مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مصطلح التربية والتزكية بين اللغة والاصطلاح

مصطلح التربية أو التزكية بين اللغة والاصطلاح

   من المسلم به أن لكل مصطلح من المصطلحات إلا وله مدلوله الخاص الذي يضعه داخل إطاره المعرفي وله إشاراته الدالة على مفاهيمهِ ومعاني موضوعاته في مختلف حقوله اللغوية والاصطلاحية، وبالتالي أضحت منهجية تحديد المفاهيم والمصطلحات والإحاطة بمضمونها القيمي يعد من الضروريات الأساسية في فهم أي علم من العلوم؛ باعتبارها مفاتيح وأدوات معرفية تعالج المصطلحات وتضعها داخل إطارها الموضوعي والمعرفي الذي يراعي المدلول اللغوي الأصلي.

    ومن تم فإن من يجرد النظر في المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لمصطلحي التربية والتزكية وتحديدا الدلالة اللغوية والاصطلاحية المتداولة بين أرباب اللغة والاصطلاح يجد أن كلا المصطلحين يحملان في أبعادهما ودلالتهما المعرفية نفس المعنى ونفس المضمون؛ فمصطلح التربية يقابل مصطلح  التزكية، والمعنى الاصطلاحي لكل واحد منهما يدور في فلك تهذيب النفس وتربيتها والعمل على تطهيرها ظاهرا وباطنا فتغدو قادرة على نشر قيم التدين الإسلامي الحنيف؛ المبنية على الوسطية والاعتدال، والمفعمة بالقيم الجمالية التي تفور نورانية وجمالا تجعل المجتمعات رغم اختلافها وتعدد ثقافاتها، تنهج منهج التسامح، والتضامن، والمحبة، والعيش المشترك… والتعاون في سبيل رفع الهمم نحو الخير، والمضي قدما بهمة عالية نحو مراتب السمو الأخلاقي المنشود.

مصطلح التربية بين اللغة والاصطلاح

     التربية عملية مركبة ومحكمة وهادفة وهي في الأصل اللغوي: “إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام“[1] وهي: “وسيلة إعداد الناشئ للدين والدنيا في آن واحد وتكوينه عقليا وخلقيا”[2] ومن منظور آخر قيل: “رباه إذا ساسه وقام بتدبيره ومنه قيل للحاضنة رابة (…) ومنه كذلك الرباني وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة، وقيل هو من الرب بمعنى التربية” [3] وهي كذلك: “كل ما يُغذي في الإنسان جسماً وعقلاً وروحاً وإحساساً ووجداناً وعاطفة”[4]. وقيل بأن التربية: هي مجموع التأثيرات والأفعال التي يمارسها بكيفية إرادية كائن إنساني على آخر، غالبا ما يكون راشدا على شاب صغير، والتي تستهدف تكوين مختلف الاستعدادات التي تقوده إلى النضج والكمال”[5]. وقيل: “هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة وتنمية عدد من الاستعدادات الجسدية والفكرية والأخلاقية”[6].

    فالمعنى الاصطلاحي للتربية -عموماً- لا يراد به تنمية الجوانب المُختلفة لشخصية الإنسان في مختلف جوانب حياته فقط، بل يتجاوز ذلك لبلورة القيم المثلى التي تتغيا وضع الأسس التربوية الهادفة إلى إعداد الإنسان لعمارة الأرض، وتحقيق معنى الاستخلاف فيها. والعمل على تنمية وتطهير النفس البشرية، وتربيتها وتخليصها من قيود الغفلة، وتحريرها من الخصال السيئة، ظاهرةً كانت أو باطنة.

مصطلح التزكية بين اللغة والاصطلاح

يدل مصطلح التزكية في معناه اللغوي “على النماء والريع ويقال: “زكا الزرع زكاءً أي نماءً وكل شيء يزداد وينمو فهو يزكوا زكاءً، ويقال أرض زكية: أي طيبة سمينة حكاه أبو حنيفة“[7] وقيل: “زكاه الله تزكية أي نماه وطهره وتزكى فلان تزكيا أي يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح ويكون زكيا“[8] ومنه قوله تعالى: “قد أفلح من زكَّاها“[9] ومعنى هذا أن تزكية النفس تعني تربيتها على الفضائل وتطهيرها من الرذائل. ومنه قوله تعالى: “كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون“[10]. وقد جاء في تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي أن المقصود بقوله تعالى: “ويُزكيكم” في هذه الآية: “أي يُطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنـزيهها عن الأخلاق الرذيلة“[11]. ومنه قوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا“[12]. يقول ابن كثير: بمعنى “طهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل“. ومعنى هذا أن تزكية النفس تعني تربيتها على الفضائل وتطهيرها من الرذائل”[13].

    ويقصد بالتزكية اصطلاحا: “… نظافة الظاهر والباطن من الأوصاف الذميمة والأخلاق الرديئة وزكى يكون بمعنى طهر وبمعنى نمى ويجوز إرادة كل منهما فالمعنى أنه طهره وزاد طهارته وهذا ناظر لأخلاقه  وآدابه صلى الله عليه وسلم”[14] ويقول الإمام سليمان الشقر: “التزكية وهي التربية أي تنمية الغرائز والملكات والقدرات الصالحة في المؤمنين به وتطهيرهم من خبائث الاعتقادات والأخلاق والعادات والأعمال والأقوال حتى تكون الأمة قوية نافذة في أمورها متحررة من جميع الانحرافات التي تزيغ بها عن الطريق وبذلك يصبحون أهلا للخلافة في الأرض…“[15].

    كما أن مصطلح التزكية يُعد أكثر المصطلحات قرباً في معناه لمصطلح ”التربية” وبالتالي فالتزكية “أقرب الكلمات وأدلها على معنى التربية؛ بل تكاد التزكية والتربية تترادفان في إصلاح النفس، وتهذيب الطباع.. “[16]. فمن معاني التزكية أنها فضل ورحمة من الله جلت قدرته على عباده المتقين” مصداقا لقوله تعالى: ” وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ اَحَدٍ اَبَدًا ولكن اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ “[17] كما أن التزكية تحتاج الى أستاذ مربي سيرا على منهج رسول الله  صلى الله عليه وسلم المربي والمزكي مصداقا لقوله تعالى: ” كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ“[18] وقوله تعالى: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ“[19]. وفي معنى قوله تعالى: “وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ”. قال أبو حيان: “وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً”[20].

    وانطلاقا مما سبق يظهر جليا أن مصطلح التربية والتزكية في مدلولهما اللغوي والاصطلاحي مصطلحان أريد بهما تنوير البصائر بصرف النفس الأمارة بالسوء عن إتباع الشهوات وميلها عن جادة الصواب، والعمل على ترشيدها الى الطريق الصحيح، وذلك بسلوك منهج التربية والتزكية التي توجه السالك إلى حضرة الله؛ مصداقا لقوله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا“[21] وقوله جلت قدرته: “قَدْ اَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى” [22] وبالتالي فالتربية والتزكية فهمي بمثابة تطهير للقلب وكلاهما في النهاية تطهير وتزكية وتحقق وتخلق وإعداد الإنسان في مختلف جوانب حياته من منظور الدين الإسلامي الحنيف.

يتبع…

————————–

  1. المفردات في غريب القرآن المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502هـ) ص: 190 مادة رب. تحقيق صفوان عدنان الداودي الناشر: دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت الطبعة: الأولى- 1412ه.
  2. أساس التربية الإسلامية في السنة النبوية عبد الحميد الصيد الزناتي، ص: 23، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية 1993.
  3. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس ص: 113 مادة: رب. المكتبة العلمية – بيروت.
  4. أصول الفكر التربوي في الإسلام، محجوب، عباس، دمشق، دار ابن كثير، 1398هـ/ 1978م، ص: 15.
  5. التربية عبر التاريخ، عبد الله الدائم، الصفحة 48، دار العلم للملايين بيروت لبنان: 1975.
  6. ما هي علوم التربية، تأليف جماعي لعدد من المؤلفين ضمن سلسلة التكوين التربوي 1999 المغرب.
  7. لسان العرب لابن منظور، ص: 358 مادة زكا، المجلد 14، دار صادر – بيروت الطبعة :3/ 1414هـ.
  8. البستان للعلامة عبد الله البستاني، ص: 457 مادة زكا. مكتبة لبنان ناشرون، 1992.
  9. سورة الشمس: الآية 9.
  10. سورة البقرة: الآية 151.
  11. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المؤلفعبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي

ط 3، بيروت1417هـ: مؤسسة الرسالة 57.

  1. سورة الشمس: الآية 10.
  2. تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير، ج :4/ ص: 547، ط: 2، بيروت: دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع1414هـ.
  3. نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض، ج:1 ص:69/ الطبعة الأولى المطبعة الأزهرية المصرية 1367ه.
  4. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية، لمحمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان الطبعة: السادسة، 1424هـ. ص 39.
  5. نظرية التربية الإسلامية للفرد والمجتمع، محمد الغزالي ضمن بحوث ندوة خبراء أُسس التربية الإسلامية المنعقدة بجامعة أم القرى في مكة المكرمة خلال الفترة من: 11 – 16 جمادى الثاني 1400هـ. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، مركز البحوث التربوية والنفسية.
  6. سورة النور: الآية، 21.
  7. سورة البقرة: الآية، 150.
  8. سورة البقرة: الآية، 128.
  9. البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي تحقيقصدقي محمد جميل دار الفكر – بيروت الطبعة: 1420 هـ 2/47.
  10. سورة الشمس: الآية، 9/10.
  11. سورة الاَعلى: الآية 14.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق