مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةأعلام

محمد بن سليمان الروداني

عالم من أهل سوس هو محمد بن سليمان الروداني، أحد كبار علماء القرن السابع عشر زمن ازدهار العلم بـ «الزاوية الدلائية المباركة» في هذه الحلقة سنكتشف بعض جوانب من شخصية هذا العالم السوسي الفاضل الذي بهر أهل عصره في تفننه في علم الفلك..

ولد محمد بن سليمان الروداني بمدينة تارودانت عام (1037هـ/1627م)، وكان علامة متمكنا في علوم الحال وعلوم المآل، وخلف آثارا نثرية وشعرية، وقد أكسبه تجواله في العالم العربي ألقابا متعددة، فدعي أبا عبد الله محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي رغم أنه روداني قح وذلك لشهرة فاس عند إخواننا المشارقة، وسمي ابن طاهر السوسي المغربي الروداني المراكشي المالكي نزيل الحرمين الشريفين..

تتلمذ محمد بن سليمان الروداني على ثلة من علماء عصره، منهم بالمغرب محمد الواويزغتي وأبو مهدي عيسى مفتي مراكش وقاضي القضاة بها مؤلف الفتاوي المشهورة باسمه، وصاحب الحاشية، والشرح على صغرى السنوسي. (انظر م السوسي، سوس العالمة، ص: 183)، ومحمد بن سعيد المرغيتي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي، ومحمد بن ناصر الدرعي، الذي لازم دروسه أربع سنوات في التفسير والحديث والتصوف. ومن شيوخه بالجزائر سعيد بن إبراهيم المعروف بسيدي سعيد قدورة[1].

سافر محمد بن سليمان الروداني إلى المشرق و لازم في مصر دروس نور الدين الأجهوري، وشهاب الخفاجي، والشهاب القليوبي، ومحمد بن أحمد الشوبري، والشيخ سلطان، وقد أجازوه جميعا.  بعد ذلك  قصد الحرمين الشريفين حيث جاور سنين عديدة بمكة والمدينة، وأكب على التأليف والتدريس قبل أن ينتقل إلى القسطنطينية (إسطنبول) عام 1081/1670/1671م، وفي طريقه إليها توقف في الرملة، وهي مدينة صغيرة في فلسطين تقع في شمال شرق بيت المقدس حيث حضر أثناءها دروس شيخ الحنفية خير الدين الرملى، وأقام مدة في دمشق حضر أثناءها دروس الشيخين محمد بن بدر الدين الحنبلي ومحمد بن حمزة، ولما وصل إلى القسطنطينية التي أقام فيها سنة كاملة، نال حظوة فائقة بها عند العلماء وأصحاب السلطان على حد سواء.

ولمحمد بن سليمان الروداني تلاميذ كثر في المغرب والمشرق، منهم محمد بن أبي بكر الشبلي، مؤلف كتاب مشرع الراوي، في مناقب بني علوي (انظر كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي الملحق، 2: 617) ومحمد بن عبد الرحمن الفاسي، وأحمد بن تاج الدين الدمشقي، ومفتي مكة المكرمة الشيخ إمام الدين بن أحمد المرشدي العمري الحنفي.

ترجم لمحمد بن سليمان الروداني كثيرون نذكر منهم: أبو سالم العياشي، الرحلة، 2: 30 ـ 45، ومحمد اليفراني: الصفوة، ص: 196 – 198، ومحمد القادري: التقاط الدرر، ونشر المثاني، 2: 81ـ88، والحضيكي: طبقات، وم. الناصري: الرحلة، وع. ابن إبراهيم المراكشي: الإعلام، 4: 334ـ359 رقم 401، وعبد الله كنون: النبوغ، 1: 284 – 285، ومحمد ابن تاويت ومحمد عفيفي: الأدب المغربي، وعبد  الحي الكتاني: فهرس الفهارس، 1: 62، 317ـ321، 2: 118، وكارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، 2: 459 (610) والملحق، 2: 691، ومحمد المختار السوسي: سوس العالمة، ص: 181، وعبد السلام ابن سودة: دليل، 2. 304، ومحمد الحجوي: الفكر السامي، 4. 115ـ116، رقم: 773.

يكفي أن نعرف أن العلامة الكبير محمد بن سليمان الروداني يعتبر من تلاميذ محمد الواوزغتي لندرك قيمة البادية المغربية في تاريخ المغرب الفكري؛ قال محمد بن سليمان الرُّوداني (المتوفى: 1094هـ) في فهرس شيوخه المسمى «صلة الخلف بموصول السلف»، تحقيق محمد حجي دار النشر: دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة: الأولى، 1408هـ، 1988م (ص: 466) عن ظروف لقائه بشيخه الواوزغتي «كنت مجتازا إلى البلد الذي هو فيه إلى بلد آخر قصدته، وكنت أجد في نفسي كلما نظرت إلى بلده شدة الجذب إليه وقوة الشوق إليه فسألت ما هذا البلد؟ فقيل لي بلد فيه شيخ مربي صفته كذا وكذا فلم أملك نفسي حتى دخلت بلده فلقيني رجل خارج إلي وقال لي أمرني الشيخ أن اخرج إليك وآتيه بك، فلما دخلت عليه رفع إلي بصره فوقعت مغشيا علي بين يديه وبعد حين أفقت فوجدته يضرب بيده بين كتفي ويقول والله علي جمعهم إذا يشاء قدير: أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه. فأمرني بملازمته ومذاكرة أولاده بالعلم فقلت له أني طلبت كثيرا لكن إلي الآن ما فتح الله لي في شيء ولا اقدر على استخراج ولا الآجرومية وكنت إذ ذاك كذلك، فقال لي اجلس عندنا ودرس في كل علم شئت كل كتاب شئت ونطلب الله أن يفتح لك فجلست ودرست طائفة من الكتب التي كنت قرأتها وكنت إذا توقفت في شيء أحس بمعاني تلقى على قلبي كأنها أجرام وغالب تلك المعاني هي التي كانت مشائخنا تقررها لنا ولا نفهمها ولا أتذكرها قبل ذلك وكان مسكني لصيق مسكنه وعلى يد الواوزغتي فتح الله على الروداني أبواب العلم المستغلقة في وجهه، وانقشعت السحب والغيوم أمامه، وأصبح يرى بنور الله.. ولم تفصح المصادر عن المدة التي قضاها الروداني عند الشيخ الواوزغتي، لكن الراجح أن وفاة سيدي «امحند» «أومحند» (سنة 1062هـ) كانت سبب رحيل صاحبنا الروداني إلى الزاوية الدلائية ليبدأ مرحلة جديدة..».

كان محمد بن سليمان الروداني من أكابر الفقهاء والمحدثين أيضا، فأهله ذلك لان يشغل في مكة، بعد رجوعه من القسطنطينية عام 1082 – 1671 – 1672 منصب مفتي الحرمين الشريفين، فكان له من النفوذ القوى ما يمكنه من الفصل في جميع المسائل الفقهية الخاصة والعامة، ويجعل شريف مكة المكرمة يرجع إليه، ويصدر عن رأيه في جميع القضايا، ودامت تلك المكانة السامية للروداني إلى أن توفي شريف مكة عام (1093/1682م)، أي سنة واحدة قبل وفاة المترجم، وبعد ذلك زالت حظوته، وحكم عليه بالنفي إلى بيت المقدس. فامتنع من الذهاب إليه متعللا بانعدام الأمن في الطريق، وأخيرا ترك أسرته في مكة وذهب إلى دمشق حيث عاش وحيدا لا يخالط إلا قليلا من الناس، مكبا على التأليف. وهناك ألف كتابه المشهور في علم الحديث الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ، وقد طبع هذا الكتاب بالهند، وهو كتابعلى نمط جامع الأصول لابن الأثير (المتوفى عام 606هـ)، إلا أنه اتكثر منه تفصيلا.

يقول محمد الأخضر في كتابه (الحركة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية، دار الرشاد الحديثة، 1977) أن «الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ يحتوي، فضلا على ما في موطأ مالك بن أنس على أحاديث الكتب الخمسة التي هي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داوود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي. ومن المعلوم أن اصطلاح المحدثين في الأصل يضيف إلى الكتب الخمسة السابقة سنن ابن ماجه، لتتكون الكتب الستة الأساسية في التشريع، وقد تردد رأى المحدثين، خلال العصور، بين اعتماد الكتب الأربعة فقط (بإخراج كتابي الترمذي وابن ماجه فيهما من الأحاديث الضعيفة) أو الكتب الخمسة (بإخراج سنن ابن ماجة فقط)، أو الكتب الستة جميعا»[2]، وبذلك يكون المترجم قد تبع المعروف من تطور اصطلاح المحدثين. ويفيدنا محمد الأخضر في كتابه سالف الذكر أن محمد بن سليمان الروداني ألف كتابا آخر أوسع من الأول واشتمل، جامعا فيه بين أربعة عشر من كتب الحديث وسماه جمع الفوائد، لجامع الأصول ومجمع الزوائد[3] . اشتمل على أحاديث الكتب الستة السابقة، والموطأ، ومسند الدرامي، ومسند أحمد ابن حنبل، ومسند أبي يعلي الموصلي (المتوفى عام 307) ومسند البزاز (المتوفى عام 292)، ومعاجم الطبراني (المتوفى 360): الكبير والأوسط والصغير، ويعتبر رجال الحديث كتاب محمد بن سليمان الروداني هذا أحسن وأوفى من كتاب الهيثمي (المتوفى عام 808)، الذي جمع فيه من قبل أحاديث هذه المسانيد كلها.

وقد ألف ابن سليمان الروداني، علاوة على ذلك: أوائل الكتب الحديثية، ومختصر التحرير في أصول الحنفية[4]  لابن الهمام (المتوفى عام 861هـ)، وشرحه وترجم لنفسه في فهرسته سابقة الذكر «صلة الخلف بموصول السلف» التي ذكر فيها كل ما قرأ من الكتب والشيوخ الذين أخذ عنهم، وأعطى بالخصوص فكرة عن التعليم في عصره وعن أجواء الحركة الفكرية في مغرب القرن السابع عشر، وله في النحو حاشية على التسهيل، وحاشية على التوضيح، وكلاهما لابن مالك (المتوفى عام 739هـ) وشرحه، وفي صناعة قرض الشعر جدول في العروض، وفي طريق القوم منظومة في التصوف[5].

اشتهر محمد ابن سليمان الروداني بإتقانه لعلم الفلك، فقد صنع بالإضافة على إسطرلابات، أدوات فريدة من نوعها في ذلك العصر، في نفس الوقت الذي اخترع معاصره الفرنسي الشهير باسكال (1623-1662م) الآلة الحاسبة. ولإبراز قيمة صاحبنا الروداني في مجال الفلك والصناعات الدقيقة أسوق نصا ثمينا لمعاصره وصاحبه أبي سالم العياشي يقول فيه: «وكانت له يد صناع، يحسن غالب الحرف المهمة سيما الرقيقة العمل الرائقة الصنع، كالطرز العجيب، والصياغة المتقنة، وتسفير الكتب، والخرازة، وقد أخبرني أنه لما كان بمراكش كان يتفرغ في الأسبوع إلا يوم الخميس فيطلع فيه ثلاثة أزواج من السباط وأكثر، فيبيعها ويتقوت بها إلى الخميس الآخر، وله يد طولى في عمل الإسطرلابات، وغيرها من الآلات التوقيتية، كالأرباع، والدوائر، والإنصاف، والمكانات (الساعات).. ومن أعجب ما رأيته من صناعته أنه يجبر قوارير الزجاج المنصدمة بحسن احتيال، ولطف تدبير، إلى أن لا يكاد صدعها يبين، ويصير مثل الشعرة الرقيقة. فانظر أيها القارئ الكريم إلى عظمة هذا الفاضل؛ تبحر في العلوم الدينية واللغوية، وتفوق في العلوم الفلكية، وإتقان للصناعات الدقيقة»، وهذا ما ينبغي النظر إليه في سياقه الحضاري الشامل، فالرجل هنا يساهم في خدمة المدينة الإسلامية عبر تنزيل المعطيات العلمية النظرية في خبرات عملية تنفع الناس، وهذا في نظري هو نموذج العالم بالمفهوم الكوني لكلمة عالم فتأمل!!!

يقول محمد بن إبراهيم السملالي في الإعلام: «ومن ألطف ما أبدعه وأدق ما صنعه وأجل ما اخترعه الآلة الجامعة النافعة في علمي التوقيت والهيبة، ولم يسبق إلى مثلها، ولا حاذى أحد على شكلها، بل ابتكرها بفكره الفائق، وصنعه الرائق .. وهي كورة مستديرة الشكل، منعمة الصقل، مغشاة ببياض الوجه المموه بدهن الكنان، يحسبها الناظر بيضة من عسجد لإشراقها، مسطرة كلها دوائر ورسوم، قد ركبت عليها أخرى مجوفة منقسمة نصفين، فيها تخاريم وتجاويف لدوائر البروج وغيرها، مستديرة كالتي تحتها، مصقلة مصبوغة بلون أخضر، فيكون لها ولما يبدو من التي تحتها منظر رائق، ومخبر فائق. وهي التي تغني عن كل آلة تستعمل في فني التوقيت والهيئة، مع سهولة المدرك لكون الأشياء فيها محسوسة، والدوائر المتوهمة في الهيئة والتقاطع الذي بينها مشاهد فيها، وتخدم لسائر البلاد على اختلاف أعراضها وأطوالها، وحاصل القول فيها أن الوصف لا يكاد يحيط بها، ولا يعلم قدرها ومزيتها إلا من شاهدها وكانت له معرفة بالعلمين، فيرى ما يذهل الفكر ويحير النظر، ويعلم من اهتدى لاستخراج ذلك للعيان بعد أن كانت القرائح الجيدة تحير في تصوره ذهنا، قد أيد بنور الهدى وإلهام رباني»[6]، وقد كان أبو سالم العياشي أول من أدخل إلى المغرب آلة من هذا النوع أهداها الروداني نفسه، واستعملها بعد ذلك ابن عمه عبد الله العياشي في الزاوية الحمزاوية لتحقيق القبلة، وتصحيح محراب مسجدها[7].

ويقترح علينا الفاضل محمد الأخضر في كتابه (الحركة الأدبية على عهد الدولة العلوية، (دار الرشاد الحديثة، 1977م) في سياق حديثه عن رسالة ابن سليمان الروداني التي يبين فيها كيفية استعمال الكرة سماها «النافعة على الآلة الجامعة»[8]، أنه قد يكون من المفيد محاولة إعادة تركيب هذه الآلة اعتمادا على رسالة المؤلف، لأخذ فكرة عن تقدم الفلك في ذلك العصر، كما ألف منظومة طويلة في الفلك وشرحها[9]  رد فيها على نظريات بعض الرياضيين، معتمدا على قواعد وبراهين من عند. وإنني أرى أن هذه فكرة قيمة جديرة بالتطبيق، ولطالما دافعت بشراسة عن إحداث أوراش تطبيقية لتنزيل الخبرات العلمية الموجودة في كتب التراث العلمي العربي الإسلامي، وهذا ما أحاول القيام به شخصيا –بإمكانيات متواضعة- في مجالات النبات والطب والفلاحة.. ومن غريب الصدف أن الرياضي والفيزيائي الشهير نيوتن (1643-1727م) اخترع بعد موت محمد الروداني بمدة قصيرة قانون الجاذبية الأرضية (سنة 1687م). هكذا يتراكم العلم الكوني ويثمر ويقطف ثماره الفضلاء العقلاء أينما كانوا..

كما كان ابن سليمان الروداني رياضيا، وفقيها ومحدثا، ونحويا، ولغويا، كان كذلك أديبا، وقد اكتسب آثاره النثرية والشعرية طابعا خاصا إن لم نقل غريبا، مثلما هو الحال في الحرف الدقيقة التي كان يمارسها، والآلات الغريبة التي يصنعها. وهذه مقطوعة شعرية يجيب بها أحد أصدقائه، وهو يحيى ابن الباشا الإحسائي، بمناسبة مروره بالمدينة المنورة، في ثمانية أبيات من بحر المديد، رويها الهمزة تتفرع عنها عدة أبيات مختلفة البحر والروى، إذا ما قرئت عموديا أو أفقيا أو جزئيا. ويتركب من الحروف الأولى في الأبيات الأصلية كلمتا يحيى خذ إشارة إلى الآية الكريمة: ﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة﴾. مريم، 10.

ى  يفعت.. غرة بدر.. تباها لامع.. وجها..سمى.. الذكاء
أ  ارتقى.. على الأنام.. ضياه ساطع.. عطره.. شدى.. النداء
ى  يقظ.. فطن أريب.. لبيب شامخ.. المجد.. ذكي.. النهاء
ح  حاكم.. نظم اليتامى.. ذكاه بارع.. شعرا.. سنى البهاء
ى  يقتضي.. شكرا علينا.. ثناه باهر.. الحسن.. بهى.. النقاء
أ  أصله.. عند انفحام.. حباه رافع.. قدرا.. ولى.. اللواء
خ  خطبه.. في نسج.. بديع بحره.. طام.. وفي .. العطاء
ذ  ذراشي.. عبد الخزام.. شذاه هامع.. زهرا.. زهى.. الصباء

يعلق محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر على هذه الأبيات بقوله: «ولا حاجة إلى استخراج ما في هذه الأبيات من تكلف ومبالغة، بحيث لا يكاد يبقى فيها شيء إذا استثنينا ما تحتوي عليه من ضروب التكرار والحشو. وقد ينبه لذلك أبو سالم العياشي، فرجا من القارئ أن يتساهل مع الشاعر، ويغض الطرف عما في أسلوبه من ثقل، وفي أفكاره من رتابة: “لما اشتملت عليه من أفنان الفنون، ويانع الغصون»[10].

وكتب الروداني على إثر تلك الأبيات نثرا جاء فيه: «دونكما بكرا تدانيها، لأنك أخو أبيها، اقترحها فكر بارد، وقدحها زند خامد. قال تعالى: ﴿يخرج الحي من الميت﴾ وفقتها من القصائد عشرا، وفقتها من النوافخ نثرا، لتكون مكان قصيدتك بما لها، والحسنة بعشر أمثالها. ولهذا ساوت بقصائدها الظاهرة، أبيات قصيدتك الباهرة، فإن لاقيتها فيا فوزها بسعادتها، أو ألقيتها فيا خسارتها في تجارتها، فإن قلت الشعر بالشعر ربي، قلت التفضيل عند المالكية حاصل، والتحصيل بعد المعية فاصل، وقول باهرتك أن القريض على العبيد عسير، بمعنى عند وسبق القلم، فكتب مجل الكاف عينا، والثاء سينا، تذنيبا منه بنكتة كالشمس خفاها، والضياء دجاها».[11]

والحال أن صاحبنا الروداني لم يبدع في الأدب كما أبدع في الفلك والصناعات الدقيقة، ولا يضره ذلك في شيء لأنه ليس من أهل الأدب العالي المبرزين فيه، لكنه كان هاويا له.. لقد كان فكر ابن سليمان الروداني علميا أكثر منه أدبيا. فكانت كتاباته النثرية والشعرية، بما فيها من تعقيد وضروب تنسيق لا تخلو أحيانا من مهارة وبراعة، تذكر بالطرق الفنية، والآلات الدقيقة التي تنتجها يد الصناع.

لقد كان الروداني شخصية فذة لا محالة، وقد حاولت في هذه العجالة أن أبرز بعضا من جوانب شخصيته الفريدة، لكن ما أثارني في هذا الفاضل هو شغفه التطبيقي بالعلوم النافعة التي تحتاج كبير فكر وواسع نظر وقدرة على التجريب..

توفي محمد بن سليمان الروداني بدمشق في عاشر ذي الحجة الحرام عام 1094-31 أكتوبر 1683م[12]  ودفن بوصية منه، في التربة الايجية بسفح جبل قاسيون، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

—————————————————————-

1. انظر القادري، نشر المثاني، 1: 216، وك. بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 2: 355.

2. انظر ابن خلدون، المقدمة، طبعة بيروت، ص: 792-793.

3. انظر ع. ابن إبراهيم المراكشي، الأعلام، 4: 336 و339، وم.م السوسي، سوس العالمة، ص: 181.

4. شرح هذا الكتاب المسند محمد سعيد بن محمد سنبل الشافعي (انظر ع. ابن إبراهيم المراكشي الأعلام، 4. 359).

5. انظر. م. م السوسي، سوس العالمة، ص: 181.

6. ع. ابن إبراهيم المركشي، الأعلام، 4: 349-350. وقد كان أبو سالم العياشي أول من أدخل إلى المغرب آلة من هذا النوع أهداها الروداني نفسه واستعملها بعد ذلك ابن عمه عبد الله العياشي في الزاوية الحمزاوية لتحقيق القبلة وتصحيح محراب مسجدها، أنظر مجلة تطوان، 1963، عدد 8، ص: 162 مقال م. المنوني.

7. أنظر مجلة تطوان، 1963، عدد 8، ص: 162 مقال م. المنوني.

8. مخطوط المكتبة الحمزاوية، عدد 168، أنظر المرجع السابق، ص: 151.

9. طبعت المنظومة في الهند، وعنوان شرحها. مقاصد العوالي يقلائد اللآلي (مخطوط).

10. انظر ع ابن إبراهيم المراكشي، الأعلام 4: 357، نقلا عن رحلة العياشي.

11. نفس المصدر.

12. وليس عام 1682 كما حسبه ع. بن سودة في الدليل ص: 304، ولا عام 1095 كما في بعض المصادر الأخرى. انظر كتاب النبوغ المغربي، عبد الله  كنون، 1: 285.

Science

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق