مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للشيخ أبي الحسن الأشعري: جوانب من دقته، وتقريب لقيمته

 

  

 

                     بقلم: ياسين السالمي
             الطالب الباحث بدار الحديث الحسنية

 

  يرى الشيخ أبو الحسن الأشعري(324) أن معرفة المذاهب والمقالات من الأمورالضرورية، غير أن التآليف -في وقته – في هذا الباب قد وقع فيها – كما يرى- التقصير والغلط، وهو ما دعاه إلى تأليف كتاب مختصر دقيق في بابه، وهو “كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين”[1].

هذا، وقد أشار الشهرستاني إلى أن لأصحاب كتب المقالات طريقين في الترتيب: الأول: أنهم وضعوا المسائل أصولا ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة، والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا ثم أوردوا مذاهبهم فيمسألة مسألة[2].
   والأشعري في المقالات قد جمع بين الطريقين، وهو بذلك قد تميز عن المصنفات الأخرى التي اعتمدت طريقة واحدة.
 فكتابه مؤلف من مقدمة وجزئين:
– المقدمة: ذكر فيها سبب التأليف، وتاريخ الاختلاف في الإسلام.
– الجزء الأول في الجليل من الكلام، وقد رتبه على الطريق الثاني؛ فذكر فيه الفرق ومقالاتها. والملاحظ أن صنف المعتزلة قد شغل ثلث هذا الجزء، وذلك راجع إلى خبرته بمقالاتها من جهة؛ فقد كان على مذهب الاعتزال أربعين سنة، وإلى قوة هذه الفرقة في عصره من جهة أخرى وانتشار مذهبها.
– الجزء الثاني في الدقيق من الكلام، وقد رتبه على الطريق الأول، وعنونه بقوله:« هذا ذكر اختلاف الناس في الدقيق»، ونشير إلى أن قوله في “اختلاف الناس” عام يدخل فيه المسلمون وغيرهم، وهو مع تسميته الكتابَ ” مقالات الإسلاميين” فقد ذكر في هذا الجزء قول غيرهم في مسائل[3]، وعموما يمكن تقسيم  هذا الجزء قسمين:
القسم الأول: قسم جامع، ذكر فيه اختلاف الناس في مسائل متنوعة، في الفلسفة، والكلام، والفقه، والأصول. والقسم الثاني: قسم خاص،  غلب فيه ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات.
كما نشير إلى أنه أولى مذاهب المعتزلة بالتفصيل أكثر من غيرها، وبذلك يكون للمعتزلة في الكتاب كله أكثر ما لغيرها…
 جوانب من دقته في كتابه:
وحسبنا في هذه الورقات أن نشير إلى ما يحقق غرضه من تأليفه، وهو ما ذكره من تلويحه بالدقة في النقل من غير تقصير، أو تلفيق، أو كذب، أو غيرها مما هو ليس سبيل الربانيين ولا سبيل الفطناء المميزين. وبيان ذلك يف نقطتين:
أولا: دقته في النقل:
إن الإمام أبا الحسن الأشعري قد شرط على نفسه، تلويحا لا تصريحا، في مقدمة كتابه، الدقة في نسبة المقالات إلى أهلها، وقد التزم بذلك في كتابه، ودليلُه: أنه إذا كان عالما بصحة نسبة المقالة جزم بذلك، وإذا كان عالما بعدم صحتها جزم بذلك، وإذا شك أو ظن ذكر ذلك:
أما الجزم بالصحة فهو أكثر الكتاب، ولا حاجة للتمثيل له.
وأما الجزم بعدم الصحة فمواطنه:

المثال

في تحقيق رتر

في تحقيق عبد الحميد

وهذا غلط منه [= زرقان] في الحكاية

476

2/171

وهذا قول لم نسمع به قط ولا نرى أحدا يقوله وإنما دلسه اللعين [= يعني ابن الراوندي] ليعتقده من لا معرفة له ولا علم عنده

572

2/246

وحكى بعض من يخبر عن المقالات… وهو غلط عندي

586

2/259

وأما الشك والظن فأنواع، وبيانها في هذا الجدول:

عبد الحميد

رتر

المثال

نوع الشك

1/ 132

60

ولست أحقق ما حكى زرقان من ذلك كما حكاه

الشك في صحة نسبة المقالة للفرقة أو الشخص

1/ 178

96

وحكي لنا عنهم ما لم نتحققه

1/ 253

173

وأظن الحاكي هذا عن أبي الهذيل كان غالطا

2/ 113

428

 وأظنه غلط في الحكاية الأخيرة عنه

2/ 267

598

فأما ما حكاه جعفر…فلا أدري أصاب في حكايته أو وهم فيها

1/ 317

251

وهذا قول ثمامة بن أشرس فيما أظن

الشك فيمن هو صاحب المقالة

2/ 4

302

وهذا قول بعض البغداذيين وأظنه عيسى الصوفي

2/ 5

302

وأحسب هذا القول للإسكافي

2/ 261

588

وأظن أنا أن هذا قول الأصم

2/ 261

588

وهذا قول إبراهيم النظام في غالب ظني

2/ 28

334

وأظن جعفرا ثبت الحياة غير الروح، وثبت الحياة عرضا

الشك في رأي الشخص في مسألة ما

2/ 45

356

وأظنه [= أي الإسكافي] كان يقول في الطاعة…

2/ 53

365

وأظن أن مثبتا ثبت الخلق هو المخلوق والإعادة غير المعاد

الشك في رأي شخص في مسألة ما

1/ 200

120

وسعيد بن هارون وكان فيما أظن أباضيا

الشك في الفرقة التي ينتمي إليها الشخص

ومن دقته الاحتياط في الجزم، ومثاله:

فبرئوا منه [= شبيب ] فليس يتولاه خارجي فيما نعلم

124

1/ 203

وما قال بهذا غيره [= الصالحي ] أحد علمناه

519

2/ 202

ومن دقته أنه يحكي الاختلاف في الرواية عن الشخص، وقد يبين صحيحها، كما يحكي رجوع الشخص عن مقالته:

عبد الحميد

رتر

المثال

 

1/ 293

222

وحكي عن الجهم خلاف هذا

حكاية الاختلاف في الرواية عن الشخص

2/ 185

494

وحكى عنه [= جهم] حاك خلاف هذا

2/ 89

404

واختلف عنه [= النظام] هل يفعل في ظرفه وهيكله فالحكاية الصحيحة عنه أنه يفعل في ظرفه

حكاية الاختلاف وبيان الحكاية الصحيحة

1/ 313

247

وذكر عنه [= جعفر بن حرب] أنه رجع عن هذا القول إلى قول أكثر أصحابه

بيان رجوع الشخص عن المقالة

2/ 42

353

وكان [= الجبائي] يزعم…ثم رجع عن هذا

2/ 212

531

وكان [= الجبائي] يقول..ثم رجع عن ذلك

2/ 247

573

ثم رجع جعفر بن حرب عن القول باللطف بعد ذلك فيما حكي عنه

يظهر من خلال هذا المنهج أن الأشعري كان دقيقا في نسبة الأقوال إلى أصحابها؛ فإنه لا يجد حرجا في الإقرار بشكه وظنه إن وقع له، كما أنه يحتاط في الجزم بما لم يثبت عنده يقينا، وإذا تعددت الروايات عن الشخص حكاها، فيبين ما يصح منها إن تيسر له، ويحكي رجوع صاحب المذهب عن مذهبه.
ثانيا: مصادره:
تنوعت مصادره في الكتاب بين الكتب والأشخاص، ونحن نذكر ما ذكر من ذلك:
1- الكتاب: وإنما نثبت هنا ما نص عليه، أما ما لم ينص عليه؛ كأن يذكر الشخص من غير ذكر كتاب، فله موضع يأتي من بعد.
كتاب يبين فيه صاحبُه قولَه:

عبد الحميد

رتر

المثال

1/ 148

73

قرأت في كتاب لسليمان بن جرير الزيدي أن الاستطاعة…

2/ 22

324

وقرأت في كتاب يضاف إليه [= أبي الهذيل] أنه قال…

2/ 178

485

وذلك أن أرسططاليس قال في بعض كتبه…

كتاب يحكي فيه صاحبه قول غيره:

عبد الحميد

رتر

المثال

1/ 106

32

ذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له…

1/ 107

33

حكى الجاحظ عن هشام بن الحكم في  بعض كتبه…

1/ 178

95

ذكر الكرابيسي في بعض كتبه أن العجاردة…

2/ 15

316

وحكى النظام في كتابه الجزء أن زاعمين زعموا…

السماع وما في حكمه:

عبد الحميد

رتر

المثال

 

2/ 59

373

سمعت بعض المتكلمين وهو أحمد الفراتي يزعم أن الحركة..

سمعت، والمسموع منه  صاحب القول

 

 

 

2/ 183

492

سمعت شيخا من مشايخ الرافضة وهو الحسن بن محمد بن جمهور يقول

2/ 220

541

سمعت أحمد بن سلمة الكوشاني[…] يقول: لا أزعم…

 

1/ 165

85

وسمعت من يذكر أنه كان يدعي

 

 

 

سمعت، والمسموع منه حاك عن غيره

 

1/ 248

168

وهذا قول الجبائي قاله لي

ما هو في حكم السماع، والمسموع منه صاحب القول

2/ 45

355

وكان الجبائي يزعم […] فقلت له […] فقال لي…

2/ 104

419

وأجاز الجبائي [ …] في بعض ما دار بيني وبينه من المناظرة

2/ 219

540

رأيت منهم من إذا سألوه […] قال…

1/ 178

96

حكي لنا عنهم …

ما هو في حكم السماع، والمسموع منه حاك عن غيره

2/ 186

496

وحكى لي حاك أنه [= عباد بن سليمان] كان يطلق…

 

 

1/ 249

168

وحكي عن معمر أنه كان يقول […]، أخبرني بذلك أبو عمر الفراتي عن محمد بن عيسى السيرافي أن معمرا كان يقوله

أخبرني

2/ 180

488

وأما معمر فحكى عنه محمد بن عيسى السيرافي النظامي أنه كان يقول[…]، أخبرني بذلك [عن] محمد بن عيسى أبو عمر الفراتي

2/91، 190، 191، 219، 256

407، 502، 503، 504، 540،      583

بلغني […]

البلاغ

1- الأشخاص من غير نص على كتاب أو سماع:
من المصادر التي اعتمدها أبو الحسن الأشعري في كتابه الأشخاصُ من غير أن ينص لهم على كتاب أو سماع، وهو وإن كان محمولا على أحدهما فإنما أثبتناه هنا زيادة في الدقة وتمييزا بين التصريح والتلويح.
والأشعري لم يتخذ منهجا واحدا في إيراد حكايات الأشخاص عن غيرهم، وإنما سلك مسلكين:
الأول: ترك التعيين، وهو نوعان: أولهما البناء للمعلوم، والثاني: البناء للمجهول، واستقصاء ذلك في هذا الجدول:

ترك التعيين

المثال

رتر

عبد الحميد

بالبناء للمعلوم

حكى حاك

126، 127، 491،  494

1/ 205، 206

2/ 182، 185

حكى بعض المتكلمين

73

1/ 148

حكى بعض من يخبر عن المقالات

586

2/ 259

قال قوم

95

1/ 178

قال بعض الناس

95

1/ 178

فأما بعض أهل النظر[…] فإنه يحكي

344

2/ 36

بالبناء للمجهول

حُكي

15، 91، 96، 105، 121، 134، 148، 168، 180، 183، 208 ، 209، 213، 214، 222، 233، 227، 282، 287، 329، 333، 338، 344، 346، 349، 404، 413، 513، 573، 580، 585، 586، 599، 604

1/ 86، 175، 178، 185، 201، 215، 228، 249، 259، 261، 281، 282، 283، 287، 288، 293، 302، 330، 339، 343

2/ 25، 27، 31، 36، 37، 38، 39، 89، 98، 198، 247، 253، 258، 259، 268، 273

يُحكى

22، 132، 280، 490

1/ 96، 214، 338

2/ 182

ذُكر

208، 247، 308، 336

1/ 281، 313

2/ 10، 29

يقال

128

1/ 207، 209

الثاني التعيين: وذلك أن يصرح باسم الحاكي أو ما اشتهر به من كنية أو لقب:

الشخص

مورده في طبعة عبد الحميد[4]

زرقان

1/ 114، 117، 127، 131، 132، 133، 134، 143، 177، 205، 217، 343

2/  24، 25، 26، 27، 31، 36، 37، 52، 54، 60، 71، 120، 123، 124، 171، 196، 256، 257، 259، 261، 265

ابن الراوندي

1/ 107، 281؛ 2/ 246، 261

أبو عيسى الوراق

1/ 108، 109؛ 2/ 36، 40

أبو القاسم البلخي

2/ 184، 256، 271

جعفر بن مبشر

2/ 261، 262، 265

جعفر بن حرب

1/ 114، 253؛ 2/ 179

الجاحظ

1/ 107، 108؛ 2/ 32، 34، 35، 182

محمد بن عيسى السيرافي

1/ 249؛ 2/  180

اليمان بن رباب

1/ 184، 197، 198

أبو عمر الفراتي

1/ 249؛ 2/ 180

محمد بن شبيب

1/ 215، 217

برغوث

1/ 303، 306

محمد بن شجاع

2/ 259

الجريري

2/ 30

سليمان بن جرير الزيدي

1/ 135

المدائني

1/ 210

عباد بن سليمان

1/ 215

أبو عثمان الأدمي

1/ 221

أبو الهذيل

1/ 106، 281

الحسين بن محمد النجار

2/ 100

الكرابيسي

1/ 178

   يظهر من خلال هذا الجدول أن اعتماد الأشعري على الأشخاص – فيما صرح به- لم يكن بنفس الدرجة، وإنما أكثر من النقل عن بعض كما هو ظاهر في حال زرقان، وأقل عن بعض كما هو ظاهر في حال من نقل عنهم مرة واحدة، وفي كلتا الحالتين لم ينص على الكتب التي نقل عنها، وقد حاولت تتبع تراجم هؤلاء فوجدت لبعضهم كتبا في علم المقالات، ولعله يكون نقل عنها، وممن لهم في هذا الباب كتاب:
زرقان: أبو يعلى محمد بن شداد، من أصحاب أبي الهذيل العلاف، له من الكتب: كتاب المقالات[5].
أبو عيسى الوراق: كان معتزليا ثم خلط وانتهى به التخليط إلى أن صار يرمى بمذهب أصحاب الاثنين، وعنه أخذ ابن الراوندي، له من الكتب: كتاب المقالات[6].
اليمان بن رباب: من جلة الخوارج ورؤسائهم، كان نظارا متكلما مصنفا للكتب، من كتبه: كتاب المقالات[7].
ابن الراوندي (298 هـ): قال الذهبي:« قال البلخي: لم يكن في نظراء ابن الراوندي مثله في المعقول، وكان أول أمره حسن السيرة، ثم انسلخ من ذلك لأسباب، وكان علمه فوق عقله. قال وقد حكى جماعة أنه تاب عند موته.»[8]. له من الكتب: كتاب المرجان في [ اختلاف أهل الإسلام[9].
أبو القاسم البلخي(327): المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي، له من التصانيف: كتاب المقالات[10].
هذا ما وقفت عليه من الكتب في المقالات، فلعله يكون نقل عنها أو بعضها.
والمقصود: أن الأشعري قد كان في كتابه أمينا في النقل، دقيقا في الوصف، خاصة أنه عاصر كثيرا من أصحاب المقالات وسمع منهم، وبديهي أن يكون قد قرأ كتبهم لتوفرها آنئذ، وهذا قد أكسب كتابه قيمة علمية في التراث.
قيمة الكتاب العلمية:
امتاز كتاب المقالات للأشعري بعدة مميزات، ذكرنا طرفا منها فيما سبق؛ ككونه من أدق الكتب في النقل، فضلا عن كونه من أول ما وصلنا من المؤلفات في بابه، وكونه مصدرا للمؤلفين بعده، سواء أكان تأليفهم في المقالات خاصة، أم في علم الكلام عامة، ونذكر هنا طرفا مما لم نذكره من قبل:
أولا: خبرة الأشعري بالمقالات:
مما يزيد كتاب المقالات رفعة في بابه أن صاحبه من أهل الخبرة بالمقالات؛ فالأشعري قد عاصر كثيرا من أصحاب المقالات، بل إن الفرقة التي خصها بالتفصيل والشرح أكثر من غيرها -أعني فرقة المعتزلة- قد عاش في كنفها أربعين سنة، ودافع عنها وألف لها كتبا، ثم نقضها بعد رجوعه إلى أهل السنة[11]، وأكثر من ذلك أن الأشعري لم يكن خبيرا بمقالات الإسلاميين فحسب، بل وبمقالات الملحدين، ومقالات الفلاسفة، وقد صنف فيها كتبا[12].
والمصنفون الذين وصلتنا مصنفاتهم كالبغدادي (429)، والأسفراييني (471)، والشهرستاني (548)، متأخرون عنه، ولم يعايشوا كثيرا من أرباب المقالات، وإنما وصلتهم بالنقل، وليس المعاين كالسامع، ومن ثم كان أخبر منهم بها، ولابن تيمية قول يقارن فيه بين الأشعري والشهرستاني يزكي ما ذهبنا إليه، قال: « والأشعري أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني؛ ولهذا ذكر عشر طوائف، وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني، وهو أعلم بمقالات أهل السنة، وأقرب إليها، وأوسع علما من الشهرستاني.»[13].
وقال في موطن آخر متحدثا عن كتب هذا العلم: « وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس، وٍرأيت أقوال أولئك، فرأيت فيها اختلافا كثيرا. وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس، من غير نقل ألفاظهم وسائر ما يعرف به مرادهم قد يتعسر على بعض الناس، ويتعذر على بعضهم. […] وكتاب “المقالات” للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها.»[14].
وجماع الأمر أن الأشعري أخبر بمقالات الناس ممن وصلتنا كتبهم بعده، لأنه عايش أربابها، وسمع منهم وناظرهم.
ثانيا: منهجه في تعداد الفرق:
لقد تم فيما سبق بيان منهج الأشعري في عرض الفرق، وامتيازه عن غيره بجعل كتابه مشتملا على الطريقتين اللتين ذكرهما الشهرستاني في التصنيف، ولن نطيل بإعادته هنا، وحسبنا في هذا المطلب أن نبين مناهج العلماء في تعداد الفرق، وما امتاز به الأشعري عنها.
جعل أحمد سردار مناهج العلماء في تحديد الفرق أربعة مناهج، وذلك في كتابه “المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم”[15]، وهي:
الأول: منهج من عدد أصول الفرق، وذلك بجعل بعض الفرق أصولا تفرعت عنها باقي الفرق، وهذا التعداد يتراوح من أربعة أصول إلى عشرة أصول[16].
الثاني: منهج من عدد الثنتين والسبعين فرقة: وهؤلاء قد بنوا هذا التقسيم على حديث الافتراق، وحديث الافتراق له عدة روايات نذكر منها[17]:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: قال  رسول الله صلى الله عليه وسلم:« افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم.
وعن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة». قالوا:« ومن هي يا رسول الله؟، قال:« ما أنا عليه وأصحابي». أخرجه الترمذي واللفظ له، وابن وضاح، والبزار في مسنده، وغيرهم.
وحكم حديث الافتراق مختلف فيه والذي توصل إليه سردار في دراسته المطولة أنه ثابت لا مطعن في ثبوته البتة.
ومع تسليمنا بثبوته يبقى الخلاف في تنزيله، فهؤلاء الذين بنوا تقسيمهم الفرقَ عليه كالبغدادي والأسفراييني والشهرستاني وغيرهم لم يتفقوا في تنزيله، فإنهم اختلفوا في أصول هذه الفرق، وفي الفروع التي تقع تحت كل أصل أصل.
ونكتفي في بيان ذلك بأمثلة[18]:
خشيش بن أصرم النسائي:
الزنادقة: 5 فرق.    2.) الجهمية: 8 فرق.  3.) المرجئة: 12 فرقة.  4.) الروافض: 15 فرقة.   
5.)القدرية: 7 فرق.     6.) الحرورية: 25 فرقة.
عبد القاهر البغدادي:
الرافضة: 20 فرقة.   2.) الخوارج: فرقتان.   3.) القدرية المعتزلة: 20 فرقة.
المرجئة: 5 فرق.     5.) النجارية: 3 فرق.    6.) البكرية: فرقة واحدة.
الضرارية: فرقة.      8.) الجهمية: فرقة.      9.) الكرامية: فرقة.
الشهرستاني:
ذكر أن الفرق الإسلامية انحصرت كبارها في أربع: القدرية، والصفاتية، والخوارج، والشيعة، وأن بعضها يتركب مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى 73 فرقة.
ولكنه عند تقسيمه الفرقَ وفروعها ذكر: المعتزلة، والجبرية، والصفاتية، والخوارج، والمرجئة، والشيعة. ولم ينص داخل كل فرقة أصل على عدد فروعها ليمكن التوصل بذلك إلى تقسيمه الفرق إلى اثنتين وسبعين فرقة.
المنهج الثالث:  منهج من ذكر الفرق دون حصر:
وذكر منهم الأشعري، والنديم في الفهرست، ومحمد بن عمر الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين…
المنهج الرابع: منهج من رأى عدم تعيين جميع الفرق الثنتين والسبعين:
وذكر منهم ابن تيمية، والشاطبي، وناصر العقل – من المعاصرين-.
والمقصود أن الأشعري في تعداده الفرق قسمها عشرة أصناف، وهي:( الشيع، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية، والبكرية، والعامة، وأصحاب الحديث، والكلابية أصحاب عبد الله بن كلاب القطان)، كل صنف جامع لعدة فرق بينها أصل أو أصول مشتركة، وهو قريب ممن قسم الفرق إلى أصول، تحت كل أصل فروع، وقد أحسن بتركه بناء الكتاب على الحديث المذكور، لأنه مع صحته يصعب تنزيله على الفرق الموجودة، وهو ظاهر في تقسيمات العلماء الذين بنوا كتبهم عليه.
خلاصة:
تبين لنا من خلال عرض الكتاب أن الأشعري بنى كتابه على طريقتين، الأولى: جعل فيها الطوائف أصولا، والثانية: جعل فيها المسائل أصولا، فكان كتابه بذلك مصدرا قيما ييسر على الباحثين بحوثهم؛ حيث يجد الباحث عن الفرق ضالته، ويجد الباحث عن المسائل اختلاف المختلفين فيها في مكان واحد.
وأنه من الناحية المنهجية كان أدق في الوصف والنقل، ولذلك كان مصدرا علميا موثوقا في بابه.
كما تبين لنا أن للكتاب قيمة علمية كبيرة، ترجع إلى أمور منها خبرة صاحبه بهذا الفن، ومنهجه في تعداد الفرق؛ إذ إنه لم يتقيد بالحديث الوارد في الافتراق، لصعوبة تنزيله عل الفرق القائمة في الواقع.

الهوامش:

[1] هذا الكتاب له عدة تحقيقات، كتحقيق محي الدين عبد الحميد، ونواف الجراح، ونعيم زرزور، وهيلموت رتر، غير أن التحقيق العلمي الوحيد –الذي ظهر لنا بالمقارنة بينها- لهذا الكتاب هو تحقيق المستشرق الألماني هيلموت ريتر. ولما كان تحقيق عبد الحميد متداولا بكثرة بين الناس، فقد اعتمدت الإحالة عليه إلى جانب تحقيق ريتر.
[2] الملل والنحل، 1/6.
[3] وهذه موارد بعضها في تحقيق عبد الحميد:اليهود (2/239)، النصارى (2/ 8- 239)، الملحدين (2/25)، أهل التثنية (2/10-24-178)، الثنوية-المنانية (2/30-31-39)، الملحدين (2/25)، الفلاسفة (1/261؛ 2/6-19)، المتفلسفة (2/8-17-22-201)، أرسطاطاليس (2/9-29-178)، السوفسطائية (2/120-121)، المرقونية (2/10-27-31)، الديصانية (2/27-30-31-39-40)، أصحاب الهيولى (2/28). ولينظر فهرس أسماء الفرق والطوائف في تحقيق رتر.
[4] ولينظر فهرس أسماء الرجال والنساء في طبعة رتر.
[5] الفهرست، 286.
[6] نفسه، 301.
[7] نفسه، 317.
[8] السير، 11/149.
[9] نفسه، 301-302.
[10] السير، 11/637.
[11] تبيين كذب المفتري، 131.
[12] نفسه، 131، 135.
[13] النبوات، 254.
[14] منهاج السنة النبوية، 6/303.
[15] أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحصلت على تقدير ممتاز، وهو يقع في ثلاث مجلدات.
[16] المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم، 2/1137-1146.
[17] خصص أحمد سردار في كتابه بابا لدراسة الحديث في فصلين: الأول في دراسة روايات حديث الافتراق، والثاني في أقوال العلماء في الحكم على حديث افتراق الأمم، وقد أجاد فيه فلينظر هناك، 1/69-419.
[18] المباحث العقدية، 2/1147، وما بعدها.

لائحة المصادر والمراجع

•    تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، ابن عساكر،  تحقيق أحمد حجازي السقا، دار الجيل، بيروت، ط. 1، 1416 هـ- 1995 م.
•    سير أعلام النبلاء، الذهبي،  تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غلامة العمروي، دار الفكر، بيروت- لبنان، ط. 1، 1417 هـ- 1997 م.
•    الفهرست، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالنديم، ضبط وشرح وتعليق وتقديم يوسف علي الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط. 2، 1422 هـ- 2002 م.
•    كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن الأشعري، عني بتصحيحه هلموت ريتر، فرانز شتاينز، ڤيسبادن، ط.3، 1400 هـ- 1980 م.
•    المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم، أحمد سردار محمد مهر الدين، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط. 1، 1430 هـ-  2009م.
•    مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، بـ.ط.، 1419 هـ- 1999 م.
•    الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تصحيح وتعليق أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط. 2، 1413 هـ- 1992 م.
•    منهاج السنة النبوية، ابن تيمية،  تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط. 1، 1406 هـ- 1986 م.
•    النبوات، ابن تيمية، ضبط وتحقيق رضوان جامع رضوان، دار الحديث، القاهرة، 1427 هـ- 2006 م.

                                                                                        

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق