مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

 15) العَلَمُ الأوحد والصدر الأمجد: سيدي محمد بن علي الشطيبي (ت963ﮬ)

اقتطفنا من ثمار درره رحمة الله عليه ما يلي:

    – للحق على العبد ألا يعصيه، وليس للعبد على الله حق، لكنه سبحانه قد أوجب على نفسه ما لا يجب عليه بقوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾، [سورة إبراهيم، الآية 7]، وقال تعالى: (يا ابن آدم، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإن خالفتني في فريضتي، لم أخالفك في رزقك)، فإذا علم العبد أن الله تعالى قد أوجب على نفسه أشياء في مقابلة أشياء، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، جدّ في المحاسبة للنفس، وعمل بما يرضي الرب. وأيضا فإن على المريد أن يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوضح له الطريق، ونصب له أعلام التحقيق، فمن اتبعه وصل، ومن خالفه انقطع وانفصل…، فبالوفاء يميز المريد ما للحق عليه من الطاعة والعبودية، وما له من الأجر والجزاء فضلا من الله ونعمة[1].

    – التفكر نعت طبيعي إنساني، وليس من نعوت الألوهية، ومعناه: الاعتبار في الأشياء من حيث أعيانها، وهو من أكبر العبادات شرعا وعقلا، وغايته إعطاء الألوهية ما تستحقه من العظمة والإجلال، ولا مجال له في ذات الحق لقوله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾، [سورة آل عمران، الآية 28]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آياته ولا تتفكروا في ذاته). وحدّ الفكر الوقوف مع الكتاب والسنة، فاتبع الآيات التي ذكر الله فيها الفكر، ولا تتعد لغيرها بفكرك أبدا. ولا يصح الفكر إلا بعد الإنابة والمحاسبة والتوبة، وإلا ففيها خطر[2].

    –  الاعتصام بالله: الاحتماء، وسميت القلاع عواصم لحمايتها وامتناعها ممن يريدها بسوء، وليس الاعتصام بالله كالاعتصام بحبل الله، قال ابن عباس: “واعتصموا بحبل الله”، أي بدين الله، وقال ابن مسعود: “عليكم بالجماعة    ، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة، خير مما تحبون في الفرقة”، وقال مجاهد: “بعهد الله”، وقال قتادة والسدي وأكثر المفسرين: “حبل الله: القرآن”، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم)…، فالمعتصم بالله يعتصم من الهلكة، والمعتصم بحبل الله يعتصم من أسباب الهلكة، فكل معتصم بالله معتصم بحبل الله، وليس كل معتصم بحبل الله معتصم بالله[3].

    – الرياضة: السعي في طلب الكمالات، وتعويد النفس على قبول الصدق لحصول المقصود ووجوده، والرياضة تهذب الأخلاق، وفيها جهاد النفس، وهي على قسمين: رياضة أدب ورياضة طلب. فرياضة الأدب: الخروج عن كل طبع ردي، ورياضة الطلب: الاتصاف بكل وصف علي. وفي الرياضة تهذيب الأخلاق للطبع المحمود، واتصاف النفس بالعبودية والتذلل لعظمة باريها، وقيل للأرض أرض لتذللها تحت الأقدام[4].

    – لما كانت الطمأنينة سكونا يقويه أمن صحيح، كان الإخبات ورود السالك الذي خبت نار قلبه لخمود نار الشهوات والطبائع والعادات الموجبة للرجوع والتردد إلى موطن النفس، والتفرق بالسكون والانقياد إلى القلب الذي هو محل الاطمئنان والأمن[5].

    – حرمات الله هي أوامره ونواهيه، ويدخل في الحرمات جميع المناسك والمشاعر مكانا وزمانا…، فصح أن السالك إن لم يُضيِّق على نفسه ببذل الجهد في العمل بالأمر والنهي لم يعظم حرمات ربه، ومن لم يعظم الحرمات لم يعظم جاعلها حرمة، ولذلك قيل: إذا رأيتم المريد يميل للرخص فلا تعبئوا به[6].

    – الأخلاق من نتائج المعاملات، قال الله العظيم: ﴿فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى﴾، [سورة الضحى، الآيات 5-6-7]، والصبر أول باب منها، وهو لكل فريق بحسب مقتضاه…، وإنما عظم الصبر على العامة لقمع النفوس وحبسها عند عدم الطمأنينة وفقد ملذوذاتها، فيشق عليه التجلد، وإنما كان الصبر من أوحش المنازل على المحبين، لأنهم لا يرون شيئا من محبوبهم إلا محبوبا، وإنما كان من أنكر المنازل في طريق التوحيد، لأن القوة والتجلد لا يكونان إلا في النفوس، والوحدانية تقتضي فناء ما سوى الحق[7].

    – إنما كان الشكور من الخلق قليل، لأن الشكور هو الذي يشكر الله على كل حال من سراء وضراء، كنبي الله نوح عليه السلام…، قال العلماء: الفرق بين الشاكر والشكور: أن الشاكر يشكر على النعم خاصة، والشكور يشكر على كل حال. وأعلى الشكر على النعمة: بذلها بيد الله لا بيد العبد، هذا هو الشكر العملي، وأما الشكر العِلمي فهو أن يرى النعمة من الله. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: اشكرني حق الشكر، قال: وكيف أقدر على ذلك يا رب؟ قال: إذا رأيت النعم مني فقد شكرتني حق الشكر. قال العلماء: الشكر ظهور أثر النعمة على لسان العبد ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة[8].

    – علم القرب هو التحقيق بأن الله تعالى أقرب لعبده من نفسه، فذلك الذي يتولد له منه حياء يدعوه إلى ركوب المحبة أو المحنة، أما المحبة فركوبها: تحمل صباباتها، وأما المحنة فلأنه يرى نظر الله إليه، وأنها منه وأن علمه بها محيط، فلا يرى شيئا من ذلك لنظره لمولاه وسيده وارتباطه بروح الأنس به، ومن صحّ أنسه بالله كرِه ملابسة الخلق، لأنه سبحانه بريء من الشرك[9].

    – الاتضاع للحق إلقاء القياد للأوامر والنواهي ظاهرا، والرضا والتسليم باطنا، فتنزل بذلك عن عوائدك الطبيعية في خدمة الله تعالى، منقادا خاضعا لمحض العبودية، مع عدم الالتفات إلى رأيك ولا لعادتك، بل لمجرد الخدمة بامتثال أوامر سيدك، عملا على قوله تعالى: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه)[10]. ويدخل في هذه الخدمة الأقوال والأعمال والأحوال من حيث هي بجميع تصرفاتها[11].

    –  الأدب ألا يُتعدى حكم التشريع في شيء، لأن الشرائع كلها حدود الله…، فمن حفظ حدود الله في جميع أحكامه ولا يتعداها لزيادة ولا لنقص، فقد تأدب بأدب الله الذي اختاره لجميع خلقه. والغلو: الزيادة، والجفاء: النقص، وقد أجمل هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الأمور أوسطها)، وقال تعالى: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا﴾، [سورة الفرقان، الآية 67]. وقال بعضهم يوصي ولده: يا بني توخَّ من الأشياء الوسط، ولا تبال بمن أقسط أو قسط[12].

الهوامش

 [1] عيون الناظرين لمحمد بن علي الشطيبي (963ﮬ/1556م)، في شرح منازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي (481ﮬ/1089م)، دراسة وتحقيق: محمد أمين الغويلي، مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، وجدة، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، ط1، 2012م، ص: 157.

[2] المصدر السابق، ص: 163.

[3] نفسه، ص ص: 179-180.

[4] نفسه، ص: 190.

[5] نفسه، ص: 220.

[6] نفسه، ص: 252.

[7] نفسه، ص ص: 286-287.

[8] نفسه، ص: 297.

[9] نفسه، ص: 303.

[10] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم 2577.

[11] عيون الناظرين، ص: 319.

[12] المصدر السابق، ص: 338.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق