وحدة الإحياءدراسات عامة

مراكز الثقافة القرآنية بالمغرب والأندلس خلال القرن الثامن الهجري

من خلال تتبع النصوص التاريخية في شتى المصادر يتبين وجود آثار للتعليم القرآني بمختلف المراكز الثقافية التي كانت منتشرة وذائعة الصيت في القرن الثامن.

والمقصود بالمراكز الثقافية القرآنية تلك المؤسسات التعليمية التي ثبت أن وجد بها تدريس القرآن الكريم وعلومه من قراءات وتفسير وغيرها أو قراءة الحزب الراتب أو كل ما يتصل بكتاب الله العزيز.

وقد كان لهذه المراكز دور فعال في بث الإشعاع القرآني في كل أرجاء المغرب والأندلس، خاصة في فاس التي استقطبت طلبة كتاب الله العزيز من كل صوب وحدب، نظرا لما كانت تتوفر عليه من مراكز ثقافية رائدة وأساتذة أفذاذ.

وخلال القرن الثامن عرف المغرب والأندلس عدة مراكز ثقافية، وقد ركزت الحديث في هذا البحث على ما يلي:

  1. الكتاتيب القرآنية
  2. المدارس
  3. الكراسي العلمية بالمساجد
  4. الزوايا
  5. الرباطات

أولا: الكتاتيب القرآنية

تعتبر الكتاتيب من أسبق أنواع المعاهد التعليمية وجودا في العالم الإسلامي، والكتاتيب جمع كتاب، وهو مشتق من التكتيب وتعليم الكتابة، ففي القاموس: المكتب والكتاب موضع تعليم الكتاب أي الكتابة، والجمع: الكتاتيب والمكاتب، والمعلم الذي يتولى التعليم يسمى بالمكتب أو المعلم[1].

ويعود تاريخ إنشاء الكتاتيب القرآنية إلى العهود الأولى من تاريخ الإسلام، فبمجرد أن تم الفتح الإسلامي بالمغرب رتب الولاة الفقهاء يعلمون النشء تعاليم الدين الإسلامي والقرآن الكريم، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكتاتيب تتكاثر تكاثرا سريعا قويا[2] وتتلقى دعما كبيرا من طرف السلاطين والحكام، على ما قرره ابن خلدون وغيره، ويدلنا على ذلك أن صاحب القرطاس قد عد ما كانت تتوفر عليه مدينة فاس في عهده من الكتاتيب[3]، والذي يقرأ رحلة ابن بطوطة يجد ذكرا كثيرا للحلقات التي إلتف فيها الأطفال في الكتاتيب حول معلم يعلمهم القرآن.

وفي القرن الثامن نجد الكتاتيب القرآنية قد بلغت مستوى رفيعا من حيث التنظيم والمواد المدروسة، وكانت تسند لرجال من الطبقة العالية، وكان المغاربة والأندلسيون واعين بهذا الدور الذي تؤديه الكتاتيب القرآنية، لذلك وفروها بكثرة لناشئتهم، فعمت بالحواضر والجهات البربرية، وانتعشت صناعة المؤدب والمكتب فأصبحتا مهنة وافرة الأجر[4]، ويشرف على الكتاب معلم قارئ حافظ للقرآن الكريم، وقد يكون متقنا لبعض القراءات وأحيانا يكون من كبار القراء (أمثال الخراز وابن آجروم).

وكانت أول مقررات برامج تلك الكتاتيب هو القرآن الكريم فقد كانت العناية به جد شديدة حيث يتم تلقينه وتحفيظه للناشئة من الصبيان ابتداء من سن مبكرة[5] وقد يبدأ المعلم بإعراب بعض آياته وتفسير غريبه تفسيرا وجيزا وطريقة ترتيله وتجويده، كما يعلمهم مبادئ العلوم التي تعينهم على تفهم معاني كتاب الله تعالى[6].

ففي كتاب آداب المعلمين: “وينبغي له؛ (أي المعلم) أن يعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له والشكل والهجاء والخط الحسن والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل…”[7].

وقد انتقد الإمام ابن العربي طريقة تحفيظ القرآن الكريم دون تعزيز ذلك بعلوم مساعدة على الفهم والاستيعاب[8] إلا أن ابن خلدون قد فضل الطريقة المتبعة في سائر الديار بما فيها المغرب على الطريقة التي يقترحها ابن العربي، لأنها الطريقة التي تلائم عقلية الطفل ويتقبلها مستواه الفكري[9].

ومن مظاهر الاعتناء والاهتمام بالكتاتيب أنها كانت تزين بمناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي حيث تضاء بالشموع ويجتمع أطفالها لترديد الصلوات النبوية كما يتقدم أحدهم ممن هو حسن الصوت لترتيل عشر من القرآن الكريم، وهذا ما يؤخذ من سؤال رفع للفقيه أحمد بن قاسم القباب الفاسي في هذا الصدد[10].

وهناك توضيحات لبعض نقط هذا الوصف وردت عند الحسن الوزان الذي تحدث في كتابه: “وصف إفريقيا” عن فترة من تاريخ المغرب قريبة من المرحلة التي تهمنا، فقد ذكر أنه عندما يتم الصبي حفظ القرآن الكريم يتم تسليمه شهادة خاصة بذلك، ويقام حفل عائلي[11]، وهذه الشهادة التي تدعى بـ”التخريجة” هي في الواقع نص سورة الفاتحة التي يكتبها المعلم بيده على لوح، ويجعل لها إطارا مزخرفا، وتسمى عملية حفظ القرآن (حذقة) فإذا حذق التلميذ القرآن فقد حفظه أو مهر في حفظه.

وفي الأندلس كانت أول مظاهر التقدير للمعلمين أن لقب “معلم كتاب” قد أطلق عليهم وتصدر تراجمهم، وذلك دليل على مكانة هؤلاء، وفي كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة نجد ابن الخطيب ينص على فضائل بعض المترجمين بذكرهم من بين المؤدبين والمعلمين، فقد وصف المقرئ أحمد بن عبد الولي العواد ب “الشيخ المكتب سابق الميدان”[12] وأشار في الكتيبة الكامنة إلى أحمد بن عبد الملك العدوي قائلا: “وهو اليوم من معلمي الكتاب”[13].

أما عن تعليم البنات في هذه الفترة التي ندرسها، فلم نعثر على نصوص تاريخية تؤكد أن البنت في القرن الثامن كانت ترتاد الكتاب إلى جانب الذكور، وكل ما عثر عليه، ما ورد في الإحاطة من أن نزهون بنت القليعي كانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى[14].

وأورد ابن قنفذ قائلا[15] “ورأيت منهم بفاس المرأة الصالحة مؤمنة التلمسانية، وكان الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن عبد الوهاب المعلم لكتاب الله تعالى هو الذي يكتب لها لوحها ويبادر به”.

فهذه النصوص تدل على أن تعليم النساء لم يكن منعدما تماما، إلا أنه يصعب تحديد ما إذا كان تعليمهن يتم في الكتاتيب القرآنية أو في دورهن.

ثانيا: المدارس

يعتبر إنشاء المدارس في القرن الثامن من أهم المنشئات المرينية وأكثرها عددا، وهو مما كان ينفرد به المغرب الأقصى في هذا العصر[16]، كما أنه يعتبر من جملة المناقب التي حمدت لسلاطين بني مرين، نظرا لما قاموا به من جهود في سبيل تعميم إنشائها في كل أرجاء المغرب، واستقطاب العلماء والفقهاء والقراء من أجل التدريس فيها.

“ففي سنة عشرين وسبعمائة: أمر أمير المسلمين أبو سعيد أيده الله، ببناء المدرسة بحضرته من فاس الجديدة، فبنيت أتقن بناء ورتب فيها الطلبة لقراءة القرآن، والفقهاء لتدريس العلم وأجرى عليهم المرتبات والمؤن في كل شهر…”[17].

وفيما يلي ذكر لأبرز المدارس المرينية التي كان تدريس القراءات والتفسير في مقدمة العلوم المدروسة بها:

  1. مدرسة الصهريج، وكانت تسمى بالمدرسة الكبرى كما في رخامة التحبيس التي لا تزال باقية إلى يومنا هذا، أسسها الأمير أبو الحسن المريني عام 721، وتوجد غرب جامع الأندلس.
  2. مدرسة السبعيين[18] وتعرف بالمدرسة الصغرى تمييزا لها عن المدرسة الكبرى (مدرسة الصهريج)، سميت كذلك لأنها كانت تدرس فيها القراءات السبع، وهو دليل قوي على مدى الاعتناء التام الذي عرفته المدارس المرينية بهذا العلم الجليل وقد أسست هذه المدرسة عام 721 كذلك، وكانت في حقيقة الأمر ملحقة[19] بمدرسة الصهريج كما في رخامة التحبيس[20] والتي ورد فيها ما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أمر ببناء هذه المدرسة المباركة مع المدرسة الصغرى + المتصلة بشرقها[21] مولانا الأمير ولي عهد المسلمين أبو الحسن…[ذكر لنص التحبيس على المدرسة]…وابتدئ الإقراء فيها في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة.

ومن المؤسف جدا أن لا نجد معلومات كافية عن هذه المدرسة من حيث ذكر الأساتذة القراء الذين كانوا يدرسون فيها وطريقة التدريس التي كانت تزاول بها وأعداد الطلبة الذين كانوا يرتادونها، أما من الناحية التاريخية فلعل أبرز من وقف على معالم هذه المدرسة ودرسها دراسة متعمقة المستشرق الفرنسي الفردبل [22] الذي تمكن من تحديد موقع القاعة الكبرى التي كانت مخصصة لتدريس القراءات السبع ووصفها وصفا دقيقا.

  1. مدرسة العطارين: على مقربة من جامع القرويين، بنيت سنة (723)[23].
  2. المدرسة المصباحية بفاس من بناء أبي الحسن، وهي تحمل اسم أول أساتذتها وهو أبو الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوتي (ت 750)[24]
  3. المدرسة البوعنانية: بنيت في عهد أبي عنان عام 757، وقد عرف من مدرسيها أبو العباس القباب (ت 778)[25]
  4. مدرسة الطالعة بسلا بناها أبو الحسن سنة (733)[26].

وذكر ابن مرزوق[27] أن إنشاء المدارس في المغرب لم يكن معروفا قبل المدارس المرينية، ويبدو أن معظم هذه المدارس قد أنشئت في ظرف من الزمن لا يتعدى ستا وثلاثين سنة قبل أن يتوقف المشروع نهائيا عن النمو والاتساع[28].

ولاشك أن هذا العدد الكبير من المدارس، كان الباعث من ورائه إيواء العدد الضخم من طلبة العلم الذين شهدهم العصر المريني، خاصة في القرن الثامن، حيث كانت سوق العلم نافقة، فقد ذكر أحمد بابا أنه: “كان الطلبة أيام أبي عنان المريني أعز الناس وأكثرهم عددا وأوسعهم رزقا”[29].

وعلاوة على الملوك، اعتنى الخواص والأعيان بتأسيس المدارس، منهم أبو الحسن الشاري السبتي (ت 649) الذي بنى المدرسة المنسوبة إليه بمدينة سبتة، ووقف عليها أوقافا من كتب وغيرها، وإلى جانبها كانت المدرسة الجديدة التي بناها أبو الحسن المريني[30]، وقد اشتهرت المدرستان خلال القرن الثامن بكبار المدرسين والمقرئين.

وهذه المدارس التي كانت بفاس وغيرها من المدن، كانت جميعها تشتمل على خزانة خاصة موضوعة لعموم المطالعين من الطلبة[31] كما كانت تتوفر على وظائف دينية وكراسي للأساتذة، وقد كان علم القراءات يحظى من بين باقي العلوم باهتمام متميز واعتناء كبير، يدلنا عليه إنشاء مدرسة السبعيين من طرف أبي الحسن عام 721 والتي كانت خاصة بتدريس القراءات السبع، ولم تسعفنا المصادر بمعلومات عن هذه المدرسة ومن كان يدرس فيها من المقرئين.

وقد ذكر المرحوم الأستاذ محمد العابد الفاسي أنه وقف على حسابات مختلفة للنظار الذين كانوا مكلفين بالنظر في المدارس السبع بفاس، حيث كان لأكثر تلك المدارس زيادة على وظائفها الدينية العامة وظيفة مؤقت وأستاذ مقرئ ومدرس[32].

أما في الأندلس فتعتبر المدرسة النصرية أو المدرسة اليوسفية بغرناطة من أشهر مدارس الأندلس في القرن الثامن الهجري، وقد طبقت شهرتها الآفاق[33] واستقطبت طلبة العلم من جميع أرجاء الأندلس، ودرس فيها كبار العلماء والقراء، بناها السلطان أبو الحجاج يوسف (733- 755) بناء على مبادرة من حاجبه رضوان النصري عام 750[34].

وقد تخرج من هذه المدرسة العظيمة جمهرة من أكابر العلماء، كانوا آخر إشعاعه في سماء الثقافة الأندلسية قبل أن يسيحوا في ديار المغرب، فينقلوا إليها علومهم وآدابهم وفنونهم ويثيروا فيها نهضة علمية واسعة.

وقد كانت عناية الملكين يوسف الأول ومحمد الخامس بهذه المدرسة عظيمة، حيث أجريا المرتبات على العلماء والمعلمين والمؤدبين بها، وأوليا فيها وظائف كثيرة، واستقطبوا إليها مشاهير العلماء والقراء، ولقد قام لسان الدين بن الخطيب بمجهود كبير في البحث عن العلماء والتنبيه عليهم ونقلهم إلى غرناطة[35]. يقول عند ترجمته لمحمد بن عبد الولي العواد (ت 750): “أنه طلب للتصدير للإقراء فأبى لشدة انقباضه فنبهت بالباب السلطاني على وجوب نصبه للناس فكان ذلك في شهر شعبان من عام وفاته”[36].

ومن أساتذة المدرسة النصرية من المفسرين والقراء نذكر: أبا القاسم بن جزي[37] وابن لب[38] ومنصور الزواوي[39].

وإلى جانب مدرسة غرناطة هناك مدرسة غير مشهورة كسابقتها هي مدرسة مالقة، ومما لاشك فيه أن مالقا قد لعبت دورا فكريا غاية في الأهمية على مدار تاريخها الإسلامي وكان مسجدها الجامع من أكثر مساجد المملكة النصرية شهرة، وتدل بعض كتب التاريخ على وجود مدرسة عظمى أو جامعة مالقة كانت مقامة بالمسجد الجامع[40]. وقد قام بالتدريس فيها كثير من العلماء والفقهاء والمقرئين، ولا شك أن علم القراءات والتفسير كانا يتصدران قائمة المواد المدروسة بها نظرا لما أنجبته مدينة مالقة من مقرئين ومفسرين أفذاذ، تزخر بأسمائهم كتب التراجم نذكر منهم ابن الزيات الكلاعي (ت 728) ومحمد بن يحيى الأشعري (ت 741) وغيرهما[41].

وبالمقارنة مع المغرب لم تكن بالأندلس مدارس كثيرة، فكانت مختلف العلوم تدرس بالمساجد، يقول المقري[42]، وليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون في المساجد.

ثالثا: الكراسي العلمية بالمساجد: مساجد فاس

لم يحد ظهور المدرسة في القرن الثامن من نشاط المسجد التعليمي، إلا أنه تأثر بنظامها التعليمي واتجاهه، ابتداء من منتصف القرن الثامن حيث تدخل المخزن وحور نظام التعليم فيه ليصبح على شاكلة التعليم بالمدرسة، وذلك بإحداث الكراسي الدراسية للطلاب والوعظية للعامة ينفق عليها من أحباس خاصة، وبتحبيس خزائن الكتب على المساجد لفائدة طلاب العلم.

وكان على رأس هذه المساجد جامع القرويين، الذي اعتبر بحق أم المساجد والجوامع وأساسها. فقد كانت مدينة فاس في المائة الثامنة قبلة أنظار الملوك والأمراء ومهبط الكتاب والوزراء ومحط رحال كبار العلماء والأدباء والقراء ومأوى أرباب النبوغ من أهلها والغرباء، ويرجع سبب هذا الاستقطاب الواسع إلى جامع القرويين الذي يمكن القول بأنه كان يمثل جامعة العلم الأولى بفاس[43].

ولإعطاء نظرة عامة عن اهتمام الكراسي العلمية بالمساجد بكتاب الله العزيز سأقتصر على الحديث على مساجد فاس وأهم كراسي التفسير والقراءات التي كانت تعمرها في القرن الثامن.

فقد كانت هذه الكراسي العلمية مخصصة لمختلف التخصصات، وكان على رأس هذه الكراسي كرسي التفسير، وقد أشارت المصادر التاريخية إلى:

  1. كرسي أبي الربيع سلمان الونشريسي (ت 705)[44]
  2. كرسي المدرسة المتوكلية: للتفسير والحديث، وقد كان من أوائل من درس على هذا الكرسي قاضي القضاة السفير المقري(ت 758)[45] ثم الفقيه سيدي محمد الخديم[46].
  3. كرسي مدرسة الأبارين للتفسير والحديث، وقد شهد حركة علمية نشيطة لأنه على مقربة من جامع القرويين ومدرسة العطارين[47].
  4. كرسي مسجد الأندلس، وقد كان في صدر الكراسي الصباحية به كرسي التفسير الذي كان موضعه في الجانب الغربي من المسجد عن يمين الداخل من باب (اشنيخن) الذي يقابل الزنقة التي فيها مدرسة الصهريج[48] وقد ظل هذا الكرسي محل تنافس بين العلماء والمفسرين نذكر منهم الفقيه الشيخ أحمد بن علي الزموري[49] وقد كان يعتمد تفسير الفخر الرازي[50].
  5. كرسي أبي الحسن المرمري[51]رشحه فيه أبو عنان دون تحديد مسبق للمادة المعالجة والمدروسة، ولاشك أن التفسير والقراءات كان لهما النصيب الأوفر والمكانة الأولى.

وبعد هذه الفترة بقليل، كان هناك كرسي حرز الأماني بمسجد الشرفاء بفاس[52]. ويلاحظ أننا لا نظفر في هذا العصر بالوفرة التي صارت لهذه الكراسي فيما بعد، ولعل السبب في ذلك زهد بعض علماء القرن الثامن في مثل هذه المظاهر التي يرون أنها مستحدثة ومبتدعة، فقد جاء في المدخل لابن الحاج (ت 738): “وما رأيت أحدا من علماء المغرب وفضلائهم يقعدون على حائل دون جلسائهم”[53].

وذكر الونشريسي (ت 1014) أن اتخاذ الكراسي وإحداثها في المساجد للإقراء من أعظم البدع[54].

أما في الأندلس، فبالرغم من وجود نصوص متعددة تنص على أن علمي القراءات والتفسير كانا يتصدران جملة العلوم المدروسة إلا أننا لم نجد أثرا لذكر كراسي علمية خصصت للتفسير أو القراءات كما هو الشأن بفاس.

وهكذا تبقى مدينة فاس بجامعها العتيق ومساجدها المتعددة موطن مختلف الكراسي العلمية التي تمثل وتبرز مدى التفوق العلمي والدراسي بها.

رابعا: الزوايا

لم يقتصر التعليم القرآني على المسجد والمدرسة والكتاب، بل وجدت مؤسسات أخرى كان يلتقي فيها العلم إلى جانب الأعراض الأخرى التي أسست من أجلها، ومن هذه المؤسسات الزوايا والربط.

والزاوية تطلق على مسجد خاص بطائفة من الصوفية أو ضريح لأحد الأولياء، وقد كان المغرب المريني يستعمل كلمة الزاوية للدلالة على مؤسسات تشيد برسم استقبال الواردين عليها لإيوائهم، وذلك ما يشرحه ابن مرزوق في قوله: “والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين”[55].

وإذا كانت الزاوية في القرن الثامن قد وضعت أصلا لإيواء المحتاجين، فإن البحث في ثنايا النصوص التاريخية قد أمدنا بما يدل على أن الزوايا كانت أيضا محط تلقين القرآن الكريم ومدارسته، وقراءة الحزب إلى جانب علوم أخرى، وهو ما يدفعنا للقول بأن الزاوية المرينية قد ساهمت بدورها في إثراء المدرسة القرآنية، وإن كان التعليم بها قد شمل المراتب الابتدائية فقط التي هي مرتبة الكتاب.

ففي سلوة الأنفاس عند ترجمة العربي بن محمد المومناني المعروف بالتكناوي المدفون بخلوة عبد القادر الجيلاني: “وأما هذه التي يسمونها بالخلوة إنما هي زاوية بنيت لقراءة حزب القرآن وأمر ببنائها الأمير أبو سالم المستعين بالله المريني، وتم بناؤها في أواخر رمضان عام 762، ورتب فيها طلبة يقرؤون القرآن ويختمونه بطول سبعة أيام”[56].

كما ذكر الكتاني في ترجمة ابن عاشر السلاوي الصوفي أنه بعدما انتقل إلى سلا نزل من رباط الفتح بزاوية الشيخ أبي عبد الله اليابوري، فأسكنه خلوة بها لإقراء الأولاد القرآن، وقد كان ابن عاشر مستقلا زمانا بتعليم كتاب الله تعالى”[57].

وأفادنا الكتاني مرة أخرى في ترجمة أحمد الوزير الغساني[58]، أن هذا الأخير كان يؤدب الصبيان بزاويته ويؤم الناس بها في الصلاة.

وفي فترة لاحقة كان بزاوية أبي عبد الله الخياط بجبل زرهون ما يزيد على الألف من حملة القرآن[59]. وقد انتشرت الزوايا في المغرب المريني انتشارا واسعا وأنشئت بها الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم الدين ومبادئ التفسير وغيرها[60]. وقام السلطان أبو عنان بإنشاء العديد من هذه الزوايا نذكر أهمها فيما يلي:

ـ زاوية النساك بسلا وقد تم بناؤها في 27 شعبان 757، وصفها ابن الحاج النميري في فيض العباب[61].

ـ الزاوية المتوكلية: نسبة إلى عنان الملقب بالمتوكل على الله، ويرجع تأسيسها إلى عام 754[62].

ـ زاوية أنملي بتازة: ذكرها الناصري في الاستقصا[63]، وقد قدم المستشرق الفرنسي جورج كولان Georges Colin عرضا عن هذه الزاوية بمجلة هسبريس[64]، وتوصل من خلاله إلى أن المدرسة المعروفة الآن بوادي أنملي هي زاوية أنملي التي بناها أبو عنان. أما بالأندلس فلم نعثر على ما يدل على وجود آثار للتعليم القرآني بالزاويا.

خامسا: الرباطات

الرباط في الأصل مصدر رابط، قال في المصباح[65]: “الرباط اسم من رابط مرابطة، إذا لازم ثغر العدو. “وقد أطلق لفظ الرباط على نوع من الثكنات العسكرية التي تبنى على الحدود الإسلامية وقرب الثغور، يقيم فيها المجاهدون (المرابطون) للدفاع عن دار الإسلام، وقد كانت الرباطات مأوى يلجأ إليها العلماء الرحالون وطلاب العلم الذين ينتقلون بين أرجاء العالم الإسلامي طلبا لعلوم الدين[66].

والتعليم بالرباط هو “شرح لأصول التعليم بالكتاب فهناك تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب الفقه وشعر المواعظ”[67] وكان تعليم القرآن ومدارسته وقراءة الحزب، من أهم ما يعنى به رواد الربط، فهذا رباط شاكر بدكالة قال فيه صاحب الإعلام: “أنه بني لقراءة حزب القرآن، أمر ببنائه السلطان المستعين بالله المريني، ورتب فيها طلبة يقرأون القرآن”[68].

وكانت الرباطات قلما تخلو من خزانة كتب يرتادها طلاب العلم، كما كانت تتوفر على عالم يقوم بتدريس بعض العلوم وعلى رأسها تفسير القرآن الكريم.

وفي الأندلس كانت هناك رابطة العقاب الموجودة خارج غرناطة، ورابطة اللجام، وقد دخلهما الرحالة ابن بطوطة، وحاول بروفنسال Levi prevencal تحديد موقعهما[69].

(انظر العدد 9 من مجلة الإحياء)

الهوامش

  1. الفيروزآبادي: القاموس المحيط، 1/121.
  2. د. أحمد شلبي: تاريخ التربية الإسلامية، ص20-406-408-el1: pp-t lll
  3. ابن أبي زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، طبع دار المنصور بالرباط 1973، ص48.
  4. لقد كان أخذ الأجرة على التعليم محل مناقشة واسعة عبر التاريخ، ينظر المدخل لابن الحاج، ط 2/1972، 2/321 ومحمد بن سحنون: آداب المعلمين، ص90.
  5. الحركة الفكرية في عهد السعديين، 2/341.
  6. د. محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، دار العلم للملايين، ط 1/1957، ص79.
  7. آداب المعلمين، تح محمد عبد المولى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1969، ص82.
  8. المقدمة، ص418.
  9. المصدر السابق، ص449.
  10. الونشريسي: المعيار المعرب، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط، 1981، ج 12، ص33 ويراجع في ترجمة القباب (ت 779) الديباج ص41، ونيل الابتهاج ص72، والسلوة 3/224.
  11. وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ط: 2/1983، طبع دار الغرب الإسلامي 1/261.
  12. الإحاطة، 3/33.
  13. الكتيبة الكامنة، ص278.
  14. الإحاطة، 3/324
  15. أنس الفقير وعز الحقير، تح: محمد الفاسي وأدولف فور الرباط، 1961م 30.
  16. إن بناء المدارس في المغرب أمر لا نجده في المغرب الأوسط أو الأدنى، إلا ما كان من المدرسة التي بناها أبو الحسن بتلمسان بقرب ضريح أبي مدين والتي تحدث عنها وليام وجورج مارسيه Marcais في دراستهما:

 Monuments arabes de tlemcne, pp270- 278.

  1. الأنيس المطرب بروض القرطاس، ص411.
  2. وقد حرف اسمها اليوم من السبعيين إلى السباعيين كما هو معروف عند السكان المجاورين لها وكما هو مكتوب على رخامة صغيرة بإزاء باب المدرسة، ويبدو أن هذا التحريف يعود إلى ما قبل القرن الحالي فالمستشرق الفرنسي “الفردبل”alfred bel في مقاله الآتي ذكره والذي نشره عام 1917 قد نص على اسم “السباعيين” وذكر الأستاذ محمد المنوني أنها كانت تعرف كذلك باسم “مدرسة الأساتيذ” ورقات ص27.
  3. ويبدو حسب ما يتناقله سكان الحي ـ أنه كان هناك ممر داخلي يربط مدرسة الصهريج ومدرسة السبعيين” لكن لا أثر له اليوم والباب الوحيد للمدرسة (انظر الصورة) قد أغلق منذ مدة، ويمكن الوصول إليه عبر درب صغير كان يسمى في القديم درب اشنيخن (نسبة إلى باب اشنيخن وهو من أبواب جامع الأندلس: انظر جامع القرويين للتازي 2/390)، ويسمى هذا الدرب الآن درب السباعيين، وهو يمتد على طول الواجهة الغربية لجامع الأندلس، ويقابله درب ياسمينة.

Voir alfred bel inscription arabes de fes in le journal. A sientique juill aout p 258 1917.

  1. لقد كان بالإمكان تصوير هذه الرخامة كوثيقة تاريخية لإنشاء هذه الرخامة كوثيقة تاريخية لإنشاء هذه المدرسة، إلا أن قلة النور داخل المدرسة يعيق ذلك.
  2. ذكر بل (bel) في مقاله السابق أن هذه المتصلة بشرق مدرسة الصهريج هي عبارة عن سكنى لطلبة القراءات السبع، وكانت تعرف-بدار الضيوف “Maison d’hotes” أو دار أبي حباسة، أما اليوم فتعرف بدار الشيوخ وكانت تضم واحدا وعشرين غرفة، لا تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا A bel: opcit p 216 وقد أخبرني أحد الذين كانوا يدرسون بثانوية القرويين “الشراردة” للتعليم الأصيل وكان يسكن بالمدرسة، أن هذه الأخيرة لم تعد صالحة لإيواء الطلبة منذ عام 1966، وبقين منذ ذلك الحين تستقبل السواح الأجانب إلى عهد قريب، حيث تم إغلاقها.
  3. يعتبر الفرد بل إلى جانب هنري تيراس (henri terrasse ) وأبرز المؤرخين الذين اهتموا بمدينة فاس اهتماما بالغا، وولوها من عناية خاصة من حيث القيام بدراسات علمية متعمقة حول مساجدها ومدارسها ومعالمها الأثرية.
  4. الورقات، ص82 وقد رجح بل أن يكون البناء من أوائل من درس بهذه المدرسة، حيث توفي في نفس عام بنائها. 1p 319-938: la religion musulmane en berberie pers a bel.
  5. ترجمته في جذوة الاقتباس ص218 ونفح الطيب 7/175 وسلوة الأنفاس 2/56.
  6. ترجمته في: الديباج ص41 ونيل الابتهاج ص72 والسلوة 3/244.
  7. ARchives Marocaines vel 26. 278, p18.

ومن جملة مدرسيها في العصر المريني، عبد الله العثماني المشهور بابن الصباغ السلاوي (ت 747) وعلي بن موسى المطماطي (ت 773) ومحمد بن عمران الفنزاري السلاوي المعروف بابن المجراد شارح الدرر اللوامع لابن بري، الدكالي: الاتحاف الوجيز، تح مصطفى بوشعراء، مكتبة المعارف بالرباط 1986، ص52.

  1. المسند الصحيح الحسن ص405.
  2. د. محمد القبلي، قضية المدارس المرينية، في كتاب النهضة والتراكم، دار توبقال الدار البيضاء، ط 1/1986.
  3. نيل الابتهاج، ص260.
  4. اختصار الأخبار، ص30.
  5. محمد العابد الفاسي: الخزانة العلمية بالمغرب، ص17.
  6. الخزانة العلمية بالمغرب، ص19.
  7. ذكر محقق كتاب الإحاطة أن مكانها لا يزال معروفا إلى اليوم بغرناطة حيث يقع تجاه الكنيسة العظمى التي أنشئت على موقع المسجد الجامع، (الإحاطة 3/36) هامش.
  8. ترجمته في الإحاطة 1/506-513.
  9. ينظر مثلا الإحاطة، 2/27.
  10. المصدر السابق، 3/33.
  11. الكتبية الكامنة، ص396.
  12. الإحاطة: 4/253.
  13. المصدر السابق، 3/325.
  14. د. محمد عيسى تاريخ التعليم في الأندلس، ص386.
  15. انظر ترجمتيهما في قسم تراجم القراء.
  16. نفح الطيب، 1/205.
  17. الكتاب الذهبي، جامعة القرويين في ذكراها المائة بعد الألف، وزارة التربية الوطنية 1960، ص164.
  18. تراجع ترجمته بقسم تراجم القراء.
  19. ترجمته في الإحاطة 2/136 والتعريف لابن خلدون ص59 والديباج المذهب، ص264.
  20. د. عبد الهادي التازي، جامع القرويين 2/386.
  21. جامع القرويين 2/388
  22. جنى زهرة الآس، ص95.
  23. سلوة الأنفاس3/318 ومجلة البحث العلمي الصادرة عن معهد البحث العلمي بالرباط، عدد يناير 1966، ص250.
  24. جامع القرويين 2/389.
  25. المقري: أزهار الرياض في أخبار عياض القاهرة (1942) 3/27.
  26. حجي، الحركة الفكرية، 1/119.
  27. المدخل، 1/191.
  28. المعيار المعرب، 2/380.
  29. المسند الصحيح الحسن، ص413.
  30. سلوة الأنفاس، 1/219.
  31. المصدر نفسه، 2/276.
  32. المصدر نفسه، 2/299
  33. الأعلام للمراكشي 8/245.
  34. لقد كان النشاط التعليمي بالزوايا أو الخوانق بالمشرق في القرن الثامن أحسن حالا مما كان عليه الأمر بالمغرب، فقد ذكر المقريزي (ت 845) في كتابه الخطط “وكانوا يجعلون في تلك الخوانق دروسا في الفقه والدين والعربية والتصوف والحديث، فقد جعل الملك المظفر بيبرس دروسا في الحديث ويسمى لذلك مدرسا، وعنده عدة من المحدثين والقراء”4/276.

وقال أيضا: “وكانوا كثيرا ما يلحقون بالخوانق كتاتيب لتعليم الأطفال المسلمين القرآن والكتابة والقراءة مع تجويد الخط العربي”4/285.

  1. فيض العباب، ص42.

hes Peris 1 Michaux Bellaire: Essai sur l’ histoire des Confreries marocaines in.

  1. روض النسرين ص27، وفيض العباب لابن الحاج، ص47.
  2. الاستقصا، 2/39.
  3. La Zaouiya merini de d’ anemli a taza in hesperis 3 trim.1953 p 528.
  4. المصباح المنير لأحمد بن محمد الفيومي (ت 770)، المكتبة العلمية بيروت 1/215.
  5. وقد ذكر الإمام ابن العربي أنه لما خرج من الأندلس قاصدا المشرق دخل بغداد ونزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، واجتمع فيه بالإمام الغزالي، فقرأ عليه ولازمه.

(نفح الطيب 1/338 وأزهار الرياض 3/91.)

  1. عثمان الكاك، محاضرات في مراكز الثقافة بالمغرب، نشر جامعة الدول العربية، تونس 1958، ص18.
  2. الأعلام 3/273.
  3. Le voyage d’ ibn BAttouta dans le reyaume de Grenade in Melanges william marcais Paris 1950 pp 205-223.
Science
الوسوم

د. حسن عزوزي

كلية الشريعة بفاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق