مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

   كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

   ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

18) شيخ الطريقتين وعمدة الفريقين: سيدي أحمد بن عجيبة (ت1224ﮬ)

   من ثغره تفتقت الحكم، ومن باطنه أينعت وأزهرت، يجد فيها الصوفي وغيره الصفاء والكمال المنشودين في طريق القوم، منها انتقينا الآتي:

   – فأعظم الوسائل إلى الله سلوك طريق الأدب والتربية، وأقرب ما يوصل العبد إلى مولاه صحبة العارفين ذوي الهمم العالية والتربية النبوية، والتأدب بين يدي المشايخ: أهل النزاهة والتصفية، على اختلاف مقاماتهم وأحوالهم، من: عبّاد، وزهاد، وفقراء، وصوفية، والبحث عن سيرهم وأحوالهم، والتأدب بآدابهم المرضية، والتحقق بأخلاقهم وشيمهم الزكية…[1].

   – والناس في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم يصلون على صورته البشرية، وهم أهل الدليل والبرهان، فهم يشخصونها في قلوبهم في حال الصلاة عليه، فإذا أكثروا من الصلاة بالحضور ثبتت الصورة الكريمة في قلوبهم، فيرونه في المنام كثيرا، وربما تتشكل روحه الكريمة على صورة جسده الطيب، فيرونه يقظة. وقسم يصلون على روحه النورانية، وهم أهل الشهود من السائرين، فهم يصلون على نوره الفائض من الجبروت، فيشاهدونه في غالب أوقاتهم على قدر حضورهم وشهودهم. وقسم يصلون على نوره الأصلي، الذي هو نور الأنوار، وهم أهل الرسوخ والتمكين من أهل الشهود والعيان، وهؤلاء لا يغيب عنهم النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين…[2].

   – وأما الأحوال الزكية فهي أن تكون موافقة للشريعة، بحيث لا يؤذي أحدا من الناس، فالفقير الذي ليست له أحوال لا يبلغ مقامات الرجال، أو السير إلى حضرة القدوس إلا بمخالفة النفوس، ولولا ميادين النفوس (أي محاربتها) ما تحقق سير السائرين، فالمراد بالأحوال ههنا هي خرق عوائد النفس، وتخريب ظاهرها بتعاطي ما يسقط جاهها وعزها من الأمور المباحة، وهذه هي الأحوال المرضية الصافية، وأما الأحوال التي تخالف الشريعة، وهي الأحوال الظلمانية، فلا يتنور صاحبها، بل لا تزيده إلا ظلمة، فكما لا يصح دفن الزرع في الأرض الرديئة، كذلك لا يجوز الخمول بحالة غير مرضية، فالأحوال الصافية هي التي لا ضرر فيها لأحد، ولا تخالف أمر الشريعة[3].

   – ثم اعلم أن تطورات الروح من: النفس، والعقل، والقلب، والروح، والسر: كل طور له حد ينتهي إليه في العلم والإدراك، أما النفس فحد علمها وإدراكها زينة ظاهر الكون اغترارا بمتعة ظاهره، وغفلة عن عبرة باطنه، واشتغالا بحظوظها وهواها، وأما العقل فحد علمه وإدراكه افتقار الصنعة إلى صانعها، فهو يقرر الصنعة ويردها إلى صانعها، معقولا عن غير ذلك، وأما القلب في علمه وإدراكه التوجه إلى خالقه بترك الأغيار وطلب الأنوار، فقد انطلق من العقال، وشد في طلب مولاه الرحال. وأما الروح فحد علمها وإدراكها مواجهة أنوار الملكوت، طالبة أسرار الجبروت، قد استراحت من تعب السير، لكنها لم تتمكن من السر، وأما السر فحد إدراكه أسرار الجبروت، قد نفذت البصيرة من الوقوف مع أنوار الملكوت، وهذا منتهى السير[4].

   – تجريد الظاهر هو: ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، وتجريد الباطن هو: ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله، وتجريدهما هو: إفراد القالب والقلب لله، والتجريد الكامل في الظاهر هو: ترك الأسباب، وتعرية البدن من معتاد للثياب، وفي الباطن هو تجريد القلب من كل وصف ذميم، وتحليته بكل وصف كريم…[5].

   – الناس ثلاثة: عالم، وعابد، وعارف صوفي، وكلهم قد أخذوا حظا من الوراثة النبوية، فالعالم ورث أقواله عليه الصلاة والسلام تعلما وتعليما، بشرط إخلاصه، وإلا خرج من الوراثة بالكلية، إذ الأعمال بلا إخلاص أشباح بلا أرواح…، والعابد ورث أفعاله عليه الصلاة والسلام، من صيام وقيام، ومجاهدة ظاهرة…، والصوفي العارف ورث الجميع، فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم، وقد يتبحر فيه، ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال، ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم، من زهد، وورع، وخوف، ورجاء، وصبر، وحلم، وكرم، وشجاعة، وقناعة، وتواضع، وتوكل، ومحبة، ومعرفة، وغير ذلك مما يطول ذكره[6].

   – وطريق الشاذلية الحقيقية من تأملها وجدها جمعت بين الطريقين: طريق الإشراق وطريق البرهان، لأن أشياخها الكمل يدلون أولا على إتقان الشريعة، والفناء في العمل بها، ثم على إتقان علم الطريقة، ثم على الحقيقة. وأنا “عبد الله” كنت إذا لقنت أحدا الورد: علمته ما يلزمه من إتقان طهارته الصغرى والكبرى، وعلمته التيمم وإتقان الصلاة، وإذا كان أميا علمته ما يلزمه من عقائد التوحيد إجمالا، فأصحابنا كلهم والحمد لله على بصيرة في دينهم، مع ما زادهم الله تعالى من التنوير والأذواق، وهي طريق الإرشاد، فأصغرهم يناظر نجباء طلبة العلم الظاهر، حسبما استقريناه من أحوالهم، وما اطلعنا عليه من أسرارهم، والحمد لله رب العالمين[7].

   – لا شك أن الصوفي المحقق قد حاز مرتبة الكمال على التمام، فما من مرتبة إلا حاز أكملها وأشرفها: فأخذ من مقام الإسلام: كمال التقوى والاستقامة على التمام. وأخذ من مقام الإيمان: تمام الطمأنينة وكمال الإيقان. وأخذ من مقام الإحسان أعلى المراتب، وهي الشهود والعيان[8].

   – فالصوفي قد اجتمعت فيه العناصر الأربعة، فهو كالهواء في رفع الهمة وعلو القدر، وأيضا الهواء حار رطب، فهو معتدل محيط بالأبدان، به يقع كمالها ونقصها، والصوفي معتدل في حركاته من غير إفراط ولا تفريط، بل متوسط في كل شيء، وخير الأمور أوسطها، وبحسب هذا جميع الوجود، يأنس به ويرجع إليه، ويقع له منه الفعل والانفعال بإذن الله سبحانه، مع ارتفاعه عن أبناء جنسه في عين مجالسته لهم، كما ارتفع الهواء عن التراب والماء مع مخالطتهما لهما، وهو أيضا كالأرض في الدنو والتواضع والسهولة، يناله البر والفاجر، والصغير والكبير، كما أن الأرض يطأها البر والفاجر، والصغير والكبير[9].

   – ولم نسمع أحدا قط طعن في علم التصوف أو عابه أو نقصه، بل القلوب كلها مجبولة على حبه ومدحه، وإنما وقع الإنكار على أهله والمنتسبين إليه: إما غيرة عليه أن يدخل فيه من ليس منه، وهذا معذور، وإما حسدا لأهله، وهذا هالك مثبور، والأول على خطر، فإن المنكر على المنتسبين كمن يدخل يده في الغيران، فيدخل يده في الغار، الأول والثاني، فيقول: لا شيء، ثم يدخل يده في غار آخر، فيصادف حية تلسعه، فيهلك من ساعته، وإذا فاتته بركة الاعتقاد، فأقل أحواله ترك الانتقاد، ولذلك قال الشاذلي: تسليم طريقتنا ولاية، واعتقادها عناية. وقالوا أيضا: التسليم ولاية، والاعتقاد عناية، والانتقاد جناية[10].

الهوامش

[1] الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية، أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، راجعه وحققه وقدم له: عبد الرحمن حسن محمود، عالم الفكر، د.ط، د.ت، ص: 1.

[2] المصدر السابق، ص: 6.

[3] نفسه، ص: 8.

[4] نفسه، ص: 35.

[5] نفسه، ص: 48.

[6] نفسه، ص: 59.

[7] نفسه، ص ص: 78-79.

[8] نفسه، ص: 79.

[9] نفسه، ص: 80.

[10] نفسه، ص ص: 81-82.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق