مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي(1): التأسي بين التبرك والوظيفية

عانت البشرية كثيرا، ولا تزال، في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية من جراء عدم الاستبصار بمعالم وسمات الإنسان السوي والمجتمع السوي، اللذين ينبغي أن يشكلا الوحدة القياسية التي يجب أن يُتيمم شطرها بالمناهج والبرامج التربوية، وكذا بمختلف أنواع الكسب العلمي والعملي في المجالات الاجتماعية.

ولذلك نرصد في مختلف حقب تاريخ البشرية المعروف، كثيرا من التخبطات وأضرب الخرص في المجالات التربوية والاجتماعية والإنسانية بسبب غياب هذا الوعي الأساس.

وتأتي الأهمية البالغة للوحدة القياسية الدالة على حالة السواء، من كون التعرف على حالات الاختلال والانحراف لا يمكن بدونها، كما لا تمكن بدونها معالجة هذه الاختلالات والانحرافات. وهذه حقيقة ماثلة في مختلف مجالات العلوم المادية والإنسانية، غير أنّها أجلى وأظهر في العلوم المادية البحتة منها في العلوم الإنسانية.

ولنأخذ مثالا على ذلك علم الطب.
فهذا العلم يتمفصل حول محاور ثلاثة:

1- العلم بالجسم وأعضائه في حالة السواء، والتعرف عليه شمولا وعلى وظائفه، ثم التعرف على أعضائه تفصيلا وعلى وظائفها، وهو علم الأناتوميا والهيستوسيتولوجيا.

2-العلم بحالات الانحراف والقصور التي تطرأ على الجسم وعلى أعراضها وأوصافها وأسمائها تفصيلا.. وهو علم السيميوباتولوجيا.

3-العلم بكيفية رد حالات الانحراف إلى السواء مرة أخرى بالصيدلة أو بالجراحة.. وهو علم الفارماكولوجيا وعلم الجراحة.

والعلمان الثاني والثالث يتفرعان عن العلم الأول، إذ لولا العلم بحالة السواء وضبطها لما أمكن الوقوف على حالات الانحراف ثم لما أمكن ردها إلى حالة السواء بعد ذلك مرة أخرى، إذ كيف يردّ الاختلال إلى السواء إذا لم يمكن التعرف عليه؟ وهو أمر غير وارد ما لم تكن حالة السواء الشاهدة معروفة بتفصيل وتدقيق بحيث يسهل تبين التغيرات التي تطرأ عليها ذاتا وأداءً.

غير أن هذا، وكما سلف، رغم وضوحه في العلوم البحتة الكونية فإنه ليس بالوضوح نفسه في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

يوطبيات وأبطال

لقد حاولت البشرية في مختلف مواقعها عبر تاريخها الممتد أن تحل إشكال الوحدة القياسية على الصعيد الاجتماعي من خلال إنتاج يوطبيات (utopias) حول طبيعة مكونات المجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة، وعلى الصعيد التربوي من خلال إنتاج مفهوم البطل.

أنموذجا على المحاولات في الجانب الاجتماعي، جهود أفلاطون في “المدينة الفاضلة” وجهود القديس أغوسطين في “مدينة الإله” وجهود الفارابي في “المدينة الفاضلة” أيضا. وكذا جهود كارل ماركس وبعده لنين وكذا تصورات كل من ستالين وهيتلر وموسوليني للمجتمع الفاضل وهي يوطبيات جرت لعدم مواءمتها لطبيعة الإنسان والكون ـ على العالمين وبالاً غير قليل.

وأنموذجا على المحاولات في الجانب الفردي ما يوجد في الأعراف المصرية والإغريقية والهندية والصينية وفي حضارات بلاد الرافدين وكذا في الحضارة الرومانية من إقامة النصب والتماثيل لأشخاص مختارين يرفعون إلى مصاف الأبطال ليكونوا مثلا تربوية يعاد إنتاجها، غير أن ضعف المؤهلات الإدراكية والآليات التفكيكية لم يكن يمكّن من الرسم العلمي والوظيفي لمعالم شخصياتهم وسمات نفسياتهم ومراحل مساراتهم، مما كان يؤدي في كثير من الحالات إلى الانحسار في التقديس.

ويمكن رصد الظاهرة نفسها في كتب البانتاتوك (pentateuque) والأبوكريف اليهودية التي تبنت بعضها النصرانية.

وقد استمر هذا الخط في الحضارة الغربية المعاصرة إذ يلحظ استمرار البحث عن الأبطال لإرسائهم نماذج تحتذى وصب سمات شخصياتهم الأساسية في المناهج التربوية.

غير أن هذا النهج كذلك لم يحقق لغياب الاستبصار بحقيقة الإنسان السوي ودوره الكوني إلا نتائج جزئية…
تقديس أم حرمان من ثمرات النبوة؟!

ساهم اعتقاد طوائف كثيرة من النصارى بأن المسيح بن الله! في حرمانهم الكلي أو الجزئي من التأسي بنبي الله عيسى عليه السلام، إذ كيف يُتَأسَّى بمن هو ابن الله؟! فكان هذا الاعتقاد متيحا لهامش غير قليل من راحة الضمير ولو في حالة المخالفة لتعاليم المسيح عليه السلام عند إنسان حضارة “Christendom ” على حد تعبير مارشال هودسون (Marshal Hudgson) لأن ذاك ابن الله، وإذا أخطأ الإنسان العادي في اتباع جوانب من تعليماته فلا حرج!! الأمر الذي حاول القديس بينيديكت (St Benedict) استدراكه في قانونه التربوي المشهور”Code de St Benedict”، غير أنه لصرامته الشديدة كان غير ذي قابلية للتحقق خارج بعض الأديرة المحدودة جدا.

ويمكن رصد القطائع نفسها بين النبي والأتباع -وإن بشكل مغاير- في ديانات أخرى بسبب رفع النبي فوق مصاف البشر.. بل وربما إلحاقه في بعض الأحيان بمصاف الآلهة.. مثل ما جاء في قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) [سورة التوبة/الآية:30ٍ]

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق