قال أبو عبد الله القرطبي: «وبالجملة، فأحوال
المقابر وأهلها على خلاف عادات أهل الدنيا في حياتهم؛ فليس تنقاس أحوال
الآخرة على أحوال الدنيا، وهذا ما لا خلاف فيه، ولولا أخبر الصادق بذلك
لم نعلم شيئا مما هنالك»42.
   
  ولِمَ نذهب بعيدا ونحن نلمس يوميا هذه الظاهرة في حال النائم
الذي ينطمس لديه الوعي بالزمان، حتى إنه قد يرى في دقائق معدودة رؤيا
تمتد أحداثها في العادة إلى أيام أو شهور؟!!
   
  وفي هذا يقول أبو المعين النسفي: «والدليل على أن
عذاب القبر مما يقبله العقل: ألا ترى أن النائم تخرج روحه وتكون متصلة
بجسده حتى إنه يتألم في المنام، ويتصل إليه الألم والاستراحة، وقد يتكلم
في المنام؛ لأن روحه متصلة بجسده؟ والنوم أخو الموت؛ فيجوز أن يتألم
ويستريح بعد الموت؛ والمعذِّب والمُريح والراحم هو الله تعالى، يعذب من
يشاء ويرحم من يشاء كما يريد، وهو على كل شيء
قدير»43. 
   
  * خامسا: ومنهم من احتج بقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)44 ، وكذا بقوله عز وجل:
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ)45، فقال: هما موتتان وحياتان ليس غير: عدم سابق، وحياة في
الدنيا، وموت في القبر، وإحياء عند القيامة، فإذا أضفنا حياة القبر تصبح
المعادلة خاطئة…
   
  والجواب أن هنا تلبيسا آخر إن لم نسميه مغالطة؛ فأين تجدون
في الآثار وأقوال العلماء أن الميت حي كامل الحياة في قبره؟ وكيف يكون
ميتا وحيا في آن واحد؟!  كل ما في الأمر أن جمهورهم قالوا: إن
فتنة القبر تقع على الميت بعد رد الروح إلى جزء من جسده يحتمل الإدراك
والسؤال والجواب، ولا يعني ذلك عندهم وجود حياة تامة مكتملة الشروط
والأركان داخل القبر. فليس في إثبات فتنة القبر تعارض مع مضمون الآيتين؛
ولا يعارضه كذلك ما ورد من الأخبار الدالة على مخاطبة النبي صلى الله
عليه وسلم للموتى كقوله لأهل القليب: “هل وجدتم ما وَعَـدَ ربُّـكم
حقـا؟” وقوله لأصحابه بعد ذلك: “ما أنـتـم بِـأَسْمَـعَ منـهم”46؛ فإن
السماع لا يرادف الحياة بل يساوقها، وقد يقع دونها، والله تعالى قادر
على أن يُسمِع الموتى والجمادات وكل شيء، وما ذلك عليه
بعزيز.
   
  قال ابن التلمساني: « واعلم أنه لا مانع في العقل
من رد الحياة إلى بعض أجزائه، ويجعل له من العقل والفهم ما يفهم به
ويجيب ويدركه المَلَكان منه، وإن لم نسمع منه كلامه، وكذلك كلام من يسلم
عليه. كل ذلك جائز؛ فإذا ورد السمع به وجب اعتقاد ظاهرِه، ولا حاجة إلى
تكلف تأويله، والله على كل شيء
قدير»47. 
   
  وقال القرطبي: « قال بعض علمائنا: وليس هذا بأبعد
من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا)48»49.
   
  وهناك جواب آخر ارتضاه القاضي الجبار، له وجاهته أيضا، وهو
أن العدم السابق لا يعتبر إماتة؛ لأن الإماتة لا تكون إلا بعد الحياة،
وبالتالي لا يستقيم معنى الآيتين إلا باعتبار القبر محلا لنوع من الحياة
يكون فيها التعذيب أو التنعيم؛ ومن ضمن ما قاله: 
 
    « لا تكون الإماتة والإحياء مرتين إلا
وفي إحدى المرتين إما التعذيب في القبر وإما التبشير على ما نقوله. ومتى
قالوا: إن إحدى الإماتتين إنما هو خَلقُ الله تعالى الخَلْقَ من نطفة هي
موات، قلنا: إن الإماتة الحقيقية إنما هو إبطال الحياة وإزالتها وتفريق
البنية التي تحتاج هي في الوجود إليها، وذلك لا يُتصوَّر في النطفة التي
لم تكن حية أصلا»50.
   
  * سادسا: ومنهم من اعترض بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ،
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)51، فقال: كيف
يكونون راقدين ومعذبين في آن واحد؟!
   
  والجواب يكون بالقول: للمعترض بهذه الشبهة ثلاثة أجوبة له أن
يختار منها ما شاء: 
   
  أولها: أنه من المحتمل أن تكون الرقدة بين النفختين: نفخة
الصعق ونفخة البعث؛ وهذا ما نقله الطبري وغيره بسنده عن أبيّ بن كعب
وقتادة وغيرهما52، ولا تعارض حينئذ بين إثبات فتنة القبر ومضمون
الآية.
   
  والثاني: أن الرقدة ذاتها، على فرض أنها تمتد من الإقبار إلى
البعث، ليس فيها منافاة للعذاب أو النعيم؛ ففي شواهد الواقع ما يُستأنَس
به لفهم ذلك، والأمر يتعلق بحال النائم الذي يعاني الأمرّين أثناء رؤياه
لحلم مزعج، وإذا سئل عند استفاقته عن حاله قبل ذلك فلا يسعه إلا القول
بأنه كان راقدا.
   
  قال القرطبي في “التذكرة”: « بل لو كان الميت
بيننا موضوعا، فلا يمتنع أن يأتيه المَلَكان ويسألانه من غير أن يسمع
الحاضرون جوابه؛ ومثال ذلك نائمان بيننا، أحدهما يُنَعَّم والآخر
يُعَذَّب، ولا يشعر أحد بذلك من حولهما من المنتبهين، ثم إذا استيقظا
أخبر كل واحد منهما عما كان فيه»53.
   
  والثالث: أن عذاب القبر على هوله لا يساوي شيئا بالمقارنة مع
عذاب الآخرة الذي يعم الروح والجسد معا؛ فلا عجب في أن يصفه صاحبه بأنه
رقود ويتمنى لو بقي فيه عندما يستيقن بأن العذاب الأكبر واقع عليه لا
محالة؛ ولذلك قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)54.
   
  قال القرطبي في “تفسيره”: « قال أهل المعاني: إن
الكفار إذا عايَنوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب، صار ما عُذِّبوا به
في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم»55.
   
  * ختاما : 
   
إن الهدف الذي يرومه منكرو عذاب القبر من المعاصرين من خلال سعيهم
الحثيث إلى إثبات كونه مجرد خرافة وأسطورة –مع أنه لا يترتب
على إثباته عمل معين لا للفرد ولا للمجتمع– إن كان لا يتعدى
إطار الجدال العلمي الهادف إلى إثبات الانتماء إلى شريحة المتنورين
المتحررين من التبعية والتقليد، فأمره يهون ويُسمع ويناقش؛ لكن الخوف كل
الخوف من أن يكون هذا السعي اللامحسوب العواقب مجرد تمهيد لما هو أفدح،
وهو تسفيه عقائد الأمة، ونزع الثقة من السنة النبوية باعتبارها مصدرا
للتشريع والعقائد والقيم السمحة جملة وتفصيلا، والتقليل من شأن العلماء
الذين أفنوا أعمارهم في خدمتها رواية ودراية وشرحا واستنباطا، ثم فتح
للباب على مصراعيه أمام تفسير القرآن على وفق الأهواء والخلفيات
الإيديولوجية الهادمة لثوابت العقيدة السنية، فهذا ما يخشى ويخاف
منه…
   
  لعل في هذا القدر كفاية إن شاء الله؛ نسأله تعالى أن يوحد
جهودنا وطاقاتنا لما فيه نفع الأمة والبشرية
جمعاء. 
   
  والله غالب على أمره؛ والحمد لله رب العالمين.
بقلم: د.
خالد الدرفوفي (دكتوراه في العقيدة)
وفرغ من تحريره في
الرباط بتاريخ 14/07/2018  
1- فضل الاعتزال وطبقات
المعتزلة. القاضي عبد الجبار (ت415هـ). ت/فؤاد سيد. الدار التونسية
للنشر. تونس. 1393هـ/1974م. ص163.
2- الانتصار والرد على
ابن الراوندي. أبو الحسين الخياط (ت بعد 300هـ). ت/نيبرج. دار الكتب
المصرية. القاهرة. 1344هـ/1925م. ص133.
3- فضل الاعتزال وطبقات
المعتزلة. ص201.
3- شرح الأصول الخمسة.
القاضي عبد الجبار (ت415هـ). ت/عبد الكريم عثمان. مكتبة وهبة. ط3.
1416هـ/1996م. الأصل الرابع. ص730.
5- طبقات المعتزلة. ابن
المرتضى (ت840هـ). ت/سوسنه ديفلد. جمعية المستشرقين الألمانية. بيروت.
1380هـ/1961م.. ص72.
6- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب التفسير من صحيحه (4935)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط
الساعة من صحيحه (باب ما بين النفختين. 2955).
7- مقدمات المراشد إلى
علم العقائد. ابن خمير السبتي (ت614هـ). ت/جمال علال بختي. مطبعة الخليج
العربي. تطوان. ط1. 1425هـ/2004م. ص332.
8-
النحل/43.
9-
النحل/44.
10-
النساء/83.
11-
إبراهيم/27.
12- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب التفسير من صحيحه (4699)، ومسلم في كتاب الجنة من صحيحه
(باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه. 2871).
13- إثبات
عذاب القبر. البيهقي (ت458هـ). ت/شرف محمود القضاة. دار الفرقان. عمان.
ط1. 1403هـ/1983م. الحديث رقم11.
14-
طه/124.
15- جامع البيان عن
تأويل آي القرآن. أبو جرير الطبري (ت310هـ). ت/عبد الله التركي. دار
هجر. القاهرة. ط1. 1422هـ/2001م.. سورة طه/124. ج16. ص198.
16-
الطور/47.
17- جامع البيان عن
تأويل آي القرآن. سورة الطور/47. ج21. ص603.
18-
الطور/47.
18- تفسير ابن عباس
(صحيفة علي بن أبي طلحة). ت/راشد الرجال. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت.
ط1. 1411هـ/1991م. ص469.
20-
غافر/46.
21- تفسير القرآن
العظيم مسندا عن رسول الله والصحابة والتابعين. ابن أبي حاتم الرازي
(ت327هـ). ت/أسعد محمد الطيب. مكتبة نزار الباز. مكة. ط1. 1417هـ/1997م.
تفسير ابن أبي حاتم. غافر/46. رقم18435.
22-
التكاثر/1-2.
23- أخرجه الطبري في
جامع البيان (التكاثر/1-2. 24/600)، وابن أبي حاتم في تفسيره
(التكاثر/1-2. رقم19454).
24-
السجدة/21.
25- أخرجه الطبري في
جامع البيان (السجدة/21. 18/631)، وابن أبي حاتم في تفسيره (السجدة/21.
رقم17856).
26- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه (باب الميت يعرض عليه مقعده. 1379)،
ومسلم في كتاب الجنة من صحيحه (باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار
عليه. 2866).
27-
غافر/46.
28- صحيح البخاري/1374.
صحيح مسلم/2870. مسند ابن حنبل/12296. سنن أبي داود/4751. صحيح ابن
حبان/3120. السنن الكبرى للنسائي/2188.
29- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه (باب التعوذ من عذاب القبر. 1377)،
ومسلم في كتاب المساجد من صحيحه (باب ما يستحب التعوذ منه في الصلاة.
588).
30- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه (باب عذاب القبر من الغيبة والبول.
1378)، ومسلم في كتاب الطهارة من صحيحه (باب الدليل على نجاسة البول.
292).
31- أخرجه البخاري في
كتاب الجنائز من صحيحه. باب ما جاء في عذاب القبر. 1372.
32- أخرجه
مسلم في كتاب المساجد من صحيحه. باب استحباب التعوذ من عذاب القبر.
586.
33- إنجيل لوقا. تعريب
الأب متى المسكين. الإصحاح16. رقم19-26.
34- تفسير إنجيل لوقا.
الأب متى المسكين. مطبعة دير القديس أنبا مقار. القاهرة. ط1. 1998م.
الإصحاح16. ص592.
35- مقدمات المراشد إلى
علم العقائد. ص340.
36-
الأعراف/27.
37- شرح المعالم في
أصول الدين للفخر الرازي. ابن التلمساني (ت644هـ). ت/نزار حمادي. دار
الفتح. عمّان. ط1. 1431هـ/2010م. ص608-609.
38-
التكوير/12.
39- متفق عليه: أخرجه
البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه (باب الإبراد في الظهر في شدة
الحر. 537)، ومسلم في كتاب المساجد من صحيحه (باب استحباب الإبراد
بالظهر في شدة الحر. 615).
40-
الروم/55.
41-
المؤمنون/113.
42- التذكرة بأحوال
الموتى وأمور الآخرة. أبو عبد الله القرطبي (ت671هـ). ت/الصادق بن
إبراهيم. دار المنهاج. الرياض. ط1. 1425هـ. ج1. ص373.
43- بحر
الكلام. أبو المعين النسفي (ت508هـ). ت/محمد السيد البرسيجي. دار الفتح.
عمان. الأردن. ط1. 1435هـ/2014م. ص251-252.
44-
البقرة/28.
45-
غافر/11.
46- متفق عليه: أخرجه
البخاري عن أبي طلحة في كتاب المغازي من صحيحه (باب قتل أبي جهل. 3976)،
ومسلم في صحيحه عن أنس بن مالك في كتاب الجنة ووصف نعيمها (باب عرض مقعد
الميت من الجنة أو النار عليه. 2874).
47- شرح المعالم
الفخرية في أصول الدين. ص607-608.
48-
الأعراف/172.
49- التذكرة بأحوال
الموتى وأمور الآخرة. ج1. ص377.
50- شرح الأصول الخمسة.
الأصل الرابع. ص731.
51-
يس/51-52.
52- جامع البيان عن
تأويل آي القرآن. الطبري (ت310هـ). سورة الطور/51-52. ج19.
ص456.
53- التذكرة بأحوال
الموتى وأمور الآخرة. ج1. ص372.
54-
السجدة/21.
55- ىالجامع لأحكام
القرآن. أبو عبد الله القرطبي (ت671هـ). ت/عبد الله التركي وآخرون.
مؤسسة الرسالة. بيروت. ط1. 1427هـ/2006م. يس/51-52. ج17.
ص465.
   
     

      قد
يُحْكَمُ لأول وهلة بأن الكتابة في موضوع فتنة القبر خوض في مبحث
مستهلك، وأنها لا تعدو في عصرنا الحاضر ضربا من الترف العلمي العديم
الفائدة، خصوصا عند استحضارنا أن علماء الأمة المعتبَرين قد أفاضوا
وأفادوا في معالجة هذا الموضوع والتنظير له داخل سياقه الفكري، من أمثال
البيهقي في “إثبات عذاب القبر”، وحجة الإسلام الغزالي في “الدرة
الفاخرة”، والقرطبي في “التذكرة”، وابن حجر العسقلاني في “رسالة الجواب
الكافي” وفي “الفتاوي العقدية”، والثعالبي في “العلوم الفاخرة”،
والسيوطي في “البدور السافرة” وكذا في “شرح الصدور”، وغيرهم ممن لا يحصى
كثرة، والذين أجمعوا من خلال تلك المصنفات وغيرها على إثبات حقية سؤال
القبر ونعيمه وعذابه. 

      قد
يصح هذا الحكم لولا أن هذا الموضوع قد طفا إلى السطح من جديد وغدا حديث
الساعة من خلال عدد من المقالات والمحاضرات التي أثثت بعض المواقع
الإلكترونية والمنابر الإعلامية، والتي روج فيها أصحابها من الإسلاميين
المعاصرين لفكرة كون فتنة القبر مجرد خرافة وأسطورة لا يشهد لها عقل
صريح ولا نقل صحيح. 

     
لذلك، فإن إعادة الكتابة في هذه القضية في هيئة جديدة لها أكثر من مبرر،
ولو لم يكن لها مقتضٍ سوى الحذر من اغترار من ليس لهم قدم راسخ في
العلوم الشرعية بمقالة هؤلاء المنكرين لكان ذلك كافيا.

     
لكن، قبل الخوض في صلب الموضوع، تتعين الإشارة إلى أمر مهم للغاية، وهو
أن الاعتقاد قد شاع عند الكثيرين –ومن بينهم بعض طلبة
العلم– بأن الرافضين للقول بثبوت عذاب القبر هم من المعتزلة
الأوائل وأتباعهم اللاحقين؛ والواقع أن هذه المعلومة تحتاج إلى تصحيح؛
فإن الذين تولوا كِبْرَ هذه المقالة بالأساس هم من الباطنية الملحدة،
وهؤلاء لا يعدون من طوائف الإسلام فضلا عن أن يُعْتَدَّ بخلافهم؛ وأما
السواد الأعظم من المعتزلة فلم يسعهم إلا الإقرار بحقية هذه القضية
الغيبية نظرا لاستفاضة الأخبار الواردة بشأنها، وقلائل منهم من ذهب إلى
إنكارها من أمثال ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر المريسي؛ على أنه تجدر
الإشارة إلى أن هؤلاء المذكورين غير معترف بانتمائهم إلى مذهب الاعتزال
أصلا، وذلك في نظر المعتزلة أنفسهم.

      قال
القاضي عبد الجبار المعتزلي في شأن ضرار بن عمرو: « اختلط
بأصحابنا »1. ولم يخصص له ترجمة مفردة ضمن “طبقات المعتزلة”
له، وفعل مثل ذلك فيما يخص حفصا الفرد وبشرا المريسي. وسار ابن المرتضى
المعتزلي على منوال القاضي عبد الجبار فأقصى الثلاثة من
“طبقاته”.

     
وقال الخياط المعتزلي: «أما ضرار وحفص الفرد فليسا من
المعتزلة لأنهما مشبّهان»2.

   
 وسعيا إلى درء هذه التهمة عن المعتزلة، قال القاضي عبد
الجبار: «ضرار أول من أنكر عذاب القبر، وكان من أصحاب واصل،
فظنوا أن ذلك ما أنكرته المعتزلة؛ وليس الأمر كذلك، وأكثر أصحابنا
يقطعون على ذلك لظهور الأخبار»3.

     
وزاد تأكيدا لذلك بأن خصص في كتابه “شرح الأصول الخمسة” فصلا جمع فيه ما
يكفي من الأدلة المثبتة لفتنة القبر، صدَّره بقوله: «لا خلاف
فيه بين الأمة، إلا شيء يُحكى عن ضرار بن عمرو، وكان من أصحاب المعتزلة
ثم التحق بالمجبرة، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ويقول: إن
المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرون به»4.

     
وحكى ابن المرتضى المعتزلي في طبقاته عن الشحام قوله: «ما من
أحد أنكره [أي عذاب القبر]، وإنما يُحكى عن ضرار بن عمرو
»5.

     
بالنظر إلى هذه الآثار وغيرها مما يضيق المجال عن إيراده، فقد اتضح أن
المعتزلة أنفسهم، أو جمهورهم على الأقل، قد تبرؤوا من نسبة مقالة إنكار
فتنة القبر إلى مدرستهم، واتضح أيضا أن المنكرين لفتنة القبر من
المعاصرين قد خالفوا في ذلك مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب المعتزلة على
السواء. 

     
وتمهيدا لإيراد الردود التي جادت بها قرائح علمائنا في الموضوع، يتعين
التنبيه على أن عمدة مذهب المنكرين بعد ادعاء مخالفة ذلك للحس
والمشاهدة، هي العقل والنقل :

فأما من جهة العقل، فهم يدعون أن العدل الإلهي
يقتضي أن لا وقوع للجزاء قبل الحساب، وبما أن الحساب لا يكون إلا بعد
البعث من القبور فإن العقل لا يسعه إلا إحالة ما يسمى بفتنة
القبر. 

وأما من جهة النقل، فيستندون إلى عدم ورود نص
صريح في القرآن الكريم يفيد ثبوت فتنة في القبر، بل ورد فيه ما يفيد نفي
وجودها. وأما ما ورد في السنة من أخبار في شأنها فإنه –في
نظرهم– ليس بحجة؛ لأن السنة غير قطعية
الثبوت. 

      إذا
عُلِمَ ذلك، ففيما يلي أهم الردود الواردة بهذا الخصوص منتظمة في مسائل
:

      *
المسألة
الأولى:

      بما
أن مرتكز الإنكار عند أصحابه هو العقل –بزعمهم– فمن
الواجب التنبيه إلى أقسام الحكم العقلي، وكيفية التفريق بين هذه
الأقسام، ثم تعيين القسم الذي تندرج فيه هذه
القضية. 

     
فأقسام الحكم العقلي ثلاثة ليس غير، وهي الإيجاب والإحالة
والتجويز. 

فالإيجاب هو حكم العقل بأن الشيء واجب الوجود،
أي أنه لا يمكن لهذا الشيء أن يكون معدوما أو عرضة للعدم
والانتفاء.

والإحالة هي أن يحكم العقل على الشيء باستحالة
الوجود بأي وجه كان.

وأما التجويز، فهو أن لا يستطيع العقل أن يحكم
على الشيء لا بوجوب الوجود ولا بالامتناع، فلا يبقى لديه إلا الحكم بأن
هذا الشيء جائز الوجود، أي أنه بالإمكان أن يكون وبالإمكان أن لا يكون.
ولا مناص له في هذه الحالة من الاستعانة بأدلة خارجة عن نطاقه للترجيح
بين الاحتمالين.

      إذا
عُلِمَ ذلك، يمكن طرح السؤال الآتي: في أي الأقسام الثلاثة يندرج القول
بإثبات سؤال القبر وعذابه؟ 

     
والجواب كالتالي : ليس بالإمكان القول بأن هذا الأمر واجب الوجود؛ لأنه
يفتقر إلى الدليل القطعي الناشئ إما عن الإدراك الضروري وإما عن النظر
والاستدلال العقلي.

      ولا
يسوغ أيضا القول بأنه مستحيل الوجود بالاستناد إلى أنه لا يُدْرَك
بالحس؛ فإن الله تعالى قادر على أن يخلقه ويحجبه عن إدراكنا؛ ومعلوم لدى
علماء العقيدة والكلام بل عند جميع العقلاء أن القدرة الإلهية لا تتعلق
إلا بالممكن.

      ثم
إن الاعتماد على المشاهدة في تقرير العقائد من شأنه الإفضاء إلى إنكار
وجود الله تعالى لأننا لا نراه، فضلا عن إنكار وجود الملائكة والجن
والجنة والنار وغير ذلك من الغيبيات؛ والحال أن وجود الله تعالى مسألة
محسومة بالدليل العقلي القطعي عند هؤلاء الإسلاميين المنكرين لفتنة
القبر أنفسهم. فكيف يتوافق القولان: القول بإثبات وجود الله تعالى
بالدليل العقلي مع عدم رؤيته من جهة، والقول الآخر بإنكار عذاب القبر
بالدليل العقلي المستند إلى عدم الرؤية من جهة
أخرى؟! 

      من
ناحية أخرى، فإن الروح شيء ثابت عند هؤلاء المنكرين مع أنها لا تُدرَك
بالحس؛ فلا يمكنهم الجزم بأنها مع وجودها غير معرضة للفتنة في البرزخ
سواء وحدها أو مع الجسد أو جزء منه، وهذا الجزء قد لا يتعدى بضع ذرات
يمتنع إدراكها بالعين وباقي الحواس؛ وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه
وسلم أن ” كل ابـن آدم يــأكله التراب إلا عَجْبَ الذنَب، منه خُلِـق
ومنه يُـركَّب”6. فلا يستقيم بأي حال من الأحوال الحكم العقلي باستحالة
كينونة فتنة القبر.   

      لم
يبق إذاً إلا الحكم بأن هذه القضية العقدية مندرجة حتما في إطار الجواز
العقلي والأنطولوجي، أي ينطبق عليها الحكم بأنها من الممكن أن تكون وأن
لا تكون؛ إذ قد تأكد أن العقل على انفراده ليس له سبيل إلى القطع
فيها. 

      وفي
هذه الحالة، ليس هناك مفر من اللجوء إلى أدلة أخرى للحسم في المسألة،
وأوْلى هذه الأدلة بالاعتبار هي النصوص الشرعية الآتية على لسان الرسول
صلى الله عليه وسلم الذي ثبت صدق رسالته بالدلالة العقلية والوضعية
والعادية للمعجزة. وتلتحق بها الأخبار المأثورة عن الصحابة
–رضي الله عنهم– باعتبار أنه من المعلوم أنهم لا
يجتهدون بالرأي فيما يتعلق بالمسائل الاعتقادية؛ فلا مدرك لهم في ذلك
إلا السماع؛ ولذلك اعتبر كثير من الأصوليين وعلماء الحديث أن الأحاديث
الموقوفة على الصحابة المتعلقة بالغيبيات ترقى إلى درجة الحديث
المرفوع. 

      هذه
هي سبيل من راودته المرية في مثل هذه الأمور؛ وقد أوضحها ابن خمير
السبتي بقوله: 

     
« ولو أنصف مَنْ هذه حالُه لَأقرَّ أن الأمر كذلك؛ لكن قد
يـمُنُّ الله تعالى عليه بأن ينظر في المعجزة نظرا جميلا، فتدلَّه على
صدق الرسول –عليه السلام– في جميع ما أخبر به عن
الله تعالى، ومما أخبر به عن أحوال القيامة والبرزخ، فيؤمن بما سمع منها
على الجملة؛ فإذا اتسع قلبه خاطر الاستبعاد في التفصيل حتى يقول: كيف
توزن أعماله وهي معدومة؟! ويُعذَّب في قبره ونحن لا نرى عذابه ولا
نسمعه؟! إلى غير ذلك؛ فإذا دهمته هذه المخيلات فزع إلى الدليل على صدق
الرسول، وصَدَّقَ بهذه الأمور »7.

      *
المسألة
الثانية:

      إذا
ثبت أن قضية فتنة القبر تدخل في حيز التجويز العقلي، وأن القول الفصل
فيها إثباتا أو نفيا لا يستغني عن مضامين النصوص الشرعية والأخبار
الصحيحة المأثورة، فينبغي أن نستحضر أن هذه النصوص
نوعان: 

فمنها ما هو قطعي الثبوت، وهو ما وصل إلينا
بطريق التواتر؛ والتواتر هو رواية جمع غفير عن جمع غفير في كل طبقة من
سنده إلى منتهاه. ويدخل في هذا القسم القرآن الكريم والسنة المتواترة.
ولا خلاف بين العلماء في أن الخبر المتواتر يفيد العلم في الأحكام
والعقائد، لكن بشرط أن يكون قطعي الدلالة، أي خاليا من الاحتمال
المعنوي.

ومنها ما هو ظني الثبوت، ويشتمل هذا القسم على
أخبار الآحاد التي لم يصل عدد الرواة في إحدى طبقات سندها إلى درجة
التواتر. ومع أن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع يجب العمل بمقتضاه في
الأحكام الشرعية إذا كان صحيح السند واضح الدلالة، إلا أنهم اختلفوا في
وجوب العمل به في العقائد.

     
وهنا يُطرَح السؤال: هل النصوص الدالة على وجود فتنة القبر قطعية الثبوت
والدلالة أم لا؟     
  

      إذا
بدأنا بفحص القرآن الكريم الذي هو قطعي الثبوت بالاتفاق باعتبار أنه
منقول إلينا بالتواتر اللفظي، فإننا نجد فيه نوعين من
النصوص: 

ما هو واضح الدلالة متيسر الفهم عند كل من له
علم باللغة العربية؛ وهذا النوع لا يفتقر إلى تفسير أو تأويل، من قبيل
التصريح بوجود الملائكة وحقيقة القيامة والحساب والجنة والنار ونحو
ذلك.

وما هو غير واضح الدلالة مفتقر إلى تفسير من لدن
من هم أهل للتفسير؛ وفي هذا القسم تندرج الآيات الدالة على فتنة
القبر. 

     
ولنترك سرد تلك الآيات إلى المسألة الموالية لننبه في هذا الموضع إلى أن
القرآن الكريم نفسه قد أرشدنا إلى معرفة من له أهلية التصدي للبيان
والتفسير والاستنباط، وهم الذين سماهم الله تعالى بأهل الذكر في قوله:
(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ)8. 

      ولا
غرو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته المقربون في
مقدمتهم؛ فقد قال تعالى إثر الآية السابقة: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ)9. ويلتحق بهم العلماء الذين حباهم الله بقوة الفهم عن
الله ورسوله، وهم المشار إليهم في قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)10.

     
إذاً، فالقرآن نفسه أمرنا بالالتحاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل
الذكر من أمته لفهم ما أشكل علينا فهمه فيه؛ فلا محيد عن الرجوع أولا
إلى السنة بنص القرآن الذي يدعي هؤلاء المنكرون التمسك به دون ما
سواه.   

     وإذا
انتقلنا إلى فحص مضامين السنة النبوية، فإن أقل ما يمكن أن توصف به
نصوصها الدالة على ثبوت فتنة القبر هو أنها مستوفية لشرط التواتر
المعنوي، أي أنها وإن كانت كل واحدة منها على حدة منتمية لصنف أخبار
الآحاد، إلا أن جميعها يتوافق على تأدية المعنى ذاته، وعددها يُقدَّر
بالمئات، وفاق عدد الصحابة الراوين لها الأربعين. وأما الأخبار الموقوفة
على الصحابة والتابعين في الموضوع فأوفر من هذا العدد بكثير، وأكثر منها
ما ورد من الأخبار الدالة على أنهم كانوا يستعيذون بالله في صلواتهم
وأذكارهم اليومية من فتنة القبر. وسيأتي ذكر شيء من ذلك في المسألة
الموالية. 

     
فكيف يمكن للعقل أن يتصور إمكانية اتفاق كل هذا الجم الغفير ممن كانوا
مضرب المثل في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم على إثبات أمر لم
يخبرهم هو به؟! 

      *
المسألة
الثالثة:

      إذا
تقرر بالعقل والإنصاف أنه لا مندوحة عن السنة النبوية الشريفة وآثار
الصحابة في فهم ما أشكل علينا من القرآن الكريم، آن لنا أن نلقي نظرة
على بعض النماذج من تلك النصوص الكثيرة :

     
ولنبدأ بالقرآن الكريم وما ورد في المأثور من تفسير للآيات المتعلقة
بهذه القضية :

     
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال في شأن قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآَخِرَةِ)11: “نزلت في عذاب القبر”12.

     
ومثل ذلك ما أخرجه البيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“بي يُفْتَتَنُ أهلُ القبور، وفِيَّ نزلت هذه الآية: (يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)”13. 

   
  وأخرج الطبري عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال
في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)14:
“أتدرون ما المعيشة الضنك؟”، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “عذاب
الكافر في قبره”15. ومثله موجود عند الحاكم في “مستدركه”، وأبي يعلى في
“مسنده”، وابن حبان في “صحيحه”، والآجري في “الشريعة”، وابن أبي حاتم في
“تفسيره”، وكثير غيرهم. 

     
وهذا الحديث المرفوع وإن كان في سنده نظر عند أهل الجرح والتعديل، فإنه
يتقوى بعدد من الأخبار الصحيحة الموقوفة على الصحابة والمؤدية لنفس
المعنى من أمثال أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وقد تقدم التنبيه في
المسألة الأولى على أن الصحابة وتابعيهم لا يجتهدون بالرأي فيما يتعلق
بالمسائل الاعتقادية، وأنه لا مدرك لهم في ذلك إلا
السماع. 

     
وأخرج الطبري عن ابن عباس أنه قال: « إنكم لتجدون عذاب القبر
في كتاب الله»، ثم قرأ قوله تعالى: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ)16. وروى مثل هذا التفسير عن البراء بن عازب17.

   
  ويقوي ذلك ما ورد في “صحيفة أبي طلحة” عن ابن عباس أنه قال
بشأن قوله تعالى: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ
ذَلِكَ)18: « عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة
»19.

     
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه فسر قوله تعالى:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)20 بقوله :
« إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، تغدو على جهنم وتروح
عليها؛ فذلك عرْضُها»21.

     
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن علي ابن أبي طالب أنه قال: «
ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى
زُرْتُمُ الْمَقَابِر)22 »23.

     
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد تلميذ ابن عباس أنه قال في قوله
تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)24: « الأدنى في القبور، وعذاب الدنيا
»25.

      هذا
ما يتعلق بتفسير كتاب الله من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته
المقربين وتابعيهم؛ فإن لم يكن ذلك كافيا للإقناع فلنسترسل بذكر نزر مما
استفاض وروده في صحيح السنة في هذا الموضوع :

     
أخرج البخاري ومسلم في “صحيحيهما” عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: “إنَّ أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعشي؛
إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل
النار؛ يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة”26.

   
  ولا يخفى أن مجرد عرض المقعد من النار على صاحبه هو في حد
ذاته عذاب، وهو مع شدته أهون بكثير من عذاب الآخرة؛ وبهذا يتيسر فهم
قوله تعالى في شأن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ)27.

     
وأخرج الشيخان في “صحيحيهما” وأحمد في “مسنده” وابن حبان في “صحيحه”
وأبو داود في “سننه” والنسائي في “سننه الكبرى” وغيرهم من طريق قتادة عن
أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن العبد إذا وُضِع
في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قَـرْعَ نِـعـالِـهم، أتاه
مَلَكان فيُقْعِدانِه، فيـقولان له: مـا كنْتَ تقول في هذا الرجل؟ لمحمد
صلى الله عليه وسلم؛ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله،
فيقـال له: انظر إلى مقعدك من النـار، قد أبدلك اللهُ به مقعدا من
الجنة؛ فيـراهما جميعـا… وأما المنافق والكافر فيقـال له: ما كنت تقول
في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول مـا يقول الناس، فيقـال: لا
دَرَيْتَ ولا تَلَـيْتَ؛ ويُـضرَب بمطـارق من حديد ضربةً فيصيح صيحةً
يسمعهـا مَنْ يـليه غير الـثـقلَيـْن”28.

     
وأخرج الشيخان في “صحيحيهما” عن أبي هريرة قال: “كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن
فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال”29.

      وفي
“الصحيحين” أيضا عن ابن عباس: “أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على
قبرين فقال: إنهما لَيُعذَّبان، وما يُعذَّبان من كبير؛ ثم قال: بلى،
أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله؛ ثم
أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال:
لعله يُخفَّف عنهما ما لم يـيـبسا”30.

     
ونظائر هذه الأحاديث تخرج عن الحصر، ومثل ذلك يقال في تعداد طرقها
وأسانيدها؛ وهذا هو السبب في انعقاد إجماع علماء الأمة المعتبرين على
حقية فتنة القبر، وكفى بالإجماع حجة وبرهانا.

      فلا
يسوغ لعاقل يعتد بعقله أن يتصور فضلا عن أن يصدِّق أن جميع هؤلاء الرواة
والعلماء قد تواطؤوا على الكذب والبهتان والافتيات على
الشارع. 

     
* المسألة
الرابعة:

     
وللعلم، فإن هذه القضية العقدية ليست مختصة برسالة النبي الخاتم وإنما
هي موجودة في عقائد أهل الكتاب، مدونة في كتبهم ومروياتهم. وقد ورد في
الصحيح ما يشير إلى هذا الأمر:

      فمن
ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر،
فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: “نعم،
عذاب القبر حق”؛ قالت: “فما رأيت رسول الله بعدُ صلى صلاة إلا تعوَّذَ
من عذاب القبر”31. 

     
وقريب من هذه القصة ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: “يا رسول الله، إن
عجوزين من عُـجُز يهود المدينة دخلتا عليها فزعمتا أن أهل القبور
يُعذَّبون في قبورهم”؛ فقال: “صَدَقَتا، إنهم يُعذَّبون عذابا تسمعه
البهائم”؛ قالت: “فما رأيته بعدُ في صلاة إلا يتعوَّذ من عذاب
القبر”32.

     
فإذا لم يُسَلَّم بما أفاده هذان الحديثان من وجود فتنة القبر في تراث
أهل الكتاب باعتبار تهوين المعارض من شأن السنة في العقائد
–كما تقدم–، فلا ضير في إحالته على سبيل المثال إلى
“إنجيل لوقا”، حيث نجد سردا لقصة غني وفقير تؤكد ذلك، ونصها ما يلي
:

     
« كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ
وَالْبَزَّ، وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً، وَكَانَ
مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَر، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً
بِالْقُرُوحِ وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ
مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ
قُرُوحَهُ. فَمَاتَ الْمِسْكِينُ، وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى
حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ، فَرَفَعَ
عَيْنَيْهِ فِي الجحيم وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ
مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي
إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ
إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا
اللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ
اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ
الْبَلاَيَا، وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ
»33. 

     
يقول الأب “متى المسكين” -معرِّب “إنجيل لوقا” وشارحه-: «أما
الغني الذي مات ودُفِن وهو بكامل أبهته، فحُمِلَت روحُه إلى الهاوية،
وهو مكان الانتظار قبل الدَّيْنونة [أي قبل الحساب]… وهذه كلها كنايات
عن مقدار العذاب الذي تلقاه أرواح الأشرار في مكانها، ولعل أعظم عذاب
يصيبها هو تيقُّنُها أنها خسرت قضيتها، وحُكِم عليها بالحرمان من الله
إلى الأبد»34.

     
والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كانت جميع الأحاديث والآثار الدالة على
وجود فتنة القبر مكذوبة –كما يدعي البعض–، فكيف
نفسر وجود هذه العقيدة في الإنجيل السابق لزمن النبوة؟!

      *
المسألة
الخامسة:

   
 نتعرض هنا لذكر بعض الشبهات والاعتراضات العقلية والنصية التي
أوردها المعارضون لإثبات عذاب القبر، واقتصروا على الاعتداد بها ضاربين
عرض الحائط بجميع ما ورد في القضية من أدلة؛ وهذه بعض منها مع
أجوبتها:

      *
أولا: قال بعضهم: إن العقل لا يستسيغ أن يقع العذاب قبل الحساب؛ فإن ذلك
مناف للعدل الإلهي… 

     
فأُجيبوا بالقول: كيف تفسرون وقوع العذاب الدنيوي قبل الأخروي على
الأقوام المكذبين لأنبيائهم مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن ورد
صراحة في القرآن الكريم نفسه ذكر قصصهم؟!!

     
ويقال لهم أيضا: ليس في تعجيل جزء من العذاب منافاة عقلية للعدل؛ فإذا
كان ذلك الجزاء مستحَقا فما الفرق حينئذ بين التقديم
والتأخير؟

      *
ثانيا: قال بعضهم: إن العقل الذي هو مناط التكليف يستند في أحكامه إلى
الضروريات التي من جملتها الحواس الخمس، ونحن نرى عيانا الشخص المصلوب
تتفرق أجزاؤه وتندثر ولا نرى فيه إحياء ولا مساءلة ولا
تعذيبا…

      وقد
أجيب عن هذا الاعتراض بأنه قد يكون مقبولا إن كان آتيا على لسان ملحد لا
يؤمن بشيء من الغيبيات، وله حينئذ جواب مناسب له في محله. وأما إن كان
صادرا ممن يدعي التمسك بالقرآن الكريم والإيمان بالله وملائكته واليوم
الآخر مع أنه لا يرى ولا يدرك شيئا من ذلك بحسه، فهذا الكلام من جانبه
أمارة على وجود خلل في تفكيره؛ لأنه لم ينتبه إلى أنه يلزمه من قوله هذا
إنكار العقائد جملة وتفصيلا.

      قال
ابن خمير السبتي: «وليس العجب من إنكار الملحد لذلك… وإنما
العجب ممن ينكر بعض الخوارق مع إثبات بعضها، والأمر في الحالتين سواء.
وهذا بمثابة من ينكر بعض الأنبياء ويثبت بعضهم، والأمر في الحالتين
سواء؛ فسبحان من يحول بين المرء وقلبه»35.

      على
أنه لا يلزم من هذا الجواب نزع الثقة من الإدراكات الحسية والوقوع في
السفسطة؛ كلا، فإن أحكام الحس معتبرة، إلا أن لها مجالا لا تخرج عنه،
وطورا لا تتعداه، وبإمكان العقل أن يستند إليها جازما في أحكامه، لكن
فقط فيما يتعلق بأمور المعاش والإصلاح في الأرض؛ وأما ما فوق ذلك من
الغيبيات فهو خارج عن طورها، ودليل ذلك موجود في الشاهد عند علماء
الأحياء الذين أثبتوا وجود حواس عند بعض الحيوانات تدرك بها ما لا يدركه
الإنسان مثل الموجات تحت الحمراء والموجات فوق
الصوتية. 

     
فإذا صح في الشاهد وجود أمور تفوق الإدراك الحسي عند الإنسان، فكيف يسوغ
له أن يُخضِع الأمور الغيبية الاعتقادية لأحكام الحس، وقد حباه الله
تعالى بالعقل الذي بإمكانه الالتحاد إلى طرق وأساليب أخرى لدرك حقية تلك
الأمور التي بها يتميز المؤمن من المكذب؟! على أن لكل واحد أن يختار
لنفسه ما يشاء، إذ لا إكراه في الدين.

      قال
شرف الدين بن التلمساني الفهري: «فإن قالوا: نحن نرى من ندفنه
على حاله، ونعلم بالضرورة كونه ميتا.. قال الإمام: هذا يُؤذِن مِنْ
قائله بعدم طمأنينته إلى الإيمان، وهو بمثابة استبعاد الكفرة حَشْرَ
العظام البالية وتأليفَ الأجزاء المتفرقة في أجواف السباع وحواصل الطيور
وأقاصي التخوم، ومن سَلَّمَ اختصاصَ الرسول برؤية المَلَك دون القوم،
وتعاقُبَ الملائكة فينا، وقولَه تعالى في إبليس وجنوده: (إِنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)36 ، وجب عليه
التصديق بذلك»37.

      *
ثالثا: لجأ بعضهم إلى النقل مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ)38 لنفي الأخبار الواردة في عرض مقعد النار على صاحبه في
القبر، فقالوا: إن الآية وردت في سياق الحديث عن أحداث يوم القيامة،
وهذا يعني أن النار لا تُسَعَّر قبل ذلك، وإذا تعارض مضمونا القرآن
والحديث كان الأخذ بما في القرآن أولى وأوجب…

     
والجواب أن التسعير في اللغة مغاير للإيقاد، وهذه الشبهة إنما أتت من
توهم المرادفة بينهما؛ فالتسعير لغة هو تأجيج النار، وهو مشروط بكونها
قد أوقدت قبل ذلك، وبالتالي ليس في الآية دليل على أن النار غير موقدة
الآن، بل فيها الدليل على إثبات ذلك. ويزكيه ما أخرجه الشيخان من حديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اشتكت النار إلى ربها
فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا؛ فأذِنَ لها بِنَفَسَيْن، نَفَس في الشتاء
ونَفَس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من
الزمهرير”39.

      *
رابعا: قال آخرون: إذا كان عذاب القبر حقا، فإن عذاب الآخِرين يكون أهون
من عذاب الأولين باعتبار قصر المدة التي أمضاها المتأخِرون في القبور،
ويكون إبليس الذي هو السبب في كل الشرور أقل الخلائق عذابا لأنه لا
يُقبَض إلا قبل القيامة بقليل، وهذا مناقض للعدل
الإلهي… 

     
فيقال لهم: الموت يعني الخروج النهائي من دار الدنيا إلى البرزخ الذي هو
أول منزل من منازل الآخرة بالاتفاق؛ فما الذي سوَّغ لكم أن تقيسوا أمور
الآخرة بموازين الدنيا؟ من أين لكم أن قوانين الزمان والمكان المعروفة
في هذا العالم تنطبق على ما هنالك؟ ألم يثبت العلم الحديث أن هذه
القوانين نسبية متغيرة داخل هذا الكون نفسه؟ فكيف تتحكمون بطردها فيما
هو خارج عن الكون أصلا؟!!

     
وإذا عدنا إلى القرآن الكريم الذي تُلَوِّحون بالتمسك به دون ما عداه،
فما قولكم في معنى قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ)40؟ أو في قوله عز وجل: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)41؟ 

     
أتجدون في الآيتين تفريقا بين المتقدمين والمتأخرين في الجواب؟ ألا يدل
جوابهم على أن مقاييس الزمان عند المقبورين مغايرة للمعهود
لدينا؟

      قال
أبو عبد الله القرطبي: «وبالجملة، فأحوال المقابر وأهلها على
خلاف عادات أهل الدنيا في حياتهم؛ فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال
الدنيا، وهذا ما لا خلاف فيه، ولولا أخبر الصادق بذلك لم نعلم شيئا مما
هنالك»42.

     
ولِمَ نذهب بعيدا ونحن نلمس يوميا هذه الظاهرة في حال النائم الذي ينطمس
لديه الوعي بالزمان، حتى إنه قد يرى في دقائق معدودة رؤيا تمتد أحداثها
في العادة إلى أيام أو شهور؟!!

      وفي
هذا يقول أبو المعين النسفي: «والدليل على أن عذاب القبر مما
يقبله العقل: ألا ترى أن النائم تخرج روحه وتكون متصلة بجسده حتى إنه
يتألم في المنام، ويتصل إليه الألم والاستراحة، وقد يتكلم في المنام؛
لأن روحه متصلة بجسده؟ والنوم أخو الموت؛ فيجوز أن يتألم ويستريح بعد
الموت؛ والمعذِّب والمُريح والراحم هو الله تعالى، يعذب من يشاء ويرحم
من يشاء كما يريد، وهو على كل شيء
قدير»43. 

      *
خامسا: ومنهم من احتج بقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)44 ، وكذا بقوله عز وجل:
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ)45، فقال: هما موتتان وحياتان ليس غير: عدم سابق، وحياة في
الدنيا، وموت في القبر، وإحياء عند القيامة، فإذا أضفنا حياة القبر تصبح
المعادلة خاطئة…

     
والجواب أن هنا تلبيسا آخر إن لم نسميه مغالطة؛ فأين تجدون في الآثار
وأقوال العلماء أن الميت حي كامل الحياة في قبره؟ وكيف يكون ميتا وحيا
في آن واحد؟!  كل ما في الأمر أن جمهورهم قالوا: إن فتنة القبر
تقع على الميت بعد رد الروح إلى جزء من جسده يحتمل الإدراك والسؤال
والجواب، ولا يعني ذلك عندهم وجود حياة تامة مكتملة الشروط والأركان
داخل القبر. فليس في إثبات فتنة القبر تعارض مع مضمون الآيتين؛ ولا
يعارضه كذلك ما ورد من الأخبار الدالة على مخاطبة النبي صلى الله عليه
وسلم للموتى كقوله لأهل القليب: “هل وجدتم ما وَعَـدَ ربُّـكم حقـا؟”
وقوله لأصحابه بعد ذلك: “ما أنـتـم بِـأَسْمَـعَ منـهم”46؛ فإن السماع
لا يرادف الحياة بل يساوقها، وقد يقع دونها، والله تعالى قادر على أن
يُسمِع الموتى والجمادات وكل شيء، وما ذلك عليه بعزيز.

      قال
ابن التلمساني: « واعلم أنه لا مانع في العقل من رد الحياة
إلى بعض أجزائه، ويجعل له من العقل والفهم ما يفهم به ويجيب ويدركه
المَلَكان منه، وإن لم نسمع منه كلامه، وكذلك كلام من يسلم عليه. كل ذلك
جائز؛ فإذا ورد السمع به وجب اعتقاد ظاهرِه، ولا حاجة إلى تكلف تأويله،
والله على كل شيء قدير»47. 

     
وقال القرطبي: « قال بعض علمائنا: وليس هذا بأبعد من الذر
الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا)48»49.

     
وهناك جواب آخر ارتضاه القاضي الجبار، له وجاهته أيضا، وهو أن العدم
السابق لا يعتبر إماتة؛ لأن الإماتة لا تكون إلا بعد الحياة، وبالتالي
لا يستقيم معنى الآيتين إلا باعتبار القبر محلا لنوع من الحياة يكون
فيها التعذيب أو التنعيم؛ ومن ضمن ما قاله: 

     
« لا تكون الإماتة والإحياء مرتين إلا وفي إحدى المرتين إما
التعذيب في القبر وإما التبشير على ما نقوله. ومتى قالوا: إن إحدى
الإماتتين إنما هو خَلقُ الله تعالى الخَلْقَ من نطفة هي موات، قلنا: إن
الإماتة الحقيقية إنما هو إبطال الحياة وإزالتها وتفريق البنية التي
تحتاج هي في الوجود إليها، وذلك لا يُتصوَّر في النطفة التي لم تكن حية
أصلا»50.

      *
سادسا: ومنهم من اعترض بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا
هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، قَالُوا يَا
وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)51، فقال: كيف يكونون راقدين
ومعذبين في آن واحد؟!

     
والجواب يكون بالقول: للمعترض بهذه الشبهة ثلاثة أجوبة له أن يختار منها
ما شاء: 

     
أولها: أنه من المحتمل أن تكون الرقدة بين النفختين: نفخة الصعق ونفخة
البعث؛ وهذا ما نقله الطبري وغيره بسنده عن أبيّ بن كعب وقتادة
وغيرهما52، ولا تعارض حينئذ بين إثبات فتنة القبر ومضمون
الآية.

     
والثاني: أن الرقدة ذاتها، على فرض أنها تمتد من الإقبار إلى البعث، ليس
فيها منافاة للعذاب أو النعيم؛ ففي شواهد الواقع ما يُستأنَس به لفهم
ذلك، والأمر يتعلق بحال النائم الذي يعاني الأمرّين أثناء رؤياه لحلم
مزعج، وإذا سئل عند استفاقته عن حاله قبل ذلك فلا يسعه إلا القول بأنه
كان راقدا.

      قال
القرطبي في “التذكرة”: « بل لو كان الميت بيننا موضوعا، فلا
يمتنع أن يأتيه المَلَكان ويسألانه من غير أن يسمع الحاضرون جوابه؛
ومثال ذلك نائمان بيننا، أحدهما يُنَعَّم والآخر يُعَذَّب، ولا يشعر أحد
بذلك من حولهما من المنتبهين، ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما
كان فيه»53.

     
والثالث: أن عذاب القبر على هوله لا يساوي شيئا بالمقارنة مع عذاب
الآخرة الذي يعم الروح والجسد معا؛ فلا عجب في أن يصفه صاحبه بأنه رقود
ويتمنى لو بقي فيه عندما يستيقن بأن العذاب الأكبر واقع عليه لا محالة؛
ولذلك قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)54.

      قال
القرطبي في “تفسيره”: « قال أهل المعاني: إن الكفار إذا
عايَنوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب، صار ما عُذِّبوا به في قبورهم
إلى جنب عذابها كالنوم»55.

      *
ختاما : 

    إن الهدف الذي
يرومه منكرو عذاب القبر من المعاصرين من خلال سعيهم الحثيث إلى إثبات
كونه مجرد خرافة وأسطورة –مع أنه لا يترتب على إثباته عمل
معين لا للفرد ولا للمجتمع– إن كان لا يتعدى إطار الجدال
العلمي الهادف إلى إثبات الانتماء إلى شريحة المتنورين المتحررين من
التبعية والتقليد، فأمره يهون ويُسمع ويناقش؛ لكن الخوف كل الخوف من أن
يكون هذا السعي اللامحسوب العواقب مجرد تمهيد لما هو أفدح، وهو تسفيه
عقائد الأمة، ونزع الثقة من السنة النبوية باعتبارها مصدرا للتشريع
والعقائد والقيم السمحة جملة وتفصيلا، والتقليل من شأن العلماء الذين
أفنوا أعمارهم في خدمتها رواية ودراية وشرحا واستنباطا، ثم فتح للباب
على مصراعيه أمام تفسير القرآن على وفق الأهواء والخلفيات الإيديولوجية
الهادمة لثوابت العقيدة السنية، فهذا ما يخشى ويخاف منه…

   
  لعل في هذا القدر كفاية إن شاء الله؛ نسأله تعالى أن يوحد
جهودنا وطاقاتنا لما فيه نفع الأمة والبشرية جمعاء. 

     
والله غالب على
أمره؛ والحمد لله رب العالمين.

 

بقلم: د. خالد الدرفوفي (دكتوراه في
العقيدة)

وفرغ من تحريره في الرباط بتاريخ
14/07/2018  

 

الهوامش:

 

1- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة.
القاضي عبد الجبار (ت415هـ). ت/فؤاد سيد. الدار التونسية للنشر. تونس.
1393هـ/1974م. ص163.

2- الانتصار والرد على ابن الراوندي.
أبو الحسين الخياط (ت بعد 300هـ). ت/نيبرج. دار الكتب المصرية. القاهرة.
1344هـ/1925م. ص133.

3- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة.
ص201.

4- شرح الأصول الخمسة. القاضي عبد
الجبار (ت415هـ). ت/عبد الكريم عثمان. مكتبة وهبة. ط3. 1416هـ/1996م.
الأصل الرابع. ص730.

5- طبقات المعتزلة. ابن المرتضى
(ت840هـ). ت/سوسنه ديفلد. جمعية المستشرقين الألمانية. بيروت.
1380هـ/1961م.. ص72.

6- متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب
التفسير من صحيحه (4935)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيحه
(باب ما بين النفختين. 2955).

7- مقدمات المراشد إلى علم العقائد.
ابن خمير السبتي (ت614هـ). ت/جمال علال بختي. مطبعة الخليج العربي.
تطوان. ط1. 1425هـ/2004م. ص332.

8- النحل/43.

9- النحل/44.

10- النساء/83.

11- إبراهيم/27.

12- متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب
التفسير من صحيحه (4699)، ومسلم في كتاب الجنة من صحيحه (باب عرض مقعد
الميت من الجنة أو النار عليه. 2871).

13- إثبات عذاب القبر. البيهقي
(ت458هـ). ت/شرف محمود القضاة. دار الفرقان. عمان. ط1. 1403هـ/1983م.
الحديث رقم11.

14- طه/124.

15- جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
أبو جرير الطبري (ت310هـ). ت/عبد الله التركي. دار هجر. القاهرة. ط1.
1422هـ/2001م.. سورة طه/124. ج16. ص198.

16- الطور/47.

17- جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
سورة الطور/47. ج21. ص603.

18- الطور/47.

19- تفسير ابن عباس (صحيفة علي بن أبي
طلحة). ت/راشد الرجال. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت. ط1. 1411هـ/1991م.
ص469.

20- غافر/46.

21- تفسير القرآن العظيم مسندا عن
رسول الله والصحابة والتابعين. ابن أبي حاتم الرازي (ت327هـ). ت/أسعد
محمد الطيب. مكتبة نزار الباز. مكة. ط1. 1417هـ/1997م. تفسير ابن أبي
حاتم. غافر/46. رقم18435.

22- التكاثر/1-2.

23- أخرجه الطبري في جامع البيان
(التكاثر/1-2. 24/600)، وابن أبي حاتم في تفسيره (التكاثر/1-2.
رقم19454).

24- السجدة/21.

25- أخرجه الطبري في جامع البيان
(السجدة/21. 18/631)، وابن أبي حاتم في تفسيره (السجدة/21.
رقم17856).

26- متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب
الجنائز من صحيحه (باب الميت يعرض عليه مقعده. 1379)، ومسلم في كتاب
الجنة من صحيحه (باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.
2866).

27- غافر/46.

28- صحيح البخاري/1374. صحيح
مسلم/2870. مسند ابن حنبل/12296. سنن أبي داود/4751. صحيح ابن
حبان/3120. السنن الكبرى للنسائي/2188.

29- متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب
الجنائز من صحيحه (باب التعوذ من عذاب القبر. 1377)، ومسلم في كتاب
المساجد من صحيحه (باب ما يستحب التعوذ منه في الصلاة. 588).

30- متفق عليه: أخرجه البخاري في
كتاب الجنائز من صحيحه (باب عذاب القبر من الغيبة والبول. 1378)، ومسلم
في كتاب الطهارة من صحيحه (باب الدليل على نجاسة البول. 292).

31- أخرجه البخاري في كتاب
الجنائز من صحيحه. باب ما جاء في عذاب القبر. 1372.

32- أخرجه مسلم في كتاب المساجد من
صحيحه. باب استحباب التعوذ من عذاب القبر. 586.

33- إنجيل لوقا. تعريب الأب متى
المسكين. الإصحاح16. رقم19-26.

34- تفسير إنجيل لوقا. الأب متى
المسكين. مطبعة دير القديس أنبا مقار. القاهرة. ط1. 1998م. الإصحاح16.
ص592.

35- مقدمات المراشد إلى علم العقائد.
ص340.

36- الأعراف/27.

37- شرح المعالم في أصول الدين للفخر
الرازي. ابن التلمساني (ت644هـ). ت/نزار حمادي. دار الفتح. عمّان. ط1.
1431هـ/2010م. ص608-609.

38- التكوير/12.

39- متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب
مواقيت الصلاة من صحيحه (باب الإبراد في الظهر في شدة الحر. 537)، ومسلم
في كتاب المساجد من صحيحه (باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر.
615).

40- الروم/55.

41- المؤمنون/113.

42- التذكرة بأحوال الموتى وأمور
الآخرة. أبو عبد الله القرطبي (ت671هـ). ت/الصادق بن إبراهيم. دار
المنهاج. الرياض. ط1. 1425هـ. ج1. ص373.

43- بحر الكلام. أبو المعين النسفي
(ت508هـ). ت/محمد السيد البرسيجي. دار الفتح. عمان. الأردن. ط1.
1435هـ/2014م. ص251-252.

44- البقرة/28.

45- غافر/11.

46- متفق عليه: أخرجه البخاري عن أبي
طلحة في كتاب المغازي من صحيحه (باب قتل أبي جهل. 3976)، ومسلم في صحيحه
عن أنس بن مالك في كتاب الجنة ووصف نعيمها (باب عرض مقعد الميت من الجنة
أو النار عليه. 2874).

47- شرح المعالم الفخرية في أصول
الدين. ص607-608.

48- الأعراف/172.

49- التذكرة بأحوال الموتى وأمور
الآخرة. ج1. ص377.

50- شرح الأصول الخمسة. الأصل الرابع.
ص731.

51- يس/51-52.

52- جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
الطبري (ت310هـ). سورة الطور/51-52. ج19. ص456.

53- التذكرة بأحوال الموتى وأمور
الآخرة. ج1. ص372.

54- السجدة/21.

55- ىالجامع لأحكام القرآن. أبو عبد
الله القرطبي (ت671هـ). ت/عبد الله التركي وآخرون. مؤسسة الرسالة.
بيروت. ط1. 1427هـ/2006م. يس/51-52. ج17. ص465.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق