مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

ما الكلـمة؟

إن «الكلمة» مصطلح مركزي في الدرس اللغوي والنحوي، قديمِه وحديثِه؛ ولهذا لا تكاد تخلو كتابة، في هذا المجال، من التطرُّق إليها تحديداً وتوضيحاً وتفريعاً. وعلى كثرة ما دُبِّج من حولها، إلا أنها ما تزال في حاجة إلى مزيد ضبط وإيضاح، لاسيما بعد أنْ التبست بها مفاهيم أخرى قريبة منها دلالياً، وهو ما سنحاول فعله في هذه المقالة عبر جملة من المحاور كالآتي:

1- الكلمة: معناها المعجمي، وأصلها الاشتقاقي:

ورد في معجم «مقاييس اللغة» أن الكاف واللام والميم أصْلان صحيحان، يدلّ أحدُهما على أي نُطق مُفهِم، وجَمْعُه «كلمات» (جمع سالم) و«كَلِم» (جمع تكسير). ومن هذا الوجه اللغوي «كلّمه تكليماً وكِلاّما، مثل كذّبه تكذيباً وكِذّاباً. وتكلَّم كلمةً وبكلمةٍ (يتعدى بنفسه وبواسطة الجارّ أيضاً). وكالَمَه جاوَبَه. وتكالَما بعد التهاجُر. وكانا متهاجرَيْن فأصبحا يتكالمان، ولا تقلْ: يتكلّمان. والكليمُ الذي يُكلِّمُك» («مختار الصّحاح» لابن أبي بكر الرازي، مادة «ك ل م»). ويدلّ الأصل الآخَر على الجراح؛ إذ «الكَلْم الجراحة. والجَمْعُ كُلومٌ وكِلامٌ. وقد كَلَمَه من باب ضرب، ومنه قراءةُ مَنْ قرأ «دابّة من الأرض تَكْلِمُهم»؛ أي تَجْرَحُهم وتَسِمُهم. والتكليم التجريح» (المعجم نفسه). والمُلاحَظ أن الأصلين معاً موضوعان محسوسان، وإنْ كان أولهما يُدرك بحاسة السمع، والثاني بحاسة البصر.

ونقف في معاجمَ لغويةٍ أخرى على معانٍ أخرى للكلمة، يقترب بها بعضهم من الدلالة الاصطلاحية؛ إذ نجد في مُعْجَمات منها أن الكلمة هي اللفظة الواحدة، المكوَّنة من بضعة حروف، والدالة على معنى مَا. ويُطلِق بعضها على أحرف الهجاء اسم «الكلمات»، وهو من المجاز اللغوي كما هو بادٍ. ووردت الكلمة بمعانٍ مجازية أخرى، في كثير من الآي والأحاديث ومظانّ اللغة والأدب العربييْن. إذ استُعْمِلت بمعنى الجملة المفيدة أو الكلام؛ كما في قوله تعالى: «وكلمة الله هي العُليا» (التوبة/ 40)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (صحيح البخاري)، وكما في قولهم: «لا إله إلا الله» كلمة التوحيد، وكما في قولك: «الكلمة الطيّبة صدقة». واستُعملت بمعنى البيت وكذا القصيدة بطُولها؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد بن ربيعة: [الطويل]

ألاَ كلُّ شيءٍ، ما خلا الله، باطلُ وكلُّ نعـيمٍ، لا مَحـالة، زائـلُ».

وقد ترد الكلمة بمعنى الخطبة أو الكلام الكثير؛ كقولنا: «ألقى المدير كلمة بمناسبة انطلاق الموسم الدراسي»، أو كقولنا: «ألقى الرئيس كلمة بمناسبة عيد استقلال بلده». فهذا من باب المجاز المُرْسَل، الذي علاقتُه الجُزئية، وهو من «المجاز المُهْمَل» لدى جمهور النحاة؛ كما ذكر الصبّان (ت 1206هـ) في حاشيته على شرح الأشموني، ولذا عِيبَ على ابن مالك الأندلسي (ت 672هـ) إشارته، في الألفية، إلى إمكان إطلاق الكلمة على الكلام، في قوله: «وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ».

فالكلمة، إذاً، تستعمل على وجه الحقيقة أحياناً، وعلى وجه المجاز أحياناً أخرى في لغة العرب. وأقربُ معانيها، على الوجه الأول، إلى المدلول الاصطلاحي النحوي أنها وحدة لغوية، قوامُها جملة أحرُف مترابطة، ذات دلالة محددة. فالبدر، مثلاً، كلمة معرّفة مؤلفة من ثلاثة حروف صحيحة، هي الباء والدال والراء، تدلّ مجتمعةً على معنى البدر المفهوم لدى مُستعمِلي اللغة العربية جميعاً؛ لأنها من القاموس المشترَك.

وفيما يخصّ اشتقاق لفظ «الكلمة»، قلنا إنه مأخوذ من الجذر اللغوي الثلاثي «ك ل م» الذي ترد تحته في أكثر معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة. وذكر بعضُهم أن اللفظ مشتقّ من الكَلْم، وهو الجرح، منطلِقين ممّا بدا لهم من مناسبةٍ بين معنيي الكلمتين، تتجلى في اشتراكهما في فعل التأثير؛ ذلك بأن الجراح تؤثر في المجروح وتؤلمه، كما أن الكلمات تؤثر في النفس أحياناً كثيرةً. إلا أن الرضي؛ شارحَ الكافية، رأى أن هذه المناسبة بعيدة بين المعنييْن، وغيرُ مُقْنِعة إقناعاً قويا.

وفي الكلمة ثلاثُ لغات، أفصحُها «كَلِمَة»، بفتح الكاف وكسر اللام، وبها جاء القرآن الكريم، وهي لغة أهل الحجاز. وهي لدى التميميّين بكسر الكاف وتسكين اللام (كِلْمَة)، وتحضرني نصوصٌ شعرية حديثة استعملت الكلمة بهذه الصورة اللفظية، منها – على سبيل المثال – قول الشاعر المغربي الراحل أحمد المعداوي في أول قصيدته «الخوف»: [الرَّجَز]

الكِلْمَة الصغيرهْ

تُقالُ

أو تُخَطّ

فوق الماءْ

تمشي بها الرّياحُ

وتبثها الرِّمالُ

في الصَّحراءْ». (الفروسية، ص 13)

ووردتِ اللفظة نفسُها، لدى بعض العرب، بفتح أولها وتسكين ثانيها (كَلْمَة)، وهي لغة منسوبة، كذلك، إلى قبيلة تميم. ولعلّ أول مَنْ ذكرها وسجّلها – من غير نسبة – إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 398هـ) في الصِّحاح.

2- الكلمة واستعـمالاتها القرآنية:

استعمل القرآن الكريم مُفرَدَة «الكلمة» وغيرها ممّا اشتقّ من جذرها اللغوي، سواء أكان بصيغة اسمية ومصدرية أم بصيغة فعلية، مراتٍ كثيرة، أحْصَيْتُ منها خمساً وخمسين (55)، قاصِداً بذلك، تحديداً، ما كان منها لفظا ظاهرا غيرَ مُضْمَر. وسأوضح ذلك في الجدول الموالي، مع إبراز الصورة الشكلية التي ورد عليها اللفظ من حيث الإضافة أو عدمُها، وتعيين أماكن وُرودها في القرآن تسهيلاً لأمْر العودة إليها.

اللفـظ   مرات وروده في القرآن   مكان وروده فيه (السورة والآية)

الكلمة:  مضافة 15  الأنعام/ 115، الأعراف/ 137، التوبة/ 40، التوبة/ 40، التوبة/ 74، يونس/ 33، يونس/ 96، هود/ 119، الزمر/ 19، الزمر/ 71، غافر/ 6، الشورى/ 21، الفتح/ 26، الصافات/ 171، النساء/ 171.

غير مضافة : 13  آل عمران/ 39، آل عمران/ 45، آل عمران/ 64، يونس/ 19، هود/ 110، إبراهيم/ 24، إبراهيم/ 26، الكهف/ 5، طه/ 129، المؤمنون/ 100، فصلت/ 45، الشورى/ 14، الزخرف/ 28.

الكلمات : مضافة  11 الأنعام/ 34 + 115، يونس/ 64 + 82، الكهف/ 109 + 109 + 27، لقمان/ 27، التحريم/ 12، الأعراف/ 116، الشورى/ 24.

غير مضافة:  2  البقرة/ 37، البقرة/ 124.

الكلم (من غير إضافة) 4  النساء/ 46، المائدة/ 13، المائدة 41، فاطر/ 10.

الكلام (بالإضافة) 4 البقرة/ 75، التوبة/ 6، الفتح/ 15، الأعراف/ 144.

كلّم 5 النساء/ 164، الرعد/ 31، الأعراف/ 143، يوسف/ 54، الأنعام/ 111.

التكليم 1 النساء 164.

لقد أضيفت «الكلمة» في القرآن إلى الله تعالى في الغالب (9 مرات)، كما أضيفت إلى الذين كفروا (مرة واحدة)، وإلى الكفر (مرة واحدة)، وإلى العذاب (مرتين)، وإلى الفصل (مرة واحدة)، وإلى الفتح (مرة واحدة). على حين نلاحظ أن «الكلمات» (بالجمع) لم ترد في القرآن مضافةً إلا إلى الله سبحانه وتعالى (كلمات الله – كلمات ربي/ ربِّها)، وجاء المضافُ إليه مضمراً في حوالي نصف هذه المرات الإحدى عشْرة. والملاحظ، كذلك، أن لفظ «الكلِم» ورد غير مضاف في القرآن، بخلاف لفظ «الكلام» الذي أضيف فيه إلى اسم الجلالة في الآيات الأربع كلها، سواء أكان ظاهراً (كلام الله) أو معبرّا عنه بضمير متصل (كلامي = كلام الله)؛ ممّا يدل على أن المقصود بالكلام، في الاستعمال القرآني، هو كلامه عز وجلّ فقط.

ويظهر من قراءة النصوص القرآنية التي ورد فيها لفظ من مشتقات جذر الكلمة اللغوي، أيّا كانت صورته، أن لها فيها عدة معانٍ، لعلّ من أهمِّها:

* كلام الله تعالى: وهو نوعان في هذه النصوص؛ أحدهما كلام الله المحدَّد في القرآن الكريم، الموحى به إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم، والثاني كلامه بصفة عامة أو غير المحدد في القرآن. فمن شواهد النوع الأول قوله تعالى: «وإنْ أحدٌ من المشركين استجارَكَ فأجِرْه حتى يسمعَ كلامَ الله» (التوبة/ 6). ومن شواهد الثاني قوله: «قلْ لو كان البَحْرُ مِداداً لكلمات ربي لَنَفِدَ البحر قبل أن تنْفَدَ كلماتُ ربّي» (الكهف/ 109)، وقوله: «وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يُحَرّفونه» (البقرة/ 75)، وقوله: «وكلم الله موسى تكليماً» (النساء/ 164). على أنه قد يراد بهذا الكلام، أو ما يدور في فلكه من مشتقات جذره الأصلي، قليل من الكلمات؛ كما في قوله تعالى: «فتلقَّى آدمُ من ربه كلمات» (البقرة/ 37). فهذه الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام وحْياً من ربه قليلة، اختلف أهل التفسير والتأويل في بيانها وتحديدها؛ فـ«قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: «ربّنا ظلمْنا أنفسنا وإنْ لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين» (الأعراف/ 23). وعن مجاهد أيضاً: «سبحانك اللهُمَّ لا إله إلا أنتَ ربي ظلمتُ نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم». وقالت طائفة: رأى مكتوباً على ساق العرش «محمد رسول الله» فتشفّع بذلك، فهي الكلمات … وعن ابن عباس ووهب بن منبِّه أن الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت عملتُ سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت عملتُ سوءاً وظلمت نفسي فتُبْ عليَّ إنك أنتَ التوّابُ الرحيم»…» (الجامع لأحكام القرآن، 1/221 – 223)

وإنّ كلام الله أو مكالمتَه العبدَ صنفان؛ أحدهما في الدنيا، وهو وحْيُه لأنبيائه ورسله، وتكليمه لهم؛ كما في قوله تعالى: «وكلّم الله موسى تكليما» (النساء/ 164). والآخَرُ في الآخرة، مع أهل الجنة الأبرار، دون الكافرين، وهو جزاء منه سبحانه لعباده المؤمنين وامتياز وتكريم عظيم.

* كلام الآدميّين، كثُر أم قلّ: وهو – في الغالب – كلام الأحياء؛ كما في قوله تعالى: «كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم» (الكهف/ 5)، وفي قوله: «قالوا كيف نكلم مَنْ كان في المهد صبيا» (مريم/ 29). وقد يراد به كلام الموتى الذي لا يسمعه البشر؛ كما يُفهَم من تفسير بعضهم لقوله تعالى: «كلاّ إنها كلمة هو قائلُها» (المؤمنون/ 100). جاء في تفسير الإمام القرطبي (ت 671هـ): «وقيل «كلاّ إنها كلمة هو قائلها» ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخّر نفساً إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل: «كلاّ إنها كلمة هو قائلها» عند الموت، ولكن لا تنفع». (الجامع، 12/ 100)

* عيسى عليه السلام كلمة الله: لقد سمّى القرآن الكريم عيسى بن مريم بـ«كلمة الله»، وذلك في الآية: «إنما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم، وورحٌ منه» (النساء/ 171). ذلك بأنه «مكوَّن بكلمة «كُنْ» فكان بشراً من غير أب، والعربُ تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادراً عنه. وقيل «كلمته» بشارة الله تعالى مريم عليها السلام، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام، وذلك قوله: «إذ قالت الملائكة يا مريمُ إنّ الله يُبشّرك بكلمةٍ منه» (آل عمران/ 45). وقيل «الكلمة» ههنا بمعنى الآية، قال الله تعالى: «وصدّقتْ بكلمات ربها» (التحريم/ 12)، و«ما نفِدت كلماتُ الله» (لقمان/ 27). وكان لعيسى أربعة أسماء: المسيح وعيسى وكلمة وروح». (الجامع، 6/16 – 17). وجاء في «مختار الصحاح»: «وعيسى عليه السلام كلمة الله؛ لأنه لمّا انتُفع به في الدين كما انتفع بكلامه، سُمّي به كما يقال: فلان سيف الله، وأسد الله». (ص 577)

* الأشياء المُبْتَلى بها في الحياة الدنيا: وهذا المعنى ظاهرٌ من قوله تعالى: «وإذِ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمّهُنّ» (البقرة/ 124). وللمفسرين أقوالٌ عدة في تفسير لفظ «كلمات» الوارد ها هنا. و«الكلمات الإلهية» – كما قال الشريف الجُرْجاني (ت 816هـ) – هي «ما تعيَّن من الحقيقة الجوهرية، وصار موجوداً» (التعريفات، ص 98). فمن التفسيرات ما ذكره القرطبي قائلاً: «اختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال، أحدُها: شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهماً… قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ابتلى الله أحداً بهنّ فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتُليَ بالإسلام فأتمَّه… وقال بعضهم: بالأمر والنهي. وقال بعضهم: بذبح ابنه. وقال بعضهم: بأداء الرسالة؛ والمعنى متقارب… وذكر عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن ابن عباس في قوله «وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن» قال: ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس: قصّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسِّواك، وفَرْق الشعر. وخمس في الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتْف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء؛ وعلى هذا القول، فالذي أتمّ هو إبراهيم، وهو ظاهر القرآن… وقال قتادة: هي مناسك الحج خاصة… قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن هذا كله ممّا ابتُليَ به إبراهيم عليه السلام». (الجامع، 2/67 – 68)

* مواعيد الله تعالى التي لا مغيِّر لها: وهذا المعنى ممّا فُسِّرت به الكلمات في قوله تعالى «وتمّت كلماتُ ربك صدقاً وعدْلاً» (الأنعام/ 116). جاء في جامع القرطبي بخصوص هذه الآية: «قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغيّر لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدِّلَ له، لا يزيد فيه المُفْتَرون ولا ينقصون». (7/47)

3- الكلمة في الاصطلاح وأقسامها:

قبل الخوض في هذه النقطة، لا بد من الإشارة إلى أنه ليس ثمة تعريف جامع مانع؛ كما يقول المَناطِقة، لمفهوم الكلمة، وإلى أنه لم يحصل الاتفاق، في أي عصر أو زمن، على ضبطه بحدٍّ معين، بل إن الباحث لَيَقفُ على جملة وافرة من تعاريفه، سواء لدى العرب أو لدى غيرهم، وذلك أمرٌ مُستساغ جدّا لاختلاف اللغات نفسها، وتبايُن خواصّها التركيبية والنحوية. ومن هنا، نفهم علة اختلاف تلك التعاريف. يقول د. تمّام حسّان: «إن فكرة الكلمة – كبعض الأفكار اللغوية الأخرى – لا يمكن أن تعرّف تعريفاً ينطبق عليها في كل اللغات، وإنما تستقلّ في كل لغة بتعريف خاصّ بها، مُسْتقى من طبيعة اللغة، ووسائلها الخاصة في التركيب». (مناهج البحث في اللغة، ص 259)

لقد عرّف بعضُ لُغَويّي العرب ونُحاتهم الكلمة بأنها «اللفظ المفرد» (كالأشموني والعُكْبَري)، وهو تعريف ناقص كما هو واضح، نصَّ على عنصرين من عناصر تحديد ماهية الكلمة؛ إذ عرَّفها بأنها لفظ لا خطٌّ أو عقد أو إشارة أو نصبة، وهذه الخمسة هي مُجْمَل الأشياء الدّالة؛ كما قال ابن يعيش، وبأنّها موسومة بالإفراد لا التركيب. وعليه، تغدو لفظة «كتاب» كلمة، و«بتكا» – المحصَّل عليها بتغيير مواقع أحرف الكلمة الأولى – كلمة أيضاً، مع أن الأولى مستعمَلة، على حين أن الثانية غير مستعملة لغوياً. فقضية الدلالة على معنى بوصفها شرطاً في التعريف غيرُ وادرة ألبتة في هذا التحديد القديم.

وسَرْعان ما تنبّه نحاتنا إلى هذه الثغرة، فبادروا باقتراح تعريفات أخرى، أدقّ وأكثر استيعاباً، لمفهوم الكلمة، من أبرز سماتها التنصيص على عنصر الدلالة. فهذا جار الله الزمخشري (ت 538هـ) يعرِّف الكلمة بأنها «اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع» (المفصل، ص 6). وعرّفها ابن معطي (ت 628هـ) بأنها «اللفظ المفرد الدال على معنى مفرد» (الفصول الخمسون، ص 31). وعرفها ابن عقيل (ت 769هـ) بأنها «اللفظ الموضوع لمعنى مفرد» (شرح ابن عقيل، 1/16). وعرفها ابن مالك بالقول: «الكلمة لفظ مستقلّ دالّ بالوضع تحقيقاً أو تقديراً، أو منوي معه كذلك» (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، ص 3). وذكر محمد بن عيسى السلسيلي (ت 770هـ) في شرح كلام ابن مالك أنه «احترز بالمستقل من بعض اسم؛ كالتاء في (مسْلمة)، ومن بعض فعل؛ كهمزة (اعلم). وأما قوله «تحقيقاً أو تقديراً» فمثالُ التحقيق (رجل)، فإنه دالّ على مسمّاه تحقيقاً، ومثالُ التقدير أحد جزأي العلَم المضاف؛ كامرئ القيس، فمن حيث المدلول هو كلمة واحدة، ومن حيث التركيب كلمتان. وقوله «أو منوي معه» قسيمُ (لفظ) الوارد في أول التعريف؛ لأن الكلمة قسمان: ملفوظة أو منوية مع اللفظ؛ كالفاعل في (افعَلْ). وأما قوله «كذلك» فقد حكي عن ابن مالك نفسه أنه إشارة إلى الدلالة والاستقلال؛ أي: معنى هذا المَنْويّ معنى المستقلّ الدال بالوضع. واحترز بـ(كذلك) من الإعراب المقدَّر في (فتى) ونحوه، وإنْ كان منويا مع اللفظ، لكنه ليس مستقلا دالاّ بالوضع، فلا يكون كلمة، بخلاف الفاعل المسْتكِن في الفعل». (شفاء العليل في إيضاح التسهيل، 1/95 – 96)

إن هذه التعاريف، وغيرها كثير، تشترك في جملة من العناصر كما هو بادٍ للعِيان، وتحدِّد المُعَرَّف بالجنس والفصل معاً. بحيث يتجلى الأول في اتفاقها على أن الكلمة لفظ(ة) بصفة عامة، سواء أكانت مستعملة (كزَيْد) أم مُهْمَلة (كدَيْز؛ مقلوب «زَيْد»). ويتجلى الثاني – في الواقع – في أكثر من فصل؛ إذ تشترط هذه التعريفات في الكلمة أن تكون دالةً على معنى، وبذلك يخرج من نطاق تعريفها كلّ لفظ غير مستعمل في اللغة. وتشترط فيها، كذلك، الإفراد احْتِرازاً من دخول خاصية التركيب، اللفظي أو المعنوي، في التعريف، وتجنباً لاختلاط الكلمة بالكلام أو الكلم. وإلحاحُ بعض هذه التعريفات على مسألة الوضع فصلٌ آخرُ يراد من إيراده إقصاء ما قد يدل بغير الوضع، كـ«قول النائم: أخ، فإنه يُفهم منه استغراقه في النوم»؛ على حد تعبير ابن يعيش في شرحه على مفصَّل الزمخشري (1/19). ونصَّ بعضهم على استقلالية الكلمة احترازاً من انصراف معنى الكلمة إلى بعض اسم أو فعل.

وقد أضاف بدر الدين محمد ابنُ صاحب «الألفية» المشهورة (ت 686هـ) إلى التعاريف المتقدمة إضافةً لغوية شكلية عند تفصيله لأول عنصر فيها؛ حيث قال في شرحه على ألفية أبيه: «الكلمة لفظ بالقوة أو لفظ بالفعل، مستقلّ، دالّ بجُملته على معنى مفرَد بالوضع». فقد ذكر، في حَدِّه، قسْمي اللفظ، مستعمِلاً اصطلاحات الفلسفة الإسلامية؛ إذ عبّر بـ«القوة» عمّا عبَّر عنه أبوه بـ«المنوي»، وبـ«الفعل» عمّا عبَّر عنه أبوه بالملفوظ أو «اللفظ»، سواء أكان محققا أم مقدّراً. فالأمر، إذاً، يتعلق بنوعين من الكلمة، سمّاهما الشريف الجرجاني، وآخرون، بـ«الكلمة القولية» و«الكلمة الوجودية»، اللتين قال عنهما صاحب «التعريفات» إنهما «عبارة عن تعيُّنات واقعة على النفس؛ إذ القوليةُ واقعة على النفس الإنساني، والوجودية على النفس الرحماني الذي هو صُوَر العالَم الهُيولاني، وليس إلا عين الطبيعة. فصُوَرُ الموجودات كلها طارئة على النفس الرحماني، وهو الوُجود». (ص 98) وكلام النفس، كما قال أحدهم، هو «ما يحصل في النفس من حيث أن يدلّ عليه بعبارة أو إشارة أو كتابة، سواء أكان علما أم إرادة أم إذعاناً أم خبرا أم استخبارا أم غير ذلك». وإخراجُ هذا الكلام الداخلي إلى حيز الوجود الفعلي هو ما يُطلق عليه بعضُهم مُصطلح «التكلم»، الذي يَشترط فيه جمهور النحاة القصد والنية.

ونختم حديثنا عن مفهوم «الكلمة» اصطلاحاً بإيراد بعض ما عُرّفت به اللفظة لدى غير العرب حديثاً. فقد عرّفها، مثلا، الأمريكي بلومفيلد (Bloomfield) بأنها «أصغر صيغة حُرّة»، أو هي «المُونيم» (Monème) بالاصطلاح اللّسانياتي المعروف. وعرّفها ياسپرسن (Jespersen) بأنها «وحدات لغوية، ولكنها ليست وحدات أصواتية»… إلخ.

وقد دأب نحاة العربية وعلماؤها، منذ القدم، على تقسيم الكلمة إلى ثلاثة أقسام، هي «اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل»؛ على حد تعبير أبي بشْر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه (ت 180هـ) في «الكتاب» (1/12)، وذلك بعد استقرائهم كلامَ العرب. قال صاحب «مُغْني اللبيب عن كتب الأعاريب»: «والدليل على انحصار أنواع الكلمة في هذه الثلاثة الاستقراءُ؛ فإنّ علماء هذا الفن تتبَّعوا كلام العرب، فلم يجدوا إلا ثلاثة أنواع، ولو كان ثَمَّ نوع رابع لعثروا على شيء منه». ويؤكد بعضهم أن هذه القسمة الثلاثية ليست حكْراً على اللغة العربية، بل هي شأن لغات الأرض جميعِها (ابن الخبّاز المتوفى سنة 637 هـ)، بدليل عقلي مُؤدّاه أن المعاني ثلاثة أنواع: ذات (الاسم)، وحدث (الفعل)، ورابطة تصل الحدث بالذات (الحرف). وقد ظلّ العلماء والنحاة يردِّدون هذا التقسيم، على امتداد قرون طويلة، دون أنْ يثير أحد أي شكوك من حوله، ودون أن يتعرض إليه بانتقاد، إلى أنْ قام دارس معاصر، هو تمام حسان، فحاول أن يعيد النظر في هذا التقسيم الكلاسيكي في اتجاه تعديله وتوسيعه، لمّا رآه قاصراً غيرَ مستوْعِبٍ أنواعاً أخرى من الكلمة. فقد عقد، في كتابه «اللغة العربية: معناها ومبناها»، فصلاً بعنوان «أقسام الكَلِم»، عبَّر فيه عن موقفه الصريح من التقسيم المشار إليه قائلاً: «أول ما نبدأ به أننا نجد التقسيم الذي جاء به النحاة بحاجة إلى إعادة النظر، ومحاولة التعديل، بإنشاء قسم جديد مَبني على استخدامٍ أكثرَ دقة لاعتباريِ المبنى والمعنى» (ص 88). وقد أوْصَلَ الرجل عدد أقسام الكلم إلى سبعة، وأفاض في بيانها والدفاع عنها، في كتابه المُومَإ إليه قبْلُ، وهي: الاسم، والصفة، والفعل، والضمير، والخالفة، والظرْف، والأداة.

4- الكلمة وصِلَتُها بمفاهيم مُجاورة:

يلتبس مفهوم الكلمة بجملةِ مفاهيمَ أخرى التباساً يُوقِع الكثيرين في الخلط أحياناً، ويَدْعُونا – في الوقت نفسه – إلى بيان الحدود الفاصلة بينها، وضبط مَدَاليلها بما يجعلها واضحةَ المعاني في أذهان مُسْتعْمِليها أو مُصادِفيها لدى تعامُلهم مع كتابات اللغة والنحو العربيين خصوصاً. فالكلمة، كما بيّنّا آنفاً، لفظ مفرد، مستقل، دالّ على معنى مَا بالوضع لا بالعُرف أو غيره. وهو تعريفٌ ينطوي على جملة قيود، تتيح إخراج كثير من الأشياء من نطاق حدّ الكلمة؛ كالألفاظ المهملة، والأقوال الدالة بغير المُواضَعة، وما يدلّ على معنى مركّب. وتُجمع الكلمة جَمْعين، أحدُهما «الكَلِم»، وهو اسم جنس جمعي، وهذا مصطلح قديم يُراد به مجموعة من الجموع يُميَّز بينها وبين مفرداتها بالتاء المربوطة (مثل: شجر/ شجرة)، أو بالياء المشدّدة (مثل: جُنْد/ جُندي). ويقابله اسم الجنس الإفرادي، وهو ما يكون لفظه واحداً ثابتاً في حالتي الجمع والإفراد؛ نحو: العسل والذهب.

ويُعرف الكلم، اصطلاحاً، بأنه ما تَرَكَّب من ثلاث كلمات فأكثر، حصلت الفائدة (مثل قولك: إنْ جاء زيد أكْرمه)، أو لم تحصل به (مثل قولك: إن جاء زيد). فشرطُه، إذاً، التركيب اللغوي بقطع النظر عن حصول الفائدة. فكلُّ تعبير مؤلَّف من أكثر من كلمتين يسمّى كَلِماً، حتى وإنْ كان غير ذي معنى مفيد. وحين تحصل الفائدة، هنا، نكون بصدد كلام، أو أقرب إليه على الأقل. تُرَى فما الكلام؟

الكلام، في لغة العرب، هو القول أو ما يُتكلَّم به، أفادَ أم لم يُفِدْ. وهو – من حيث طبيعتُه الصرفية – اسمُ مصدرٍ لا مصدر حقيقيّ؛ لأنه يُقال، في العربية، كلَّم تكليما وكِلاّماً، وتكلَّم تكلُّماً وتَكِلاّماً، وتكالَم تكالُماً، وكالَم مُكالَمةً. فهذه هي المصادر الحقيقية القياسيّة للأفعال المشتقّ منها تلك الصيغ المصدرية على اختلافها (أخْذاً برأي مدرسة الكوفة في مسألة أصل الاشتقاق).

ويُراد به، في عُرْف النحاة، «اللفظ المفيد فائدةً يحْسُن السكوت عليها». وبتحليلنا تعريفَ ابن عقيل هذا، يتضح أنه يشدِّدُ على ضرورة توفر ثلاثة عناصر في مفهوم الكلام؛ أولها أن يكون لفظاً، ومعناه – في معاجم اللغة – المَجّ والرَّمْي. قال ابن أبي بكر الرازي (ت 666هـ): «لفَظَ الشيءَ من فمِه رَماهُ، وذلكَ الشيْءُ المَرْمِيُّ لُفاظَة. ولَفَظَ بالكلام وتلفَّظ به تكلَّمَ به، وبابهما ضرب. واللفظ واحدُ الألفاظ، وهو في الأصل مصْدَر» (مختار الصحاح، ص 601). ويراد به، في الاصطلاح العلمي، «ما يَتلفّظ به الإنسان أو ما في حُكْمه، مهملاً كان أو مستعْمَلاً» (التعريفات، ص 102). أو هو كلّ صوتٍ، قليلاً كان أو كثيراً، دلَّ على معنى أو لم يدلّ. ومن هنا، يتبدّى أن اللفظ جنس عامّ يشمل الكلمة والكلام والكلم جميعاً. وتقتضي عملية إصدار اللفظ/ الصوت (التلفظ) ثلاثة عناصر أساسية، هي: اللاّفِظ، واللفظ، والملفوظ به.. الفاعل، والفعل، والمفعول. ولكنّا حين نُطْلق هذا المصطلح ينصرف ذهننا، مباشرة، إلى العنصر الثالث باعتبار أن العملية التلفظية هي طرْح أو إخراج الصوت أو المجموع الصوتي من الرئتين، وتحقيقه عبر آليات ومراحل، حتى يصل إلى أذن المستمع. ويتجلى العنصرالثاني، من عناصر تعريف ابن عقيل، في الإفادة؛ أي إنَّ شرط الكلام أن يكون مفيداً، وبذلك يخرجُ من التعريف المُهْمَلُ (مثل دَيْز). وقال ابن عقيل، وغيره، إن هذه الفائدة ممّا يحْسُن السكوت عليها، وعدم التصريح بها في ثنايا الكلام؛ بحيث لا يصير السامع محتاجاً إلى أن يُذكَر له شيءٌ آخر يتوقف عليه حصول تلك الفائدة لديه. وبهذا القيد «أخرج الكلمة وبعض الكلم، وهو ما تركّب من ثلاثة كلمات فأكثر، ولم يحسن السكوت عليه؛ نحو: إنْ قام زيد».

ولا يمكن أن يكون الكلام مفيداً تلك الإفادة إلا بالتركيب؛ إذ يلزم أنْ يتركَّب، على الأقل، من كلمتين بينهما نسبة إسنادية رابطة ومحققة لشرط الإفادة المهم جدّا في تعريف الكلام. قال ابن عَقيل: «ولا يتركب الكلام إلا من اسمين؛ نحو: «زيدٌ قائم»، أو من فعل واسم؛ كـ«قامَ زيد»، وكقول ابن مالك – في ألفيته – «استقمْ»، فإنه كلام مركب من فعل أمر وفاعل مستتر، والتقدير: استقم أنتَ، فاستغنى بالمثال عنْ أن يقول: «فائدة يحسُن السكوت عليها»، فكأنه قال: «الكلام هو اللفظ المفيد فائدةً كفائدة استقم»…» (شرح ابن عقيل، 1/15). ولا يحصل هذا الإسنادُ بين حرفين، أو فعلين، أو بين حرف واسم، أو بين حرف وفعل. والتركيبُ، كما يُفهم من قول ابن عقيل، إما أن يكون على سبيل التحقيق (زيد قائم – قام زيد)، وإما أن يكون على سبيل التقدير (استقم).

وتنصّ تعاريف أخرى على شرط التركيب بوضوح؛ كما في قول بعض النحاة: «الكلام هو اللفظ المركب المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، بالوضع العربي». والمركَّب، اصطلاحاً، هو «ما دلّ جزؤه على جزء معناه»، وهو أنواع كثيرة، منها: المركب الإضافي (غلامُ زيدٍ مُقْبلٌ)، والمركب الوصفي أو النعتي (هذه بناية شاهقة)، والمركب الإسنادي (أمطرتِ السماءُ)، والمركب المَزْجيّ (زرتُ حضرموت)، والمركب العطفي (نجح زيد وعمْرٌو)، والمركب الحالي (هو جاري بيْتَ بيْتَ – ذهب وهو غاضبٌ)، والمركب التوكيديّ (أكلت التفاحةَ كلَّها)، والمركب البَدَلي (جاء عليٌّ أخوك)، والمركب في باب التمييز (كان أكثرَ انضباطاً)، والمركب الظرفي (يأتي صباحَ مساءَ – إنه في موقع بينَ بينَ)، والمركب العَدَدي (له اثنا عشر أخاً). ويقصد بعبارة «بالوضع العربي»، الواردة في آخر التعريف السابق، أن الكلام مفيد «بالمعاني التي وضعها العرب لألفاظهم؛ فكلمة «ذهَبَ» وضعها العربُ لمعنى، وهو حصول الذهاب في الماضي». وجاء، في معجم الجُرْجاني، أن الكلام، في اصطلاح النحويين، هو «المعنى المركب الذي فيه الإسناد التامّ». (ص 98)

ويَستعمل بعض النحاة لفظي «الكلام» و«الجملة» مترادفيْن؛ كالزمخشري في قوله معرِّفاً الكلامَ بأنه «المركب من كلمتين، أسندتْ إحداهما إلى الأخرى. وذلك لا يتأتّى إلا في اسمين؛ كقولك: زيد أخوك، وبِشْر صاحبك، أو فعل واسم؛ نحو قولك: ضرب زيد، وانطلق بكر. ويسمى جملة». على حين يفرّق نحويون ولغويون كُثْرٌ بينهما؛ أمثال ابن هشام، وابن جني الذي يرى أن «الكلام جنس للجمل»، شرْطُه أن يكون مفيداً، بخلافِ الجملة التي قد تكون مفيدة أو غير مُفيدة. وعليه، فالجملة أعمُّ من الكلام، يلزم فيها الإسناد فقط، حتى وإنْ لم يتمّ معناها، ولم تُفد إفادة يحسن السكوت عليها. فقولنا «سافر زيد» جملة أسند فيها الفعل إلى فاعله، وكلام كذلك لكونها مركبة ومفيدة معاً. على حين أن قولنا «أكل الطفلُ» ليس بكلام ما دام معنى العبارة غيرَ تامّ لدى المتلقي الذي يظلّ منتظِراً البقية لتحصل الفائدة والدلالة، مع أنه جملة لقيام العلاقة الإسنادية بين مُكَوِّنَيْها. وعلى هذا الأساس، فإن «تميُّز الجملة من الكلام لا يعني الاختلاف بينهما دائماً. فقد يلتقيان؛ فتكون الجملة كلاماً، والكلام جملةً» («إعراب الجمل وأشباه الجمل» لفخر الدين قباوة، ص 17).

وثمة لفظٌ آخرُ يستوعب المصطلحات المذكورة جميعَها (الكلمة – الكلم – الكلام – الجملة)، وهو «القول»، مِنْ «قالَ يَقولُ قوْلاً ومَقالاً ومَقالةً. وأصْلُ (قُلتُ) قَوَلْتُ بالفتح، ولا يجوز أن يكون بالضمّ لأنه مُتعدٍّ» (مختار الصحاح، ص 556)، ومعناه التلفظ والتكلم والنطق مطلقاً بصرف النظر عن طبيعة المنطوق به. والقول، اصطلاحاً، كلُّ ما يُنطق به من لفظ، مفرداً كان أم مركبا، دالاّ على معنى أم غير دال، أفاد أم لم يُفد. وعليه، فهو – كما قال ابن هشام – «جنسٌ يشتمل ثلاثة أمور: الأقوال المفردة؛ كرَجُل، والمركّبة المفيدة؛ كـقام زيد، وغير المفيدة؛ كـغلام زيد». وبتعبير آخر، يشمل القولُ الكلمة المفردة، والكلام، والكلم، وكذا الجملة. ويُتوسَّع، أحياناً، في معناه، فيُستعمَل للدلالة على المعتقدات والأفكار والآراء؛ كما في قولنا: «فلان يقول بقول الأشاعِرَة في هذه المسألة»، وكما في قولنا: «يأخذ بقول مدرسة الكوفة في هذه القضية النحوية». وقد عبّر ابن مالك عن شُمول معنى القول بقوله:

كلامُنا لفـظٌ مُفـيدٌ كاسْتَـقِمْ واسمٌ وفعلٌ ثمّ حَرْفٌ الكَلِمْ

واحدُه كَـلِمَةٌ، والقولُ عَـمّْ وكِلْــــمَةٌ بها كـلامٌ قدْ يُـؤمّْ

فقصد بقوله «كلامنا» الكلامَ في اصطلاح أهل النحو لا اللّغويين، وهو – عنده – لفظ مفيد إفادة يحسن السكوت عليها، سواء بالتحقيق أو بالتقدير (مثل: استقم)، ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بإسناد الاسم إلى الاسم، أو الفعل إلى الاسم، ظاهراً كان أم مُضْمَراً. ويؤكد هذا المعنى ناظمٌ آخَرُ بقوله:

حــدُّ الكـلام ما أفاد المستـمعْ نحو: سعى زيدٌ، وعمرٌو مُتّبِعْ

ثم ذكر ابن مالك، عقب ذلك، أقسام الكلم (ج. كلمة) الثلاثة المعروفة، وهي: الاسم، والفعل، والحرف. فأما الأول (مثل: كِتاب) فهو ما دلّ على معنى من غير اقتران بزمان، ويُعْرَف بعلامات أجْمَلها ابنُ مالك في قوله:

بالجَرّ، والتنوين، والنِّدا، وألْـ ومُسْـندٍ للاسـم تمـييزٌ حَصَـلْ

وأما الثاني (نحو: كتب – يكتب – اكتُبْ) فهو ما دلّ على حدث، مع اقترانه بواحد من الأزمنة المعروفة، ومن علاماته اتصالُ تاء الفاعل أو تاء التأنيث الساكنة أو ياء المخاطَبَة أو نون التوكيد بآخره، ودخول النواصب والجوازم عليه من أوّله. وأما الثالثُ (مثل: الفاء– مِنْ – على – لعلّ – لكنّ) فهو غير دال بنفسه، بل يحتاج دائماً إلى استعماله في تركيب، إلى جانب كلمات أخرى، ليكون دالاً. وعلامته ألاَّ يقبل شيئاً من علامات الاسم والفعل التي أشرنا إلى بعضها.

وصرّح ابن مالك، في صدر البيت الثاني، بأن القول يعُمُّ مفهومُه الألفاظ الاصطلاحية الثلاثة المذكورة كلها؛ لأنه جنس. وأشار إلى أن الكلمة (وقد استعملها بكسر الكاف وتسكين اللام على لغة تميم) قد ترادف، في بعض الاستعمالات اللغوية، معنى الكلام، على أنّ استعمالها هذا على المَجاز لا الحقيقة. وزعم بعضهم أن الأصل في القول أنْ يُستعمَلَ في المُفْرَد وَحْدَه. ويُقصد بهذا الأخير ما لا يَدُلُّ جزؤه على جزء معناه. ويُستعمل، في ميدان الصرف، للدلالة على ما ليس مثنّى ولا جمْعاً، وفي النحو للدلالة على ما ليس جملة ولا شبه جملة، وللدلالة – كذلك – على ما ليس بمضاف ولا شبيه بالمضاف؛ كما في باب النداء. وقد عبر جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) عن معنى «القول» العامّ هذا بقوله، في الجُزء الثاني من كتابه «الأشباه والنظائر في النحْو»، واضعاً ذلك اللفظ ضمن منظومة المصطلحات المُجاوِرَة له، الدائرة في فَلَكه، المتعلقة به بأيّ صورة من صور التعلق: «ما خرج من الفم إنْ لم يشتمل على حرف فصَوْت، وإن اشتمل على حرف ولم يُفد معنىً فلفظ، وإن أفاد معنى فقول؛ فإنْ كان مفرداً فكلمة، أو مركبا من اثنين ولم يفد نسبة مقصودة لذاتها فجملة، وإنْ أفادَ ذلك فكلام، أو من ثلاثة فكَلِم».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق