مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

قضاة قرطبة – الجزء الثاني

قضاة قرطبة ج2

بقلم: محمد اباحنيني

لم يمض على احتلال المسلمين لأرض اسبانيا إلا مدة وجيزة حتى أصبحت مدينة قرطبة قاعدة لسلطانهم ولم يلبثوا أن اتخذوها عاصمة لذواتهم ومركزا للسياسة الإسلامية والثقافة العربية وبقيت قرطبة ذات النفوذ الدنيوي والأدبي على تراخي الأيام والأحقاب طوال المدة التي كانت خلالها السيادة بالأندلس في أيدي العمال وأمراء بني أمية فلما دالت دولة بني مروان وأفضى الأمر إلى ملوك الطواائف وقسمت المملكة إلى دويلات متعددة لم تفقد قرطبة تلك الصفة التي لصقت بها بعيد الفتح الإسلامي ولم يجردها الاضطراب والفتن والقلاقل من سلطانها الأدبي والسياسي غير أنها وإن احتفظت بكامل سطانها الأدبي والثقافي أصبحت ضعيفة السلطة السياسية وذلك أنها عادت عاصمة قطر صغير أيام بني جهور بعد أن كانت عاصمة مملكة شاسعة الأطراف ولم تجرد تمام التجريد من هذه السلطة السياسية المنقوصة إلا بعد أن دوخت جيوش البرابر المرابطين ممالك الطوائف وآل أمر جزيرة الأندلس إلى يوسف بن تاشفين وما برحت قرطبة ينبوع الثقافة العربية الإسلامية حتى في تلك العهود التي سلبت فيها عز السلطان وانتقل مركز النفوذ السياسي من الأندلس إلى المغرب واستقل به مراكش.

ولا عجب أن تكون حياة عاصمة كبيرة كقرطبة كانت في أبهى عصورها تنازع بغداد البذخ والزدهار متعددة الجوانب متنوعة الصفات، وقد طوي عنا كثير من هذه الجوانب وغاب عنا شيء غير قليل من تلك الصفات، وليس بين أيدينا الآن إلا صور شاحبة باهتة لحياة كانت طيلة قرون مليئة زاخرة بالعجائب.

وغير عجيب كذلك أن يكون جانب القضاء بقرطبة من أهم الجوانب التي يتوق الباحث إلى معرفتها، ولكن ما أشد عناء الباحث الذي يريد أن يظفر بالصورة التي لا تنقصها شية من الشيات، ولا يعوزها لمحة من الملامح، وما أدنى الخيبة إليه، لأن النصوص الضافية المفصلة التي تتيسر بفضلها المعرفة الكاملة هي عديمة الوجود أو عزيزة المنال ، وإننا لا نفيد القاريء بشيء إذا قلنا إننا خسرنا حظا جزيلا من تراث الأندلس الفكري بما طوته الأيام عنا من الكتب التي كانت الحضارة الأندلسية حافزة على تأليفها.

ولو أن الكتاب الذي جاد علينا بمادة هذا البحث كان من جملة الكتب المفقودة لكان خطبنا أفدح ومصيبتنا أعظم فقد كان من حسن حظ عواصم الإسلام الكبرى كدمشق وبغداد أن قيض الله لها من ترجم لقضاتها وكشف عن سيرهم وأخلاقهم، وما كان أحرى قرطبة التي لم يقل ازدهار الحضارة الإسلامية بها عما أنشأته مصر الإسلامية والشام الإسلامي والعراق الإسلامي من مظاهر المدنية وأسباب الرقي، أن تظفر بالرجل الذي يكشف لنا عن الجانب القضائي من حياتها، ويخلف لنا رسوما تهدينا إلى الاتصال بطائفة من قضاة المسلمين. وهذا الرجل الذي كتب لعاصمة اسبانيا الإسلامية أن يكون واصفا لحياة قضاتها هو أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني وفي هذا ما يعزينا بعض العزاء عن فقد الكتاب الذي ألفه ابن بشكوال في الموضوع نفسه.

ألف الخشني كتابه أيام الحكم المستنصر أي خلال القرن الرابع وعصر الحكم المستنصر أحد عصور الأندلس المترفة الهادئة المطمئنة. لقد أينعت فيه العلوم العربية وآدابها، وأخذت فيه الأندلس تستقل من النواحي الفكرية والعمرانية والإدارية، وهو العصر الفاصل بين عهد الدعة والعهد الذي يوشك أن تتولد عنه الفتن،وينشأ عنه ضعف المملكة وانتشار نظام وحدتها، وهو من أجل هذا من أحسن العصور وأليقها لتأليف مثل هذا الكتاب، لأنه عصر وسط بين عهدين أحدهما رابط الجأش والآخر قلق مكروب.

عثر المستشرق الاسباني خوليان ريفيرا على الكتاب وطبعه بمدريد سنة 1914 ولكنه أخرجه في زي لا نرتاح إليه كل الارتياح، لأنه ليس بالزي الذي اعتاد المستشرقون أن يفرغوه على ما يبرزونه للناس من الكتب القديمة ، ولكن هذا الطبع على الرغم مما يعاب به يجب أن يعد يدا بيضاء أسداها المستشرق الاسباني إلى الأمة الاسلامية تقتضي منا الثناء الجميل والشكر العميم.

والكتاب مجموعة تراجم خص المؤلف كل قاض من قضاة قرطبة منذ الفتح إلى أيامه بترجمة مستفيضة تارة وموجزة تارة أخرى، وكتاب الخشني هذا جليل القيمة غزير الفائدة، لأنه كثيرا ما يقص على القارىء من الأنباء التي تؤيد أو تبطل ما جاء في كتب التاريخ، أو تبرز ما خفي من ماضي الأندلس البعيد، ولا بدع أن يجر الخشني كلامه عن حياة قضاة قرطبة إلى ما يمس الحياة الأندلسية عموما وينفذ به إلى طباع زمرة من الناس كان اتصالهم بالقضاء يختلف قربا وبعدا.

وقد احتاط الخشني لنفسه فأخبرنا في طليعة كتابه أنه لما وطد العزم على تأليف كتاب القضاة بقرطبة كاشف أهل الحفظ عن أفعال القضاة، وسأل أهل العلم عما تقدم من سيرهم قولا وفعلا حتى ألفى نمن ذلك كما يقول:«فصولا تروق المستفهمين، وقصصا تبهج السامعين، وأخبارا تدل الناظرين على حصافة العقول وسعة العلوم، وعلى رجاحة الأحلام، وثقافة الأفهام».

وإن تلك الفوائد التي يجود علينا الخشني بها تواتينا من أبواب شتى:
كان أمراء بني أمية لا يولون خطة القضاء بقرطبة خلال القرنين الأولين إلا من كان عربيا صريحا، والعلة في ذلك بسيطة، فقد قامت دولتهم بالمشرق معتمدة على العصبية العربية. ثم أسسوا بعد ذلك بالمغرب مملكة دعامتها العصبية العربية، فكانوا لا يمنحون أهم خططهم إلا من كان له نسب صريح في العرب، وبقي الأمر على هذه الحال في الأندلس إلى القرن الثالث للهجرة، فاجترأ أحد خلفائهم على تولية أحد الموالي قضاء الجماعة والصلاة بقرطبة، ولكن ذلك شق على العرب، فاحتجوا ما وسعهم الاحتجاج، وقبلوا آخر الأمر أن يحتفظ للقاضي بقضاء الجماعة على شرط أن يكون صاحب الصلاة عربيا، فلم يجد الخليفة مناصا من النزول عند رغبتهم، بيد أن الناس ألفوا الموالي، فأخذوا خلال عصر عبد الرحمن الناصر وفيما بعد ذلك من العصور ينظرون إليهم بعين لا يملأها الازدراء، فرشح نفسه لقضاء الجماعة والصلاة من كان آباؤه عجما، وظفر بالخطتين معا، ولم يثر في العرب كوامن العصبية والتحزب.

ولم يكن شرط الانتساب إلى العرب كافيا وحده لحمل الأمراء والخلفاء على إسناد خطة القضاء، بل كان هؤلاء الأمراء والخلفاء يبحثون ويطيلون البحث عن الرجل الذي تتفق له فوق ذلك صفتان: العلم والصلاح، وكان بحثهم لا ينحصر فيمن عرف الرجل بالعلم والصلاح من رجال قرطبة، وإنما كانوا يستجلبون القضاة مما سوى قطر قرطبة من الأقطار إذا عز عليهم أن يعثروا على من توفرت فيه الشروط في عاصمة البلاد.

وكان غير يسير على هؤلاء القضاة المستجلبين من القرى والمدن الصغيرة أن ترتاح إليهم نفوس سكان العاصمة، فقد رأى بعضهم من هؤلاء السكان دلائل الاشمئزاز والازدراء.

ولي سعيد بن سليمان الغافقي قضاء الجماعة من قبل عبد الرحمن بن الحكم، وكان أصله من قرية فحص البلوط، فلما قدم إلى المدينة ودخل المسجد الجامع في لباس خشن أبصره بعض الخصوم، فلما خرج من المسجد عمدوا إلى قشر البلوط وشتتوه تحت الحصير الذي يصلي عليه القاضي؛ وعاد القاضي إلى المسجد وقام يصلي، فأحس تحته شيئا يتكسر فرفع الحصير بعد ما فرغ من الصلاة ورأى قشر البلوط، فقيل له إن بعض الخصوم فعلوا ذلك، وصح عنده ما قيل له فيهم؛ فلما أتوه من بعد ذلك قال لهم: «يا معشر الخصوم، عيرتمونني بأني بلوطي بأني بلوطي، أنا أشهد على نفسي بأني بلوطي،عود والله صليب» ثم حلف لهم بأثر كلامه هذا أن لا يخاصموا عنده سنة، فكاد أن يورثهم الفقر.

ولم تكن الثروة المالية من الشروط التي لا غنى للمرشح لخطة القضاء أن تتوفر فيه، بل كثيرا ما كان هؤلاء المرشحون فقراء، فإذا ولي المرشح القشاء أخذ يتقاضى على ذلك أجرا، ومنح لقب قاضي الجماعة، وكان قضاة قرطبة يلقبون قبل قيام الدولة الأموية بقضاة الجند.

ليس عجيبا أن يقع اختيار الأمير على فرد تحققت أهليته للقضاء ويقبل هذا الفرد الخطة راضيا مرضيا، وإنما العجيب أن يوجد بين من يشهد لهم بالكفاءة عدد كبير من الأفراد يرفضون الاقتراح ويلجؤون في النفور من الخطة، حتى إن أحد أمراء بني أمية اضطر أن يعامل بعض هؤلاء الجامحين معاملة عنيفة، إذ وكل أمره إلى الحرس الذين أبلغوه مركز قضائه؛ وأجلسوه بمجلس القضاء، وأرغموه على الحكم بين الناس؛ فلما خفت وطأة الحرس وضعفت الرقابة التمس لنفسه مفرا، وأصبح الناس ولا قاضي لهم. ولولا أن في كتاب الخشني ذكرا لمن شق عليه أن ينتظر حتى يقع اختيار الأمير عليه، فأبدى الرغبة الجادة في خطة القضاء، وسعى سعيا حثيثا في الحصول عليها لداخلنا شيء من الارتياب في قيمة الكتاب، لأن قضاء الجماعة بالأندلس كان يعود على صاحبه بالفوائد المادية والأدبية، فليس من الطبيعي أن لا تشرئب إليه الأعناق، وتتوق إليه النفوس، ولو بلغت الأمة من الصلاح والإستقامة شأوا بعيدا ولم يكن بقرطبة محكمة خاصة بالأحكام، وإنما كان القاضي ينظر في القضايا المعروضة عليه بالمسجد؛ وكان إذا جلس بالمسجد إما راضيا وإما كارها بدا للخصوم لابسا القلنسوة، وربما برز بعضهم على الصفة التي ذكرها الخشني حيث يقول: «ووما يحكيه الناس ويدور على ألسنتهم من أخبار محمد بن بشير (وكان قاضيا بقرطبة) أنه أتاه رجل لا يعرفه، فلما نظر إلى زي الحداثة ن الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه لم يتوسم عليه القضاء، فقال لبعض من يجلس إليه: دلوني على القاضي، فقيل له: هاهو ذا، وأشير له إلى القاضي، فقال لهم: إني رجل غريب، وأراكم تستهزئون بي، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم على زامر، فزجر من كل ناحية، وقال له ابن بشير: تقدم فاذكر حاجتك؛ فلما أيقن الرجل أنه القاضي تذمم واعتذر، ثم ذكر حاجته، فوجد من العدل والانصاف فوق ظنه ».

وكان قاضي الجماعة بالأندلس مطلق الحكم نافذه، ولكن في دائرة قرطبة فحسب، فلم يكن ينظر في القضايا الخارجة عن هذه الدائرة؛ وقد اتفق لبعض القضاة أن أسند إليه تعقب حكم صدر في إحدى الكور الأندلسية؛ ولعل هذا النفوذ الذي كان محدودا من حيث المكان كان كذلك محدودا من حيث الخصوم، يفيدنا الخشني أن نظر القاضي كان يشمل جميع المسلمين الساكنين بقرطبة، ولكن لا يفيدنا شيئا عن مدى نظر القاضي فيما يخص أهل الذمة؛ وكان نظر القاضي محدودا من جهة ثالثة،وذلك أنه كان بقرطبة بإزاء القاضي موظفون كصاحب الشرطة وصاحب المدينة وصاحب الرد وصاحب المظالم، ورد ذكرهم في كتاب الخشني، وقد أحاط أعمالهم بشيء كثير من الغموض، فلم يتبين لنا من الكتاب ما يختص به هؤلاء الموظفون من الأعمال وما هو خالص للقاضي لا يشاركه فيه سواه، ومن حسن حظنا أن لدينا مصادر غير كتاب الخشني كمقدمة ابن خلدون والأحكام السلطانية تفيدنا علما بطبيعة الأعمال التي كانت منوطة بالموظفين الذين أشرنا إليهم، فأصبح مأذونا لنا أن نقول إن القاضي بقرطبة كان له النظر في جميع ما يحدث الخصام بين الناس بعد استثناء ما كان يعهد الخليفة بالنظر فيه إلى صاحب الشرطة وصاحب المظالم وصاحب السوق.

غير أن هناك إشارات في كتاب الخشني تدلنا على أن القاضي هو الذي كان مكلفا بإقامة الحدود على السكارى، وقلما كان القضاة بقرطبة يقيمون الحد فعلا على من تثبت عليه جريمة السكر، وإنما كان شأنهم مع السكارى شأن من يشق عليه أن يعاقب، فكانوا يقابلون النشوة بالإغضاء والعربدة بالتسامح، وربما خاف القضاة شر السكارى فتركوهم وشأنهم. ولا يخلو كتاب الخشني على ما يغمره من جد من حكايات طريفة في هذا الباب، قال: « حدثني أصبغ بن عيسى الشقاف قال كنت مقبلا يوما مع القاضي أحمد بن بقى حتى عن لغا سكران يمشي بين أيدينا، فجعل أحمد ابن بقى يمسك من عنان دابته ويترفق القاضي وقف السكران حتى لم يكن للقاضي بد من أن يقرب منه وينظر إليه، قال أصبغ: وكنت أعرف كراهية القاضي أن ينتشب في مثل هذا، ورقة قلبه أن يقرع أحد بسوط؛ فقلت في نفسي ليت شعري، كيف تصنع في مثل هذا يا ابن بقى، فلما قربنا من السكران عطف على القاضي فقال: مسكين هذا السائر، أراه مخبول العقل؛ قال: فقلت له بلية عظيمة؛ فجعل يستغفر الله ويأله أن يأجر المصاب في عقله. قال أصبغ: وكنت عنده يوما أنا وكاتبه ابن حصن حتى أتاه رجل محتسب برجل به رائحة الشراب، ودعا المحتسب فقال القاضي لكاتبه ابن حصن: استنكهه فاستنكهه فقال له نعم عليه رائحة الشراب، قال فظهر بوجهه لكراهية لذلك ثم قال لي: استنكهه أنت ففعلت فقلت له أجد رائحة ولا أدري إن كانت رائحة مسكر أم لا، قال فتهلل وجهه ثم قال يطلق فلم يثبت عليه شيء».

وقد حكى لنا المقري في نفح الطيب ما يؤيد تمكن هذه العقلية من قضاة الأندلس فقد ذكر لنا في أثناء كلامه على القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى أن بعض أصحابه قال: ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف فخانته رجلاه فاستند إلى الحائط وأطرق، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول:

ألا أيها القاضي الذي عم عدلـــه       فأضحى به بين الأنام فريــــــدا
قرأت كتاب الله تسعين مـــــرة      فلم أر فيه للشراب حـــــــدودا
فإن شئت جلدا لي فدونك منكبـــا      صبورا على ريب الزمان جليــــدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منـــة      تروح بها في العالمين حميـــــدا
وإن كنت تختار الحدود فإن لـــي      لسانا على هجو الزمان حديـــــدا

فلما سمع القاضي شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى شأنه.

عن رسالة المغرب في العلم في الأدب والاجتماع العدد الثاني السنة السادسة  ذو القعدة 1366 / أكتوبر 1947

انتقاء: ذة. نادية الصغير.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق