وحدة الإحياءدراسات وأبحاثمعالمطبيعة ومجال

مقاصدُ العمران: مقاربة فلسفية- تاريخية

تروم هذه الدراسة الإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالعمران البشري والاجتماع الإنساني في علاقتهما بالثقافة والدين؛ والسؤال المركزي هو كيف يمكن المرور من الدين إلى التمدين، أو كيف تتحول الأفكار الدينية إلى خبرات عمرانية، أو كيف يتم ربط الكلمات بالأشياء في العملية العمرانية؟ 

إن محاولة الإجابة تستدعي في بادئ الأمر تحديدا فلسفيا لمفهوم العمران البشري بما ينسجم مع شمولية هذا المفهوم، واستبطانه لكافة العلائق التي ينسجها الإنسان مع المحيط الحيوي من أجل إنتاج الثقافة وتحقيق الاجتماع البشري، ذلك أن كثيرا من الأمثلة التطبيقية تبرز الترابط الجدلي بين الفكر والعمران بمنطق عملي. هذا يستدعي التعمق النظري في المسألة العمرانية من منظور فلسفي مقاصدي، وتتبع المفاصل العمرانية الكبرى في الحضارة الإسلامية بمنطق فلسفة التاريخ، وصولا إلى ربط الأفكار بالنتاج العمراني جدليا من أجل البحث عن طبائع العمران وفهم مشكلاته ومنطقه، واستشراف الآفاق المستقبلية في العملية العمرانية وفق  فلسفة الاستخلاف.

أولا: العمران من منظور فلسفي ومقاصدي

 إن العمران البشري بالمعني الفلسفي المقاصدي ينبني على مرتكزين:  “فهو، من جهة، عبارة عن قوانين ومبادئ عامة تقصد الوصول إلى طريق الصدق والصواب في نقل الوقائع والوثائق وأخبار الماضي، ثم استخلاص مقاصدَ منها دافعةٍ إلى التجديد في البناء الاجتماعي والإنساني؛ والعمران من جهة أخرى هو الاجتماع الضروري للإنسان الذي يعبر عنه الفلاسفة بقولهم: “الإنسان مدني بالطبع”؛ أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو ما ركب في طباعهم وجبلَتهم من التعاون على المعاش والسير في الأرض، وتشييد المرافق الدينية والمدنية بما يليق بمهمة الاستخلاف. وقد بين ذلك عبد الرحمن ابن خلدون في “المقدمة”  بقوله: “الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة، مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه”..

ويحدثنا الماوردي في كتابه “أدب الدنيا والدين” عن منهج النظر في العملية العمرانية، وعناصر القيام على عمارة الأرض وصلاحها وإصلاحها؛ “لأن مقتضى النظر في أمور الدنيا مراعاة أحوال تنميتها وعمرانها‏، فالواجب ستر أحوالها‏، والكشف عن جهة انتظامها واختلالها‏، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها‏، لتنتفي عن أهلها شُبَه الحيرة‏، وتتجلي لهم أسباب الخِيَرة‏، فيقصدوا الأمور من أبوابها،‏ ويعتمدوا على صلاح قواعدها وأسبابها‏”.. إننا هنا إزاء رؤية شاملة للعمران تتحرك صوب الدوائر المتعددة بدءًا بعمران الإنسان الفرد،‏ حتى تشمل العمارة الكونية‏. يقول الماوردي في “أدب الدنيا والدين”: “فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة‏، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت‏، وهي‏:‏ دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح، وأما ما يصلح به حال الإنسان ويرقى:‏ فثلاثة أشياء‏، هي قواعد أمره ونظام حاله‏، وهي نفس مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها‏، وأُلفة جامعة‏، ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها‏..‏”.

والتعمير بشكل عام “بناء يعمر به مكان ويحسن حاله بواسطة الفلاحة وعمل الأهالي ونضج الأعمال والتمدن، ولا ينبغي النظر إلى العمران البشري باعتباره مقتصرا على فن البناء بأنماطه وأشكاله وهندسته الموروثة والمحدثة، بل يعني بالمفهوم الإسلامي القيام بأعباء الاستخلاف وفق فلسفة الإسلام الكونية، وبذلك يتمثل النشاط البشري في كل المجالات المادية والفكرية والثقافية على السواء؛ ومدلول التعمير يرادف مدلول الحضارة بصفة عامة[1]“…

وترتبط العملية الاجتهادية بالعمران، بمنطق جدلي؛ ذلك أن العملية الاجتهادية في أصل مقصودها تتجه صوب‏‏ “المصلحة”،‏ و”‏الإصلاح”‏، ومن ثم فإنه لا يمكن تحريكها إلى عناصر‏ “طغيان”‏ أو “فساد‏‏” أو‏‏ “خلل”‏ مفض لتقويض أصل العمران. وهو الاجتهاد العمراني الكفيل بأن يواصل تأسيس المدرسة العمرانية‏: المدرسة التي تتبنى النظام المعرفي العمراني في تعاملها مع مجمل القضايا المتعلقة بالاجتماع والثقافة والحضارة‏، وستفرز هذه المدرسة لا محالة أجندة بحثية واهتمامات علمية بالغة الأهمية‏، يجري إغفالها أو تهميشها على أجندة البحث المعاصر.. إن الاجتهاد العمراني والتجديد العمراني عمليتان حضاريتان تُنزلان مفاهيم المدرسة العمرانية في شكل خبرات عمرانية كونية‏. ‏والجدير بالذكر أن الاجتهاد هنا يكتسي طابع الامتداد، وهو يسير في الأفق المتعدد‏، من أفق الكون إلى أفق الإنسان، إلى أفق المجتمع‏، إلى أفق التاريخ‏‏.‏ والاجتهاد المقاصدي هو جامع كل العناصر المكونة للعملية العمرانية‏؛ بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية‏، ويفضي المقصود في نهاية المطاف إلى الرعاية والحفاظ والحماية والاستشراف‏…[2].”

 بعد الماوردي، سيحاول عبد الرحمن ابن خلدون الارتقاء بالتاريخ إلى مستوى العلم والنظر العقلي، متجاوزا التاريخ العملي إلى التاريخ النظري، ذلك أن حقيقة التاريخ عند ابن خلدون أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، ويتميز هذا الخبر بكونه جم الفوائد شريف الغاية يوقف على “أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تُحَكَّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال من الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق..

إن الوعي العملي بأهمية التاريخ في الحياة الاجتماعية يمثل جزءًا مهما من المعرفة التاريخية، لكنه جزء ظاهري فقط، أما الجانب “الخفي” فيتمثل في أن التاريخ “نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها خليق”.

وتؤسس مفاهيم النظر والتحقيق والتعليل وعلم كيفيات الوقائع وأسبابها، جهازا تصوريا يخرج التاريخ من حيث هو خبر في الماضي إلى كونه ظاهرة للبحث والتحليل والاستنباط، وبهذا يكون التاريخ تجاوزا للتاريخ؛ تجاوزا يؤكد انتماء التاريخ لعلوم الحكمة وما تقتضيه من إعمال عميق لعقل تجريبي ينتج عنه بالضرورة عقل مصلحي يقدِّر بعلمٍ قوانينَ المنافع والمضار في دورة العمران البشري الدائمة من نشوء ونمو وانحطاط واندثار. والتاريخُ عند ابن خلدون هو وعي بتحولات العمران البشري ضمن جدل عقل مصلحي يميز في العملية العمرانية بين الضروري والحاجي والتحسيني،تبعا لذلك، يرتبط البحث التاريخي عند ابن خلدون بالمنهج المقاصدي الذي يتجاوز النظر في ظاهر الشريعة  لينفذ إلى باطنها..[3]“؛ وقد طبق ابن خلدون منهجا مقاصديا في تفسيره للتاريخ، وحرص على إعمال المقاصد في النماذج التطبيقية التي أوردها في المقدمة، مما يدل على إدراكه العميق لأهمية المقاصد الشرعية في رفد العمل الاجتهادي المتعلق بالبحث التاريخي وفلسفة العمران البشري؛ والظاهر أن هذا المنهج مستمد، في بعض جوانبه، من الفقه المالكي الذي يعتبر المقاصد الشرعية أصلا من أصوله العقلية، وقد عمل ابن خلدون على توظيفها في منهجه الفاحص للاجتماع الإنساني، فخلص إلى أن من الأسباب الموقعة للمؤرخين في الكذب: الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب..[4].”       
وإذا اعتبرنا أن النظرية نسقٌ فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة، يشمل إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد تجريبي لاعتمادها عل الواقع ومعطياته، وذات توجيه تنبُّئي يساعد على تفهم مستقبل الظاهرة ولو من خلال تعميمات احتمالية، فنظرية ابن خلدون، وفق هذه الرؤية، “نسق فكري متسق حول العمران والإنسان يتكون من قضايا ومفاهيم توضح العلاقات المنظمة والمتحكمة في تفاعلهما وثباتهما وتغيرهما[5]“.. ويمكن القول أن العمل الخلدونيّ بدأ بما بعد النظريّة، عندما طلب تأسيس نسبة التاريخ إلى الحكمة، بما يمكن أن نطلق عليه اسم: “نقل فَنِّ التاريخ من جنس فَنِّ الأدب إلى جنس فَنِّ الفلسفة[6].”

لقد انتقد عبد الرحمن ابن خلدون مناهج المؤرخين السابقين في دراسة التاريخ ليتوصل إلى علم مستقل بنفسه يتميز بأنه “ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا”، فليست دراسة التاريخ هي وصف وقائعه فقط، بل هي بحث عن قوانين الظواهر الاجتماعية وحركتها الداخلية وبنيتها العميقة، واستخلاص مقاصد وسنن متعلقة بها في علاقة الخبرات الإنسانية بالمجال الجغرافي والمعطيات الطبيعية والإنسانية.. ذلك أن الفرق بين المنهج التاريخي الوصفي والمنهج الاجتماعي التحليلي يكمن، حسب ابن خلدون، في أن “القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه”…

إن ما امتازت به رؤية ابن خلدون للعمران‏، والمفاتيح التي نفذ من خلالها إلى الظاهرة العمرانية والخصائص التي يجب التسلح بها عند مقاربة طبائع العمران هي التي جعلت ابن خلدون يؤكد على ضرورة الاعتبار بالتاريخ‏، وقد أسس لفكرة أن للظاهرة الاجتماعية والسياسية والعمرانية عمقا تاريخيا‏،  وللظواهر التاريخية عمقا حضاريا عمرانيا‏… ‏وقد أكد على ضرورة النظر إلى الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها‏، وعناصر شمولها، وما يعرض له فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وعمارة الحياة والعالم التي هي مقصد علم العمران الخلدوني. ويشير ابن خلدون، عبر انتقادات عميقة، إلى معضلة تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوى التخصصات الدقيقة‏،‏ وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف العلوم معرفيا لغرض عمارة العلم بلوغا إلى جوهر العلم النافع الدافع‏.‏ فقد شرح ابن خلدون‏ من أحوال العمران والتمدن‏ والحضارة،‏ وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يوصل إلى التمتع بعلل الكوائن وأسبابها‏،‏ ويعرِّف ‏ كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد‏، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك‏[7]“…‏

‏ويكمل ابن خلدون تنظيره للعمران البشري في علاقته بالوسط الطبيعي والمجال الجغرافي، فيطرح  قضية العمران البشري والمقدمات المتعلقة به في اتصال بالجغرافيا الطبيعية والبشرية‏،‏ وكذلك أثر البيئة على أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ من العمران‏، وهو يصنف أنواع العمران ويصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز بها، والمعاش وجوبُه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه‏، والعلوم التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم‏، وطرائقه وسائر وجوهه‏، وعلاقة كل ذلك بنشوء المجتمع وبناء أسسه وعلاقات أفراده..

وعكف ابن خلدون في دراسته النظرية لعلم العمران البشري على استخلاص شبكة العلاقات المعقدة بين المقدمات العمرانية محققا أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في ضوء عناصر الترتيب المقترن بنظرية المقاصد الكلية العامة من ضروري وحاجي وتحسيني‏،‏ وأصلي ومكمّل؛ يقول ابن خلدون في المقدمة: “وقد قدمت العمران البدوي؛ لأنه سابق على جميعها‏، كما نبين لك بعد‏، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش‏، فلأن المعاش ضروري طبيعي، وتعلم العلم كمالي أو حاجي، والطبيعي أقدم من الكمالي‏، وجعلت الصنائع مع الكسب؛ لأنها منه ببعض الوجوه‏، ومن العمران كما نبين لك بعد‏”…‏

ينتقل ابن خلدون، بعد ذلك، إلى فكرة الأطوار مستندا إلى منهج سنني‏،‏ فالأطوار الحضارية محكومة بقوانين وسنن، تتعلق بالمظاهر العمرانية وإمكانات تحويلها إلى عالم أفكار، الأفكار التي تتجسد في قيم وفق طبائع العمران ‏.. إن فهم ابن خلدون لهذه الأطوار يلغي أي انبهار بعالم الأشياء أو المادة العمرانية‏،‏ لكنه يتحدث عما في عمقها ومكنونها من قيم وأفكار وفلسفة أخلاقية‏، وما ينتجه من تفاعل بين عالم الأشياء والأشخاص والأفكار من عالم أحوال إنسانية جدير بالملاحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه‏؛ إن هذه الرؤية الخلدونية المتعمقة تدعونا إلى أن نتخذ من عُدتها الفلسفية والمنهجية منهجا للنظر في الظاهرة العمرانية وما يرتبط بها من عوالم‏‏[8].”

يعالج ابن خلدون كذلك أسباب الانهيار التي عدّد بعضها، إلا أنه يؤكد على سنة عمرانية بالغة الأهمية‏ هي‏: “‏أن الترف مؤذن بخراب العمران”،‏ ذلك أن الترف من أسباب انهيار الحضارة‏… وهو يؤكد من خلال مقالته تلك أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته‏،‏ أو أن يكون عاجزا عنها لما ربي عليه من خُلق التنعم والترف‏،‏ فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار الحضارة والعمران والتحول إلى مرحلة التمني والركون والدعة‏، والتنكر لرسالة الاستخلاف.

ثم إنه إذا كان علم العمران أداة لتصحيح الخبر، فإن التاريخ نفسه علم أداة. وإذن، فنحن نبحث في علم أداة (علم العمران) لعلم أداة (علم التاريخ) لا يمكن لأي علم من العلوم غير الطبيعية أن يكون في غنى عنه، بل حتى العلوم الطبيعية فإنها تحتاج إليه؛ لأن ما نستمده من التجربة خبرٌ عن الطبيعة، لابد أن ينقد في ضوء ما يماثل علم العمران في هذه الوظيفة، فضلا عن كون العلوم الطبيعية من أهم الظاهرات العمرانية[9]

لكن فهمنا للظواهر الطبيعية وفق المنهج القرآني هي أنها “ذات محتوى إنساني كوني في إطار مقوماتها الطبيعية، وأن العلاقة الكلية التي تربط ما بين مجموعة الظواهر في سياق الحركة العامة هي علاقة كونية وليست بشرية فقط، وإنها لا تقبل منطق المصادفة ولكن التقدير الإلهي الذي ينفذ إلى كل التفاصيل في حياة الشعوب من خصوصية موقعها إلى تركيبها واتجاه حركتها[10].

وهكذا نكون، حسب أبي يعرب المرزوقي، بصدد أربعة علوم: علم أداة شرط أول، هو: علم العمران، وعلم أداة شرط ثان، هو: علم التاريخ، وعلم الظاهرات الإنسانية، وعلم الظاهرات الطبيعية. وإذن، فعلم العمران لذاته، فضلاً عن كونه علم مواضع العلوم الإنسانية، فإنه كذلك علم مواضع العلوم الطبيعية، لمجرد كون هذه العلوم من الظاهرات العمرانية التي يشملها هذا العلم الذي يقبل التسمية بما بعد التاريخ، لاسيما أنّ ابن خلدون لا يقصره على حضارة بعينها، بل هو يشمل العالم كله عملاً بأفق الخطاب العلمي الإنساني في الحضارة الإسلاميّة، فأفُقُه يحدده الخطاب القرآني، من حيث هو خطاب لكل البشر؛ فالعلم الجديد يتكلم على “الاجتماع الإنساني، وعمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل: التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك، والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من: الكسب، والمعاش، والعلوم، والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.       
 وانطلاقا من فاعليات المقاصد في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم‏، بعضها من بعض؛ تتحقق منظومية المقاصد العمرانية ونظامها، فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها‏؛‏ الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصرها والضام لمكوناتها؛ أي عقيدة يلتئم عبر تمثلها عالم الأفكار بعالم الأشخاص والأشياء بشكل جدلي يفضي إلى ازدهار العمران؛ إن‏‏ عقيدة لا تدفع، هي إهدار لمعنى العروة الوثقى‏، وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا؛ والحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بتفعيل قواعده الكلية‏.‏ إن شريعة لا ترفع، هو إهدار لمعنى مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج المكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخلافا وأمانة ومسؤولية‏،‏ فالشريعة الرافعة: حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها‏؛ والحفظ لحاكمية قيم الإسلام التأسيسية‏ (‏التوحيد والتزكية والعمران‏)‏ والأساسية ‏(‏الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى‏، والاختيار‏)‏ والقيم العليا‏ (‏الممثلة في العدل‏)‏ الناظم لأصول منظومة القيم وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها‏؛‏ إن قيما لا تحكم هي إهدار لمعنى مقاصد القيم؛ لأنها إهدار لعموم الدين ‏(‏الدين القيم‏)؛ والحفظ لمعاني جامعية الأمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل الله،‏ والضام لمعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري؛‏ إن أمة لا تجمع هي فاقدة لأصول معانيها في‏ الأَمّ‏ و‏القصد‏، وهو إهدار لمقاصد الأمة في‏‏ الوجهة والقبلة؛‏ إن أمة لا تجمع ليست من جامعية الأمة في شيء‏،‏ وإن تحول جامعيتها إلى نقيض مقصودها في التنازع مقابل الاعتصام‏،‏ والفشل مقابل الفاعلية‏،‏ وذهاب الريح في مقابل الأثر والتأثير والتمكين‏، إنما يعبر عن إهدار مفهوم الأمة في الوعي والسعي‏[11]..  

كل ذلك يحيلنا، إلى النظر في العمران باعتباره نموذجا إرشاديا ‏Paradigme‏ على ما يشير إليه ذلك من تأصيل رؤية كلية للوجود والكون والعالم، والإشارة إلى بناء فلسفي نظري‏، و منظومة مفاهيمية متكاملة، كما أنه يشير إلى أجندة بحثية شاملة وقصدية‏‏..‏ إننا بلا شك أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية‏، فتؤصل القاعدة وتحدد المجالات، وتستشرف المستقبل..‏

‏إن علم العمران، علم رئيس science Architectonic، ويمكن تحديد وحدته بالقياس إلى وحدة كتاب أرسطو في ما بعد الطبيعة؛ بسبب تماثل الدور بين العلمين، ودلالة ما أشار إليه ابن سينا من ضرورة تسمية علم ما بعد الطبيعة بعلم ما قبل الطبيعة. فيكون العلم الخلدوني الجديد علم ما قبل التاريخ، وليس علم ما بعده، وهو إذن في منزلة الفلسفة الأولى التي أصبحت من وظائف فلسفة التاريخ، لا فلسفة الطبيعة؛ تقديماً للموقف العمليّ على الموقف النظريّ، واستبدالا للمنظور الديني بالمنظور الفلسفي، الذي يقدم النظريّ على العمليّ؛ ولما كان ما قبل الطبيعة هو علم مبادئ الطبيعة، وعلم مبادئ علمها، فكذلك يكون علم ما قبل التاريخ: علم مبادئ التاريخ، وعلم مبادئ علمه[12]

وانطلاقا من أركان العقيدة الاستخلافية[13] وهي: ركن الوجود، وركن المعرفة، وركن عدم التأثيم، والحسم النظري للحرب الأهلية بين المسلمين، وإنهاء الحرب الأهلية بين البشر لرعاية الكون  بما يليق بالاستخلاف، نقول أن مقاصد العمران في المنظومة المرجعية الإسلامية، والتي هي إنسانية بطبيعتها، تروم تحقيق الانسجام بين الإنسان والكون بمنطق جدلي على اعتبار أن الإنسان أُنشئ من الأرض واستعمر فيها، فلا غرابة أن يكون منطق هذا العمران تحقيقا لجدلية الغيب والإنسان والطبيعة بفضل من الله، ذلك أن الإنسان خرج من رحم الطبيعة بالخلق، ووجب أن يعود إليها بالوعي حسب الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وهنا مقصد كبير من مقاصد العمران..   

لقد حدد العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه العوامل الحاكمة في التطور الإنساني عبر العصور وهي المكان والزمن والبشر، المكان؛ أي الجغرافيا؛ أي الأرض والموقع والمناخ والموارد؛  والزمانبمعنى التاريخ؛ أي تواريخ الشعوب والحضارات والصراعات والأفكار والعلوم، والبشر؛ أي الأمم والشعوب، والمجتمعات..

ويبرز أبو يعرب المرزوقي[14] بعض مقومات العمران بمفهومه الاستخلافي عندما يربط بين عدة عناصر في السلوك الإنساني بشكل يفضي إلى تحقيق الاستعمار بالمفهوم القرآني، فالتربية، هي محرك الإصلاح الدائم الرمزي أو البعد الرمزي من صورة العمران: والمشكل هو كيف تفعل الرموز في تكوين الإنسان؟ وقد أشار ابن خلدون إلى نوعي التربية الذاتية والأجنبية؛ أعني التي تنبع من الضمير الحر ويقصد التربية الدينية، والتي تفرض من خارج ويقصد التربية السلطانية التي يعتبرها أجنبية؛ والثقافة التي هي محرك الإصلاح الدائم للعمران أو البعد الرمزي من مادة العمران: وهي جملة القيم كيف تصبح عادات وأعرافا ونماذج؛ والمشكل هو كيف تحيي الثقافة الفنون أو تقتلها؟ ثم هناك علاقة التربية بالثقافة: أو كيف يورث التراث بعملية التربية والنقد والإبداع؟ وهل الثقافة تؤسس لتربية تحررية تساعد على الإبداع أم لتربية محافظة تشجع على التقليد؟ وعلاقة الثقافة بالتربية التي هي ليست مجرد مضمون يبلغ بل أفق فهم؛ والمشكل هو كيف يتم التحرر من الأفق الحاصل لإبداع الأفق الممكن؟   كيف قُتل الإبداع العلمي والتقني؟

ثانيا: علاقة العلم بالعمران من منظور تاريخي

لقد طرح أبو يعرب المرزوقي في تحليله للفلسفة العمرانية سؤالا حاسما في التقدم البشري وهو كيف قتل الإبداع العلمي والتقني؟ بصيغة أخرى، يمكننا طرح سؤال يتعلق بعلاقة النموذج المعرفي/الإرشادي paradigme بالعملية العمرانية بمفهومها الخلدوني: ما الذي جعل العلم العربي الإسلامي ينحصر، خصوصا في جوانبه التطبيقية، بشكل أثر على نمو وازدهار المدينة الإسلامية…  

إن عالما مثل ابن البنّا المراكشي العددي كان قد ألف كتابا بعد كتابه الشهير “تلخيص أعمال الحساب” وهو “رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب”، وهو كتاب شارح ليس بالمفهوم التقليدي للكلمة؛ أي ليس بمفهوم تبسيط المادة الرياضية الموجودة في التلخيص، بل هو كتاب في شرح أسباب تأليفه لهذا الكتاب؛  ففي تلخيص أعمال الحساب نجد في باب الجمع كيفية وضع العمليات البسيطة ثم قواعد المتتاليات العددية على الأعداد الصحيحة ومربعا ومكعبا، ثم المتتاليات الهندسية عندما يكون الطرف الأول، ثم المربعات والمكعبات، لكنه في كتابه “رفع الحجاب” أوضح التمييز المنطقي بين طبيعة المتتاليات الهندسية والعددية، من حيث أن الأولى تخضع للتناسب الكيفي والثانية تخضع للتناسب الكمي؛ ما يجمعها معا هو خضوعهما للتناسب؛ ثم هناك التمديد؛ أي الفائدة النظرية من المتتاليات العددية والهندسية، وهي هنا تمكننا من إيجاد الأعداد التامة والناقصة والزائدة؛ ثالثا: التطبيق العملي، وهنا يضع ابن البنّا مسألة الأوزان كنموذج للتطبيق العملي للمتتاليات الهندسية…

 وابن البنّا كان واضحا تمام الوضوح هنا: باب الجمع هو أصل نظرية الأعداد، وباب الضرب هو أصل باب النسبة والتناسب، وهو كما يوضح ذلك يفضل باب الضرب نظرا لكونه ينسجم مع تصوره للرياضيات كوسيلة لحل مشكلات المدينة الإسلامية، فلنلاحظ كيف يرى ابن البنّا إتقان الرياضيات كمدخل لحل مشكلات العمران- وكذلك أيضا في باب النسبة من كتاب “تلخيص أعمال الحساب” ركز على الأربعة أعداد المتناسبة؛ لأنها أصل جميع النِّسب، ومن تمكّن منها يكون قد ملك زبدة علم الحساب أو كما يقول هو نفسه: “ومن أحاط علما بها فقد علم ملاك علم الحساب وأصله، وسنبين كيف ترجع كل نسبة منها إليها، فهي القاعدة العظيمة المنفعة في الحساب وفي غيره.” 

تبدو مسألة العلاقة الجدلية بين العلم والعمران على المستوى النظري شديدة الأهمية من أجل وضع اليد على المفاصل الفكرية والتاريخية والسياسية التي غيّبت العلوم التطبيقية عن الاجتماع العربي الإسلامي، وأفضت بذلك إلى انحسار العمران. ” فظاهرة العلم، صعودا وانحسارا، مرتبطة بأربعة مستويات: الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية (الأركيولوجيا)، والمعتقدات والمقولات التي تشكل خلفية للفكر العلمي (الميثافيزيقا)، والمعايير والضوابط التي تمنح النظريات تماسكها، ومن ثم تحكم قبولها أو رفضها (الإبيستيمولوجيا) والأنساق الاجتماعية والفلسفية للممارسة العلمية[15].” 

و”لقد دعا القرآن الكريم في مواطن عديدة إلى النظر والتفكر والاعتبار في الكون وفي كل ما يحيط بالإنسان، بل في الإنسان نفسه، وجاء ذلك في سياقات عديدة، طابعها الحث واستنفار الهمم حينا، والتأنيب حينا آخر، ولا شك أن هذا النظر ومرادفاته؛ يعني “العلم” أو يؤدي إليه، والعلم هنا “العلم الدنيوي” قطعا؛ إذ إن هذا النظر إن كان نظرا في الكون وظواهره الطبيعية سيؤدي إلى الفلك والرياضة وإن كان في الكائنات الأخرى: البهائم والحشرات، سيصل بنا إلى العلوم المتصلة بها، وإن كان في الإنسان: جسده ونفسه وعقله، سينتهي إلى الطب بأنواعه المختلفة…[16].”

وقد يقال إن دعوة القرآن إلى النظر غايتُها دينية؛ بمعنى أنها ترمي إلى الإيمان وتقوية اليقين بعظمة الخالق. وهذا صحيح، لكن هذه الغاية ستمر قطعا بـ”العلم” الذي يكشف أسرار خلق الله وآياته في الآفاق والأنفس، وتتحقق بإصلاح حال الكون، وعمارة الإنسان له، ف”النظر” لا يمكن أن يكون مجرد إعجاب ظاهري؛ إذ إن هذا الإعجاب لن يؤدي إلى الغاية المرجوة؛ أي أننا هنا لسنا في سياق رومانسية طبيعية، بل نحن إزاء فلسفة طبيعية كونية تنطلق من علوم الحياة وعلاقتها بالإبداع الإنساني ضمن جدلية الغيب والإنسان والطبيعة… وإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتخيل مدى انحراف الفهم، وندرك عمق الشرخ بين الرؤية وفهمها عندما نرى أن عالما جليلا مثل ابن تيمية (توفي 728ﻫ) يقرر أن العلم هو العلم الموروث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن غيره إما أن يكون غير نافع، وإما ألا يكون علما أصلا، وإن أطلق عليه اسم العلم[17].

“إن وهج الرؤية في بكارتها وعنفوانها قد ضعف بمرور الزمن، فبعد نحو أربعة قرون أو خمسة، حدث انحراف عن المقتضيات التي تتطلبها، والوهج هو الموازي لتلك الجدة، بما تعنيه من حماس فكري. وإن الاختلاف وما اتصل به من شمول وتكامل وحرية تحول تدريجيا إلى شكل من أشكال النمطية أدى إلى انكفاء النظرة الشمولية (العالمية) التي تتوجه إلى جوهر الحقيقة الإنسانية، وتستنفر قدراتها، وإلى اختزال الاتجاه التكاملي متعدد المسارات وما يستلزمه من حرية، مما أدى إلى تركيز الجهود على درس العلاقة بين الله والإنسان (علوم الدين) وإلى تكبيل حركة الإنسان عامة، وحركته العقلية خاصة، فأصبحت هناك مناطق معرفية (العلوم العقلية) يحرم الاقتراب منها أو يكاد[18]“.. 

إن “المشكلة الحقيقية حدثت، تبعا لذلك، عندما تمكن تيار علوم الدين أو علوم النقل من أن يكسب الأرض كلها، وبذلك حسم الصراع لصالحه، وتم إلغاء الطرف الآخر، على مختلف المستويات، وحدث من ثم تشويه جوهري للرؤية الإسلامية في شمولها وتكاملها وحريتها ومبادئها جميعا.. ونحن “نعلم أن المعركة ونتيجتها أو نتائجها لم تكن إلا تجليا من تجليات المناخ العام (سياسة واجتماعا واقتصادا) والفكري (معتقدات ومقولات) والأصولي (المعايير والضوابط للمنهج) والعلمي (النموذج المعرفي)[19]“.

تكمن جذور الإشكالية، في “نفي شطر العلم وإلغاؤه”، وهناك شواهد في المصادر المبكرة ما تصدق تلك الإشكالية وتؤكدها، فقد ذكر الجاحظ (توفي 255ﻫ) في سياق الأشياء التي تُخفى بعناية عن عيون الناس: “الكتاب المتهم” (البخلاء: طبعة فان فلوتن، ص28)، وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 277ﻫ أنه كان على النُّساخ المحترفين ببغداد أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا بانتساخ أي كتاب في الفلسفة (الكامل في التاريخ: القاهرة، بولاق ج7/12).

ومما يجدر اللفت إليه أن الريبة كانت باتجاه الفلسفة تحديدا، ثم امتدت تدريجيا إلى بقية علوم الحكمة، فشملت الطب، والهندسة، والرياضة، والفلك، والتنجيم، والمنطق. في البداية كان ثمة تردد تجاه هذه العلوم، ثم حسم الأمر، وأصبح الموقف عاما، وهذا ما عكسه  الإمام الغزالي (توفي 505ﻫ) في آرائه الأخيرة عندما مد موقفه من الفلسفة ليشمل العلوم الطبيعية والرياضية (تهافت الفلاسفة: تحقيق سليمان دنيا.القاهرة، دار المعارف)، وفي مرحلة تالية صدرت فتوى ابن الصلاح لتحرم المنطق. وبذلك جمعت علوم الحكمة في عيبة واحدة، وانتهى الأمر..[20].”

في سياق متصل يرى الدكتور حسن صعب[21] أننا “نجد أنفسنا متفقين مع الإمام الغزالي ومختلفين معه؛ نتفق معه في أن رؤيا الحق هي من نور الله. ولكننا نختلف معه وندعو له بالغفران، لما أدت إليه تعاليمه من تعطيل لملكات الإنسان الحسية والعقلية المتحركة بإشراق هذا النور، وإشراق هذا النور ضرورة للعالم الطبيعي في مختبره كما هو ضرورة للمتصوف في محرابه وللشاعر في متأمله. وإذا كان الوحي طريقنا والإلهام منهجنا لعالم ما بعد الطبيعة؛ أي لله، فإن ما بينه وما بين عالم الطبيعة يقتضينا أن نعي وأن نستوعب وأن نصطنع مناهج معرفة متكاملة، وهذا ألزم للإسلام، حيث يقوم الدين على نظرة شاملة لكل ما هو موجود، منه لأي دين آخر. وهذا ألزم لنا في تقديرنا للنظرة الكلية للوجود التي يزودنا بها الدين، والتي تنوء بها الفلسفة، وتقصر دونها الإيديولوجية، ويعجز عنها العلم، ولكن هذه النظرة تفقد معناها وتخلو من مغزاها، إذا لم تتفاعل وتتحاور دائما بحرية خلاقة مع الفلسفة والإيديولوجيا والعلم”.

ثالثا: نماذج تطبيقية لعلاقة الفكر بالعمران

ثمة علاقة جدلية بين الاجتماع السياسي ومنطق العمران، ذلك أن رؤية العالم من منظور إيديولوجي معين ينتج عنها، وفق طبائع الأشياء، حالات من التمدن تختلف باختلاف الرؤى والمفاهيم والمؤسسات..

في هذا السياق، تبرز بعض أشكال “التمدنية” في المدن العربية الإسلامية عبر تمييز أنثربولوجي بين  أنواع من التمدنية: “التمدنية” الأندلسية، وهي تمدنية اندماجية، تؤدي عند تبلورها إلى تسهيل اندراج الفرد وإدماجه في المجتمع الحضري… وقد تميزت بفعاليتها في إدماج الأشخاص في النسيج المجتمعي؛ النوع الثاني هو “التمدنية العثمانية” وهي تمدنية ائتلافية مبنية على العلاقات الإنسانية والتعايش الطائفي، وهي خلافا للتمدنية الأندلسية التي تتبلور فيها الحومة وتؤدي إلى اندماج الأشخاص في المحيط الثقافي للمدينة، تنحو التمدنية العثمانية إلى الهيكلة حول الطائفة الدينية أو السياسية؛ النوع الثالث من التمدنية، هي التمدنية الخليجية، وهي تمدنية تبديدية، وتتسم بالتناقض الصارخ بين المظهر العمراني والسلوكي، وتتمايز هذه المدن بالتناقض بين المعلن والخفي، وتختلف في مظاهرها الحديثة عن الطبيعة المحافظة والتقليدية لمختلف الشرائح الاجتماعية[22].

ثمة علاقة جدلية بين تصور العلاقة مع الطبيعة والمجال من منظور ديني/فلسفي معين، وبين العمران بالمفهوم الشامل للكلمة؛ أي علاقة عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار بشكل جدلي. لنضرب مثالا تطبيقيا لتحول الفكرة الدينية-الصوفية إلى حقائق عمرانية وخبرات عملية ضمن النظرية الاستخلافية في ربط الفكر بالعمل، بمعنى أن العلم مهما علا شأنه لا يستقيم إلا إذا سدد بالعمل.   

فعلى مستوى تحول الفكرة الدينية إلى حقيقة تمدينية، وضمن رؤية سوسيو-أنثربولوجية، يندرج المشروع الذي اضطلع به أتباع “الزاوية الجزولية” بحوز مراكش بدءا من عبد العزيز التباع أستاذ الشيخ عبد الله الغزواني الذي بلور رؤية تستلهم من التصوف بمفهومه الكوني لإنتاج خبرات عمرانية تنفع الناس[23].     

لقد استقر عبد الله الغزواني (توفي 935ﻫ) بصفة نهائية بمدينة مراكش، وأسس زاويته بحي القصور، لتنطلق رحلة جديدة في حياة هذا الشيخ الصوفي، أساسها تلك الممارسة التي حرر بها من ثقاف الإرادة، وذلك الأمر الذي نال من أجله إجازة شيخه التباع، وهو المتعلق بالمجال الزراعي الذي برع فيه كمريد، وتوفق في تمريره وتلقين مبادئه وتقنياته، وهو شيخ، إلى مريديه وتلامذته، الذين نجد من بينهم وليا توفق بشكل كبير في ذلك، واشتهر باستصلاحه للعديد من الأراضي، التي حولها من بقع جرداء إلى حقول غناء، وأسس بها زاوية هي اليوم من أشهر الزوايا في المغرب اسمها زاوية تامصلوحت، واسمه عبد الله بن حسين[24]“.. يتعلق الأمر بعبد الله بن حسين الأمغاري، سليل أسرة آل أمغار برباط تيط وجد الولي الشهير مولاي إبراهيم المعروف عند العامة بطير الجبال؛ ومنه نفهم الهاجس “التنموي” الذي كان يسكن عبد الله الغزواني، ولقد أشار إلى هذه المسألة أيضا بول باسكون في كتابه القيم le Haouz de Marrakech، واستفاض في الحديث عن دور زاوية تامصلوحت لصاحبها عبد الله بن حسين؛ وهي نتاج طبيعي لمدرسة عبد الله الغزواني في محاربة القفر والخلاء وجلب النماء.. وقد قال ابن عسكر في “دوحة الناشر”: “وحدثني الشيخ أبو عبد الله الدقاق، وكان مختصا به، قال لي: كان الشيخ رضي الله عنه دأبه الحركة في أسباب الحراثة واستخراج المياه..”..

إن دور الغزواني الاقتصادي بناحية مراكش كان الأهم؛ لقد كان رجلا محبا للحراثة ولاستخراج الماء. وتأكدت شهرته بفاس، وقد شكل مجهوده الفلاحي بالحوز في نظر الكثير عملا سياسيا أكثر منه مجهودا تقنيا مجردا؛ لأن دأبه على الحرث والسقي لم تكن تفسره الدواعي الصوفية فحسب، بل تبرزه أيضا أزمة البادية المغربية وما خلفته هذه الأزمة من نتائج سلبية على الوضع البشري.. وسيلزم مريديه بهذه الأعمال كشرط أساسي في تربيتهم الصوفية ولن يختار لهم غير المواقع المتضررة كمواضع لتأسيس زواياهم..

وقد تجلت الأدوار الاجتماعية لسيدي الغزواني في إطعام الطلبة والمريدين وعامة الناس خصوصا خلال المجاعات والأوبئة، بالإضافة إلى حفره السواقي والآبار؛ وقد كان يقول لأتباعه: “من حفر ساقية صنع للناس طعاما”.

إن الولي بهذا المفهوم كانت له سلطة في الهيمنة على “الخلاء”، وإن فِعل تدجين المتوحش وتطويع المجال القفر يشكل المرحلة الأولى في عمل “التهيئة” الذي يضطلع به الولي. إن هذا العمل “الإحيائي” والتدبيري الذي يقوم به الشيخ وأتباعه يؤدي إلى دفع  حدود المتوحش إلى أبعد مدى، وتحويل “الموت” إلى “حياة”[25]. وقد لاحظ  حسن البورداري نفس الأمر مع العالم الولي مولاي عبد الله الوزاني –دفين وزان- الذي لاحظ أن “النصوص” المؤسِّسة لاستقراره في منطقة وزان تبِين عن “العدم، والكاووس الأصليين اللذين شكل قدوم الولي نهاية لهما[26].”

إنني أرى هنا، دون إغراق في التأويل، حسا كبيرا بضرورة توفير الأمن الغذائي، والترفيه عن الناس، عبر استصلاح الأراضي وشق السواقي والتفنن في “علم الفلاحة” والمرور من “الكلام” إلى “الأشياء” عبر التجارب الميدانية وإحداث البساتين والمشاتل، وإدماج كل هذا ضمن التربية الصوفية والالتزام المبدئي؛ وهذا ينسجم مع مطلب “الخصب الدائم والأمل الفسيح” بتعبير الماوردي؛ والحق يقال إننا في أمس الحاجة اليوم إلى مثل هذه الروح، ونحن نرفع اليوم شعار “المغرب الأخضر”، ذلك أن هذا المقصد النبيل يحتاج إلى علم وهمة عالية مثل التي توفرت في التباع والغزواني وبن حسين… ومنه نستفيد أيضا أن هؤلاء الأئمة الذين استبطنوا خطورة الآية الكريمة ﴿وبئر معطلة وقصر مشيد﴾ (الحج: 43)، فانبروا للبناء والتشييد ومحاربة الخلاء وجلب الخضرة والماء والنماء، وأدركوا أن الضرورات الوجودية التي تربط الإنسان بأصله الطيني الكوني هي أساس التنمية والحضارة، بدل الإغراق في كماليات العمران، في الوقت الذي تجف فيه الآبار وتنتشر البداوة وتتقلص الحضارة حتى لو طغت مظاهر “التمدين”، ولا أعتقد أن موقفي هذا من “المدرسة” الجزولية بمراكش وأحوازها مغرق في التأويل، لاسيما وأني أتحدث من موقف الدارس لدور النبات والخضرة وتدبير المجال في تحقيق النماء… 

وفي نموذج تطبيقي للرؤية العمرانية الاستخلافية يخلص الباحث لكديم الصوصي بصدد عمارة حاضرة مراكش، عبر دراسة ميدانية، إلى أن: “التمدين بمراكش عصارة علم وإيمان: بمراكش يرتكز التمدين الإسلامي على الدين وعلى كل ما تأثر بجمال وفصاحة القرآن من شعر ونثر، ويستلهم ترتيب وتنظيم العناصر المكونة للنسيج المعماري مبادئه من الأدب والفن الذي يوثر إشباع الروح على إشباع الجسد عامة، فكما تتوافق البيوت الشعرية مع أوزانها وقافيتها تتوافق البنايات والبيوت خاصة مع مفهوم المدينة الإسلامية التي تراعي توفير راحة الروح والجسد على السواء بتقريب المسجد والمنشآت الاقتصادية من السكان ومحاربة جميع أسباب الإرهاق النفسي والجسدي، وحتى على صعيد جزئيات الرسم في الزخرف الذي لا تنغلق أشكاله أبدا، وتخفي في هندسته اللامنتهى في رسوم سرمدية تعبر وترمز إلى دوام الله، ولا يعتبر الخط حدا لمضمون مجال مرسوم ولكن حركة تترك أثرا مثل أثر السفينة على الماء، كل ذلك في إطار توزيع معماري منظم متطابق مع المجال ومع حاجيات السكان المادية والثقافية ومع ترتيب تدريجي محكم داخل فضاء المدينة، وإن الفن المعماري بالمدينة القديمة مجموعة رائعة من الإنجازات الهندسية تجمع تجانس الحجارة والفسيفساء، وتدل المآثر التاريخية المحتفظ بها على مدى معرفة وعلم البنائين بقواعد المهنة وعلى سلامة ذوق المزينين وعلى ذكاء ودقة حركة الصانع التقليدي في الإنجاز[27]“.. 

ويظل المسجد مرآة الإسلام كما قال الفيلسوف روجيه جارودي، وظيفته الأساسية إيصال منطق الوحدة والإيمان، منطق الإله الواحد والمطلق، بأحسن الطرق إلى الناس، إيصال الانفعال والشغف بالدين والإيمان أولا ثم العلم ثانيا-بشكل جدلي- مما جعل كل المعمار والتمدين المراكشي ينبني على إيمان وعلم ومنطق في مجمله وفي جزئياته؛ لأن المسجد الجامع الذي يحوم حوله كل شيء على صعيد المدينة والأحياء  يضيء طريق المؤمن في حياته وفي إنجازاته (…) وتتجلى صورة الشعلة في المنارات والمئذنات، وخاصة منار جامع بن يوسف المكلف بتوقيت صلاتي الظهر والعصر، ومنار الكتبية المكلف بالإعلان عن دخول صلاتي المغرب والعشاء ومنار الضريح العباسي الذي اختص بإعلان ذهاب الليل بظلامه وعن إقبال النهار بنوره وضيائه بدخول وقت الصبح. هذه المئذنات هي التي تتوجه إليها أنظار المؤذنين كل واحدة في الوقت المخصص لها لأخذ الإذن بنداء المسلمين إلى بيوت الله…

وفي نطاق الرمز إلى نور الله اتخذت المنارات الثلاث المذكورة مظهرا ضعيف الزخرفة والتزيين، جمالها في بياضها وفي رشاقتها وهيبتها (..) فبنيتها المعمارية وزينتها الخفية التي توحي بنمط هندسي يجعل الحجارة ترمز إلى التسبيح لله، كما تخلق جميع الأسباب لعكس النور وتوضيح الرؤيا بالليل بوضع جامور على أعلى نقطة في البناء، ولهذا العنصر في تزيين الصومعة فائدة مادية تحمي الصومعة من شحنات الرعد الكهربائية بشكله المتكون من ثلاث كويرات نحاسية مملوءة بالملح ينقص حجمها تصاعديا ويعلوها قضيب حاد الرأس، مما يدل على أن مخطط أو مهندس هذا البناء المعماري كان صوفيا قبل أن يكون مهنيا[28].

إن لكل ما ينجز أو يخطط المدينة الإسلامية الحرفية مبرر ديني، وتبقى أهم هواجس التمدين الإسلامي توفير مناخ اجتماعي يخفت فيه التوتر بين الناس وتحقيق توازن بيئي داخل النسيج الحضري والمجال الضاحوي”؛ وقد جمع الباحث لكديم الصوصي في جدول (ص91-92) الأهداف المعمارية في المدينة الإسلامية والوسائل المتخذة لتحقيق المقاصد الكونية الاستخلافية للتمدين الإسلامي؛ من ذلك مثلا أن التعبير عن وحدانية الله يرمز له بهندسة الصوامع والمساجد، وتوفير أسباب السكينة ومحاربة عوامل الإزعاج يتوسل إليه بإنشاء محاربة التلوث بجميع أشكاله بإنشاء حزام أخضر حول المباني والأحياء الصناعية لامتصاص الغازات المضرة والروائح الكريهة الناتجة عن ممارسة الحرف، وتخفيض كلفة الحياة بالمدينة يتحقق عبر توفير الماء مجانا بالسقايات وجعل ثمن الاستحمام رمزيا، وتكلف نظام الأوقاف بالمصاريف الحضرية ذات الصبغة الاجتماعية، وتلطيف المناخ يتحقق بالتكثير من نقط الماء ومن الأغراس ومن الخضرة النباتية داخل النسيج الحضري لرفع رطوبة الهواء، ولتخفيض المدى الحراري اليومي بغية تسهيل التنفس في الفصول الحارة وتقليص ما أمكن المساحات المعرضة للتشميس وبتضييق عرض الدروب وبتغطية بعض أجزائها بالصابات حتى يحدث تيار هوائي منعش في الصيف، أما مقصد الاقتصاد في كل شيء فيتحقق في أحد جوانبه في “ترتيب التعاضديات الحرفية في المجال على طول محورين طرقيين متعامدين بشكل يختصر المسافات الفاصلة بين الفاعلين في الإنتاج الحرفي ويخلق تكاملا بين الحنطات (أزبال الدباغة مادة أولية لطهي الفخار)، أما إدماج الجامعة في المحيط الاقتصادي فيتجلى في النموذج التطبيقي المراكشي في وجود جامعة بن يوسف بشكل يمكن الطلبة من الاحتكاك بالواقع الاقتصادي وبالمنتجين كما يسمح للحرفيين من الإنصات لدروس الكراسي العلمية والاستفادة منها، ويجسد نموذج العمران المراكشي أقصى مستويات “فلسفة العمارة” حينما ندرك أن رفع معنويات المؤمن أمام الموت يتحقق في بعده المعماري في “اتخاذ الأضرحة مكانا للتأمل والاستراحة النفسية للأحياء مع روح الأموات والتعود على عدم خشية الموت، كما أن توطين المقابر ضمن النسيج العمراني للأحياء السكنية وعدم عزلها بعيدا عن الناس، يحقق هذا المقصد الذي يجعل الموت جزءا من الحياة، وهذا أرقى مستويات الانسجام الوجودي، وقد تجسد تاريخيا في النسيج الحضاري والعمراني لمدينة مراكش..

خاتمة واستشراف

وبعد، فتحقيق فلسفة الاستخلاف ومقاصد العمران يستدعي إعادة اكتشاف القاعدة الاجتماعية والرياضية والطبيعية للتقدم العلمي؛ أي للتقدم الإنساني، ولابد لنا من إعادة اكتشافها إذا أردنا الحرية، وإذا أردنا الحقائق الكونية. لابد من التحول من تغييب الكون الاجتماعي أو الطبيعي إلى ملاحظته وتجربته وقياسه رياضيا لا قياسا كلاميا؛ وإذا كان الإنسان كوناً أصغر يعيش في كونٍ أكبر، وأنه بتطلعه إلى ما وراء الأرض، وما وراء الطبيعة، وما وراء العالم، يسعى إلى الانخراط الجدلي في المنظومة الكونية، فإن سلاح هذا الانخراط الأبدي هو امتلاك ناصية العلم وسنن الطبيعة.

لكننا نجد اليوم أنفسنا متفرجين لا مشاركين في عملية اكتشاف الكونين الأكبر والأصغر، ونجد أن الذين اقتبسوا منا رؤانا ومعارفنا وعلومنا، وفق منطق التدافع والتواصل الإنساني، أصبحوا هم الذين يضعون هذه الرؤى والمعارف والعلوم موضع تطبيق، وأصبح لهم في كل لحظة اكتشاف جديد.

إنه قد تكون لهذا الاكتشاف الغربي شجرة نسب تعود به إلى جذوره الأولى في شرقنا الأدنى القديم وفي مواطننا العربية الوسطوية، لكننا ما نزال نحن مع هذه الجذور العريقة للشجرة في باطن الأرض، بينما بلغت فروعها المخضرة مع سوانا كواكب الفضاء السيارة[29]..

إن الذي يكتسب أصول الشجرة في تاريخه وحضارته وكيانه قادر على إبداع جديد، لكن فقط عبر تجديد العلم ومعانقة القراءة وإصلاح مناهج التعليم وإعادة الاعتبار لعلمي التاريخ والجغرافيا والربط بينهما، وتعميم الدرس الفلسفي، وإلغاء الفصام، المفقر والمقفر، بين العلوم الطبيعية والإنسانية[30]

لقد جدد الوحي القرآني السياق الاعتقادي والقيمي والمعرفي وأعاد بناء الباراديغمات، وهذا التجديد هو الذي أتاح لعلماء المسلمين عبر التجربة التاريخية للأمة، أن يمضي كل منهم في إبداعات علمية وفلسفية، معتمدا منهج المعرفة القرآنية، فأصبحوا بذلك أعلاما تهتدي بهم البشرية، وأصبحوا متخلقين بأخلاق الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقدر الطاقة الإنسانية المجددة للعلم والقيم، وأصبح الكشف عن الإبداع الكامن في الكون ضالة كل عالم ومفكر من مفكري الإسلام…

إن هذا الموقف المنهجي المتمثل في تجديد القيم عبر جدلية الغيب والإنسان والطبيعة هو الذي أتاح لفلسفة الإسلام أن تنشئ ثقافة إنسانية الأبعاد وإلهية الروح، وهذا الذي سيمكنه من تجديد التجربة على وجه أكمل وأروع؛ فالمثل الأعلى الإلهي، هو مثل أعلى تقترب منه تجارب ومراحل وأطوار إنسانية في مسيرة الإبداع الإنساني، ويظل هذا المثل حافزا أزليا لخلق جديد نقتدي فيه بإبداع الله في الكون، ونتوسل في هذا الخلق الكوني بمناهج الحس والعقل والإلهام، مهتدين في كل ذلك بنور الوحي بتوفيق من الله…

إن تجديد القيم التي حكمت العمران الاستخلافي هو أولا؛ تجديدٌ للمنهج لتقويم المسيرة الإنسانية على هدى من الله؛ ولا يمكن الفصل من منظور فلسفة الإسلام بين تجديد القيم وتجديد العلوم وفق ما أثبته الله تعالى في سورة العلق: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم﴾ (العلق: 1-5).. قراءة بالله وقراءة مع الله باستعمال القلم الذي يخط ملامح الإبداع الكوني، في ربط جدلي بين الكون المسطور والكون المنثور وفق جدلية الغيب و الإنسان والكون، على اعتبار القرآن الكريم، المجيد، المكنون، معادلا موضوعيا لحركة الكون والوجود وفق فلسفة الاستخلاف؛ وإذا ما عاد هذا المبحث النبيل إلى جامعاتنا ومدارسنا ولقاءاتنا الثقافية، فإن هذا يعني استعادة الأمل في العودة إلى التأثير في العالم والإسهام، مرة أخرى، في مسيرة الحضارة[31].

لكن، من أجل استيعاب شامل لمقاصد العمران وفق منطق الاستخلاف وجب الإدراك أن “الاستعمار” بالمفهوم القرآني هو “حد الإنسان ذاته من حيث أن كيانه المادي والروحي هما عين عمارة الأرض والعالم تصورا وإنجازا وليست مجرد انتشار فعله فيهما كيفما اتفق، فحياته ذاتها تبادل طاقي مع الأرض… منها يخرج… وإليها يعود… وبها يتقوّم[32]“..

الهوامش


1. لكديم الصوصي مولاي إبراهيم: “الدين والتمدين” ضمن المدينة المغربية العتيقة، إشكاليات الحاضر وتحديات المستقبل، جامعة القاضي عياض مراكش،  2003: ص86.

2. سيف الدين عبد الفتاح، “التنمية، رؤية من منظور الفكر الإسلامي” جريدة “فجر الحرية” المصرية (18 فبراير 2011)..

3. عبد الرحمن العضراوي، “التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني” مجلة إسلامية المعرفة، عدد 50، يونيو 2008، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص186.

4. المرجع نفسه، ص188.

5. المرجع نفسه، ص189.

6. أبو يعرب المرزوقي، “وحدة المقدمة وبنيتها العميقة”، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 50، يونيو 2008، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص20.

7.  سيف  الدين عبد الفتاح: “التنمية، رؤية من منظور الفكر الإسلامي”، جريدة “فجر الحرية” المصرية عدد18 فبراير 2011.

8. المرجع نفسه.

9. أبو يعرب المرزوقي “وحدة المقدمة وبنيتها العميقة”، م، س، ص36.      

10. محمد أبو القاسم حاج حمد. جدلية الغيب والإنسان والطبيعة. درا الهادي. 2004، ص451.

11. سيف الدين عبد الفتاح: “التنمية، رؤية من منظور الفكر الإسلامي”، م، س. 

12. أبو يعرب المرزوقي “وحدة المقدمة وبنيتها العميقة”، م، س.

13. أبو يعرب المرزوقي “العولمة والكونية” مجلة التجديد، العدد 4، السنة الثانية،  غشت 1998، ص13.

14. أبو يعرب المرزوقي. الجلي في التفسير. الكتاب الأول 2، الدار المتوسطية للنشر. 2010، ص115-116.  

15. فيصل الحفيان، مقالة: “من ابن البيطار إلى الأنطاكي مساءلات لزمن غروب الفكر العلمي العربي”، ذكرها في كتاب التراث العلمي العربي: أسئلة للمستقبل ص64.

16. المرجع نفسه، ص64-65.

17. أنظر مجموعة الرسائل الكبرى. القاهرة، المطبعة الشرقية، 1324ﻫ، ج1/238…

18. فيصل الحفيان، مقالة: “من ابن البيطار إلى الأنطاكي مساءلات لزمن غروب الفكر العلمي العربي”، ذكرها في كتاب التراث العلمي العربي: أسئلة للمستقبل م، س، ص66.

19. أنظر جلال محمد عبد الوهاب: عوامل انهيار العلم. ذكره فيصل الحفيان في كتاب التراث العلمي العربي: أسئلة للمستقبل، ص68.

20. المرجع نفسه، ص69.

21. حسن صعب، تحديث العقل العربي دار العلم للملايين، ط2، 1982،.ص97-78.

22. محمد الناصري، المدينة العربية الإسلامية بين الأصالة والمساءلة، درس افتتاحي،  منشورات جامعة ابن زهر. أكادير: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الدروس الافتتاحية، 1996.  الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، 1998، ص10-13.

[23]. Zakaria Rhani, Jamal Bammi et Mohammed  Mouhiddine. Sainteté et écologie au Maroc: approche anthropologique. Revue de Géographie du Maroc.. N°1-2, volume 25, janvier 2009. p.207.

24. محمد جنبوبي. الأولياء في المغرب. 2004.مطبعة دار القرويين، ص 156

[25]. Zakaria rhani, Jamal Bammi et Mohammed Mouhiddine. Saintété et écologie au Maroc: essai anthropologique. Revue de Géographie du Maroc. N°1-2, volume 25, janvier 2009. P207.

[26]. El Boudrari Hassan. 1985. Quand les saints font les villes. Lecture anthropologique de la pratique sociale d’un saint marocain du XVIIème siècle. Annales ESC, 3, 489-508.

27. لكديم الصوصي مولاي إبراهيم، “الدين والتمدين، م، س، ص86-87.

28. المرجع نفسه، ص86-87.

29. حسن صعب، تحديث العقل العربي دار العلم للملايين، ط2، 1982، ص8.

30. جمال بامي، تجديد العلم، جريدة المساء (المغربية)،  عدد: 8-10-2011.

31. جمال بامي، تجديد القيم، جريدة المساء (المغربية)، عدد: 17-12-2011.

32. أبو يعرب المرزوقي. الجلي في التفسير، م، س، ص121.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق