مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

قصة استقبال بنات النجار للنبي ﷺ وغنائهن (طلع البدر علينا) في الهجرة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

الحمْدُ لله (الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) ([1])، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.

وبعد؛ فإن الهجرة النبوية، محطة كبرى من محطَّات هذا الدين القويم، وحَدثٌ جَللٌ في تاريخه المجيد، حدث تحول بعده المسلمون من الضعف إلى القوة والغلبة، ومن الذلة إلى العزة والكرامة، ومن الدفاع إلى الهجوم والسيادة، ولعظم هذا الحدث وأثره البالغ في حياة المسلمين اتخذوه منطلقا لتاريخهم وأيامهم.

 ولأهمية حدث الهجرة النبوية حُشِدت لأجله الكثير من الروايات الصحيحة، إلى جانب بعض الروايات الضعيفة والباطلة التي تسيح في عوالم الخيال، دست في السيرة بلا سند يُعَضِّدها ولا أصل يُأَصِّلُها؛ ولهذا فإن التحقيق النقدي لأحداث السيرة النبوية من ضروريات البحث العلمي الذي يجرد الحقائق مما يشوبها ، ويعطي الصورة الصحيحة لسيرة رسول الله ﷺ.

  ومن بين هذه الأخبار التي اشتهرت في كتب السيرة قصة استقبال بنات النجار للنبي ﷺ وغنائهن (طلع البدر علينا) حين دخل المدينة في هجرته، وهي قصة لا تصح على الرغم من انتشارها في كتب السيرة؛ لأنها رويت بإسناد معضل في حديث عبيد الله ابن عائشة قال ابن حجر: «وهو سند معضل؛ ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك» ([2])، وذكره الفتني في تذكرة الموضوعات وقال: «حديث إنشاد الشعر عند قدوم النبي ﷺ طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع للبيهقي معضلا دون ذكر الدف والألحان» ([3])، وذكرها ابن تيمية في أحاديث القصاص ([4])، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة([5]) : «ضعيف، وسبب الضعف الانقطاع بين ابن عائشة وبين النبي ﷺ ؛ فبينهما مفاوز». 

كما أن الأبيات ذكرت كلمة المدينة وهي لم تكن قد أطلقت على المدينة بعد؛ بل كانت تسمى يثرب، كما أن ثنيات الوداع إنما سميت بذلك في غزوة تبوك على ما ذكر ابن حجر قال الحافظ: «ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك» ([6])، وفي الجزء التاسع أخرج الحازمي من حديث جابر رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله ﷺ غزوة تبوك وفيه فتوادعنا فسميت ثنية الوداع» ([7])، و«ثنيات الوداع» إنما هي ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة و لا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام.

 ومما يدل على ضعف هذه القصة أن الروايات الصحيحة في دخوله ﷺ طيبة الطيب عند هجرته تخالف تماما هذه القصة، ففي صحيح البخاري في باب: هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة ورد أن الأنصار استقبلوا النبي ﷺ مرة بالتكبير، قال أنس: «عندما قدم النبي ﷺ خرج الغلمان والخدم وهم يرددون: الله أكبر جاء رسول الله» ([8])

ومرة بالهتاف باسمه الشريف،  وذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه: «فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله ﷺ فأشرفوا ينظرون ويقولون: «جاء نبي الله» ([9])،  وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: «..ثم قدم النبي ﷺ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم  برسول الله ﷺ، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله ﷺ » ([10])، وفي رواية: «فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان والخدم في الطُّرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله. يا محمد، يا رسول الله» ([11]).

ومرة أخرى استقبله الحبشة وهم يلعبون بحرابهم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك ، لعبوا بحرابهم([12]) .

كما أن ابن إسحاق رحمه الله على الرغم من عنايته بالسيرة، وتتبعه لأحداثها، فإنه لم يورد هذا النشيد في سيرته .

وفي ختام هذا المقال أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل مني هذا الجهد ويجعله في ميزان حسناتي يوم لقائه، والحمد لله رب العالمين.

**************

هوامش المقال:

([1]) الجمعة: 2.

([2])    فتح الباري (7 /262).

([3])    تذكرة الموضوعات (1 /196).

([4])    أحاديث القصاص (ص: 17).

([5])  السلسلة الضعيفة  (598)

([6])  فتح الباري (4 /262).

([7])  فتح الباري (4 /262).

([8])  فتح الباري (4 /262).

([9])  صحيح البخاري، كتاب: المناقب، باب: باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة  (رقم: 3621).

([10])  صحيح البخاري، كتاب: المناقب، باب: باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة  (رقم 3632.)

([11])  صحيح مسلم، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل (رقم :5329).

([12])  أخرجه أحمد في المسند  (3 /161) ، وأبو داود في كتاب: الأدب ، باب في النهي عن الغناء (5 /221) (رقم 4923)، كلاهما من حديث عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس به . واللفظ لأبي داود . وهذا إسناد (صحيح ) ، والحديث (صحيح) .

*******************

جريدة المراجع والمصادر

أحاديث القصاص: لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت: أحمد عبد الله باجور، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1413هـ/1993م.

تذكرة الموضوعات: لمحمد طاهر بن علي الهندي الفتني، إدارة الطباعة المنيرية، مصر، 1343هـ.

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسننه وأيامه: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، ت : د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط8، 1407هـ/1987م.

سلسلة الأحاديث الضعيفة: لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض

السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ت: محمد بن ناصر الدين الألباني. مكتبة المعارف ـ الرياض ـ ط1 بدون تاريخ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

المسند: للإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال  الشيباني المروزي، ت: شعيب الأرنؤوط و عادل مرشد. مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط1/ 14116هـ ـ 1995م.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق