مركز الأبحاث والدراسات في القيمقراءة في كتاب

قراءة الأستاذ فؤاد شفيقي لكتاب “منظومة القيم المرجعية في الإسلام”

في هذا الكتاب “منظومة القيم المرجعية في الإسلام” يجد كل مهتم ضالته، ومن متنه يبني كل متخصص أنشطة  مجاله.
وفي مجال تخصصي كمسؤول عن مناهج التربية والتكوين بوزارة التربية الوطنية، وانطلاقا من المستجدات الحاصلة في هذا المرفق العمومي من حيث الظرفية والمقاربات المنهجية، فإن كتاب الدكتور محمد الكتاني، قد يساعد إلى أبعد الحدود في الاستجابة لهذه المستجدات.
فعلى مستوى الظرفية، تباشر وزارة التربية الوطنية إعادة النظر في الكتاب المدرسي، وتجديده تدريجيا بدءا من الموسم الدراسي2013-2014 وقد تضمنت دفاتر التحملات لإنتاج الجيل الجديد من الكتب المدرسية توجيهات وإرشادات للمؤلفين تدعوهم فيها أن يأخذوا بعين الاعتبار ما يطرأ على الساحة الدولية والجهوية والوطنية من تغيرات تجعل المتعلم يواكب كل هذه المستجدات، محافظا في الوقت ذاته، على كنهه منفتحا على محيطه، متشبعا بمبادئ أمته، متوازنا وغير متمزق الإنية.
إن هذا الاختيار في هذا التوجه الذي تبنته وزارة التربية الوطنية يبدو صعب المنال إذا لم يأخذ الكتاب المدرسي المرتقب، من حيث محتواه ومضامينه وشكلنة إخراجه مواصفات ما ينافسه من كتب أخرى تعج بها السوق الوطنية من حيث، المحتويات والمضامين وشكلنة الإخراج والبناء المنهجي، خاصة الكتب المستجلبة من الغرب إشباعا لطموح بعض مؤسسات التعليم الخاص.
أما على مستوى المقاربات والمداخل البيداغوجية، فإن مدخل القيم اختيار سارت عليه وزارة التربية الوطنية منذ أكثر من عشر سنين، وفي ضوئه يتم تسويق جملة من الكفايات القيمية الأساس، من قبيل حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة والإنصاف ونبذ العنف واعتبار النوع الاجتماعي ونبذ التمييز…وهي كلها قيم نص عليها البرنامج الاستعجالي.
السؤال المركزي في الاستجابة لهذه المتطلبات: ماهي المرجعية في هذه القيم استجابة للظرفية في بعديها المعرفي والقيمي بالنسبة لوزارة التربية الوطنية بشكل عام وبالنسبة للفاعلين التربويين مؤلفين ومدرسين ومؤطرين تربويين بشكل خاص؟
فمن خلال قراءة كتاب الدكتور محمد الكتاني”منظومة القيم المرجعية في الإسلام”، اتضحت لي معالم الطريق، وتبين لي أن هذا الكتاب يؤسس لمرجعية علمية وسوسيوثقافية في المجال القيمي، تفتح أمام المؤلفين والأطر التربوية أبوابا مشرعة.
ولقد أثار اهتمامي استهلال الكتاب بمقدمة يمكن اعتبارها منهجا لبناء الكفايات، حيث يقول الدكتور الكتاني: “من أهم ما رسخه البحث العلمي المعاصر من قواعد منهجية في دراسة الظواهر الكونية الطبيعية والظواهر الإنسانية الاجتماعية، قاعدة النظر إلى هذه الظواهر باعتبارها نظاماً تتفاعل داخله كل المكونات، أي اعتبارها بنيات تتحكم  العلاقة العضوية فيما بينها، وأن كل ظاهرة مادية طبيعية أو نفسية أو اجتماعية هي منظومة محكومة بقانون التفاعل بين أجزائها؛ فالعالم ليس عبارة عن ظواهر متناثرة، ولا وحدات منغلقة على ذاتها، وإنما هو علاقات من التفاعل والتجاوب والتقابل التي يجسدها الاستمرار من جهة، والتطور والتغير من جهة أخرى.”.
وتأسيسا على ذلك، فإن القيم المراد تمكين المتعلمين من امتلاكها وتملكها، ترجع كلها إلى منظومة متكاملة تتضمن حقائق يبسطها الأستاذ الكتاني في مجمل القيم التي يتضمنها الكتاب، مبرزا الترابطات بين النقل والعقل في إرساء هذه القيم. والمثير للانتباه في هذا المؤلَّف، هو الاختيار المنهجي الذي سار عليه المؤلِّف في التحليل، بحيث لم ينظر للقيم كنتف أو تناثرات أو عناصر مبعثرة، وإنما نظر إليها كمنظومة. ويمكن الاستفادة من هذا الطرح في البناء الهندسي للكتاب المدرسي كتابا وكراسة ودليلا في بناء الكفايات عبر مقطع تعلمي أو فترة زمنية أو سنة أو سلك تعليمي. إن دفاتر التحملات تشير إلى بناء القيم والكفايات في إطار استحضار المكتسبات السابقة واستشرافا للامتدادات المرتقبة مرورا بالتقاطعات بين مختلف المواد، وبذلك يكون التكوين في ديداكتيكه وبيداغوجياته مخالفا للمسارات المنهجية التقليدية. وهذا التخطيط حاصل في كتاب الدكتور محمد الكتاني الذي لامس فيه من جهة أخرى علاقة الفكر الإسلامي بقضايا العصر، مبينا أن هذا الفكر يتسم بشساعة تسمح باحتواء كل قضايا العصر ودراستها وإيجاد الحلول لها، دون إحداث أي شرخ في ذات الفرد أو المجتمع. ومن هنالك يجد الكتاب مكانه في سد فراغات يعاني منها خبراء التربية من مدرسين ومؤلفين.
إن جلسة واحدة لا تسمح بتقديم كتاب من حجم كتاب”منظومة القيم المرجعية في الإسلام” نظرا لتعدد مواضيعه وغنى أفكاره وبعد مقاصده، ولذلك سأتوقف عند الفصل الحادي عشر منه المتعلق بالوسطية، وهي قيمة تكتسي أهمية كبرى في راهن الحال، ولذلك وصفها الدكتور الكتاني بالأداة الواقعية حيث سمى الفصل: “الوسطية وقاء من التطرف والصراع” ويشرح قصده من الوسطية في قوله: “الوسطية تعني في نفس الوقت عدم التطرف، بل ومواجهته في كل مظاهره، باعتبار التطرف نقيضاً للوسطية، لأنه يفضي إما إلى الانغلاق، وإما إلى الفوضى. وبما أن الدين الإسلامي هو عبارة عن معتقدات، وحقوق مشروعة، وقيم سلوكية، فإن المؤمن ربما صعب عليه تمييز الحد الفاصل بين الشطط في التصور والممارسة، أو في التزمت في الفهم والتطبيق. ولذلك ألح الإسلام على الوسطية.”
والوسطية مطلب شرعي ومطلب حضاري في نفس الوقت، لأنها تعني التوازن في التفكير والسلوك، وتحقيق التعايش مع الناس واحترام الخصوصيات الثقافية، بعيدا عن التشدد والتزمت والاستهتار بحقوق الآخرين.
إن الوسطية كقيمة، يمكن اعتبارها ركنا لبناء مجموعة من القيم المنصوص على تحقيقها في الكتب المدرسية، من قبل حقوق الإنسان واعتبار الاختلاف، ومقاربة النوع الاجتماعي ونبذ العنف والمواطنة.
ويمكن للوسطية أن تتخذ بعداًَ آخر لدى الفرد الواحد، من حيث بناء ذاته: إن الملاحظ اليوم للحالات الوجدانية لشبابنا، يستنتج دون أدنى صعوبة أن هؤلاء الشباب غير متزنين نفسيا، وأنهم متمزقون، وهذا ما يدفع بهم إلى عدم تبين المسار الذي عليهم أن يسلكوه، وقد يكون التطرف نتيجة مسارهم دون أن يكون هدفا، لأنهم يسلكون بغير ترو ولاتبصر، فهم كالآلة يتحركون بفعل دافع محرك قوي يجهلونه.
وهكذا تكون الوسطية هي التوازن بين دوافع الصراع داخل الذات أو داخل المجتمع، هي الحل الأمثل لتجاوز التطرف والميل إلى هذا الدافع أو نقيضه، إنها بتعبير فرويد الأنا الذي يحقق التوازن والرقابة بين قوتين متصارعتين هما الأنا الأعلى والذات البدائية.
ويربط المؤلف بين الوسطية والعدل كقيمتين متكاملتين أو كمركبين لمنظومة قيمية، وذلك في قوله:”ويؤيد هذا الفهم أن من معاني الوسطية العدل، أي التوسط بين أطراف متنازعة…”.
ومن باب إرساء وسطية توازن حقيقي يدعو الدكتور الكتاني إلى بناء هذه الوسطية في ضوء رؤية الإسلام، التي تشترط تحققها في مستويات أربعة:
1- مستوى الرؤية للكون؛
2- مستوى المنهج الموجه للبحث والمعرفة؛
3- مستوى التحرك مع الحياة؛
4- مستوى الأخلاق والتخلق.
ويبسط المؤلف هذه المستويات كالتالي:
* مستوى الرؤية للكون: على العقل الإنساني أن يعرف هذا الكون كواقع مادي ليستوجب البحث عن قوانينه ومعرفة نواميسه وسنن الله فيه، لأنه كون دال على المكونّ، وفي هذا السياق يدعو المؤلف أن المسلم أولى من غيره بالاهتمام بالعلوم الطبيعية، وأحق بها، لأن في الارتباط بها استجابة لله .
* أما من حيث المنهج، فيرى المؤلف أن هذا المستوى مرتبط بسابقه، ولذلك يقول:”فالبحث في الطبيعة لمعرفة سنن الله فيها إنما يتم بالاستقراء والملاحظة، وذلك ما حدده القرآن في آيات متعددة، حيث طالب المؤمن بملاحظة الكون وحركة النجوم والأفلاك، وعالم النبات والحيوان والأجنة وعالم النفس”.
* أما مستوى التحرك مع الحياة، وهو المستوى الثالث في صنافة المؤلف، فيقصد به مراعاة الإسلام لطبيعة الحياة المادية والروحية، لأن كل شيء في الطبيعة نسبي من حيث الثبات والتغير، ومن ثمة يدعو المؤلف إلى :” إقامة حركة المجتمع الإسلامي على الاعتدال بين دوافع الثبات والتغير، هو الحفاظ على توازنه وتجدده واستمراره، لأن دوافع التغير تملـيها الأحـوال الطـارئة عـليـه، فلابد حيـنئذ مـن أن يلبـس لكـل حـالة لبـوسـها، وأن يصـطنع مـن الحلـول بقدر ما يحدث من المشكلات، وأن يجتهد في الملاءمة بين ما لا يتغير من أحكام شريعته وبين أحواله المتجددة. وتجاهل ذلك انكماش وجمود يؤديان إلى الزوال.”
* وأما مستوى الأخلاق والتخلق، فيقصد به المؤلف عدم الغلو وتجنب التفريط والإفراط، وتحصيل قضية التوازن بين الأغيار، ويبين الدكتور الكتاني أن الوسطية في الإسلام تقوم على مبادئ في مقدمتها: “ارتكازها على ما يلائم الطبع الإنساني، عقلاً ووجداناً وجسداً. فليس الإسلام ديناً يضغط على النفس، ويكلفها ما لاتطيق، أو يحملها اعتقاداً وأعمالاً تجد فيها العنت والإرهـاق”.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق