مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

10) شيخ الشيوخ وملاذ أهل التمكين والرسوخ: ابن عباد الرندي (ت792ﮬ)

اخترنا من درر هذا الولي العارف ما يلي، يقول رحمة الله عليه:

    – العز الذي لا يفنى: هو الغني عن الأسباب كلها بوجود مسببها؛ لأنه باق لا يفنى؛ فالتعلق به عزّ لا يفنى. والعزّ الذي يفنى: هو الغني بالأسباب مع الغيبة عن مسببها؛ لأنها فانية، فالتعلق بها عزّ فانٍ لا يبقى. والتعلق بالله عزّ لا يفنى وليس لك إلا أحدهما، لأنهما ضدان لا يجتمعان، فإن اخترت العزّ الباقي بالله تعالى لم يقدر أحد أن يذلك. يحكى أن رجلا أمر بالمعروف لهارون الرشيد، فحرد عليه هارون الرشيد، وكانت له بغلة سيئة الخلق، فقال: اربطوه معها تقتله برمحها، ففعلوا ذلك فلم تضره، فقال: أطرحوه في بيت وطينوا عليه الباب، ففعلوا ذلك فرؤي في بستان وباب البيت مسدود، فأخبر هارون الرشيد بذلك، فأتي بالرجل فقال: من أخرجك من البيت؟ فقال: الذي أدخلني البستان. فقال: ومن أدخلك البستان؟ فقال: الذي أخرجني من البيت. فقال: أركبوه دابة وطوفوا به في البلد وليقل قائل: ألا إن هارون قد أراد أن يذل عبدا أعزه الله فلم يقدر. وإن اخترت العزّ بالأسباب خذلتك وأسلمتك أحوج ما تكون إليها، وكنت في غاية الذل والهوان[1].

    – المطلوب من العباد أن يعرفوا مولاهم بما هو عليه من الصفات العلية والأسماء الحسنى. ولا سبيل لهم إلى معرفته إلا بتعرفه لهم، وتعرفه وتعرفه لهم إنما يكون: بما ينزله بهم من النوازل، ويورده عليهم من الأحكام. ثم هو على قسمين: ما وافق الهوى والطمع، ويسمى ذلك عطاء ومنحا وما خالفهما، ويسمى منعا. فبوجود العطاء تشهد صفاته البرية من: الجود، والكرم، والإحسان، واللطف، والعطف، وغير ذلك. وبوجود المنع تشهد صفاته القهرية من: الجبر، والكبرياء، والعزة، والاستغناء. فينبغي لك أيها العبد أن لا تفرق بينهما إن أردت معرفة ربك ولم يستغرقك حب حظك. إذن فمنعه لك عطاء على التحقيق، فهو في كلتا الحالتين منعم عليك، ومقبل بوجود عطفه إليك[2].

    – معرفة العارفين هي معرفتهم بأنفسهم، وبما هي عليه من الفاقة والافتقار إلى العزيز الجبار، وبقدر ما يتحققون بذلك من أنفسهم تكون معرفتهم بالله عز وجل كما جاء في الخبر: من عرف نفسه عرف ربه، فلذلك كان العارف لا يفارقه الاضطرار[3].

    – الطريق إلى الله تعالى واضحة لائحة؛ لأن الحق تعالى هو الذي تولى ذلك، وبه أنزل الكتب وأرسل الرسل ونصب عليه الأدلة والبراهين، فلا يخاف على العبد من التباسها عليه، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليه حتى يعميه ذلك عن ربه[4].

    – إذا دعوت ربك وسألت منه مطلبا من المطالب ولم تظهر لك الإجابة فحسن به ظنك، ولا تطالبه بالوفاء بذلك؛ فإنه يفعل ما شاء ولا يسأل عما يفعل، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك؛ فإنها أهل للمطالبة. وسوء أدبها من وجوه:

    * أحدها: أنك دعوت لتجاب في دعائك، فيحصل لك بذلك غرض، وهذا مما يقدح في كمال عبوديتك…، * والثاني: اعتقادك أنه لم يستجب لك، إذ ظهر لك عدم الإجابة منه، وليس من شرط الإجابة أن تظهر لك، بل له أن يخفيها عنك، لما في ذلك من المصالح، والإجابة إليه أمرها يجعلها ما شاء مما تعلمه أو تجهله…، * والثالث: وهو أشد، اعتراضك على ربك في حكمه ومطالبتك له إذا تأخرت إجابته عليك[5].

    – وهاتان الصفتان الجليلتان أعني الحياء والخوف إذا تحققتا في العبد حصل منهما ميراث شريف، وهو أن يقذف الحق سبحانه في قلبه نورا ويكون من أدنى فوائده أن يتفطن العبد به لدقائق عيوبه وخفايا آفاته، ويكون له معينا وناصرا على الطاعة لمولاه عز وجل، كما قال ابن عطاء الله: النور جند القلب، كما أن الظلمة جند النفس، فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار وقطع عنه مدد الظلم والأغيار. وذلك بأن يتراءى له كأنه رقيب حاضر موكل به، أعني النور المذكور، فمهما همّ بفعل من الأفعال، فإن كان طاعة سارع إليها بنشاط وبصيرة وحسن احتساب، وإن خان معصية لم يجد من نفسه اقتحاما عليها، لأنها مقهورة مأسورة، فيتركها طيبة نفسه بذلك، وإن وقع فيها بعادة جارية أو شهوة غالبة، لم يجد لمنالها لذة ولا خفة، بل يستثقلها ويكرهها ويتنغص بها. ومن فوائده أيضا معرفته بقدر نفسه، فتنتفي عنه أخلاق المتكبرين والمتجبرين فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين عباده، فيتصف بالتواضع، والذلة، والخضوع، والخشوع، والانقياد للحق، والشفقة، وكف الأذى واحتماله، والنصيحة للمسلمين ومحبة الخير لهم، وإدخال المسرات عليهم وحسن الأدب بين يدي مولاه عز وجل، بأن يستعظم من ربه كل نعمة ينيله إياها، ويستقل من نفسه كل عمل يعمله له، فلا يعجب به ولا يذل من حيث نظره إلى نفسه، ولا يرى لنفسه وسيلة إلا فضل الله وإحسانه، ولا شفيعا إلا كرمه وامتنانه، ويكون سؤال المغفرة له والعفو عنه أعلى طلبه[6].

    – ومقامات أهل المعرفة واليقين وأحوالهم السنية ومقاماتهم العلية مواريث محافظتهم على الآداب الشرعية، فلا ارتياب عند منصف في أنهم فازوا من اتباع السنة بالحظ الأعلى، وضربوا في ذلك بالقدح المعلى، وأنهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل ضنائن من عباده، يغذيهم في رحمة، ويحييهم في عافية، إذا توفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، هم منها في عافية)…، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه[7].

    – من أرجعه الحق إلى نفسه، ووكله إلى عقله وحسه، فقد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، وكانت أحواله مدخولة معلولة، وأعماله مستقبحة مرذولة، ومن آواه إليه وأظهر جوده عليه، فقد اصطنعه لنفسه، ورفعه إلى حضرة قدسه، وكانت أحواله حسنة جميلة، وأعماله كلها ممدوحة مقبولة[8].

الهوامش

[1] غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي الرندي (ت792ﮬ)، وضع حواشيه: عبد الجليل عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1428ﮬ/2007م، ص ص: 123-124.

[2] المصدر السابق، ص: 129.

[3] نفسه، ص: 137.

[4] نفسه، ص: 149.

[5] نفسه، ص: 150.

[6] الرسائل الصغرى، ابن عباد الرندي، نشرها الأب بولس نويا اليسوعي، مجلة المشرق، السنة الواحدة والخمسون، كانون الثاني- شباط 1957، ص: 21.

[7] المصدر السابق، ص: 37.

[8] غيث المواهب العلية، ص: 168.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق