مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

17) المحدّث الفقيه والعالم الوجيه: سيدي أحمد زروق (ت899ﮬ)

تنوعت درره وتعددت، لتعدد مشاربه وأنواع تحصيله، من ذلك ننتقي:

    * اعلم أن الفقه والتصوف أخوان في الدلالة على أحكام الله سبحانه، إذ حقيقة التصوف ترجع لصدق التوجه إلى الله تعالى، من حيث يرضى بما يرضى، وذلك متعدد، فلذلك ادعاه كل أحد بما هو فيه، وعبر عنه كل أحد بما انتهى إليه منه على قدر القصد والفيض والهمة، واعتبر ذلك أئمته، حتى إن أبا نعيم في حليته غالبا لا يترجم رجلا إلا أتبع ذلك بقول من أقوالهم، يناسب حال ذلك الشخص، قائلا: وقيل: إن التصوف كذا، فأشعر أن تصوف كل أحد صدق توجهه، وأن من له قسط من صدق التوجه، له قسط من التصوف على قدر حاله[1].

    * غير أن نظر الفقيه مقصور على ما يسقط به الحرج، ونظر الأصولي مقصور على ما يصح به الأصل الذي هو الإيمان والسنة، ونظر الصوفي متعد لما يحصل به الكمال، فيطلب في باب الأصول على تحلية الإيمان بالإيقان، حتى يصير في معد العيان، وفي باب الفقه على أن يأخذ بالأعلى أبدا، ثم له حكم يخصه فيما يخصه، ومدار الأمر فيه على اتباع الأحسن والأكمل، لقوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾[2]، الآية، فلذلك كان مذهبهم في الاعتقادات مذهب السلف، من اعتقاد التنزيه، ونفي التشبيه، وقبول ما ورد كما ورد، من غير تعرض لكيف ولا تأويل ولا غيره…[3].

    * فالمدخل الصدق أن تدخل لا بنفسك؛ والمخرج الصدق أيضا كذلك؛ والذي يقتضيه الحق منك أن تكون حيث أقامك، حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك؛ كما تولى إدخالك؛ وليس الشأن أن تترك السبب إنما الشأن أن يتركك السبب…، ثم ما يريده العبد من تجريد وغيره لا وقوع له دون قدر الله سبحانه، باختياره لذلك دون أمر من الله تعب لا حاصل له…[4].

    * الدعاء مطلوب والإلحاح فيه كذلك، والعطاء مضمون. أعني الإجابة عند السؤال. كل ذلك في قوله تعالى: ﴿ادعوني استجب لكم﴾؛ فلا يكن تأخر أمد العطاء المضمون في الآية مع الإلحاح في الدعاء المطلوب بقوله عليه السلام: (إن الله يحب الملحين في الدعاء) موجبا ليأسك من مولاك فيما وعدك، لكونك قمت بما عندك، ولم تر إلا ما هو إليك؛ لأن ذلك منك اجتهاد في المضمون بإرادة تعجيله، وتقصير في المطلوب بتركه؛ لعدم تحصيله؛ وهذه حالة من لم يفهم عن الله تعالى مراده بالطلب والضمان؛ وأن الطلب إظهار للعبودية، والضمان ليظهر وثوق العبد بالربوبية؛ لذلك قال بعضهم: “فائدة الدعاء إظهار الفاقة بين يديه؛ وإلا فالرب يفعل ما يشاء”[5] .

    * وما كان منه لا تدخله العلل والآفات، ولا يكون إلا تاما كاملا من جميع الجهات؛ لأنه هدية من كامل، ورسول من عنده، وأيضا فهو وارد من بساط المحبوب الجميل الذي لا يأتي منه إلا الجميل والمحبوب؛ وشأن المحب الاغتباط بما يرد من قبيل محبوبه، وإن كان فيه حتفه؛ فكيف وهو إنما أتى لوجود منفعته وتكميله، ولهذا المعنى أشارت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا﴾[6]. وأيضا فالتعريف الذي هو ما جاءت به الوجهة من وجود المعرفة، لا وصل إليه إلا بالمنة الإلهية دون سبب، وإن كانت المجاهدات؛ فإنما تعرض للنفحات وتحقيقات الصدق في الطلب. إذ لو لم يهد العقول لمعرفته ما عرفته، ولو قام بها ألف دليل؛ لكان لها مضلا؛ كما وقع لكثير من الخلق؛ فافهم[7].

    * ما كان منه لا يفتقر إلى شرط، ولا تلحقه علة؛ ولما كان منك مصحوبا بالعلل مطلوبا بالشروط؛ فإن الهدية تحتاج إلى ثلاثة أمور: الإخلاص في القصد، والتخليص في الفعل من الشوائب، والكمال في الصورة؛ وإلا كانت إلى العقوبة أقرب منها إلى المثوبة[8].

    * العزلة: الانفراد بالحال؛ فإذا كان بالشخص فهي الخلود؛ وقد يطلق عليها العزلة…، والفكرة: تمشية القلب في المعلوم؛ لاستخراج ما يتضمنه من الخفيات، واستعار لها الميدان الذي هو مجال الخيل، لترددها فيما تجري فيه، كجريان الخيل في ميادينها، وإنما كان ما ذكر أنفع الأشياء للقلب لثلاثة أوجه:

أحدها: أن العزلة يسلم بها من الأغيار، فتنفرد حقيقته لما يريد.

الثاني: أن بالفكرة يستنتج الأفكار فيصل إلى قلبه علم ما يريد.

الثالث: وجود الثبات على ما يريد مما يرد، لأن وجود لقاء الخلق بدون همة مفسخ للعزيمة، وهذا معلوم مشاهد، فقد قيل: إن العبد ليعقد في خلوته على خصال من الخير يعملها، فإذا خرج إلى الناس حللوا عليه ذلك عقدة عقدة حتى يرجع إلى بيته وقد انحلت العقد كلها…، وبالجملة، فالقلب للمعاني كالمعدة للمحسوسات بيت الداء، والحمية التي هي للقلب العزلة رأس الدواء، وأصل كل داء البردة التي هي للقلب التخليط والخلطة، ومن طمع في الشفاء مع إهمال الدواء، فقل أن يظفر بما نوى…[9].

  • والطريق مبني على رحمة الخلق فيما هم فيه، وإقامة الحق عليهم فيما يقتضيه، فإن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم، ومن نظر إليهم بعين الشريعة طالت خصومته معهم، والحق أن ينظر إليهم بعين الحقيقة، ويحكم عليهم بحكم الشريعة، فيقع الإنصاف في عين الائتلاف: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾[10]، قيل: للاختلاف، وقيل: للرحمة، وقيل: لهما، وهو الصحيح…[11].

الهوامش

[1] عدة المريد الصادق، أحمد زروق، تحقيق: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1، 1427ﮬ/2006م، ص: 51.

[2] سورة الزمر، الآية 18.

[3] المصدر السابق، ص: 52.

[4] مفتاح الفضائل والنعم في الكلام على بعض ما يتعلق بالحكم،  (الشرح السادس عشر)، أبو العباس أحمد بن أحمد زروق البرنسي الفاسي (ت899ﮬ)، تحقيق: محمد طيب، كتاب ناشرون، بيروت، لبنان،  ص: 70.

[5] المصدر السابق، ص: 75.

[6] سورة الطور، الآية 48.

[7] نفسه، ص: 84.

[8] نفسه، ص: 85.

[9] نفسه، ص ص: 90-91.

[10] سورة هود، الآية 119.

[11] عدة المريد الصادق، ص: 237.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق