مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويأعلام

محطات من حياة الفقيه والقاضي الشيخ لْعبيد بن لْحرمة البوعيطاوي

محطات من حياة الفقيه والقاضي الشيخ لْعبيد بن لْحرمة البوعيطاوي

أولا: النسب الشريف

الآباء الذين انحدر من صلبهم الفقيه يرتفع نسبهم إلى المولى إدريس، فقد اتفقت جل مصادر الأنساب ومشجرات أسرة الفقيه على أن أبا بكر بن عطاء الله هو الجد الأعلى لآل بوعيطة، ولأبي بكر هذا ابن هو الذي عرف بالعيطة في حروب البرتغال أوائلَ القرن العاشر الهجري، غير أن النقول قد اضطربت في اسمه فمنهم من قال سعيد بن أبي بكر، ذكر ذلك صاحب كتاب أعلام من الصحراء المغربية نقلا من وثيقة مخطوطة(1)، وسماه المختار السوسي في سوس العالمة  يحيى بن أبي بكر(2)، بل ذهب في خلال جزولة إلى أن أبا بكر نفسه هو صاحب العيطة(3)، وفي معلمة المغرب أن هذا الذي غادر ركراكة في القرن العاشر  إلى وادي نول للجهاد هو علي بوعيطة(4).

ومهما يكن من اختلاف في الاسم الذي يحتاج إلى تحرير بحثي في وثائق الأنساب، فقد تكاثر شرفاء بوعيطة فكان منهم: سيدي (اعليو)، وعلي بوشنة، وسيدي رحال، وغيرهم … وسيدي مسعود الولي الشهير، الذي صارت له ذرية استقرت بتكنة فانطبعت بطباع أهل الصحراء. وقد تكونت بعد ذلك الفروع الكبرى لذرية المجاهد الشريف بوعيطة التي نالت لاحقا من المولى الحسن الأول إثر زيارته لواد نول سنة 1303هـ، ظهيرا شريفا أسدل فيه أردية التوقير والاحترام على القبيلة.

ثانيا: الولادة والنشأة العلمية

من هذا الصلب الإدريسي الشريف وفي خيام قبيلة أولاد بوعيطة يوم العاشر من شعبان عام ألف وثلاثمائة وعشرة للهجرة(5) أنجبت السيدة الطاهرة رقية أو رغبة بنطق أهل الصحراء، الملقبة بالدّكَجة بنت امحمد بن علي بوشنة، صبيها المبارك من الشيخ الحرمة بن بوجمعة بن بوشنة، فازدان فراش أسرة أهل لْحرمَة بهذا المولود، وتألق نجم هذه الفخدة من فخدات أولاد بوعيطة في سماء العلم والأدب والمعرفة، لينشأ الابن في كنف الوالد الذي حمله على بساط الرعاية الوافرة والعناية الفائقة، يكلؤه ويتعهده، ممهدا له السبل نحو الشموخ العلمي والنبوغ الفقهي.

كان للشيخ لْحَرمة شغف بالعلم حتى اشتهرت في القبيلة ضيافتُه للعلماء وشدةُ كرمِهِ لهم، وكم زخر آل بوعيطة بالعلماء والفقهاء والشعراء، فكان الوالد يتشوف من الابن سلوك تلك المسالك ويتفرس من فلذته بلوغ العلا من هاتيك المدارك. سيما أن تلك البيئة الصحراوية القروية التي نشأت فيها هذه الأسرة كانت محاطة بالحضور القوي لأهل الشرف والصلاح والعلم، وهو ما جعل الابن يستمد، في كل ما يحيط به، قيما ضاربة في عمق التدين الأصيل، فتهذبت أخلاقه، واستوت على سوقها قريحته، وتفتقت على اتساع تلك الصحراء مواهبه العقلية والعلمية ونفذت بصيرته. فكان من آثار هذا الهمّ الذي استولى على الشيخ لْحَرمة وملك عليه لبّه أنِ اصطحب بعد رجوعه من إحدى أسفاره من الصحراء فقيها يسهر على تعليم أولاده، وكان هذا المحضري أول من فتح عليه الصبي عينه، وجلس بين يديه وتعلم منه، وكل أمل الوالد أن يصير ابنه من وجهاء العلم، ويصبح دُرة تزين عِقد الأسرة وتضيف لآل بوعيطة الشرفاء اسما آخر في ديوان علمائهم.  

هبّ الشيخ الحرمة يوما بلهفة يتقدم أبناءَه الصغار من بينهم الفتى لْعبيد، عندما ملأ قدومُ وفد الشيخ ماء العينين أسماعَ السكان، فانبرى من بين الجموع إلى اللقاء بالشيخ رجاء الدعاء والتبرك، ثم طفق يدفع إليه أبناءه الواحد تلو الآخر والشيخ ماء العينين يمسح على رؤوسهم ويدعو بالبركة والصلاح، فلما نظر إلى لْعبيد طرق فوق رأسه ثلاث طرقات وقال: هذا الرأس فيه ما فيه!!!، فحركت هذه النظرة همة الولد والوالد معا، حتى كان من هذا الصبي ما كان.

ولم يمض الكثير حتى أتم الفتى كتاب الله تعالى حفظا ورسما وتجويدا، وكان ذلك أولا على يد الفقيه الأستاذ سيدي محمد بن علي البعمراني، ثم بعده الفقيه سيدي خليل الفِلالي وعلى يديه أتقن الحفظ، وكان بين الفينة والأخرى يلقنه مبادئ بعض العلوم الشرعية، ولم يلبث أن انطلق إلى مدرسة الخميس بأيت بوبكر حيث يُدَرّس الفقيهُ سيدي علي اشطاب الحمزاوي(6) تلميذ الأستاذ أنجار فأخذ عنه أيضا. ويذكر بعض المقربين للأسرة أن سيدي لعبيد تتلمذ أيضا على يد الشيخ محمد ولد الفاضل، ولم أقف على ترجمته.

ثالثا: الرحلة العلمية

تاقت نفس الطالب للاستزادة في التفقه والمعرفة فرحل إلى بلاد الشياظمة ليأخذ مبادئ الفنون عن الأستاذ سيدي سعيد،  فقيه مدرسة سيدي عيسى بوخابية(7).

يذكر المختار السوسي عن المترجَم أنه رجع من رحلته العلمية هذه سنة 1330هـ، وعليه فإن فبين هذا التاريخ وتاريخ ولادته عشرون سنة، قضاها جلها في التتلمذ على يد الفقهاء والمشايخ إلى أن شب عقله على تلك الملكات التي يمتاز بها نجباء الطلبة في الصحراء ويطاولون بها الأقران في مهمات الفقه ومشكلاته، ويحاجون بها في ميادين العلم والأدب والشعر. ولعل سيدي لْعبيد في هذه الرحلة شده اللهف إلى عاصمة العلم فاس، وما يثبت رحلته إلى فاس هو سنده الصوفي الكتاني الذي أخذه هناك، كما أن بعضا من طلبة العلم يذكرون مخطوطا يوجد بموريتانيا فيه بعض مناقب هذا الفقيه وذكر فيه بعضا ممن كانوا يدرسون مع سيدي لعبيد في فاس، فإن صح وجود هذا المخطوط فقد يبرز معطيات أخرى عن المسار العلمي للفقيه سيما وأن فيه وصفا للشيخ سيدي لعبيد بكونه رجل زمانه في الصحراء وذا باع في القضاء، وفيه نسبه الشريف المنتهي عند علي بن أبي طالب، وهو أمر قد يساعد على مقارنة شجرات الأنساب مع التي بحوزة الأسرة وضبط أسماء الآباء فيها.

وأما مدرسة سيدي زوين فإن الذي يرجح أنه تلقى العلم والتكوين بها هو أن كثيرا من فقهاء وعلماء أهل بوعيطة كان لهم اتصال مستمر بهذه المدرسة العلمية منهم الفقيه سيدي امبارك ولد عبد الحي الذي تخرج بها قبل أن يرجع للتدريس بالسمارة وقد توفي حوالي 1986م.

لما آب الطالب النجيب إلى أهله سنة 1330هـ، وقد وفر زاده العلمي ورجح عقله وارتاد خلقه على التأدب مع العلماء والنهل منهم، لم يزدد إلا تعطشا لمزيد التعلم، فجلس إلى الفقيه الجليل والأستاذ الفاضل سيدي بوجمعة  ولد أحمدناه البوعيطي من أسرته، وقد كان هذا الأستاذ من خيرة العلماء الذين أنجبتهم الأسرة البوعيطية، تخرج على يد أبي بكر الفلالي وابنه عبد الله الذي كان قاضيا على كلميم قبل ولاية سيدي لعبيد، كما أن له نسبا علميا باركيا حيث أخذ عن بعض علماء آل بارك الله وأهل ابيري، وللمكانة العلمية لسيدي بوجمعة فقد لازمه سيدي لْعبيد مدة ثلاث سنوات يأخذ عنه القرآن والعلوم الشرعية.
كانت الصلات العلمية بين واد نون وبلاد شنقيط لا تنقطع، يتوارد العلماء الشناقطة إلى خيام هؤلاء ويسافر هؤلاء إلى محاضر أولئك وأسانيد العلوم الشرعية والكتب المشهورة المتداولة بينهم تترى، وقلما تقع على صلة علمية شنقيطية وادنونية إلا وتجدها مربوطة السند علميا وروحيا أيضا، فكان هذا دأب الأسر العلمية هنا في واد نون كما هو واقع عند أسرة آل بوعيطة. ففي سنة 1333 للهجرة، ورد إلى خيامها الفقيه الجليل سيدي محمد بن عبيدة الشنقيطي الإِدِغْبِـي، فلازمه الفقيه سيدي لعبيد حوالي سبع سنوات وهي ملازمة طويلة تكفي ليشتد فيها اللقاح العلمي للفقيه ويستوي تكوينه الفقهي على سوقه، فما أدراك كم قرأ عليه من المصنفات؟ وكم درس عليه من الفنون الشرعية والأدبية التي لا تُذكر إلا ويُذكر معها الشناقطة من شدة إتقانهم لها؟ على أن العلامة سيدي محمد بين عبيدة هذا، المنحدر من أسرة علمية كبرى كان نحريرا جهبذا، قد تتلمذ على محمد سالم المجلسي والعلامة المسمى بوه وآخرين، وكان عند قدومه إلى واد نون قد بلغ تسعين سنة، إلا أنه كما قال سيدي لعبيد كان لا يزال جَلدا(8)، كامل الادراكات قادرا على التلقين والتدريس، وكان هو الأستاذ المبرز في المدرسة البوعيطية هذه فالتف حوله طلبة العلم وحفظة القرآن، حتى أن أمثال الفقيه سيدي بوجمعة المذكور كان يأخذ عنه. فقدر الله تعالى ببالغ حكمته أن  يتصل سيدي لعبيد عن طريق هذا العلامة بسند المجلسيين الذين أخذ عنهم ولْد عبيدة، قبل أن يرحل عن الفانية إلى الباقية في السابع من رمضان عام 1339هـ إثر زورة قام بها إلى أسرير حيث دفن هناك. وها أنت ترى أن مقبرة أسرير وغيرها من مقابر واد نون تضم بين أحجارها علماء وصلحاء ينادي واجب التعريف بهم كل باحث ومهتم.
تبين الآن أن سيدي لْعبيد الذي قضى هذه المدَد متعلما وتلميذا بين يدي الشيوخ والفقهاء استجمع اليوم أسانيد علمية مختلفة، منها السند السوسي الذي أخذه عن الفقهاء السوسيين أمثال سيدي علي اشطاب الحمزاوي وسيدي علي البعمراني، ومنها السند الباركي عن سيدي بوجمعة، ومنها السند الشنقيطي السالمي نسبة إلى آل محمد سالم الذي أخذه عن سيدي محمد ولد عبيدة.
أما من حيث السند الصوفي، فقد أخبر سيدي لعبيد عن تلقيه الطريقة الكتانية بفاس، ذكر ذلك عنه المختار السوسي مشافهة في خلال جزولة قائلا: «وقد أخبرني أنه كتاني الطريقة  وأنه كان يكاتب شيخها بفاس»(9)، ونحسب أن هذه الرسائل الصوفية التي كانت بين سيدي لعبيد وشيخه الكتاني ستكون في غاية الأهمية لو تم التعريف بها، خاصة للمهتمين بإبراز العلاقات العلمية والروحية بين واد نون وفاس.
رابعا : الفقيه سيدي لْعبيد يتولى التدريس
بعد وفاة سيدي محمد ولد عبيدة الشنقيطي آلت مهمة التدريس والتعليم في هذه الخيمة الكبيرة لفقيهنا سيد لْعبيد فدام على ذلك إلى حدود سنة 1345هـ، فكان مبتدأ تدريسه وسط قبيلته أولاد بوعيطة، انكب حينها بكل عزم وحزم على تحفيظ القرآن، مشمرا عن ساعد الجد في أداء أمانة التعليم والتدريس.
ومسجد أبناء بوعيطة الذي تتلمذ فيه على يدي الفقيه سيدي لعبيد ثلةٌ من النجباء، لا تزال في أحباسه مجموعة من المصاحف التي نسخت بخط يده، فإنه ـ رحمه الله ـ عندما تنبه لقلة المصاحف المتداولة هناك انتدب تلاميذَه لنسخ كتاب الله تعالى كل طالب ينسخ نسختان، ونسخ هو بيده ضعف ما نسخ تلاميذه. ولا تقع هذه المهمة إلا من صاحب همة. فمن هنا تعلم كم كانت همة هذا الفقيه عالية، وكم كان حرصه على تعليم كتاب الله ونشر العلم في تلك الأقاصي كبيرا. وفي حوزة الأسرة البوعيطية الآن وثائق تثبت هذه الأحباس العلمية من كتب ومصاحف، كما زودنا بذلك المقربون(10).
ولم يتوقف هذا الكدح العلمي بخيمة أولاد بوعيطة إلا بعد أن حلت المجاعة التي بسببها تفرق عنه كثير من الناس، وبقي هو في أهله، كما ذكر المختار السوسي(11).
ثم إن الفقيه سيدي لعبيد جدد النشاط وعقد العزيمة على استئناف رسالته العلمية، بعد أن أدى من التعليم والتحفيظ في مسجد أولاد بوعيطة ما شاء أن يؤدي، متجها هذه المرة صوب لكَصابي(12)، يسوقه القدر إلى تلاميذ جدد، من أمثال محمد يحظيه بوعيدة، وأخيه علي بوعيدة أحد أهم الشخصيات حضورا في المشهد الوادنوني فيما بعد. وقد أخبرني الأستاذ عمر بوعيدة قال: كان والدي عليّ كلما ذُكر عنده القاضي سيدي لْعبيد أطرق رأسه وطفق يكرّر: «الله يرحمك أَسِيدي لْعْبيدْ!!» كلمة تشي بمدى إكباره لشيخه وشجنه على رحيله. ثم إنه ولي مشيخة القبيلة طيلة سنة كاملة، غير أني لم أتحقق زمنها، والظاهر أن ذلك كان قبل استوائه على كرسي القضاء. والحق أن جانب التدريس من حياة الفقيه لا يزال بحاجة إلى جمع معطيات من الرواية الشفوية عن المقربين للفقيه آنذاك..
خامسا : في رتبة القضاء
لقد تعاقب على القضاء في واد نون جملة من الفقهاء منهم الفقيه العالم سيدي محمود المتوفى 1230هـ وهو من أسرة بوشبوك العلمية تنتمي  إلى الولي الصالح سيدي محمد بن عمر اللمطي الأسريري(13)، ثم ولد خروف عبد الرحمان من تغمرت توفي نحو عام 1270هـ، ثم ولده محمد بن عبد الرحمن المتوفى نحو 1330هـ، ويعاصره سيدي علي بن البخاري الفلالي المتوفى عام 1228هـ، ثم خلفهما الشريف سيدي عبد الله بن أبي بكر الفلالي فكان قاضيا رسميا إلى أن مات عام 1356هـ وهو من أسرة فيلالية الأصل مشتهرة بالعلم(14).
وفي شهر جمادى الثانية من ذات السنة، عين سيدي لعبيد قاضيا على كلميم، فكان لتكوينه المتين وقوة عقله ورجاحة فهمه وحسن توظيفه للاستدلالات الشرعية واستحضاره لنصوص الفقهاء والراجحِ في المذهب، كلُّ الأثر على عَمله في رتبة القضاء، فذاع صيته وشاع أمره، وعرفت سيرته في التحكيم والقضاء، وسارت بذكرها قوافل الرّحل، حتى صار في العدل والصدع بالحق مضرب المثل. يقول الدكتور إدريس نقوري: «اشتهر القاضي سيدي لعبيد في النصف الأول من القرن الماضي بتدخلاته القضائية لفض العديد من المنازعات وأصدر في شأنها أحكاما لا يزال الناس يحتفظون بنسخ منها إلى جانب رسوم الملكية ووثائق أخرى»(15). 
تولى الفقيه القاضي هذه المهمة إلى أن عزل عنها حوالي 1954م، وذلك لما رفض الرضوخ للمستعمر الفرنسي وأبى الصلاة بالناس ونَحْر الأضحية يوم العيد لأن أمير المؤمنين المغفور له محمدا الخامس إذ ذاك كان في المنفى، فتعرض سيدي لْعبيد في هذه الفترة إلى محنة جعلته تحت إقامة جبرية بقي معها صابرا محتسبا، ما ضعفت شكيمته ولا فترت عن أداء الواجب عزيمته، فمارس الفتوى وهو ملازم لبيته كما هو ديدن الفقهاء الراسخين الذين لا تزيدهم المحن إلا رسوخا، ولا تقوى الابتلاءات على النيل من جذوة واجبهم تجاه المجتمع، فإنه إلى هذا الوقت صار المبرز في ساحة الفتوى والقضاء وتنزيل الأحكام، فلا سبيل له إلا سبيل نصرة الحق والمرابطة بثغر الإفتاء.
وبعدما انجلى ديجور هذا الحصار وانكشفت غمته عنه، تولى سيدي لعبيد مهمة الخطابة والإمامة بمسجد عبودة، وعُدّ أول خطيب في هذا المسجد الجامع إبان الاستعمار، فانبرى على ذلك المنبر الشهير الذي تعاقب عليه علماء واد نون وسوس والصحراء، تارة يعظ بموعظة الـمُذكّر الحاضر، وتارة يجول في الرقائق بجولات الصوفي المستغرق، ويزأر تارة أخرى بالحق ضد المستعمر زئير المدافع عن وطنه وملكه، لا تأخذه في الله تلك اللومات التي تأخذ ضعفاء اليقين والإيمان. والحمد لله أن بقيت أغلب تلك الخطب محفوظة مجموعة، شاهدة على هذه الفترة من حياة واد نون، وعلى دور رجال العلم والتصوف في إيقاظ الناس وتوجيههم إلى الله تعالى .
سادسا : التصدر لخطة العدالة
عين سيدي لعبيد عدلا بمحكمة كلميم سنة 1963م من طرف السيد عبد الهادي بوطالب وزير العدل آنذاك وبأمر منه لقاضي محكمة كلميم، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى وفاته سنة 1976م. فمضى على معهوده من التفاني في خدمة المسلمين وأداء الأمانة واستحضار الخوف من الله تعالى لا تمتد عينه إلى زهرة الدنيا، ولا يقبل من الأعطيات التي تُلقى بين يديه، بل يأخذ جزاءه وفق القواعد المرعية في خطة العدالة، كذا أخبرنا بهذا من عرفوه وخالطوه .
سابعا: خلقه وزهده:
اجتمعت للفقيه القاضي سيدي لْعبيد صفات الحلم والرفق وصفات الشجاعة والقوة، فكان له جناح يرحم الضعفاء وينصر المغلوبين ويحلم على من جهله، كما كان له جناح إقدام وإباية ينتزع الحقوق انتزاعا فيردها لأصحابها، حتى عرف عنه عدله وسادت في الناس أخبار استقامته، لم يغلب انتسابه إلى القضاء والفقه والجواب على النوازل وفض الخصومات وتسوية المظالم على جانب التصوف والزهد والاشتغال بالأوراد والانقطاع إلى ذكر الله، فاستجمع صفة الفقيه الحاذق والنوازلي المتمرس والقاضي العادل والصوفي الرباني، وهذه حالة تحلى بها الصادقون في هذه الربوع المباركة، فتجد تكوينهم الشرعي وسيرهم العلمية جامعة بين الفروع والعقائد والتصوف.
ثامنا: وفاته:
وفي ليلة السابع والعشرين أواخر شهر رمضان الأبرك، وتحت سماء كلميم التي تتزاحم فيها أصوات المتهجدين والمتبتلين وقراء كتاب الله، أسلم سيدي لْعبيد الروح لبارئها، ولبى الإمام نداء ربه عام 1396 للهجرة، الموافق لسنة 1976م، فدفن بهذه المدينة التي احتوت قبله جثامين العلماء والصالحين أمثال سيدي سيدي الغازي وسيدي عبد الواسع وسيدي بورجا وغيرهم، تاركا وراءه هذا الثناء الجميل من الوادنونيين وأهل الصحراء ممن عايشوه وأخذوا عنه، يلقن الآباءُ منهم للأبناء أخبار صدقه وإخلاصه، وينقلون إليهم ما عرف عنه من الصدع بالحق ونكران الذات والزهد في طلب الجاه والشهرة، وقد خلف ذرية مباركة، وإرثا علميا زاخرا، ومكتبة نفيسة تضم مخطوطات في مختلف العلوم منها مخطوط في نسب آل بوعيطة له، وفي الخزانة مجموع خطبه ووثائق في نوازله وأقضيته ومساهماته العلمية(16).

ملحق:
القاضي الفقيه لعبيد ولد لْحرمة
الوثيقة رقم 1: حبس على مسجد أبناء بوعيطة

الوثيقة 2 : فتوى أصدرها الفقيه سيدي لعبيد أفتى فيها لامرأة من قبيلة أيتوسى بلحوق ولدها بها

الوثيقة 3: مراسلة من وزارة العدل في فترة تولي سيدي لعبيد القضاء

إعداد :ذ.وديع اكونين

الهوامش :

1 ()محمد الجيلاني لعبدّ. أعلام من الصحراء المغربية ص: 35

2 ()المختار السوسي . سوس العالمة ص: 142

3 ()المختار السوسي. خلال جزولة 4/200

4 ()معلمة المغرب. 6/1812

5 ()كذا أرخ للولادة السوسيُّ في خلال جزولة. 4/200. وإذا صح هذا التاريخ فإنه يوافق سنة 1893 ميلادية. على أن هناك من يرى أن الفقيه ولد سنة 1882، فالفرق بين الروايتين ظاهر.

6 ()توفي نحو 1345ه. انظر خلال جزولة 4/200.

7 ()المصدر نفسه 4/200.

8 ()المصدر نفسه 4/200.

9 ()المصدر نفسه 4/200.

10 ()انظر الوثيقة رقم 1 المعنونة بـ : “حبس على مسجد أبناء بعيطا”. مضمنها التنبيه على أفضلية تعلم العلوم الشرعية والتحرز من مداخل الهوى التي تهلك طالب العلم. وهي موعظة لا تخلوا من نفس صوفي قوي، كتبها الفقيه سيدي لعبيد وحبسها على المسجد.

11 ()نفس المصدر : 4/200 . عن هذه المجاعة ذكر العلامة السوسي في ترجمة أحمد بن الحسين أُلكًود البعمراني ما يلي : في سنة 1345هـ دهمت القطر السوسي مسغبة شديدة أقفرت بها تلك النواحي وخصوصا المدارس التي كان معولها على ما تستفيده من القبائل فلما أسنت الناس كادت المدارس تصبح بلقعا يبابا ثم لم تعد لها عمارتها المعهودة من تلك السنة ولهذا خلت المدرسة البونعمانية كغيرها إلا من ثلة قليلة. انظر المعسول 12/192.

12 ()لكَصابي أو لقْصابي : تقع حوالي 12 كلم جنوب غرب مدينة كلميم بحوض وادي نون. وهي حسب كثير من الباحثين امتداد لمدينة تكاوست التاريخية التي تحدث عنها ليون الافريقي في كتابه وصف وافريقيا 1/120.

13 ()نقوري إدريس. ايت لحسن ص 297 و 298.

14 ()السوسي. خلال جزولة : 4/201

15 ()نقوري. ايت لحسن ص: 187. وانظر أيضا نماذج منها في الملحق (وثيقة رقم 2 و 3).

16 ()باستثناء ما أحلنا عليه من المصادر المكتوبة، فقد استقينا بقية الترجمة من نجل الفقيه القاطن بكلميم، ومن بعض الشرفاء البوعيطيين.

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق