وحدة الإحياءشذور

مع الشّاعر عبد الكريم الطبال من خلال ديوانه “كِتَاب الْعِنَايَةِ”-2

استكمالا للقراءة الماتعة التي خص بها الناقد سعيد ساجد الكرواني التجربة الإبداعية للشاعر عبد الكريم الطبال من خلال ديوانه “كتاب العناية” ندعو قراءنا الأعزاء لاستئناف الاغتراف من معين هذه المأدبة الجمالية.

7. مَوْضُوعَةُ الْبَحْرِ

سَبِّحْهُ مِثْلَ الرَّعْدِ

مِثْلَ النُّورِ

مِثْلَ الْعُشْبِ

مِثْلَ الْفَاخِتَاتِ.

 (تَوَسُّلٌ)[1]

فسبحان من ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾ (الرعد: 14). وسبحان من ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ والاَرْضِ﴾ (الحشر: 24).

ويا لسعادة الإنسان المزدوج التكوين إذا جاء ربه، عز وجل، طوعا لا كرها، فيرجّع مع الطير تسبيحها، وقد خص الشاعر الفاختة بالذكر وهي ضرب من الحمام المطوق، واحدة الفواخت، مشتقة من الفخت الذي هو ظل القمر:

فَأَنْتَ مُنْذُ الْآنَ

قَبْلَ الْآنَ.

 (تَوَسُّلٌ)[2]

فالحمد لله في الأولى والآخرة، والحمد لله من قبل ومن بعد، فهو الذي أنشأ النشأة الأولى على الفطرة، وهو منشئ الآخرة:

ـ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 29).

ـ ﴿وَإِذْ اََخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاَتِهِمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمُ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الاَعراف: 172).

ـ “اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ[3].”

ـ ﴿هَلَ اَتَى عَلَى الاِنسَانِ حَينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يُكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً. اِنَّا خَلَقْنَا الاِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. اِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وإِمَّا كَفُوراً﴾ (الاِنسان: 1-3).

ـ ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولاَ تُطِعْ مِنْهُمُ ءَاثِماً اَوْ كَفُوراً. واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلاً. ومِنَ اليْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ (الاِنسان: 24-26).

وقد علم الله تعالى، وهو اللطيف الخبير، ما كان وما سيكون، وما لا يكون إذا كان كيف كان سيكون:

أَنْتَ قَطْرٌ

فِي بِحَارِ اللَّهِ

تَسْبَحُ مَا تَشَاءْ

 (تَوَسُّلٌ)[4]

نلحظ الجناس الخفي بين السباحة والتسبيح، غير أن البحار هاهنا لابد أن تكون متعددة المشارب، ويعجبني أن يتقاطع هذا المقطع مع هذين القصيدتين:

وَقَفْتُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ يَوْماً *** فَقُلْتُ أَيَا بَحْرُ مَا أَجْـمَلَكْ!

    فَقَـالَ نَعَـمْ وعَظِـيمٌ أَنَـا *** ولَكِنَّنِي نُقْـطَةٌ فِي الْفَـلَكْ[5]

هنالك رسمها صاحبها على نظام التفعيلة المرسلة، وأبيت إلا أن أرسمها على نظام الشطرين، وقد استدرجنا الشاعر ليكون له ما أراد من تدبر واكتشاف.

قَالَ لِلْبَحْرِ صَبَاحَا

هَلْ بِوُسْعِي أَنْ أَكُونَكْ؟!

رَجَّعَ الْبَحْرُ رَوَاحَا

رُبَّمَا أَعْمَقَ مِنِّي

غَيْرَ أَنِّي

نَاصِحٌ لَكْ

أَنْ تَكُونَكْ[6]!

وقبل سرد أنواع البحار التي ينهل منها الشاعر عبد الكريم الطبال نبقى بعض الوقت مع الجهات حيث يقول:

وَسَلْهُ عَنِ الاِسْمِ

مِنْ أَيْنَ جَاءَ

وَسَلْهُ

عَنِ الْجِهَةِ الْمُقْبِلَةْ

 (وَصِيَّةٌ)[7]

أي من أي جهة جاء، وما الجهة المقبلة؟!

وَلاَ تَخَفْ

مِنْ أَيِّ خَلْقٍ جَارِحٍ

يَلْقَاكَ

فِي أَيِّ الْجِهَاتْ

 (قُدْرَةٌ)[8]

أما البحور فعدتها سبعة ولا شك، كما يستشف من كتاب الله تعالى في ذينك الآيتين الصنوتين:

ـ ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 104).

ـ ﴿وَلَوَ اَنَّمَا فِي الاَرْضِ مِن شَجَرَةٍ اَقْلاَمٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ (لقمان: 26).

وأما هذا الاستدعاء فيتمثل في قول الشاعر المتبتل:

يَحْضُرُ الْبَحْرُ الْكِبيرُ

يُطِلُّ مِنْكَ الْوَجْهُ

تِلْوَ الْوَجْهِ.

 (ظُهُورٌ)[9]

هُوَ أَعْمَقُ مِنْ سِرٍّ فِي بَحْرٍ مَحْجُوبْ.

 (حَرْفُ الْأَلِفِ)[10]

لَكَ يَا نُوَيْرِسُ

نَجْمَةٌ لَمْ تَنْطَفِئْ

فِي الْبَحْرْ.

 (مِنَّةٌ)[11]

لَكَ يَا سَمَنْدَلُ

مَا تَشَاءُ

مِنَ الْمَجَرَّاتِ الْبِعَادِ

فَلاَ تَرُمْ

غَيْرَ الَّذِي فِي الطُّورِ

أَوْ فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ

أَوْ فِيمَا لاَ تَسْتَطِيعُ

عَلَيْهِ صَبْرَا

يَا أَخاً لِلْمُسْتَحِيلِ

وَلِلسَّمَوَاتِ الْخَفِيَّةِ

وَالْبِحَارِ السَّبْعِ

وَالنَّبْعِ الْقَصِيِّ.

 (قُدْرَةٌ)[12]

8. الْمَوْكِبُ الْكَرِيمُ والْبَحْرُ

سبقت الإشارة قبل قليل إلى البحور السبعة، أما المستحيل فلا مستحيل يتمثل في النار التي فقدت خاصية الإحراق بأمر الله تعالى لتكون بردا وسلاما على سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، وفيما لم يحط به خبرا سيدنا موسى، عليه السلام، ولا يستعصي أمره على من آتاه الله من لدنه علما، كما أن السمندل طائر غريب يثبت القاعدة ولا ينفيها. أما موسى والخضر، عليهما السلام، فقد ركبا في السفينة فخرقها الخضر، وقد كانت للبحارة المساكين لتنجو من قبضة الملك المغتصب:

ـ ﴿اَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنَ اَعِيبَهَا وكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَاخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف: 78).

9. مُوسَى والْخَضِرُ فِي الْبَحْرِ

فيما يخص الشكل الفني، فإن الشاعر يؤمن بأن القصيدة بصفة عامة بنية مركبة من حركة واحدة، حيث تبتدئ القصيدة وتنتهي متواصلة متلاحمة، وحتى حينما تكون من حركتين مثلا، فبعد انتهاء الحركة الأولى يكون ثمة سكون أو صمت، ذلك ما تعبر عنه النقط أو ما يسمى ببلاغة الحذف عند الجاحظ لتبتدئ بعد ذلك الحركة الثانية، وأمثل بقصيدة واحدة:

عَرَبَةٌ

تَجْرِي بِنَا إِلَى الْوَرَاءْ

وَالْحُوذِيُّ الْمَجْنُونُ

وَحْدَهُ

تَجْرِي بِهِ إِلَى الْأَمَامْ

هُوَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا الْهَذَيَانْ

فَصَدِّقُوهْ.

(حَقِيقَةٌ)[13]

فهي مركبة من حركتين:

ـ الحركة الأولى: سرد لحكاية غير معقولة.

ـ وبعد انتهاء هاته الحكاية العجيبة، تنبثق الحركة الثانية بعد سؤال مفترض: من قال هذا؟!

هُوَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا الْهَذَيَانْ

فَصَدِّقُوهْ.

 (حَقِيقَةٌ)[14]

لذا كانت النقط ضرورية بين الحركتين أو أثناء الصمت والتأمل في الحكاية، ويبقى ربما أن يسأل سائل ما حكاية العربة والمجنون والأمام والوراء المتقابلين؟!

فيشار إلى قول الشاعر:

بَيْنَ طُلُوعٍ ونُزُولْ

تَخَـبَّلَتِ الْغُزُولْ[15].

فالسيد الخضر كان مجنونا في نظر موسى عليهما السلام، وكان الخضر في الأمام  وموسى كان في الوراء (…).

10. يُونُسُ وَالْبَحْرُ

لَكَ يَا غَرِيقٌ

مَا تَشَاءُ

مِنَ الضِّفَافِ

فَعَارِكِ الْحِيتَانَ

وَالْأَشْبَاحَ

لاَ تَخْشَ الْمَسَاءَ

إِذَا أَتَى

بِصُقُورِهِ السَّوْدَاءِ

أَوْ بِالْمَرْكَبَاتِ الصُّفْرِ

أَوْ بِالنَّافِثَاتِ

الزُّرْقِ

فَابْدَأْ بِاسْمِ اللَّهِ

فِي طَيِّ الْأَقَاصِي

فِي قِتَالِ اللَّيْلِ

تَنْبَلِجُ الطَّرِيقُ

إِلَى الضِّفَافْ[16]

ولقد سبقت هذه الرواية التي جاءت في الأعمال الكاملة رواية بمجلة المشكاة كما أومأنا قبل وهي:

فَابْدَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

فِي فَلاَةِ الْمَوْجِ

فِي ظُلْمَةِ الْأَعْمَاقِ

تَنْبَلِجُ الطَّرِيقُ

إِلَى الضِّفَافْ.

 (نَجَاةٌ)[17]

ولنا ملحوظتان: نجد في المقطع الأول لفظة الربوبية وفي الثاني الألوهية والمعنى يختلف على كل حال، كذا تمنيت أن يشكل النص اعتمادا على الشرطية في المستوى التركيبي لأن فعل الأمر (ابدأْ) يستدعي جواب الشرط (تنبلجْ) وكان الكسر لالتقاء الساكنين كما هو معروف:

 فَابْدَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

فِي فَلاَةِ الْمَوْجِ

فِي ظُلْمَةِ الْأَعْمَاقِ

تَنْبلِجِ الطَّرِيقُ

إِلَى الضِّفَافْ.

هنا تحضر قصة سيدنا يونس بن متى، عليه السلام، صاحب الحوت، كما تؤكد عنونة القصيدة: “نجاة” فضلا عن موضوعها الذي أحسن شاعرنا التعامل معه بامتياز وتألق، إذا شئنا الحقيقة، ومع القَصص القرآني المذكور في “كِتَاب الْعِنَايَةِ” يحضر هذا الأمر في قلب الديوان وقالبه، وقد سبق أن أحلنا على مقام النجاة في قصيدة “خارج السرب”، وحديث العمار والعراء في تقابلهما:

ـ ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافات: 143-144).

ـ ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (القلم: 48-50).

حتى إذا تقابل الموج بالفلاة، ليتولد عن التضاد هذا المعنى الجديد، الذي يوحي بالنجاة من الخطر الداهم، فإن سورة القلم تعتبر ثاني ما أنزل من القرآن الكريم بعد “اقرأ” باسم ربك الذي خلق:

اِقْرَإِ الْآيَاتِ

كَيْ تَنْسَى

كِتَابَ الْوَقْتِ

وَالْأَنْسَابِ

وَالْأَوْطَانِ

اِقْرَأْ

فَالنَّشِيدُ

هُوَ الْجَنَاحُ عَلَى السَّحَابِ

هُوَ السِّرَاجُ عَلَى الْجِبَاهِ

هُوَ الشَّرَابُ الْعَذْبُ

فِي عَيْنِ الْيَقِينْ

 (مَعْرِفَةٌ)[18]

ما زلنا مع موضوعة البحر في تشكلاتها المختلفة، من حيث أعطت للديوان عمقه الفني والموضوعي، في رمزية شفيفة جميلة:

يَا دُرَّةً فِي الْبَحْرْ

تَشِعُّ فِي الْبِطَاحْ.

 (وِصَالٌ)[19]

يَا مَوْلاَتِي

تَفْصِلُنِي عَنْكِ بِحَارٌ وَاقِفَةٌ

وَلَيَالٍ كَالْأَبْرَاجْ

وَعَمُودٌ مِنْ دَمْعْ.

 (حَرْفُ الْأَلِفِ)[20]

هنا برهن الشاعر على أنه بارع في توظيف القرآن الكريم تصريحا وتلميحا، فناشئة الليل غرفا من مداد أبحر العشق الشبعة، ذو شأن قويم، الشيء نفسه بالنسبة للحديث النبوي الشريف، والشعر القديم والحديث خاصة الأندلسي، ولا يغلق الباب في وجه الأساطير، والخرافات حتى، إلا أنه، والحق يقال، يستثمرها استثمارا فنيا، وذلك بنقلها من السلب إلى الإيجاب، ومن الإيجاب إلى السلب أحيانا أخرى حسب الحاجة والسياق؛ هنالك حيث كان القارئ ينتظر طلب الشفاء، إذا بالشاعر يطلب المزيد من “المس” ليتخبط في مملكة القصيد.

أما قصيدة “قال الراوي” المتألفة بحق، في أربعة مقاطع، بل قصائد، فهي من نفس المشكاة، إلا أنها معمورة بالحكم والعبر والفن بما زادها الإسناد البلاغي العذب، وحسن التخلص، والقلب البلاغي، ودائما في أجواء البحر:

رُبَّ شَيْخٍ أَلْمَعِيٍّ

يَشْهَدُ اللَّيْلَ صَبَاحَا

وَالْجِبَالَ الشُّمَّ سَهْلاً

وسُكُونَ الْبَحْرِ رِيحَا

لَمْ يَنَلْ مِنْ عِلْمِ قَلْبِي

فَيَرَى فِي الْمَاءِ رَاحَا

وَيَرَى فِي الْكَأْسِ كَوْناً

أَوْ يَرَى فِيهِ جَنَاحَا

فَدَمِي سِفْرٌ خَفِيٌّ

فِيهِ كُلُّ السِّرِّ لاَحَا.

 (كَلاَمُ قَرَنْفُلَةٍ)[21]

11. جَوْلاَتٌ فِي حِوَارِ النُّصُوصِ

من هنا نستسلم للحوارية الفنية التي نستهلها بقول الشاعر:

يَا مَوْلاَتِي

هَلْ أَقْدِرُ

أَنْ أَرْسُمَ مَنْ يَبْدَأُ فِي قَاعِ الصَّوْتِ

وَيَمْتَدَّ إِلَى سَطْحِ الصَّمْتْ

مَرْفُوعاً بَيْنَ الشَّهْوَةِ والصَّحْوَةِ

بَيْنَ الطَّالِبِ والْمَطْلُوبْ؟!

 (حَرْفُ الْأَلِفِ)[22]

حيث إن هذه الألفاظ الصوفية من شهوة وصحوة، تعطي للنص المعنى الروحي الرطب الشفيف، الذي يأخذ بلب القارئ والناقد الذواقة؛ مما يمكن أن نصطلح عليه بالتذاذ المتن.

أما الحقل الذي نشتغل عليه الآن، فهو الامتياح الشاعريّ من النص القرآني يأتي بعده الحديثي ثم بعد ذلك ما أتيح من نصوص شعرية وغيرها:

ـ ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَّخْلُقُوا ذُبَاباً ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وإِن يَّسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 71-72).

بَيْنَ هَذَا الْعِمَارِ

وَهَذَا الْعَرَاءِ

سَحَابَتُهُ

وَحَدِيقَتُهُ

وَسَمَاءٌ مُطَرَّزَةٌ

بِالْحَمَامِ

وَأُنْمُلَةٌ مِنْ بَيَاضٍ

تُشِيرُ إِلَى الْبَحْرِ

أَنْ يَسْتَكِينَ

وَأَنْ يَتَقَدَّمَ

كَأْساً إِلَيْهِ

وَرَائِحَةً لِقَمِيصٍ

عَزِيزٍ بَعِيدْ

وَتَلْوِيحَةً مِنْ أَحِبَّتِهِ

الْغَابِرِينَ هُنَا

فِي الشَّغَافْ.

 (خَارِج السِّرْبِ)[23]

ـ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَاتِ بَصِيراً واتُونِي بَأَهْلِكُمُ أَجْمَعِينَ. ولَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمُ إِنِّيَ لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ. قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قَالَ أَلَمَ اَقُل لَّكُمُ إِنِّيَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 93-96).

للشاعر تقنيات أسلوبية جميلة تلح عليه في صياغة أكثر الموضوعات اقترابا من الشعر، متلبسة الإبداع والإنشاء المتفرد، الذي يميز صاحبه في فن القول، وإليك بعض الأمثلة:

رُبَّ رَكْبٍ قَدْ أَنَاخُوا عِنْدَنَا

يَشْرُبُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الزُّلاَلْ

عَصَفَ الدَّهْرُ بِهِمْ فَانْقَرَضُوا

وَكَذَاكَ الدَّهْرُ حَالاً بَعْدَ حَالْ

 (كَلاَمُ شَجَرَةٍ)/قَالَ الرَّاوِي[24]

ـ ﴿وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (ءال عمران: 140).

فَتَهَجَّوْنِي غُدُوّاً

وَتَمَلَّوْنِي رَوَاحَا.

 (كَلاَمُ قَرَنْفُلَةٍ)/قَالَ الرَّاوِي[25]

ـ ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والاَصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَكَاةِ، يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والاَبْصَارُ﴾ (النور: 36).

وفي هذه القصيدة تمثيل على محاورة التراث الذي يتجاوز في الزمن إلى العصر الجاهلي، لينطلق إلى آفاق جديدة، وضفاف بعيدة، تنسجم مع الرؤية التي تنتظم قصائد الديوان في جمعها بين عالمي الغيب والشهادة.

انطلق الشاعر من تلك المحاورة التي جمعت عدي بن زيد العبادي، والنعمان بن المنذر لنستمع إلى ما قالته الشجرة، وما قالته المقبرة، في تشخيص بلاغي جميل، ثم بعد ذلك يصبح الشاعر طرفا هاما في الموضوع، حتى ليصبح جزءًا من الحوار الدائر، مع تكسر أبعاد الزمان والمكان والأشياء، حين يجعلنا نستمع إلى كلام قرنفلة ثم إلى كلام جدول.

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنه ينطبق على الشاعر عبد الكريم الطبال ما قيل عن عدي بن زيد من أنه في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم؛ وقد قال شيخ المعرة وحكيمها:

وَسُهَيْلٌ كَوَجْنَةِ الْمُحِبِّ فِي اللَّوْنِ     وَقَلْبِ الْمُحِـبِّ فِي الْخَـفَقَانِ[26]

ويضيف الشاعر بذات السياق:

لَكَ يَا سَمَنْدَلُ

مَا تَشَاءُ

مِنَ الْمَجَرَّاتِ الْبِعَادِ

 (قُدْرَةٌ)[27]

ذلك بأن الملك القدير المقتدر سبحانه وتعالى قال: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيَيْدٍ، وإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: 47)، فسبحان الواسع العليم، من هنا لا يجمل بهذا الطائر الخارق أن يقنع بالدون، لأجل ذلك ترى الشاعر يوصيه:

فَلاَ تَرُمْ

غَيْرَ الَّذِي فِي الطُّورِ

أَوْ فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ

أَوْ فِيمَا لاَ تَسْتَطِيعُ

عَلَيْهِ صَبْرَا

 (قُدْرَةٌ)[28]

فالله تعالى قدير أن يمدك حسب علو همتك وطموحك، أما بلوغ المرام فقد لا يكون بالكمال والتمام، كما كان الشأن بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.

ويتسرب في شعر الشاعر أعلام الحقيقة، وشهود النور، إلى كتاب العناية بأسمائهم أو بصفاتهم أو بإشاراتهم، في حذق باد، وهو الماهر الخِرِّيت في اختيار ما ينسجم مع مذهبه الشعري، ويأتلف مع تصوره الفني.

إنه شعر البصيرة، وليس شعر البصر، ذلك بما يدعو إليه من مكابدة قصد المشاهدة، فالوردة الضوئية التي تحدثنا عنها قبل:

هِيَ فِي سِيَاجِ الْقَلْبِ

لاَ تَذْوِي

إِذَا جَاءَ الْخَرِيفُ

تَمُوجُ مِثْلَ السَّلْسَبِيلِ

كَأَنَّهَا فِي النَّهْرِ…

 (بَصِيرَةٌ)[29]

قريبة على بعد، وبعيدة على قرب، فهي إذاً حاضرة غائبة، لا تسلم أريجها وهفيفها، إلا للعاشقين المتوَّجين بنار المكابدة؛ ونور الاحتراق.

والمعرفة التي يحظى بها السالك هي:

الشَّرَابُ الْعَذْبُ

فِي عَيْنِ الْيَقِينْ.

 (مَعْرِفَةٌ)[30]

ولا سبيل إليها، إلا بالدخول في مملكة الرقائق، والتجرد من أوهاق الشهوة الطينية، ومن شيمة ذلك أن يجلي شمس الحقائق، ويتم الظهور حتى:

لاَ يَبْقَى وَرَاءَ الشَّمْسِ

إِلاَّ غَيْمَةٌ بَيْضَاءُ

شَامِلَةٌ

لِأَعْرَاقِ الْفُصُولِ

وَمَاءِ هَذَا الْكَوْنِ

وَالطِّينِ الْبَعِيدْ.

 (ظُهُورٌ)[31]

ولا ريب أن في ابتعاد الطين نزوعا إلى الروح في رفرفتها العليا في السمو، والقرب من ﴿الذِي خَلَقَ فَسَوَّى. والذِي قَدَّرَ فَهَدَى. والذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ (الاَعلى: 2-4). وترمز لفظة الماء إلى الحياة بكل آمالها وخيرها.

حتى إذا كان الشعر خروجا عن المألوف، فإن من شأن الانزياح أو العدول أن يزيدنا اقترابا من الحقيقة العليا، فنميز بين الممكن والمحال، وبين التطابق والتباين، وبين الضد والنقيض، أو بين النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وبين الضدين يرتفعان ولا يجتمعان، إذا ما استفدنا من المناطقة، فنفهم آنذاك كيف يصير الغروب في الشروق، أوضح المسالك إلى مملكة النور الأزلية:

لَكَ يَا نُوَيْرِسٌ

نَجْمَةٌ

لَمْ تَنْطَفِئْ

فِي الْبَحْرِ

فَاغْرُبْ فِي الشُّرُوقِ

وَلاَ تَخَفْ

مِنْ غَشْيَةٍ لِلنُّورِ

أَوْ مِنْ رَجْفَةٍ لِلْبَرْقِ

أَوْ مِنْ قَاتِلٍ

يُخْفِي الْكِنَانَةَ

خَلْفَ مَوْجٍ

أَوْ ضَبَابٍ

أَوْ رِمَالْ.

(مِنَّةٌ)[32]

 ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظاً وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف: 64). وترى الشاعر يصر على صرف الخوف، وما يتبعه من وقائع، شريطة تقديم هذا الخوف والوجه لصاحب الأمر والنهي سبحانه، فهو وحده القمين أن ينجي ويحرس ويحفظ ويكلأ.

وفي موكب الطيور يحضر الشاعر طائرا يسبَح في الملكوت ويسبِّح بحمد ربه، جل جلاله، حيث يرجّع مع النورس الجميل والسمندل الغريب الذي لا يشيخ كالوردة التي لا تذوي، بل حين يشيخ يقذف بنفسه في النار ليرجع إليه الشباب، ولا يحترق، وكحرف الألف ذلك الطائر الأزلي الذي كان، وما يزال، سيد الحروف، يخترق الدائرة وتصير له الحروف خدما.

وشتان ما بين النار التي ضربت عليها العادة سرادق الرهبة، وبين تلك النار المباركة التي يسعى الشاعر أن يلتمس منها قبسا، أو يجد عليها هدى كنار المكلم إذا استوحينا ألفاظ بن عربي الناهل من معين القرآن الكريم.

إنها النار التي آنسها كليم الله تعالى جانب الطور، وهي نار الخليل المأمورة أن تكون بحرفين ونقطة: كُنْ: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الاَنبياء: 69). وهي نار الخضر اللدنية التي تجعل المستحيل ممكنا والغريب مألوفا، ما دام خاضعا للذي ملك الجهات؛ لأنه خالقها جميعا:

لَكَ يَا سَمَنْدَلٌ

مَا تَشَاءُ

مِنَ الْمَجَرَّاتِ الْبِعَادِ

فَلاَ تَرُمْ

غَيْرَ الَّذِي فِي الطُّورِ

أَوْ فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ

أَوْ فِيمَا لاَ تَسْتَطِيعُ

عَلَيْهِ صَبْراً

يَا أَخاً لِلْمُسْتَحِيلْ.

 (قُدْرَةٌ)[33]

هذه الروح المشدودة إلى مسيرة الأنبياء والربانيين، يصحبها هذا الاغتراف من القرآن الكريم صورا وتعبيرا ومعجما.

ففي هذا المقطع لا تخطئ العين قول الله تبارك وتعالى:

ـ ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ (الكهف: 66).

ـ ﴿قَالَ أَلَمَ اَقُلِ اِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً﴾ (الكهف: 71).

ـ ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 77).

ـ ﴿ذَلِكَ تَاوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 81).

وتلك النار التي يتحدث الشاعر إنما استمد حقيقتها من القرآن الكريم.

وفي قول الشاعر:

وَجِّهْ كُلَّ وَجْهِكَ

لِلَّذِي خَلَقَ الْجِهَاتِ

سَبِّحْهُ مِثْلَ الرَّعْدِ

مِثْلَ النُّورِ

مِثْلَ الْعُشْبْ

مِثْلَ الْفَاخِتَاتِ.

 (تَوَسُّلٌ)[34]

ـ ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والاَرْضَ حَنِيفاً﴾ (الاَنعام: 80).

ـ ﴿ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾ (الرعد: 14).

ـ ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ اِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمُ﴾ (الاِسراء: 44).

وحين يقول الشاعر:

لَكِ يَا هُيُولَى

مَا تَشَاءُ

مِنَ الصَّحَائِفِ

فَاسْتَقِمْ

فِي وَرْدَةٍ

أَوْ بَاشِقٍ

يَهْمِي عَلَيْكَ الْحَرْفُ

مِنْ لَوْحٍ خَفِيٍّ…

 (مَدَدٌ)[35].

فإن صيغة اللفظ الأخير تستدعي قول الله جل جلاله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود: 112). وهو الاستدعاء الذي يتجدد في مرة أخرى:

هَلْ أَقْدِرُ أَنْ أَرْسُمَ

مَنْ يَبْدَأُ فِي قَاعِ الصَّوْتِ

وَيَمْتَدُّ إِلَى سَطْحِ الصَّمْتْ

مَرْفُوعاً بَيْنَ الشَّهْوَةِ والصَّحْوَةِ

بَيْنَ الطَّالِبِ والْمَطْلُوبْ

 (حَرْفُ الْأَلِفِِ)[36]

بعد تقابل الصوت والصمت في جناس ناقص، وبين الشهوة والصحوة، وبين الطالب والمطلوب، ننصت إلى قوله جل جلاله:

ـ ﴿وَإِن يَّسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطلوب﴾ (الحج: 71).

وقد يحدث ذلك الاستدعاء عن طريق اللمح والرمز والإشارة:

تُشِيرُ إِلَى الْبَحْرِ

أَنْ يَسْتَكِينَ

وَأَنْ يَتَقَدَّمَ

كَأْساً إِلَيْهِ

وَرَائِحَةً لِقَمِيصٍ

عَزِيزٍ بَعِيدْ

 (خَارِجَ السِّرْبِ)[37]

فقميص العزيز البعيد الذي تصل رائحته على بعد فتبعث النور ليس غير قميص يوسف، عليه السلام، كما مر بنا: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف: 94)[38].

وَلاَ تَخَفْ

مِنْ أَيِّ خَلْقٍ جَارِحٍ

يَلْقَاكَ فِي أَيِّ الْجِهَاتْ

 (قُدْرَةٌ)[39]

فالله تعالى هو القدير، وعنوان القصيدة قدرة، أن يعصمك، وهنا نذكر سفينة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي لقيه الأسد، فلما أراد أن يبطش به، قال له سفينة: ألم تعرفني؟! أنا سفينة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه الأسد بذيله وهمهم أن مُرَّ ولا تخف؛ وفي هذا نظم البوصيري رحمه الله:

وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللَّهِ إِسْـوَتُهُ *** إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا تَجِمِ

    وَلَنْ تَرَى مِنْ وَلِيٍّ غَيْرِ مُنْتَصِرٍ *** بِهِ ولاَ مِنْ عَـدُوٍّ غَيْرِ مُنْقَصِمِ[40]

يقول الشاعر عبد الكريم الطبال:

فَعَارِكِ الْحِيتَانَ

وَالْأَشْبَاحَ

لاَ تَخْشَ الْمَسَاءَ

إِذَا أَتَى

بِصُقُورِهِ السَّوْدَاءِ

أَوْ بِالْمَرْكَبَاتِ الصُّفْرِ

أَوْ بِالنَّافِثَاتِ الزُّرْقِ

 (نَجَاةٌ)[41]

فلفظة الحيتان تستدعي قصة صاحب الحوت وقد مرت بنا، أما النافثات الزرق فتستدعي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ (الفلق: 4).

ولا يجمل أن يعزب عنا اللون الأزرق فنذكر الشاعر الذي وصف به المنايا، ذلك بأن الزرقة على الوجه علامة على الحقد والغيظ، ثم ما لنا لا نستحضر قول الله عز وجل: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً﴾ (طه: 100).

ومن عنوان القصيدة “نجاة” ومن قصة سيدنا يونس بن متى نستخلص الإنجاء الرباني من الغرق لمن شاء أن يستقيم ودعا بدعاء ذي النون: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الاَنبياء: 86) خاصة إذا خرج صافيا كما قيل: “لو صفت لي تهليلة ما بَالَيْتُ بعدها بشيء”؛ ولعل هذا مقامها، بل لربما حتى إذا خرجت من قلب لم يعرف مولاه قبل، فاضطُر إليه أنجاه الله تعالى ولو جزئيا بما يستحق، والله تعالى عليم وحكيم: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَآءِيلَ وأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. ءآلاَنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً، وإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنَ ـايَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ (يونس: 90-92). حتى إذا كان هذا الإنجاء جزءًا لا كلا، وفيه تقابل ضمني؛ إذ القول غير الصافي يقابل النجاة بالبدن، والقول الصادق يقابله الروح والجسد معا، ففيه عدل من العدل سبحانه، كما فيه دعوة للاعتبار والاستبصار فيعلم قوم فرعون أنه ليس إلها بدليل غرقه وموته، فالإله لا يحسن به أن يموت.

ونبقى مع النجاة والإنجاء والمشيئة بما أنه موضوعة رئيسة ألحت على الشاعر حتى خارج الديوان الذي بين أيدينا:

مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ

أَنْ يَطُوفَ فِي الْأَمْدَاءِ

بَيْنَ هَمْسٍ فِي قَرَارِ الْبَحْرِ

وَهَسِيسٍ فِي شَغَافِ الرِّيحِ

عَلَيْهِ أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَا

فَفِي السِّلاَلِ

فِي الْقِلاَلِ

فِي الْجِرَارِ

يَقْطِينٌ مِنْ بُسْتَانِ يُونُسْ

زَيْتٌ مِنْ زَيْتُونِ الطُّورْ

لَبَنٌ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمْ

يَا أَيُّهَا الْمُحْتَارُ الضَّالّْ

هُنَا فِي السُّوقِ

تَوْلِيفَةٌ

إِذَا جَرَعْتَ مِنْهَا قَطْرَةً

لَمْ تَغْتَرِبْ إِذَا رَحَلْتْ

وَلَمْ تَمُتْ إِذَا قُتِلْتْ

 (بَابُ السُّوقِ)[42]

ختم الشاعر ديوانه بقصيدة حرف الألف، وهو حرف يرمز للذات العلية والله تعالى: ﴿هُوَ الاَوَّلُ والاَخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ، وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد: 3).

ويخاطب الشاعر في نفس القصيدة مولاته:

يَا مَوْلاَتِي

تَفْصِلُنِي عَنْكِ جِبَالٌ وَاقِفَةٌ

وَصَحَارِي سُودْ

وَعَمُودٌ مِنْ غَيْمْ

هَلْ نَجْتَازُ مَعاً هَذِي الْأَسْوَارْ؟!

 (حَرْفُ الْأَلِفِ)[43]

ولعل سائلا يسأل: من هي مولاة الشاعر هاته؟! والجواب يتعدد بتعدد التأويلات والتخريجات، حسب السياق المعين: فقد تكون الحقيقة أو الحرية أو المدينة أو القضية أو النار المباركة، أو عين اليقين أو…

وإن كانت القصيدة أو مملكة الكلام، فإني تارك السانحة لقصيدة “سيدتي” من الديوان الشيق “آخِر الْمَسَاءِ” لتتحدث فتقول:

هَذِي يَدِي

طِفْلٌ بِهِ مَسُّ الْمَسَاءْ

يرْسُمُ الْمَاءَ حَجَلاً

وَالْيَاسَمِينَ جَدْوَلاً

وَأَنْتِ رُوحُ هَذِهِ الْمَلاَئِكْ

فَلْتَكْتُبِي سَيِّدَتِي

لِجِيدِهِ تَمِيمَةً

يَزْدَادُ مَسّاً يَا

قَصِيدَتِي الْجَمِيلَةْ

(سَيِّدَتِي)[44]

فَابْدَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

فِي فَلاَةِ الْمَوْجِ

فِي ظُلْمَةِ الْأَعْمَاقِ

تَنْبَلِجُ الطَّرِيقُ

إِلَى الضِّفَافْ

 (نَجَاةٌ)[45]

تلك إذاً مواصفات الشهادة الحياة الحقيقية، وبر الأمان والنجاة.

بسم الله أولا وآخرا، بسم لله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم. أضف هذه الأسباب الربانية إلى أختها الكونية حيث إنه لابد أن يعقب الليلَ فجرٌ، وأن يعقب الظلام نور، كما أنه لا بد أن تتضح الطريق للسالكين شريطة الكدح والمجاهدة.

خَاتِمَةٌ

من خلال قراءة أشعار الشاعر عبد الكريم الطبال، تشعر أنك أمام بحر عميق يختزن خبرة الماضي والحاضر، ويستشرف المستقبل بكلامه المعمق، وهو يسمه بميسمه الخاص، من حيث إضفاء مصطلحاته الدالة عليه، فتراه مجددا في كل قصيدة على حدتها.

وقد طغت عليه موضوعات معينة كمثل الماء واللون الأبيض والطيور والزهور والورود بكل أشكالها وألوانها، إلا أن توظيفها، وهو الفيصل، كان في مثابة شيخ بصير يعرف ما يقول، أو حتى طفل صغير تعمره البراءة والطهر في روح شفاف، وكلِم عذب، ورموز تتفتق عن معاني ذات بال.

هل بمقدورك أن تجد نصا تقريريا أو مباشرا، أو لغة اعتيادية لا صورة فيها ولا خيال؟!

مستحيل، ودونك الأعمال الكاملة، وما بعدها.

الآن استقرت كتابته على منوال القصيدة المرسلة، ولكنه من مملكة الخليلية جاء ممسكا بعنان العَروض منذ دواوينه الأولى.

في “كِتَاب الْعِنَايَةِ” أراد أن يقول أشياء فقالها باقتدار، روحها أنه بمقدور من أراد أن يقتدي بالموكب الكريم من الأنبياء والمرسلين على رأسهم المصطفى المجتبى، عليهم الصلاة والسلام، فما عليه إلا يطيع الله، جل جلاله، فينجيه كما أنجاهم، ويعطيه كما أعطاهم، ويقرّبه كما قرّبهم.

وَلننصت إلى بيهت السَّهْرَوَرْدِي الشهير:

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ *** إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِـرَامِ فَـلاَحُ.

 (وَارَحَمْتَا لِلْعَاشِقِينَ)[46].

الشاعر عبد الكريم الطبال واحد من الشعراء المغاربة المعتبرين، الذين أسهموا في رفد القصيدة بالعديد من الأفكار والتقنيات والجمال.

أشعاره في جلها تذيبك ولا تتركك لتتركها حقا وصدقا؛ ولعل ما سبق أكبر دليل وبرهان.

سكن الشعر تفاصيل حياته، لم تشغله عنه حركة أخرى حتى إنه دعي للقضاء فرفض؛ لأنه مسكون بالحرف الوضيء، ومبتلى به، زاده الله بلاء حسنا وتوفيقا.

وأحب في الختام أن يبقى صدى هذه الكلمات المتفائلة، والخبيرة بالسنن حيث يتولد النصر من الهزيمة، ويعقب الصبح الظلام الدامس، في ذهن القارئ الكريم، ورحم الله ابن النحوي التوزري؛ إذ قال:

اِشْـتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِـي *** قَـدْ آذَنَ لَيْلُكِ بِالْبَلَـجِ

وَظَلاَمُ اللَّـيْلِ لَهُ سُـرُجٌ *** حَتَّى يَغْشَاهُ أَبُو السُّـرُجِ

يقول الشاعر الجميل عبد الكريم الطبال:

يَا حُـقَّـةً فِي الدَّرْجْ *** تَـأْرَجُ فِـي الرِّيَـاحْ

يَا دُرَّةً فِـي الْبَـحْـرْ *** تَشِـعُّ فِي الْبِـطَـاحْ

يَا نَجْـمَةً فِي الْغَـيْـمْ *** تَلُـوحُ فِي الصَّـبَـاحْ

يَا مِزْهَـراً فِي الـدَّوْحْ *** يَعْـلُو لَـهُ الصُّـدَاحْ

إِنْ تَحْتَجِبْ فِي الظـِّلّْ *** فَالشَّمْسُ فِي الْوِشَـاحْ

أَوْ تَرْتَحِـلْ فِي اللَّيْـلْ *** فَالْفَجْرُ فِي الْجَـنَـاحْ

فَمَا اخْتَفَى فِي الدَّمْـعْ *** يَظْـهَـرُ فِي النُّـوَاحْ

وَمَا انْطَوَى فِي السَّيْفْ *** يَـطْـلُعُ فِي الْجِـرَاحْ

لاَ تَأْمُلِي فِي الْهَـجْـرْ *** يَـا صـِنْـوَةَ الْأَقَـاحْ

فَالصَّبُّ بَيْنَ الْجَـفْـنْ *** والْـهُـدْبِ لاَ بَـــرَاحْ

(وِصَالُ)[47]

الهوامش


[1]. عبد الكريم الطبال، الأعمال الكاملة الدواوين الشعرية، منشورات وزارة الشؤون الثقافية مطبعة دار المناهل 2000، ص160.

[2]. المرجع نفسه.

[3]. رواه مسلم.

[4]. أعمال، م، س، ص160.

[5]. قصيدة حقيقة من ديوان يا طائر الحرمين لحسن الأمراني نقلا عن ديوان المغرب الشرقي ط جامعة محمد الأول وجدة و إن كنت أفضل شرق المغرب عوض المغرب الشرقي.

[6]. حديث البحر من “ديوان البحر” لسعيد ساجد الكرواني، ط 1 منشورات الدفاع الثقافي.

[7]. أعمال، م، س، ص147.

[8]. المرجع نفسه، ص155.

[9]. المرجع نفسه، ص153.

[10]. المرجع نفسه، ص177.

[11]. المرجع نفسه، ص154.

[12]. المرجع نفسه، ص155.

[13]. ديوان بعد الجلبة، ص86.

[14]. المرجع نفسه.

[15]. أورده الشيخ ابن عجيبة في “إيقاظ الهمم” دون أن يشير إلى اسم صاحبه.

[16]. الأعمال الكاملة، م، س، ص157.

[17]. المشكاة، م، س، ص109.

[18]. الأعمال الكاملة، م، س،  ص151-152.

[19]. أعمال، م، س، ص173.

[20]. المرجع نفسه، ص177.

[21]. المرجع نفسه، ص168-169.

[22]. المرجع نفسه، ص176.

[23]. المرجع نفسه، ص171-172.

[24]. المرجع نفسه، ص167.

[25]. المرجع نفسه، ص169.

[26]. المشكاة، م، س، ص102 بتصرف كثير.

[27]. أعمال، م، س، ص155.

[28]. المرجع نفسه.

[29]. المرجع نفسه، ص149-150.

[30]. المرجع نفسه، ص152.

[31]. المرجع نفسه، ص153.

[32]. المرجع نفسه، ص154.

[33]. المرجع نفسه، ص155.

[34]. المرجع نفسه، ص160.

[35]. المرجع نفسه، ص165.

[36]. المرجع نفسه، ص176.

[37]. المرجع نفسه، ص171.

[38]. مجلة المشكاة، م، س، ص96-102 بتصرف كثير.

[39]. أعمال، م، س، ص155.

[40].  انظر بردة المديح المباركة.

[41]. أعمال، م، س، ص156.

[42]. لوحات مائية والقصيدة تتحدث عن مدينة الشاعر الأثيرة مسقط رأسه شفشاون وهي بمعنى ذي القرنين باللغة الريفية المغربية.

[43]. أعمال، م، س، ص178.

[44]. الأعمال الكاملة، م، س، ج1 ص329.

[45]. أعمال، م، س، ج 2 ص157.

[46]. نقلا عن أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي، فاروق شوشة، بيروت: دار ابن زيدون، ص93.

[47]. وإن كنت أفضل لفظة العين عوض الدمع؛ لأنه منكشف.

Science

د. سعيد ساجد الكرواني

شاعر وناقد مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق