مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (2): الإسلام وردم الهوة بين المتأسي والمتأسى به

حين نبحث إشكال التأسي في القرآن المجيد وفي السنة النبوية المطهرة نجد تمحورا حول المحاور الكبرى الآتية:

1- النبي بشر عبدٌ لله مثل البشر غير أنه اصطُفي بعلم الله ليوحى إليه

ونجد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله منها قوله تعالى: (قل اِنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعادة ربّه أحدا) [سورة الكهف/الآية:105]

وقوله سبحانه (وقالوا لن نومن لك حتّى تفجّر لنا من الاَرض ينبوعا، اَو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتفجّر الاَنهار خلالها تفجيرا، اَو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفا اَو تاتي بالله والملائكة قبيلا اَو يكون لك بيت من زخرف اَو ترقى إلى السماء ولن نومن لرقيّك حتّى تنزّل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلاّ بشر رسولا، وما منع النّاس أن يومنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا، قل لو كان في الاَرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) [سورة الاِسراء/الآيات: 90-91-92-93-94-95- 96]

وقوله عز من قائل: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم لياكلون الطعام ويمشون في الاَسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اَتصبرون) [سورة الفرقان/الآية:20]

وتثبيتا لهذه الحقيقة قال صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد”.

وقال عليه الصلاة والسلام: “إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”.

وقال صلى الله عليه وسلم منعا لأسباب إنتاج الفجوات السابقة بين الأنبياء والمؤمنين: “لا تطروني كما أطرت اليهود عزيرا وكما أطرت النصارى المسيح ابن مريم”.

وعموما فإننا نجد في القرآن المجيد التأكيد على عبودية الأنبياء عليهم السلام، سدّا لكل ذريعة قد تؤدي إلى إحداث هوة بين النبي والمؤمنين. فقال سبحانه حكاية عن المسيح عليه السلام: (فأشارت اِليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيا، قال إنّي عبد الله ءاتاني الكتاب وجعلني نبيئا) [سورة مريم/ الآيتان:28-29]

وقال تعالى: (ولمّا ضرب ابن مريم مثلا اِذا قومك منه يصدون وقالوا ءالهتنا خير اَم هو ما ضربوه لك إلاّ جدلا بل هم قوم خصمون، إن هو إلا عبد اَنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) [سورة الزخرف/الآيات:57-59].

وقال سبحانه: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) [سورة النساء/الآية:171]

وقال تعالى: (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب) [سورة ص/الآية:29]

وقال عز من قائل: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) [سورة ص/الآية:40 ]

2-التأسي في القرآن المجيد يتم بالنظر إلى النبي المثال فبالنظر إلى الحال ثم العمل على الانتقال من الحال إلى المثال
قال تعالى في معرض الكلام عن نبيه إبراهيم عليه السلام وعن أتباعه الخُلَّص: (لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) [سورة الممتحنة/الآية:6]

وقال سبحانه عن خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاَخر وذكر الله كثيرا) [سورة الاَحزاب/الآية:21]

فالأنبياء إذن مثال هاد لمن قام في قلوبهم الشوق والتوق إلى ما عند الله سبحانه وتجلى هذا الشوق وذاك التوق بالذكر الكثير له سبحانه. والأنبياء هم الوحدة القياسية المرجع التي تمثل حالة السواء الشاهدة التي ينبغي أن يرصد من خلالها الحال لكي يتم العمل العالم المهتدي على نقله إليها. فهو إذن شوق وتوق وذكر كثير ونبي شاهد وعمل دؤوب عالم ففضل من الله كبير مع وجوب الانتباه إلى العقابيل الحائلة دون هذا الإنجاز الضخم -التأسي- الذي عليه يقوم تحصيل السعادتين في النشأتين بالتوكل على الله تعالى.

وهذه المعاني كلها قد جمعها قول الله سبحانه في سورة الاَحزاب إذ قال عز من قائل: (ما كان محمد اَبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين وكان الله بكل شيء عليما، يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمومنين رحيما، تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما، يأيها النبيء اِنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وبشر المومنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع اَذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) [سورة الاَحزاب/الآيات:40-48]

3- النبي شاهد وشهيد مُؤيَّد

النبي هو الوحدة القياسية الشاهدة التي تمثل حالة السواء في المجال الإنساني والتي بالنظر الواعي إليها يتم التعرف على الاختلالات التي في هذا المجال جمعا وإفرادا. بذلك يحصل إمكان العمل على ردها إلى حالة السواء.. وتلك نعمة من الله جلَّى.. حتى إذا تمت إفادة الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها بدورها تصبح وحدة قياسية على الصعيد الاجتماعي والحضاري يمكن التعرف عليها من خلال التعرف على الاختلالات في هذه الأصعدة ومن ثم يُمكِّن هذا التعرف من العمل على ردها إلى حالة السواء2 وهذا هو ما يتجلى في قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولكم فنعم المولى ونعم النصير) [سورة الحج/الآية:76].

وفي قوله سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [سورة البقرة/الآية:142].

وحتى يكون النبي بعد اصطفائه لهذه الوظيفة التكوينية الخطيرة قادرا على الاضطلاع بها، يكون إنعام الله بالتأييد.

قال تعالى قي معرض الكلام عن الرسل عامة ومن اتبعهم من المؤمنين: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز، لا تجد قوما يومنون بالله واليوم الآخر يوآدّون من حآدّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو اِخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الاِيمان وأيّدهم بروح منه) [سورة المجادلة/الآيتان:20-21].

وقال سبحانه عن نبيه عيسى عليه السلام: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ اَيدتك بروح القدس) [سورة المائدة/الآية:112].

وقال تعالى عن نبي الختم صلى الله عليه وسلم: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين) [سورة الاَنفال/الآية:63].

كما أن النبي لهذا القصد؛ قصد أن تمثل فيه الوحدة القياسية الشاهدة، يصنع ظاهرا وباطنا على عين الله.

وقال سبحانه عن نبيه موسى عليه السلام: (وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني) [سورة طه/الآيتان:38-39].

وقال تعالى: (واصطنعتك لنفسي) [سورة طه/الآية:41].

وقال سبحانه عن خاتم النبيين: (اَلم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك) [سورة الشرح/ الآيات: 1-4].

وقال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى “أدبني ربي فأحسن تأديبي” [حديث ضعيف لكن معناه صحيح]. فكانت النتيجة في حقه عليه الصلاة والسلام هي قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) [سورة القلم/الآية:4].

ومن أجل ذلك كان اتباعه والتأسي به صلى الله عليه وسلم هو المرقاة إلى مرضاة الله ومحبته. وقال عز من قائل: (قل اِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [سورة ال عمران/الآية:31].

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق