مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

  1. قطب الأنام وغياث الإسلام: علي الجمل بن عبد الرحمن العمراني (ت1193ﮬ)

    من درره رحمة الله عليه، التي ربى من خلالها مريدي طريقته المباركة، فكانت لهم نهجا وطريقا ساروا فيه، وأدركوا أعلى المراتب والمقامات:

  • اعلم أن الله تعالى أوجد العز وجعله منبع قدرته، وأضافه إليه. كما أوجد الذل، وجعله منبع حكمته، وأضافه لخلقه، والكل منه وإليه. الربوبية قائمة بين قدرة وحكمة، كذلك العبودية قائمة بين حكمة وقدرة. صار العز منه نبعت قدرة جميع الخلق. كما أن الذل هو منبع حكمتهم، والقدرة قدرته تعالى، كما أن الحكمة حكمته تعالى، والكل إهابة منه وفضلا على عبده. وأيضا اعلم أن الفقراء المنتسبين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: هم أهل الانتساب بمجرد القول جاهلين لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين ظاهر ولا باطن. والفرقة الثانية: أهل ظاهر، لم تحصل لهم ثمرته، ولا يعرفون شيئا من الباطن. والفرقة الرابعة: حصل لهم الظاهر، وحصلت لهم ثمرته، وحصّلوا الباطن، ولم تحصل لهم ثمرته. والفرقة الخامسة: حصّلوا الظاهر، وحصّلوا ثمرته كما حصّلوا الباطن، وحصّلوا ثمرته، ويكون بالعكس، حصّلوا الباطن، وحصّلوا ثمرته، وحصّلوا الظاهر، وحصّلوا ثمرته. صاحب هذا المقام هو الذي قالوا فيه: إنه برزخ بين بحرين: بحر الشريعة، وبحر الحقيقة[1].
  • الناس على ثلاثة أنواع: العامة، وهم أهل حقائق، متعطشين للشرائع. والخاصة: وهم أهل شرائع، متعطشين لشرائع الحقائق. وخاصة الخاصة: وهم أهل حقائق متعطشين للشرائع، وهذه الثلاثة مراتب لا يحسب أحد أنه حاز واحدة منها إلا ظهر عليه أثر فعلها، لا قولها. وذلك لأن الأقوال إخبار بالفن، والأفعال هو الفن بنفسه. العامة لما حازوا الفعل بالحقائق، وفعلهم بها عن تقليد، فبذلك صاروا عواما. والخاصة لما حازوا الفعل بالشريعة، وفعلهم بها عن أدلة وبراهين، فبذلك صاروا خصوصا. وخاصة الخاصة لما حازوا الفعل بالحقائق، وفعلهم بها عن مشاهدة وعيان، فبذلك صاروا خاصة الخاصة[2].
  • قال بعضهم: اجعل عملك مِلْحا، وأدبك دقيقا. العمل إشارة إلى الحسّ، والأدب إشارة إلى المعاني. الحسّ والمعنى حقيقتان لا يخلو منهما بشر، جعلهما الله في كل إنسان، لكن لا بد أن تكون واحدة غالبة على الأخرى. العامة عندهم الحسّ غالب على المعنى، أمورهم كلها مبنية على الحس، والمعنى بحسب التبع. والخاصة بخلاف ذلك، المعاني عندهم غالبة على الحس. أمورهم كلها مبنية على المعاني والمحسوسات بحسب التبع. سمعت من الشيخ، نفعنا الله به، يقول: الفقير هو الذي يكون رأس ماله معان، ولباب المعاني هو العلم. قال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾. [سورة فاطر، الآية 28][3].
  • اعلم أن مقام البقاء هو مقام الملك بالله، وهو مقام خاصة الخاصة، وهو مقام الراحة بعد الشقاء، والربح بعد الخسران، وهو مقام العبودية لله بلا علة، والنظر إليه بلا واسطة، وهو مقام التفريق بعد الاجتماع، والتواضع بعد الارتفاع، والعجز بعد القدرة، والأدب بالله بعد التمكين في الحضرة الإلهية. صاحب هذا المقام راسخ في العلم والعمل، راتع في شهود الحق في الجلال والجمال، بتحقيق المقامات والأحوال. قال أبو المواهب التونسي في قوانينه: من وصل البقاء، أَمِنَ من الشقاء[4].
  • اعلم أن الشر والمُرّ والمنكر، لا يكونون إلا قبل أن تذكر اسم الله عليهم أو فيهم، ومهما ذكرت الله تعالى فيهم أو عليهم فإن الشر ينقلب من حينه خيرا، والمرّ ينقلب من حينه حلوا. والمنكر ينقلب من حينه معروفا. لأنك مهما ذكرت الله تعالى على الأشياء: خيرياتها وشرياتها، فإن الأشياء تسقط وتفنى وتتلاشى من حينها، ويبقى الله تعالى. ومن جملة الأشياء نفسك، إذا ذكرت نفسك نسيت ربك، وإذا ذكرت ربك نسيت نفسك. قال في الحكم: لو ظهرت صفاته لاضمحلت مكوناته. والاسم من لباب الصفات، وكيف لا تضمحل الأشياء عند وجود ذكره. قال تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾. [سورة الأنبياء، الآية 18]. وقال عز من قائل: ﴿وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾. [سورة الإسراء، الآية 81][5].
  • العارف سائر دائما بشاهدين عدلين، شاهد الجمع في عالم نفسه، وشاهد الفرق في عالم جنسه. إن ضل أحد الشهود يُذكِّره الآخرة، ﴿الحقّ أحقّ أن يتبع﴾. [سورة يونس، الآية 35]، كأن شاهدها في النفس حقيقة، وشاهد الجنس شريعة، والعارف سائر بينهما[6].
  • اعلم أن الإنسان جعله الله تعالى نسخة من الوجود، وخلق فيه البرودة والحرارة، كما خلقهما في الوجود. فكما أن الحبة من الحنطة جعلها الله لا توجد ولا تكمل ولا تثمر إلا باقتران البرد والحرارة. كذلك الحكمة في الإنسان، لا توجد ولا تكمل ولا تثمر إلا باقتران البرد والحرارة. ومهما تقوى البرودة على الحرارة، أو تقوى الحرارة على البرودة بتسعة وثلاثين، بطلت الحكمة، كما تبطل الحبة بالأرض، تبطل الحكمة في الإنسان، وبطلان الحكمة أيضا من الإنسان من قلة صحبة العارفين بحكمة النفوس، لأن الحكمة تحيى بصحبة أهلها، وتموت بصحبة غيرهم، وقليل ما هم.[7].
  • اعلم أن أهل الخصوصية اثنان: مشتغل بنفسه، ومشتغل بربه. المشتغل بنفسه لا يجد سبيلا للاشتغال بربه، لأن سرّه مجموع على تخلية نفسه، وهمّته واقفة هنالك. والمشتغل بربه أيضا لا يجد سبيلا للاشتغال بنفسه، لأن سرّه مجموع على مشاهدة ربه، وهمّته منتهية من ربه إلى ربه، والحق هو أن كل من يشاهد نفسه فهو محجوب عن ربه، وكل من يشاهد ربه فهو محجوب عن نفسه[8].
  • لا يكون المربي مربيا حتى يفرغ من تهذيب نفسه، وتتوفر فيه شروط التربية. يعلم ذلك هو من نفسه، ويعلم منه غيره من أرباب الفن. ومن جملة شروط التربية أن يكون وصفه وصف إمام العارفين صلى الله عليه وسلم…، لا يكون المربي مربيا حتى يتصف بهذا الوصف الكريم، لأنه صلى الله عليه وسلم إمام أهل التربية من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وقدوة أهل التحقيق من أرباب حكمة تهذيب النفوس، العارفين بدقائقها، من تشبه منهم بهذه الأخلاق العظيمة – أعني أخلاقه وسنته صلى الله عليه وسلم- فإن الخلق يصلح على يده، وتتنور ظواهرهم وبواطنهم بقربه ومجالسته. ومن لم يمش في ذلك على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسأم برعاية الخلق، وإن تحققت عدالته، فهو من النوادر[9].
  • اعلم أن الأبواب كلها مغلقة بين الله وعبده، إلا باب نفسه. من لم يدخل على مولاه من باب نفسه لا يدخل أبدا. من عادى نفسه فاز بإقبال الخلق عليه، ومن صادق نفسه فاز بإقبال مولاه عليه. لكن مصادقة النفس هذه التي ذكرنا لا تكون إلا بصحبة عارف بالله، إن وجد. وأما قبل وجوده فإنما عادى الإنسان نفسه، فلا بأس به، لأن هذه النفس خيرها ما له حصر. لا يعلم قدره إلا الله، من استشرف على خيرها هام فيه، وفاتَه شرّها، ومن استشرف على شرّها هام فيه وفاتَه خيرها. يرحم الله القائل: وسمعت الخطاب من ذاتي، من مكان قريب. والله ما دخل على مولاه من دخل إلا من باب نفسه، ويكفيك في النفس شرفا قوله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه)[10].

الهوامش:

[1] نصيحة المريد في طريق أهل السلوك والتجريد، ويسمى أيضا: اليواقيت الحسان في تصريف معاني الإنسان، علي بن عبد الرحمن بن محمد العمراني المعروف بالجمل (ت1193ﮬ)، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1426ﮬ/2005م، ص ص: 19-20.

[2] المصدر السابق، ص : 24.

[3] نفسه، ص ص: 33-34.

[4] نفسه، ص ص: 42-43.

[5] نفسه، ص: 43.

[6] نفسه: ص: 46.

[7] نفسه، ص: 51.

[8] نفسه، ص ص: 68-69.

[9] نفسه، ص: 69.

[10] نفسه، ص: 172.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق