مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

3) صاحب الكرامات المستطابة والدعوات المستجابة:

أحمد بن العريف الصنهاجي الطنجي (481-536ﮬ)

    تنوعت درر ابن العريف ما بين منظوم ومنثور، وبين دعاء ومناجاة وابتهالات، صحح بها المفاهيم للمبتدئين، وسهل بها سلوك طريق الحق للسائرين، بما حوته من فيوضات ربانية، ومعارف ذوقية، نال معها الحظوة والرضا لدى أصحابه ومريديه وعلماء ذلك الزمان…؛ من ذلك:

  • الإرادة حلية العوام، وهي تجريد القصد إلى الله تعالى، وجزم النية والجد في الطلب له، وذلك في طريق الخواص نقص وتفرق ورجوع إلى الأسباب والنفس، فإن إرادة العبد عين حظه، وهو رأس الدعوى، وإنما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد من الله، لا فيما يريد، قال تعالى: ﴿وإن يردك بخير فلا راد لفضله﴾[1]، فيكون مراده ما يراد به مما ورد الشرع بإرادته، واختياره ما يختار له بالشرع، إذ لا اختيار للعبد مع سيِّده، ولا إرادة له مع إرادته فيما شرع، كما قيل:

أريد وصاله ويريد هجري    فاترك ما أريد لما يريد[2]

  • وأما الزهد فإنه للعوام أيضا، فإنه حبس النفس عن الملذات، وإمساكها بعد تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، وعن فضول الشهوات ومخالفة دواعي الهوى وترك ما لا يعني من كل الأشياء. وهذا نقص في طريق الخواص، لأنه تعظيم للدنيا واحتباس على أبعادها، وتعذيب للظاهر بتركها، مع تعلق الباطن بها، والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهود حسك، وبقائك معك على حرصك. ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا﴾[3]، وإلى قوله لمن أعطاه الدنيا بحذافيرها: ﴿هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب﴾[4]، فعافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها.

    فالزهد على الحقيقة صرف رغبة القلب إليه وتعلق الهمة به، والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو سبحانه حسم هذه الأسباب عنك، وتكون معه كالطفل ابن شهر مع أمه لا إرادة له ولا حكم مع أمه[5].

  • وأما المحبة فهي أول أودية الفناء، والعقبة التي يتحدر منها على منازل المحو، وهو آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة بساقة الخاصة، وما دونها أغراض لأغراض، للعوام منها شرب وللخواص شرب، قال الله تعالى: ﴿قد علم كل أناس مشربهم﴾[6]…، إنها وجود تعظيم في القلب يمنع الشخص من الانقياد لغير محبوبه[7].
  • وأما الشوق فهو من منازل العوام، إذ الشوق هو هبوب القلب إلى تمني غائب يحضر، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السر إلى طلبه، وهو من أضعف منازل القوم. وأما الخواص فهو عندهم علة عظيمة؛ لأن الشوق إنما يكون إلى غائب، ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة: ﴿ألم تر إلى ربك كيف مد الظل﴾[8]. فالطريق عندهم أن يكون العبد غائبا والحق حاضرا. ولأجل هذا لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة، لأن الشوق مخبر عن بعد، ومشير إلى غائب، وتطلع إلى مدرك. وقد قال تعالى: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾[9].
  • فالإرادة والتوبة والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف، والرجاء والشكر والمحبة والشوق والأنس، منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة. فإن شهدوا عين الحقيقة اضمحلت فيها أحوال السائرين، ووصلوا فيها إلى مقام الفناء عما سواه سبحانه، فإن ما قبل هذه المقامات فمُرَادَةٌ إلى هذه الغاية، وهو النظر إلى الله عز وجل: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية﴾[10].[11].
  • ومن دعائه رضي الله عنه: اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن حتى وصل به إليك، ووقف الصدق بين يديك، ولم يلتمس به إلا أفضل ما لديك، والتمس طلب الأشياء لك وبك، لا تجعلنا ممن اتبعه القرآن حتى قذف به في نارك، وأزعجه من جوارك، وأخرجه من جملة أوليائك وأصفيائك وأنصارك، اللهم لا تفعل ذلك بنا ولا بأحد من المسلمين، يا أرحم الراحمين.

    اللهم بجلال جمال كمال وجهك الكريم، وبسناء ضياء نورك العظيم، وبتشقيق تدقيق تحقيق علمك يا عليم، أنزل على قلوبنا من نور الذكر والحكمة ما نجد بالحسن والمشاهدة برده، ثم لا نعصيك أبدا بعده.

    اللهم بحرمة الإسلام، وبشرف الإسلام، وبكرامة الإسلام، حل بيننا وبين أن نؤذي أو نغتاب أو نضُر أحدا ممن دخل في حرمة الإسلام.

    اللهم اجعل سلطانك لنا سلطانا، وفرقانك لنا فرقانا، وشأنك الذي خصصت به أولياءك لنا شأنا، يا من خلق الخلق، فلم يزل بهم ديّاناً رؤوفاً رحماناً.

    اللهم إنا عبيد جفاة، كثيرا نتعدى أقدارنا، ونتخطى أطوارنا؛ وأيسر ما في عدلك وجناياتنا أن يكون محل سخطك له في نارك وفرارنا، إلا أن ترحمنا، وإلا أن تعفو عنا، فبك اللهم نعوذ منك، وبك نضرع إليك، وإياك نسأل برحمتك، فبك اللهم عرفنا بالعمل اليقين، وبالعمل الصالح المبين…[12].

  • ومما أورد أحمد بن المقري التلمساني في كتابه: “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” من شعر ابن العريف، هذه الأبيات[13]:

سلوا عن الشوق مَن أهوى فإنهم      أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي

فمَنْ رسولي إلى قلبي ليـــــسألُهم     عن مشكل من ســــؤال الصب مُلتبس

حلّوا فؤادي فما يَنْدى ولو وطئوا      صخرا لجــــــــــــاد بماء منه منبجس

وفي الحشا نزلوا والوهم يَجْرَحُهم     فكيـــــــف قَرُّوا على أذكى من القَبَس

لأنهضـــــــــنَّ إلى حشري بحبِّهمُ      لا بــــــــــارك الله فيمن خانهمْ ونسي

  • وأنشد ابن الزيات لابن العريف قوله[14]:

شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى      وكلــــــــهم بأليم الشوق قد باحا

راحت ركائبهم تندى روائــــــحها      طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحـا

نسيم قبر النـــــــبي المصطفى لهم      روح إذا سكروا من ذكره فاحــا

يا واصلين إلى المختار من مضر      زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا عــــــــلى شوق وعن قدر     ومن أقام علــــى عذر كمن راحا

الهوامش

[1] سورة يونس، الآية 107.

[2] محاسن المجالس، أو بيان في مقامات السادة الصوفية، ابن العريف الصنهاجي، تقديم ودراسة وتحقيق وتعليق: محمد العدلوني الإدريسي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1436ﮬ/2015م، ص: 66.

[3] سورة القصص، الآية 83.

[4] سورة ص، الآية 39.

[5] المصدر السابق، ص ص: 68-69.

[6] سورة البقرة، الآية 60.

[7] نفسه، ص ص: 88-89.

[8] سورة الفرقان، الآية 45.

[9] سورة الحديد، الآية 4.

[10] سورة الفجر، الآية 30.

[11] محاسن المجالس، ص: 100.

[12] مفتاح السعادة وتحقيق طريق السعادة، أبو العباس بن العريف (481-536ﮬ/1088-1141م)، جمعه: أبو بكر عتيق بن مؤمن (496-548ﮬ/1102-1153م)، دراسة وتحقيق: عصمت عبد اللطيف دندش، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1993م، ص ص: 74-75.

[13] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، حققه: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط2، 2004م، 3/ 229.

[14] التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بابن الزيات (617ﮬ/1220م)، تحقيق: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط2، 1997م، ص: 121.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق