مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مفهوم التدين

لعل اصطلاح الدين أو التدين قد بلغ من الوضوح والظهور المفهومي في التداول الفكري العام والخاص، ما يجعل الاستفهام عن دلالته من قبيل بيان الواضحات، الذي لا يخلو من التكلف، إذ لا يتحصل به علم ولا يندرئ به جهل، ومع ذلك فإن للمصطلح أبعادا تداولية واسعة تستحث النظر، وتحيي داعية الاستشكال من جديد، مما يجعل مسألة الوضوح والبداهة من الأمور النسبية أو الإضافية، وأن أمر التدين بقدر ما يستدعي لدى الناظر استحضار معنى الاجتهاد في الاتصاف بحقائق الدين و النزول في مراتبه، إذ هو مسماه ونعته، فإنه يقتضي كذلك اجتهادا في فهم حقيقته، وتعقب أحواله، وتبين أطواره ومراتبه، وإذ ذاك تنكشف للناظر حقائق عن التدين، بها يهتدي إلى استخلاص المبادئ والمعايير والمسالك المفيدة في تقويم التدين أصلا، ومقصدا، ووسيلة.

وإذا كان من المقرر مفهوميا أن الدين إجمالا هو عبارة عن «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال»[1]، فإن التدين إذا أطلق في سياق النظر والاستشكال، يراد به صفة كل اجتهاد يكون مسعاه تحصيل الاتصاف بالدين، باعتباره حقائق «أحكامية» و«حِكَمِية» منزلة من لدن الحكيم الخبير، بوساطة أنبيائه ورسله.

ومن ثم فمبنى الدين وأساسه على بيان وتقرير تبعية المخلوق للخالق اعتقادا واشتغالا، إذ التبعية الاعتقادية تقتضي من المكلف المخاطب بالدين التصديقَ بما دل عليه من قضايا وأخبار، مثلما تستوجب التبعية الاشتغالية منه العملَ بما تقرره مضامينه من قيم وأحكام.

إذا كان الدين على الوصف المشار إليه سابقا، فإن الإنسان في مقام التدين إنما خوطب بالدين؛ «لينفعل به في حياته انفعالا إراديا، فيصدق بما جاء به من بيان في شرح حقيقة الوجود، ومن ذلك معتقده، ويجري سلوكه على حسب ما جاءت به تعاليمه العملية، ومن ذلك يكون شرعه في واقع حياته، وهذا الانفعال بالدين، تصديقا عقليا وسلوكا عمليا، هو التدين، على معنى أنه تحمل الدين واتخاذه شرعة ومنهاجا، فالدين إذن هو التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف، والتدين هو الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم، وتكييف الحياة بحسبها في التصور والسلوك، وبحسب هذا التعريف فإن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين، إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني، وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما»[2].

وإن المتتبع لمعاني «الدين» في التداول الشرعي سرعان ما يتبين الحضور القوي لمعنيي الاعتقاد والاشتغال المقوِّمين للحقيقة الدينية، وأن الإنسان في مساره التديني ينحصر مسعاه في التحقق بالمقتضيات الاعتقادية والاشتغالية للدين، من خلال تحصيل الشعور الواعي بتبعيته للخالق عز وجل، وهو وعي مخصوص بتبعية مخصوصة تتحدد هويتها بمضامين الاعتقاد ومعايير الاشتغال المتضمنة في أحكام الوحي وحِكَمه.

وعليه، فالتدين هو الحقيقة الدينية وقد تشخصت في أرض السلوك والاكتساب، بعد أن كانت معطى مجردا متعاليا، بحيث يمكن القول إن التدين هو الإمكان التنزيلي لحقائق الدين، علما بأن الحقيقة الدينية تحتمل إمكانات تنزيلية واسعة، إذ تعد التجربة النبوية هي الممارسة النموذجية والتنزيل الأمثل لحقائق الدين، أما الإمكانات التنزيلية الأخرى فتندرج تحت تجربة التنزيل النبوي مشكلة سلما ترتيبيا بحسب قربها من الممارسة النموذجية أو بعدها عنها، آخذة في التنازل إلى الحد الذي إذا جاوزته خرجت عن مسمى التدين.

وفي هذا السياق لنا أن نستحضر الحديث الشهير في التداول الشرعي، والمتعلق بمراتب الدين، وهو حديث جبريل عليه السلام[3]، فمنه تنبعث للناظر بعض الاقتضاءات المفهومية لاصطلاح الدين ومن خلاله التدين:

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان». قال: ثم انطلق. فلبثت مليا، ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل؟»، قلت الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم»[4].

إن القراءة المتدبرة لمعاني هذا النص الحديثي الشريف كفيلة بإرشاد الدارس إلى تبين معالم الحقيقة الدينية بشكل عام، مثلما تفيد في استكناه معطيات الدين في صورة الوحي الخاتم أي دين الإسلام، فالدين، كما هو لائح من البيان النبوي، ذو«مقومات معنوية» تؤسس ماهيته، وبها يتشكل قوام التبعية الاعتقادية والاشتغالية لدى المتدين:

– فهناك المقوم الإسلامي؛

– وهناك المقوم الإيماني؛

– وهناك المقوم الإحساني.

أما المقوم الإسلامي، فله تعلق بحفظ الأوصاف الظاهرة للتكليف، بحيث يعد المتصف بها قائما بشرط الدخول في مسمى التدين بالإسلام، والإخلال بها إيذان بالخروج من ربقة التكليف إلى نقيضه.

وأما المقوم الإيماني، فله صلـة بحفظ الأوصاف الباطنـة للتكليف، بحيث يعد المتصف بها قائما بشرط العقد القلبي الزائد على مجرد العقد الظاهري، والإخلال به إخلال بما سلف اكتسابه في مرتبة الإسلام، ونقض بالتالـي لمشروعيـة التدين بالإسلام.[5]

وأما المقوم الإحساني، فمبناه على تمام الجمع بين ظاهر التكاليف وباطنها، مع تحصيل الإخلاص فيه، وتحقيق التعبد على مقتضى التكامل المفيد في ترسيخ تحقق المتدين بالتبعية الاعتقادية والاشتغالية المقومة للحقيقة الدينية. قال الحافظ ابن حجر مقررا معنى الإحسان: «وإحسان العبادة، الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله: «كأنك تراه»، أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله: «فإنه يراك»، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته».[6]

وقال الإمام النووي: «قوله ﷺ: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، هذا من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال ﷺ: اعبد الله في جميع أحوالك، كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال، للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك. وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص؛ احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته»[7].

الهوامش:


[1]– كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد بن علي الفاروقي الحنفي التهانوي، ص: 814، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى: 1996م. ويضيف التهانوي قائلا: «ويطلق علىكل ملّة كل نبي. وقد يخصّ بالإسلام كما قال الله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ (…).ويضاف إلى الله تعالى لصدوره عنه، وإلى النبي ﷺ لظهوره منه، وإلى الأمة لتدينهم وانقيادهم». نفسه، ص: 814.وهناك تعريفات أخرى للدين مقاربة لاصطلاح التهانوي منها تعريف ابن مسكويه: «إن الدين وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى». تهذيب الأخلاق، ص: 118، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.

[2]– فقه التدين فهما وتنزيلا، الدكتور عبد المجيد عمر النجار، ص:9-10. الطبعة: 2، 1995هـ-1416م، الزيتونة  للنشر والتوزيع.

[3]– الحديث أخرجه الإمام مسلم مطولاً في كتاب الإيمان من حديث عمر t، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، والترمذي في كتاب الإيمان، والنسائي في كتاب الإيمان والشرائع، وابن ماجة في المقدمة، وأخرجه الإمام أحمد مختصراً ومطولاً، والبغوي في شرح السنة، وابن حبان وغيرهم، وابن أبي شيبة عن ابن عمر، وروي الحديث من طريق أبي هريرة.وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب الإيمان، ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مختصراً.

[4]– قال الحافظ ابن حجر: «قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة، وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه «المصابيح» و «شرح السنة»، اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا. وقال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه». فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/154. دار الحديث، القاهرة، 1424هـ – 2004م.

[5]-جاء في فتح الباري ما نصه: «وفي رواية ابن القعقاع، بدأ بالإسلام؛ لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي». فتح الباري،1/145. ونقل النووي عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح قوله: «قوله ﷺ: الإسلام أن تشهد أن لا الله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، و توتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، و الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه له يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، و مقويات ومتممات وحافظات له (…) واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا، أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا». شرح النووي على == مسلم،1/185. تحقيق وتخريج وفهرسة: عصام الصبابطي، حازم محمد، عماد عامر. الطبعة الرابعة، 1422هـ – 2001م، دار الحديث، القاهرة.

[6]– فتح الباري، 1/148.

[7]– شرح النووي على صحيح مسلم،1/193.

Science

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق