مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

16) أعجوبة الدهر ونادرة العصر: أبو الحسن اليوسي (1040- 1102ﮬ)

فاضت قريحته رحمة الله عليه بنفحات ودرر عرفانية ربانية، انتقينا منها:

    * إن شأن المبتدئ في طريق الله أن يصحح أولا عقيدته، باعتقاد الحق على طريق الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام أهل السنة: فيعتقد يقينا أن الله تعالى موجود غير معدوم، قديم غير مخلوق، باق لا يفنى، مخالف للخلق، لا يشبهه شيء، غني لا يفتقر، واحد في ملكه، لا شريك له ولا معين، قادر ومريد، بقدرة وإرادة يتعلقان بكل ممكن خير أو شر، نفع أو ضر، لا تأثير بغيره تعالى في شيء، عالم بعلم، محيط بكل موجود وكل معدوم، حي بحياة، سميع بصير، بسمع وبصر يتعلقان بكل موجود، متكلم بكلام يعم كل معلوم، من غير جارحة في شيء من ذلك، ولا مشابهة لمخلوق. ويعتقد أن الله تعالى له التصرف في الممكنات بكل ما شاء من إيجاد وإعدام، وإعزاز وإذلال، وتنعيم وتعذيب وغير ذلك…، ولا يجب عليه شيء لعبيده إلا ما جعل لهم تفضلا وامتنانا، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ودليل ذلك كله هذه المخلوقات. فكما أن الصنعة تدل على الصانع، إذ لولا وجود الصانع لما وجدت الصنعة، كذلك المخلوقات تدل على الخالق، إذ لولا وجود الخالق لما وجدت المخلوقات، إذ لا قدرة لمخلوق على إيجاد نفسه ولا غيره، فنقول: لولا وجود الله تعالى لما وجد شيء من الحوادث، لا نحن ولا غيرنا، ولو لم يكن قديما لكان مثلنا، فلا يوجد شيئا، ولو لم يكن باقيا لكان فانيا، فلا يكون قادرا ولا خالقا ولا إلها معبودا[1].

    * فالأشياء مخلوقة للعبد، والعبد مخلوق لحضرة ربه، فإن قام بما خلق له من حضرة مولاه، بالعكوف على طاعته، ولزوم ذكره، والقيام بين يديه، والإعراض عما سواه، كان لله وكان الله له، فأصبح من الفائزين. ومن أعرض عن ذكر ربه نشب في شبكة الدنيا وفتنتها، واستحوذ عليه الشيطان، فأصبح من الخاسرين[2].

    * واعلموا أن من أعظم منن الله تعالى على عبده معرفة ربه، ومعرفة نفسه، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة، فمن عرف الله آمن به وأطاعه، ولم يزل راجيا له، خائفا منه، فلا يقنط من رحمة ربه، ولا يأمن مكره، وتوكل عليه في كل شيء، واكتفى به عن كل شيء. ومن عرف نفسه لم يثق بها ولم يستحسن قط حالتها، ولم يتابعها على هواها…، ومعرفة الله المذكورة هي معرفة جلاله وجماله، وقهره وقدرته واختياره، وأنه الفاعل لما يشاء يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويهدي ويضل، ويعز ويذل، ويقرب ويبعد، ويشقي ويسعد، فبمعرفة ذلك، واتصاف القلب به حالا، يحصل ما ذكر من الرجاء، والتخوف والأنس والهيبة وغير ذلك. ومعرفة النفس هي معرفة أنها خسيسة ساقطة على الشهوات العاجلة، أمارة بالسوء، جاهلة بالعواقب، لا تجري إلا فيما يعود على صاحبها بالضرر، إلا من عصمه الله من شرها، وقليل ما هم. ومن عرف الدنيا وأنها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وأنها لا قدر لها عند الله…، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، وإنما هي متجر ربح أو خسر، لم يركن إليها ولم يعبأ بها، ولم يكن همه فيها إلا الاشتغال بالربح، وهو العمل الصالح المؤدي بفضل الله إلى الجنة، دون الخسر، وهو العمل السوء المؤدي إلى النار. ومن عرف الآخرة وأنها دار القرار اشتغل بها، ومن عرف الجنة وما فيها من النعيم المقيم طلبها وسعى لها سعيها، ومن عرف النار وما فيها من العذاب الأليم، هرب منها بالبعد عن أسبابها…[3].

    * وعليكم بالتسليم والرضا بحكم الله تعالى في كل شيء، والتأدب مع الله في مملكته، والفهم عنه في حكمته، فمن رفعه الله منكم أو من غيركم بعلم أو حال، أو أظهره للناس، فسلموا له ولا تحسدوه، ولا تستبعدوا فضل الله عليه إن سبقتموه إلى الطريق واجتهدتم، أو لقيتم الناس أكثر منه، فإن فضل الله لا يحد بزمان ولا يتقيد بشخص…، وكذا من رفعه الله في الدنيا بملك أو وزارة، أو ولاية أو حسبة، أو شرطة أو قضاء، أو مال أو جاه، أو نحو ذلك، فلا تنازعوه ولا تبغضوه لذلك، فإن الله تعالى هو المتصرف في ملكه وفي عباده، يرفع من يشاء ويذل من يشاء، فمن نازع في شيء من ذلك فقد نازع الله تعالى…[4].

    * وليعلموا أن العبيد في كدحهم وطلبهم أربعة: طالب لله تعالى، وذلك بالاجتهاد في طاعته، امتثالا لأمره، وقياما بالأدب بين يديه، والتزاما لأحكام العبودية مع المحبة له والاشتياق إليه، راجيا من ذلك محبته ورضاه وقربه، فهذا خير العبيد عند الله تعالى…، وطالب للآخرة، وذلك بالاجتهاد في طاعته تعالى، امتثالا لأمره تعالى، وطلبا لما أعده الله تعالى لعباده المطيعين من التنعيم في الدار الكريمة، وطلبا للنجاة مما أعد للعصاة من الجحيم، فهذا أوسط الناس، لم يصل إلى درجات المقربين، ولم ينحط إلى درك المجرمين…، وطالب للدنيا من أبوابها، كالحرث والتجارة، فهذا في وسط أهل الدنيا لا عار عليه عندهم، وإنما العار عليه عند أهل البصائر، حيث باع النفيس الباقي بالخسيس الفاني. وقد يقيم حدود الله فيكون من القسم الذي قبله، وقد يخوض فيها بيده فقط، وقلبه مع الله قائما بالآداب الشرعية والحقيقية، فيكون من قبيل الفريق الأول. وطالب للدنيا من غير أبوابها، فإن كان ذلك بنحو الاشتغال بالتدبير والتقصيص والبحث، فهو حمق منشؤه شدة الرغبة في الدنيا والحرص عليها، والتشوف إلى كثرتها، والطمع في استعجالها، مع الفوز بالراحة عن الكد في أسبابها…[5].

    * واعلم يا أخي أن الركون إلى العلوم أو المعارف في نيل الوصول غلط، وكذا حديث الوصول لا يخلو من فضول، وشهوة تمنع من الوصول، وسوء أدب لا يبقى معه محصول. وذلك أن أدب العبد الذي يرجو معه الفلاح، هو قيامه بالحق لا طلبه للحظ. وحق الله تعالى إنما هو التعبد بامتثال أمره بعد معرفته…، فحق العبد أن يكون همه في القيام بهذا الأمر، امتثالا لأمر سيده ومولاه، وطاعة له، وقياما بواجب حق ربوبيته، وسيادته، لا لشيء آخر. ثم لا عليه أن يتشوف إلى غيره بطريق الفضل منه لا لشيء آخر، ولكن ليكن همه واغتناؤه، القيام بالحق لا نيل الحظ، والله تعالى أكرم من أن يقوم العبد بخدمته ولا يقوم له هو تعالى بقسمته في الدارين، حسّاً ومعنىً…، فمن طلب النهايات في البدايات فاتته النهايات، وإنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول، فعليك يا أخي بتحقيق الأصل، وهو القيام بالأدب، ولا يخفى عليك مبذول، وبابه محلول…، فالعبد إذن بين يدي مولاه في كل حين وفي كل حالة، ثم هو لا مطمع له في أن يترقّى إلى ربه بأزيد من كونه عبدا، إذ لا مخرج له عن هذا الوصف ولو بلغ ما بلغ، فإذا علم العبد هذا من نفسه، وعلم ما بينه وبين ربه، علم أنه واصل إلى ربه بطريق الحقيقة…[6].

الهوامش

 [1] رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة: فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، د.ت، 2/ 339.

[2] المصدر السابق ، 2/ 325.

[3] نفسه، 2/ 328-330.

[4] نفسه، 2/ 357.

[5] نفسه، 2/ 372-373.

[6] نفسه، 2/ 454-456.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق