مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

9) خاتمة المحققين وحامل راية المدققين: الطيب بن عبد المجيد ابن كيران (1172-1227ﮬ)

    عاش الشيخ الطيب بن كيران يحمل بين جوانحه روحا شاعرة، وحسا مرهفا، وعاطفة متألقة، وخيالا خصبا. انعكس فيما أبدعه من تآليف عالية القيمة، قوية الطرح، جميلة العبارة، عظيمة المضمون والمحتوى. كانت أثرا من آثار التربية القرآنية والعلمية والصوفية التي غرست في وجدانه الجمع بين الشريعة والحقيقة، الظاهر والباطن، الفقه والتصوف[1].

  • العلم والعمل وإن اشتركا في أنهما جهاد في سبيل الله، ووعد عليهما بالأجر العظيم، افترقا في أن العلم وسيلة والعمل به مقصد. فمن ضيع المقصد فقد أخل بحكمة الوسيلة. وبالعمل يرسخ العلم ويدوم، وكما قيل: “العلم يهتف بالعمل، فإن وجده وإلا ارتحل”. وبه يحصل مع علم الأوراق علم الأذواق. وتنضم إلى العلوم الكسبية علوم وهبية لدنية. كما قال تعالى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾، ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا﴾، أي نورا تفرقون به بين الحق والباطل. ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾[2].
  • من أهم المهمات للمؤمن المشفق على نفسه لا سيما متعاطي العلم: مجانبة الأشرار ومباعدتهم، والحرص على صحبة الأخيار ومرافقتهم. كما قيل:

اختر لنفسك من أطاعا     إن الطباع تسرق الطباعا

    فتعين على المؤمن منابذة كل من يتضرر بصحبته. قال في الحكم: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله. ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان من نفسك صحبتك لمن هو أسوا حالا منك. وقد جمع سبحانه بين الأمر بصحبة الأخيار والنهي عن صحبة الأشرار في قوله: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم﴾ إلى قوله: ﴿وكان أمره فرطا﴾. وكذا جمعهما قوله: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك، وكير الحداد. لا يعدمك من صاحب المسك، إما أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحا خبيثة)[3].

  • فالمؤمن القوي المتمكن من مخالطة أهل العلم والصلاح أحق أن يفر إلى مولاه، ويهجر من يتضرر بموالاته من شياطين الإنس والجن والنفس والهوى والدنيا، ويقبل على ما ينفعه من علم وعمل…، عن بهلول قال: رأيت بالبصرة صبيانا يلعبون بالجوز. وصبي ينظر إليهم ويبكي. فظننت أنه يتحسر على ما في أيديهم . فقلت: أي بني، أشتر لك ما تلعب به؟ فنظر إلي وقال: يا قليل العقل، ما للعب خلقنا. قلت: فلماذا خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة. قلت: من أين لك هذا؟ قال: من قوله تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾. قلت: أي بني، أراك حكيما فعظني وأوجز. فأنشد:

أرى الدنيا تجهز للــطلاق      مشمـــرة على قدم وسـاق

فما الدنـــــــــيا بباقية لحي      وما حي على الدنــيا بباق

كأن الموت والحدثان فيها       إلى نفس الفتى فرسا سباق

فيا مغرور ذي الدنيا رويدا      فخذ منها لنفسك بالوثاق[4]

  • قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا﴾. اعتباره أن الكمل من المؤمنين شأنهم اللازم لهم في كل حين أنهم يقاتلون بسلاح الإيمان واليقين أولياء الشيطان وجنده من النفوس الأمارة والهوى والدنيا والشياطين، ويقتلون الأخلاق الذميمة الداعي إليها ما ذكر، كالكبر والحقد والحسد والعجب والرياء والسمعة وحب الرئاسة والمنزلة في قلوب المخلوقين باكتساب أضدادها، كالتواضع وسلامة الصدر واتهام النفس، والإخلاص والصفح والصبر والشكر والتوكل على رب العالمين، وينفون الجهل عن أنفسهم وعن غيرهم بتعلم العلم النافع وتعليمه للمحتاجين. فيقويهم مولاهم على ذلك، إذ كانوا على كرمه معولين، فإن حزب الله هم الغالبون، وإن جنده هم المنصورون[5].
  • وعن أجر الدلالة على الله يقول: “في قوله تعالى: ﴿من يشفع شفاعة حسنة﴾، يؤخذ منه أن للمتسبب في الخير والشر نصيبا. قال صاحب تحقيق النصرة: “كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر، ولشيخ شيخه مثلاه، والثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وللخامس ستة عشر، وهكذا على تضاعف بيوت الشطرنج. وبهذا يعلم فضل السلف على الخلف”. فإذا عمل عامل حسنة فداله عليها له مثلها، فهما حسنتان كلتاهما في صحيفة الثالث. فله ثنتان، والكل من حسنة العامل، وحسنة الدال، وحسنتي دال الدال في صحيفة الرابع، فله أربع، والكل من حسنة العامل، وحسنة الدال، وحسنتي دال الدال، وأربع حسنات دال الدال في صحيفة الخامس، فله ثمان وهكذا. والدال الأكبر والمعلم الأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ هو ممد الأولين والآخرين، فانتهت حسناتهم وحسنات داليهم على تضاعفها إليه”[6].
  • قوله تعالى: ﴿وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله﴾، إلى قوله: ﴿وما أرسلناك عليهم حفيظا﴾. اعتباره أنه تعالى يورد على قلب عبده الخير والشر، فإذا ألهم العبد خيرا، فالمطلوب منه المبادرة إلى فعله وشهود المنة لله فيه. ﴿وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله﴾. ويفرح من حيث أن الله وفقه له ويسره على يده، لا من حيث صدوره منه. في الحكم: لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك، وافرح بها لأنها برزت من الله إليك. ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون﴾. وإن وقع له خاطر شيطاني وصدرت منه زلة، فالفقيه يعلم أن مولاه حكم عليه بها، وأنه مع ذلك لا عذر لعاص فيما يسوقه القضاء. فيرجع على نفسه باللوم والعتاب، وينسبها إلى الجرأة والميل مع الهوى. فينهاها ويتوب إلى الله ويخاف عقابه: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾[7].

الهوامش

[1] الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران، معالم وحقائق، وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال، تقديم: عبد الوهاب الفيلالي، دراسة وتحقيق: مصطفى الحكيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2007م، ص: 61.

[2] المرجع السابق، ص: 106.

[3] نفسه، ص ص: 119-120.

[4] نفسه، ص ص: 123-124.

[5] نفسه، ص: 128.

[6] نفسه، ص: 161.

[7] نفسه، ص: 140.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق