مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

كيف أسس عبد الرحمن بن معاوية مملكته بالأندلس

مجلة : رسالة المغرب

العدد 135 / ربيع الأول 1371 /  دجنبر 1951 السنة العاشرة

كيف أسس عبد الرحمن بن معاوية مملكته بالأندلس

(من حسن الحظ أن يكون من مراجعنا في هذا البحث كتاب لمؤلف مجهول كان قريب العهد بعبد الرحمن الداخل، فهو ينقل -فيما ينقل- عن معاصر لعبد الرحمن وراو عنه مباشرة، ولقد راجعنا كثيرا مما ورد فيه في بعض أمهات الكتب المعروفة، فوجدنا عند المقارنة أن لا خلاف بينها، مما جعلنا نعتمده بالرغم من أن صاحبه مجهول).

 بقلم: محمد بن تاويت

قال أبو جعفر المنصور يوما لأصحابه: من صقر قريش؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راض البلاد وسكن الزلازل وحسم الأدواء. قال: ما صنعتم شيئا. قالوا: معاوية. قال ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: لا. قالوا: فمن يا أمير المومنين؟ قال: عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلص بكيده عن سنن الأسنة وظباة السيوف، يعبر القفر ويركب البحر، حتى دخل بلدا أعجميا فمصر الأمصار وجند الأجناد وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه…

هكذا يشهد أبو جعفر لخصمه العنيد بأنه وحده صقر قريش، وهكذا يوميء إلى الصعاب التي قامت في وجه عبد الرحمن، وهي التي استطاع (بحسن تدبيره وشدة عزمه) أن يتغلب عليها حتى أقام بالأندلس دولة كانت هي الأولى من نوعها والأخيرة في تاريخ الأندلس العربي…

نعم، عبد الرحمن من تلك الشخصيات الفذة التي قلما نظفر بها في التاريخ فأعماله التي قام بها تكاد تكون من البطولات الخارقة للعادة، ومع هذا فلا يفوتنا أن نقدم نبذة عن الظروف التي ساعدته، إلى جانب بطولته النادرة.

لقد تهيأت لعبد الرحمن في إقامة ملكه ظروف كانت تنتظره منذ زمن بعيد فهذا الشقاق الذي كان قد شمل كل أنحاء الأندلس، وكان مبذورا بين العدنانية واليمنية، وبين هؤلاء جميعا وبين البربر، بل بين العدنانية أنفسهم واليمنية فيما بينهم، والبربر كذلك، جعل-فيما جعل- عبد الرحمن يتحفز إلى العمل في ذلك الظرف الذي سبق لأجداده في الشرق أن استغلوه أشنع استغلال، بل إن الفضل في إثارة العصبية الجاهلية –التي حاربها الإسلام حربا لا هوادة فيها- يرجع إلى الخلفاء الأمويين بالشرق.

إذن فلا غرابة أن يكون عبد الرحمن –هو الأموي الذي تربى في أحضان هشام –قد عرف كيف ينتهز فرصة التفرقة، ويعمل فيها بالسلاح مرة وبالتضريب والدسيسة مرة أخرى كما فعل آباؤه الأولون فسلمت رؤوسهم زمنا طويلا وهم الذين ضربوا الرؤوس بالرؤوس…

ويشاء التاريخ إلا أن يعيد نفسه –كما يقولون- فهذا معاوية يقيم دولته في بلاد كانت غير عربية فيستعين في إقامة ملكه بالعرب وغيرهم، بل إن عودة التاريخ تتمثل حتى في شيء آخر مما يجعل الظروف تكاد تكون واحدة، فأطراف الشام –كما هو معلوم- كانت دائما في نضال مع أصحاب بيزنطا وكان هذا النضال في صالح معاوية، أراد أن يستغله أيام عمر، ولكن عمر ضرب على يديده، وجاء عثمان فأطلق له العنان، وكذلك كانت الأندلس في نضال حتى مع مجاوريها المسيحيين، فكان هذا أيضا في صالح عبد الرحمن، خصوصا في أول خطواته إلى التملك. إلى جانب هذا كانت المجاعة العنيفة التي طوحت بكثير من مسلمي الأندلس فهجروا ديارهم وهاموا على وجوههم لا يدرون إلى أين يتجهون وبمن يلوذون، فكان عبد الرحمن الذي جمعهم تحت لوائه وحول تلك الموجات الهجرية إل مدن وقرى تكتسحها وتنعم بخيراتها…

 وكانت وجهة عبد الرحمن –باديء ذي بدء- المغرب حيث أن كثيرا من أفراد عائلته كانوا قد اتجهوا إليه، فنزلوا إفريقيا على إثر حادث الاضطهادات العباسية –وقد عرف المغرب قبل هؤلاء بأنه مأوى اللاجئين من خوارج وغيرهم –كما كان بالمغرب أخواله البربر من قبيلة نفزة التي لا محالة ستناصره، وكذلك كان. فنزل إفريقيا وانضم إلى إخوانه وبني عمه مثل السفياني الثائر وأبناء الوليد بن يزيد وموسى وحبيب ابني عبد الملك بن عمرو بن الوليد وجزى ومسلمة ابني عبد العزيز بن مروان وعبد الملك بن عمر بن مروان.

ولكن المتولى على إفريقيا في ذلك الوقت وهو عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن(عقبة الصحابي الفاتح) كان قد أغصبها من يد الأمويين واستقل بها ثم بايع العباسيين صوريا بعد أن كان بايع مروان بن محمد الجعدي كذلك، فهو حريص على مملكته –وقد جرب الأمويين حينما كان بالأندلس- وهو يوجس خيفة من هؤلاء المهاجرين أبناء الملوك وأحفادهم، وهو متنكب سخط العباسيين لهذا كله يريد أن يتخلص من هؤلاء الأمويين فيجد في أثرهم ويقتل بعضهم ويعتقل بعضا آخر وينجو الباقي ومنهم عبد الرحمن الذي تنقل في بلاد البربر –كما تنقل غيره- وظل في تنقله بين قبيلة أخواله وقبائل المغرب الأقصى، من مكناسة وزناتة ومليلية وغيرها، ولقي في ذلك الأهوال وكثيرا ما كشر له الموت عن أنيابه، وأخيرا اهتدى إلى الأندلس…

وهنا ننصت إلى عبد الرحمن يقص علينا قصة فراره من قبضة العباسيين: «لما أمنا وشاع ذلك ركبت منتزها فوقع بهم (بنو أمية) وأنا غائب فرجعت إلى منزلي (بدير حنا من كورة قنسرين) فنظرت فيما يصلح أهلي ويصلحني وخرجت أنا والصبي أخي حتى صرت في قرية على الفرات… وأنا والله لا أريد إلا المغرب (لمقالة كان سمعها من مسلمة بن عبد الملك وهو في سن العشر ) وأقبلوا (أصحاب المسودة) فأحاطوا بالقرية ثم بالدار فلم يجدوا أثرا ومضينا…حتى أتيت رجلا على شاطيء الفرات وامرأته أن يبتاع لي دواب وما يصلحني فأنا أرقب ذلك إذ خرج عبد له… فدل علينا العامل فأقبل إلينا فوالله ما راعنا إلا بجلبة الخيل إلينا في القرية فخرجنا نشتد على أرجلنا وأبصرتنا الخيل فدخلنا بين جنات على الفرات واستدارت الخيل فخرجنا وقد أحاطت بالجنات فتبادرنا وسبقناها إلى الفرات فترامينا فيه وأقبلت الخيل فصاحوا علينا أرجعا لا بأس عليكما فسبحت وسبح الغلام أخي فلما سرنا ساعة سبقته في السباحة وقطعت قدر نصف الفرات فالتفت لأرفق وأصيح عليه ليلحقني فإذا هو…لما سمع تأمسنهم إياه وعجل خاف الغرق فهرب من الغرق إلى الموت فناديته أقبل يا حبيبي لي فلم يأذن الله بسماعي فمضى ومضيت حتى عبرت الفرات وهم بعضهم بالتجرد ليسبح في أثري ثم بدا لهم وأخذوا الصبي فضربت عنقه وأنا أنظر وهو ابن ثلاث عشرة سنة.»

هكذا نجا عبد الرحمن من يد القوم ثم تابع فراره حتى أتى كورة فلسطين فألحقت به أخته أم الأصبع بدرا غلامه وسالما أبا الشجاع غلامها ومضيا حتى أتيا مصر فإفريقيا وقد توافى –كما سبق- بها جماعة من أهل بيته فحاول الوالي عبد الرحمن الفهري أن يقبض عليه خشية على سلطانه من بني أمية ولكنه أدرك ذلك فخرج هو وجماعة من أصحابه وافترقوا في بلاد المغرب –كما سبق- وأخيرا بعث مولاه بدرا برسالة إلى مواليه بالأندلس.

كانت الأندلس تشملها الفتن وكان أشدها بين القيسية واليمنية فالقيسية يترأسها يوسف بن عبد الرحمن السالف الذكر والصميل بن حاتم بن شمر، واليمنية يترأسها أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي ويحيى بن حريث الجذامي وقد قتل هذان حوالي سنة 130 بعد قتال عنيف أعقبته مجاعة وقحط، ولما حانت سنة ثلاث وثلاثين ومائة (133) تغلب (بلاي) العلج على المسلمين فأخرجهم من جليقية واستورقة وغيرهما فانضم الناس إلى قورية وماردة وفي سنة 136 اشتد الجوع بهم فخرج معظمهم إلى طنجة وأصيلا والريف ولكن العداوة استمرت بين القيسية واليمنية وعظم شأن الصميل ويوسف إلى أن ثار عليهما عليهما عامر بن عمرو بن وهب العبدري وبعث إلى أبي جعفر المنصور محاولا أن يوليه على الأندلس ووضع يده في يد الحباب بن رواحة الزهري الكلابي فدعوا الناس إلى أبي جعفر واجتمع عليهما اليمنيون والبربر وبعض المضريين ثم أقبلا حتى حصرا الصميل بسرقسطة سنة 136 وحصلت حروب بين اليمنية والقيسية ومن انضاف إليهما .

في هذا الظرف يأتي بدر إلى الأندلس فيجتمع بأنصار الأمويين ولما يتم اجتماعهم ويعرض عليهم الفكرة يبعثون إلى يوسف بن بخت من رجالهم وأنجادهم فتتفق كلمتهم على أن يستشيروا الصميل الذي كان محاصرا بطليطلة من قبل اليمنية ومضى القوم ومعهم بدر وكتبوا إليه يذكرونه أيادي بني أمية، واستطاع الصميل أن يفك عنه الحصار وأن يلتقي معهم فرحب بهم وأجزل لهم العطاء ولكنه استمهلهم –لما عرضوا عليه الأمر- حتى يتروى فانصرف الأمويون ومعهم بدر إلى منازلهم ثم اجتمع الصميل برجلين منهم وهما أبو عثمان عبيد الله بن عثمان وصهره عبد الله بن خالد فأفضى إليهما بابن عبد الرحمن خليق بنصرته فليكتبا إليه بذلك، وما برحا مكانهما حتى بعث في طلبهما فأعلنهما بأنه قد رجع عن وعده حذرا مما سيفضي إليه مآل هذا الرجل معه. فانصرفا عنه حينئذ يائسين من مناصرة ربيعة ومضر، وتوجها إلى اليمنية وكان هؤلاء قد وغرت صدورهم على الصميل فأسرعوا لدعوة بني أمية طلبا للثأر من القيسية. وسرعان ما بعث بنو أمية بمركب يقل بدرا ورجالا منهم وزودوهم بخمسمائة دينار. فرجع بدر إلى سيده وكان مقيما في «مغيلة» في طاعة ابن قرة المغيلي، ولما وصل إليه أعلمه بما تم له من الأمر على يد بني أمية واليمينيين، نركب عبد الرحمن ومن معه السفينة حيث رسوا بالمنكب في شهر ربيع الآخر سنة 138 وكان في انتظارهم رجال من بني أمية فتوجهوا بهم إلى قرية طرش من أعمال الجزيرة الخضراء فانثال على عبد الرحمن الأمويون واليمنيون وأقام بالقرية زمنا يدبر أمره ويبث دعاته حتى انتشر أمره بالجنوب.

وبينما كان الصميل وحليفه يوسف بن عبد الرحمن ونزوله بطرش وأنه هزم الوالي على البيرة وكان قد خف لطرده، فاجتمع أمرهما على قتال عبد الرحمن، ولكن –بما أن أخبره كان قد شاع في البلاد- تفرق عنهما الكثير ولم يبق في جيشهما من اليمنية إلا نحو العشرة أو من كان له لواء لم يقدر على تركه، وأقبل الشتاء وحملت الأنهار ومل الناس السفر، كل هذا حمل الصميل ويوسف على تغيير وجهتهما وتحولا إلى قرطبة ثم أشار الصميل على يوسف بأن يؤلف قلب عبد الرحمن بالمصاهرة والعطاء فبعث وفدا يحمل إليه هدايا وكتابا يذكره باصطناع آبائه لجده (عقبة بن نافع) ويدعوه إلى الصهر والتوسعة عليه واقطاعه كورة من كورة فلما تناول الكتاب عبد الرحمن وكان بارش في أدنى كورة ريه وحوله جم غفير من بني أمية واليمنيين والشاميين قرأه وناوله بعض أصحابه، فقال له القوم هذا أول الفتح ثم احتفظ عبد الرحمن ببعض الوفد بعد أن رد عليه ردا قبيحا ورجع الباقي إلى الصميل ويوسف // في عضدهما رفض عبد الرحمن لما عرضا عليه.

ولم يمض الشتاء حتى تأهب عبد الرحمن للنزال وكاتب الأجناد كلها والبربر فأجابته اليمن كلها وبعض البربر، ولم يجبه من قيس إلا ثلاثة كانوا واجدين على الصميل ويوسف لأنهما فتكا ببعض قرابتهم، فزحف عبد الرحمن حتى أتى طرف شدونه فبايعه أهلها ثم توجه إلى جند اشبيلية فبايعه من بها من اليمنيين وغيرهم وفي أول ذي الحجة سنة 137 حصلت مناوشة بين يوسف وعبد الرحمن بطشانة ثم تقدم عبد الرحمن إلى قرطبة فأسرع إليها يوسف وقد اشتد الجوع بعبد الرحمن فاستشارهم فأشاروا بالحرب، فكتب كتائبه من اليمن والبربر وبني أمية وأهل الشام، وكان النهر قد نقص ببابش فعبروا النهر يوم الخميس لتسع ليال مضين من ذي القعدة، فراسلهم يوسف عشية يوم الخميس بالصلح ولكنه لم ينجح، ولما كان يوم الجمعة (العيد الأضحى) تزاحف القوم فاقتتلوا قتالا شديدا انتهى بانتصار عبد الرحمن فدخل قرطبة وأتى القصر فبويع له بالإمارة ووجد الناس قد انتهبوا القصر فطردهم وكسى من عري من ساكنيه ورد عليهم ما قدر على رده، فاستاء اليمنيون من ذلك وقال بعضهم لبعض: ويحكم قد فرغنا من أعدائنا من مضر وهذا ومواليه منهم فلنضع يدنا عليه ويصير لنا فتحان في يوم واحد فكره منهم أناس مثل قضاعة ورضي آخرون، فاعلم بذلك عبد الرحمن وضم إليه مواليه أحراسا وانضم إليه بنو أمية بقرطبة وبربرها، وكانت هذه الموقعة، وهي موقعة المسارة، فاتحة نصر مؤزر لعبد الرحمن ثم عاود يوسف والصميل الكرة وأقبلا إلى جيان فتحصن عبد الرحمن في مدينة منيتشة واجتمع أهل البيرة على يوسف فحشد له عبد الرحمن الأجناد وتحرك إليه، وخلف على قرطبة فخالفه عبد الرحمن بن يوسف عليها واحتلها، ولما وصل عبد الرحمن إلى البيرة دعاه الصميل ويوسف إلى الصلح على أن يؤمنهما في أموالهما والناس كلهم فأجابهما إلى ذلك، وكتب بذلك عهد في سنة 140 وأقبل هو والصميل ويوسف حتى دخلوا قرطبة فنزل القصر، وأقام الصميل ويوسف يختلفان إليه ثم تقاطر بنو أمية على قصد الأندلس. ولما كانت هناك بيوتات من قريش وبني فهر وبني هاشم نالوا مع يوسف رفعة ومنزلة وانقطع ذلك عنهم بانضوائه إلى عبد الرحمن فقد ألقوا عليه التحريف وندموه فيما صنع حتى انحرف عن عبد الرحمن، وكتب إلي الناس بالعصيان فأجابه خلق كثير ولكن الصميل حليفه كره ذلك منه، وممن أجابوه أهل البلد وماردة ولقنت، فهرب إلي ماردة وعلم بذلك عبد ارحمن فقبض على بعض أولاده وعلى الصميل لأنه أخفى عنه عزم يوسف واتبع عبد الرحمن «يوسف» الخيل، ولكن يوسف أقبل بمن معه على لقنت ثم على اشبيلية فصار في عشرين ألفا ويزيد. أما عبد الرحمن فقد عسكر في قرطبة ينتظر الأجناد فعاد إليه يوسف داعيا للنزول فتحرك عبد الرحمن بأجناده إلي محلة يقال لها برج أسامة ثم استمر حتى نزل المدور وبلغ يوسف اشبيلية وحصر عاملها عبد الملك بن عمر –الذي كان قد لحق بعبد الرحمن فيمن لحق من بني أمية فولاه اشبيلية – فاجتمع عليه خلق كثير وفيهم ابنه عبد الله والي «مورو» فعجل يوسف قبل أن يتلاقى مع عبد الرحمن وواقع به، ولما بلغ الخبر عبد الرحمن سر بذلك كثيرا وحمد الله على هذا النصر السريع. وتاه يوسف في البلاد حتى قتل غيلة، ثم قتل عبد الرحمن أولاده الذين كانوا في قبضته إلا ابنه أبا الاسود استصغارا له كما خنق الصميل في سجنه. وبقتل هذين الرجلين تخلص عبد الرحمن من خطر كان يحسب له حسابا عسيرا وصفا له الجو بعض الصفاء ولكنه لم يلبث أن ثار عليه القاسم بن يوسف وحليفه رزق ابن النعمان الغساني واحتلا اشبيلية فحار بهما عبد الرحمن وقضى عليهما وانتزع منهما اشبيلية سنة 143 ثم ثار هشام بن عروة زعيم الفهرية بطليطلة فحاربه عبد الرحمن، وبينما كان يحاربه نمى إليه خبر أزعجه فترك المعركة وتوجه لسبر أغواره، ذلك أن العلاء بن مغيث اليحصبي كان قد دعا إلى طاعة أبي جعفر المنصور وعضده أبو جعفر فبعث إليه بلواء أسود وطبع عليه ولما التقى الجمعان حصلت معركة قاسية انهزم فيها كثير من أصحاب العلاء كما قتل هو نفسه في المعركة فقطعت رؤوس سبعة آلاف منهم وعلقت في أذن رأس كل بطاقة باسمه وحملت الرؤوس إلى افريقية فطرحت ليلا بسوق القيروان، ولما وصل الخبر إلى أبي جعفر وكان حاجا بمكة ذعر من ذلك وحمد الله على أن البحر قد حجز بينه وبين هذا «الشيطان» ولما قضى عبد الرحمن على العلاء رجع إلى هشام السابق فقضى عليه كذلك ثم ثار سعيد اليحصبي المعروف بالمطري مطالبا بثأر اليمنية الذين كانوا قد قتلوا مع العلاء، ولكن عبد الرحمن انتصر عليه فألحقه بسابقه. ثم ثار أبو الصباح بن يحيى اليحصبي وكان صديقا لعبد الرحمن وحليفا له ولكنه تغير عليه لعزله من عدة ولايات فرأى عبد الرحمن أن يستدرجه بتلطف إلى القصر وهناك أوعز به خدمه فقتلوه طعنا بالخناجر سنة 150 وهنا نرى رجلا مغربيا قوي الشكيمة قد داهم عبد الرحمن وكان شأنه عسيرا، ذلك هو سفين بن عبد الواحد المكناسي –واسم أمه فاطمة- فادعى أنه فاطمي وتجمع عليه البربر بأغلبيتهم فكانت له مع عبد الرحمن مواقع كثيرة حفلت بها عشر سنوات، ولم يستطع عبد الرحمن أن يقضي عليه بالحرب ولكنه فكر في أن يقضي عليه بالحيلة والخيانة فأغرى به أحد القواد من البربر فقتل. ثم ثار عليه حيوه بن ملامس باشبيلية ومعه البربر وأهل حمص فكانت بينهما معركة عنيفة قتل فيها خلق كثير. ثم أثار عبد الرحمن بن حبيب الفهري زعيم الفهرية وابن عم عبد الرحمن بن حبيب الفهري السابق فأتى بجيش من البرابرة داعيا إلى بني العباس ولكن عبد الرحمن حالفه الحظ أيضا فاستطاع أن يقضي عليه اغتيالا. ثم ثار قائده السلمي فقتل بعد حصاره ثم ثار الرماحس ابن عبد العزيز الكناني الذي كان واليا على الجزيرة ولكن عبد الرحمن لما سار إليه ركب هذا البحر وفر إلى المشرق. ثم ثار سليمان بن يقظان الكلبي والي برشلونة ومعه حسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة وهو من ولد سعد بن عبادة الأنصاري واستعانا بشرلمان الأكبر ولكنهم جميعا أخفقوا في مسعاهم. ثم ثار أبو الأسود محمد بن يوسف السابق الذي أبقى عليه عبد الرحمن فثار عليه مرارا فقبض عليه وأودع السجن –لأنه تظاهر بالعمى- وظل فيه زمنا طويلا ولكن الفرصة سنحت له ففر من السجن وأعلن الثورة على عبد الرحمن فغزاه الأمير وبعد مبارك لم يتمكن منه وظل كذلك حتى توفي سنة 170 فخلفه أخوه القاسم الذي تصالح مع عبد الرحمن أخيرا فوفى له بعهده.

ومن العجيب أن نرى ثوارا يقومون في وجه عبد الرحمن من عائلته الأقربين وكان قد استقدمهم وهم مشردون في الفيافي والقفار، ولكنهم ما رأوه قد تمكن من ملكه حتى أدركتهم الغيرة ومزقهم الحسد، فثار عليه ابن عمه عبد السلام ابن يزيد، وابن عمه يحيى بن يزيد، وابن أخيه عبيد الله بن ابان، وأراد ابن أخيه المغيرة بن الوليد أن يثور وساعده هذيل بن الصميل السالف الذكر فقتلهم جميعا، ونفى أخاه الوليد إلى المغرب.

وأخيرا تم له الأمر وتوفي سنة 172 بعد ما أخمد تلك الثورات وغيرها وقضى على منافسيه (وكان الفضل الأكبر في ذلك لمولاه بدر الذي أنكر جميله أخيرا) كما قضى على كل مؤامرة كانت ضده من مجاوريه الاسبان أو من الافرنج أصحاب شرلمان الأكبر، فلم يفت في عزمه شيء مما عاناه ولم يعرف طعما للراحة والسكون وبقي في نضاله حتى لفظ النفس الأخير، على حين كان المغرب يطلع عليه فجر الدولة الادريسية بحلول المولى ادريس الأكبر به في نفس السنة. فكانت هذه الدولة –كتلك- حسنة من حسنات الضغط العباسي الغاشم.

 انتقاء: ذة. نادية الصغير.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق