مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.

قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

والثانية عشر: (كلام)، وهو كما يؤخذ من العقائد النسفية صفة له تعالى ليست من جنس الحروف والأصوات، منافية للسكوت والآفة. وفي قوله: صفة له رد على المعتزلة القائلين بأنه متكلم بكلام ليس صفة له، وإنما أوجد الحروف والأصوات في محالها أو أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم، وهو باطل؛ لأن من لم يقم به مأخذ الاشتقاق كالكلام لا يصح بالضرورة وصفه بالمشتق كالمتكلم وإن أوجد ذلك المأخذ في غيره، فإن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها وإلا لصح اتصاف الباري بالأعراض المخلوقة له كالسواد والبياض تعالى الله عن ذلك. وفي قوله: ليست من جنس الحروف والأصوات رد على الحنابلة والكرامية القائلين بأن كلامه عرض من جنس الحروف والأصوات، ومع ذلك فهو قديم، وهو جهل أو عناد؛ إذ الضرورة قاضية بأن الحروف والأصوات حادثة مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض، يمتنع التكلم بحرف منها بدون انقضاء ما قبله، وعلى أكثر الحشوية القائلين إن كلامه حروف وأصوات حادثة، والتزموا حلول الحوادث في الذات العلية، وإذا كان كلامه تعالى بغير حرف ولا صوت ولا إعراب ولا لحن ولا تقديم فيه ولا تأخير فهو معنى نفسي، ومثله ثابت في الشاهد، فإن من كان  يأمر وينهى ويخبر يجد من نفسه معنى ثم يدل عليه بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، وهو غير العلم؛ لأن الإنسان قد يخبر بما لا يعلمه، بل يعلم خلافه، وغير الإرادة؛ لأنه قد يأمر بما لا يريده كمن أمر عبده قصدا إلى إظهار عصيانه، وإلى الكلام النفسي أشار الأخطل إذ قال:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنـــما                 جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقال عمر رضي الله عنه: (إني زورت في نفسي مقالة). وكثيرا ما تقول لصاحبك: إن في نفسي كلاما أريد أن أذكره لك. وقوله: منافية للسكوت والآفة، السكوت: ترك التكلم مع القدرة عليه، وأراد بالآفة عدم مطاوعة الآلات إما بحسب الفطرة كما في الخرس أو بحسب ضعفها وعدم بلوغها حد القوة كما في الطفولية. فإن قيل: السكوت والخرس والضعف إنما تنافي الكلام اللفظي لا النفسي، والذي هو صفة قديمة هو النفسي، قلنا: المراد بالسكوت والآفة النفسيان بأن لا يريد في نفسه التكلم أو لايقدر عليه، فالكلام لفظي ونفسي وضده كذلك. فإن قيل: الكلام النفسي القديم الذي هو صفة الله تعالى هل يجوز أن يسمع؟ قلنا: ذهب الأشعري رحمه الله إلى جواز ذلك، وقال إنه المسموع لموسى عليه السلام، قال: كما عقل رؤية ما ليس جسما ولا لونا، فليعقل سماع ما ليس صوتا، وعلى هذا درج صاحب الرسالة إذ قال: “كلم الله موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه”، واختار هذا المذهب الغزالي، وعليه بنى السنوسي قوله في شرح الكبرى: “ليس معنى “كلم الله موسى تكليما” أنه ابتدأ الكلام له بعد أن كان ساكتا، ولا أنه انقطع كلامه بعدما كلمه، تعالى عن ذلك، وإنما معناه أنه تعالى بفضله رفع المانع عن موسى، وخلق له سمعا وقواه حتى أدرك به كلامه القديم، ثم منعه ورده إلى ما كان قبل سماع كلامه، وهذا معنى كلامه لأهل الجنة أيضا”. ومنع الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني سماع ما ليس بصوت، واختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي، وقواه ابن الهمام في المسايرة، فعند هؤلاء سمع موسى صوتا دالا على كلام الله تعالى النفسي القديم. وقد روي أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة على خلاف العادة. قال في شرح الصغرى: “وقد ورد أن موسى عليه السلام كان يسد أذنيه بعد رجوعه من المناجاة؛ لئلا يسمع كلام الناس فيموت من شدة قبحه ووحشة حقيقته بالنسبة إلى كلام الله تعالى العديم المثال، حتى تطول المدة وينسيه الله لذة ذلك السماع”اهـ. وقال عبد الرحمن بن معاوية: “إنما كلم الله موسى بقدر ما يطيق، فغشيه النور، فمكث أربعين يوما لا يراه أحد إلا مات من نور رب العالمين، وكان يلبس على وجهه برقعا خشية أن يموت من يراه، فقالت له امرأته أمتعني بنظرة منك، فرفع البرقع، فأصابها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة”. وقال وهب بن منبه: “ما قرب موسى امرأة منذ كلمه ربه”. قال عروة بن رؤيم: “قالت امرأة موسى له، إني أيم منك منذ أربعين سنة”. والمعتزلة لما أنكروا الكلام النفسي القديم وقالوا لا نعقل كلاما إلا بصوت وحروف زعموا أن معنى كلم الله موسى خلق في شجرة أصواتا وحروفا سمع منها ما أراد الله أن يوصله إليه، فإن قلت: هل سماع الكلام القديم الأزلي في الدنيا بلا واسطة مختص بموسى؟ قلت: الصحيح لا وإن اختص باسم الكليم، لأن وجه التسمية لا يجب اطراده، فقد شاركه المصطفى ليلة الإسراء كما اقتصر عليه العراقي في ألفية السير إذ قال:

ثم دنى حتى رأى الإلــــــــــه        بعينـــــــه مخاطَبا شفاهــا

بفتح طاء مخاطبا، كما أن الصحيح أن موسى عليه السلام لم تقع له رؤية وأنها خاصة بالمصطفى ليلة الإسراء، قال في المراصد:

ثم الذي قد صححوا في الرؤية             أنْ ربُّنــــا اختص بها نبيـــه

وأما ما روي أن السبعين الذين اختارهم موسى سمعوا كلام الله له وشهدوا بذلك فلا يلزم منه أن الله كلمهم وإن سمعوا كلامه؛ لأن الإنسان قد يسمع كلام من لا يكلمه، قاله الفاكهاني.

ثم اعلم أن كلام الله كما يطلق على النفسي الأزلي القائم بذاته تعالى يطلق أيضا على العبارات الدالة عليه المسموعة لنا كالقرآن، والتوراة، والإنجيل، ومنه: (فأجره حتى يسمع كلام الله)[ سورة التوبة، الآية: 6.] ، ويطق أيضا على نقوش الكتابة الدالة عليه، كقول عائشة: (ما بين دفتي المصحف كلام الله)، وعلى المحفوظ في الصدور من الألفاظ المتخيلة كما يقال: حفظت كلام الله، ويطلق القرآن أيضا بالاعتبارات الأربعة، والقديم من ذلك إنما هو المعنى القائم بالذات العلية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم)، ذكره السعد في شرح النسفية. قال الزركشي: “وروي من وجوه عن ابن عباس في قوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج) [ سورة الزمر، الآية: 28.]، قال: غير مخلوق”. وروى البيهقي بسند صحيح عن عمرو بن دينار قال: “سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله ليس بمخلوق”. وأراد بمشيخته جماعة من الصحابة كجابر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجماعة من أكابر التابعين. وقال علي: (ما حكّمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن). وقد ذكر الله الإنسان في ثمانية وعشرين موضعا من كتابه، وقال إنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسن موضعا، ولم يقل إنه مخلوق، وكما جمع بينهما في الذكر نبه على ذلك فقال: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان) [سورة الرحمان، الآية: 1]. وذكر السعد عن المشايخ  أنه ينبغي أن يقال القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يقال القرآن غير مخلوق؛ لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه الحنابلة جهلا أو عنادا، وقد كان السلف يمنعون أن يقال القرآن مخلوق ولو أريد به اللفظ المنزل للإعجاز، دفعا لإيهام خلق المعنى القائم بالذات العلية، وقد سأل رجل مالكا عمن يقول القرآن مخلوق فأمر بقتله، فقال السائل إني حكيته عن غيري، فقال: إنما سمعته منك[1]. وهذا زجر وتغليظ بدليل أنه لم ينفذ قتله. واختلفوا هل يجوز أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق، وعليه البخاري والأكثر، أو لا وعليه الإمام أحمد، وفي طبقات السبكي أن الحسين الكرابسي من أئمة السنة ومن أصحاب الشافعي سئل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله ليس بمخلوق، فقيل: ما تقول في لفظي بالقرآن، قال: مخلوق، فأتى السائل الإمام أحمد فأخبره فقال هذه بدعة. قال تقي الدين: “ينبغي أن يحمل كلامه على أن الخوض في هذه المسألة بدعة؛ إذ لم يخض فيها المصطفى ولا أصحابه، ولم يرد أن الأصوات والحروف غير مخلوقة؛ لأنه يتحاشى عن هذا”.

واجترأت المعتزلة على إطلاق أن القرآن مخلوق. قال السعد: “ولم يتوارد إثباتهم ونفينا على محل واحد، بل نفينا المخلوقية مبني على إثبات الكلام النفسي، وإثباتهم المخلوقية مبني على نفيهم الكلام النفسي، فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف بل بقدم النفسي القائم بذاته تعالى، فالقرآن إن أريد به الكلام النفسي فغير مخلوق، وإن أريد به الألفاظ فلا نطلق أنه مخلوق إلا عند البيان لا في كل مقام؛ لئلا يذهب الوهم إلى القائم بالذات العلية، وهم لا يقولون بحدوث كلام نفسي؛ إذ لم يثبتوه أصلا، فلم يبق عندهم إطلاق القرآن إلا على الألفاظ وهي حادثة، فأطلقوا أن القرآن حادث، إذ لا محذور عندهم ولا إيهام، ودليلنا إجماع الأمة وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه تعالى متكلم، ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام لا خالق له، ويمتنع قيام اللفظي الحادث بذاته، فيتعين النفسي القديم، وأما استدلالهم على المخلوقية بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوق وسمات الحدوث من التأليف، والإنزال، وكونه عربيا، مسموعا، فصيحا، معجزا إلى غير ذلك، فإنما يقوم حجة على الحنابلة لا علينا؛ لأنا قائلون بحدوث النظم، وإنما نفينا المخلوقية عن المعنى القديم، ومن أقوى شبه المعتزلة أنكم متفقون على أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواترا، وهذا يستلزم كونه مكتوبا في المصاحف، مقروءا بالألسن، مسموعا بالآذان، محفوظا في الصدور، وهذه سمات الحدوث بالضرورة، أجاب أئمتنا بأن اعترافنا بأنه مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مسموع بالآذان، لا يستلزم حلوله فيها، بل هو معنى قديم يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه، و يحفظ بالألفاظ المتخيلة في الذهن، ويكتب بأشكال الحروف الدالة عليه، كما يقال: النار جوهر محرق، فيذكر باللفظ، ويسمع بالآذان ويعرف بالقلب، ويكتب بالقلم، ولا يلزم كون حقيقة النار حالة في شيء من ذلك، وتحقيقه أن للشيء وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في العبارة ووجودا في الكتابة، فالكتابة تدل على العبارة، وهي على ما في الأذهان، وهو على ما في الأعيان، بحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كما في قولنا القرآن غير مخلوق، فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، أعني المعنى النفسي القائم بالذات العلية، وحيث يوصف بما هو من لوازم المخلوقات والمحدثات يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كما في حديث: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم يتغنى بالقرآن)، أو المخيلة كما في قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم)[ سورة العنكبوت، الآية: 49.]، وكحديث أحمد وغيره: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)، أو الأشكال المنقوشة كحديث الطبراني في الكبير: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، وحديث: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)، مخافة أن يناله العدو.

 فإن قلت: وصفُ القرآن بما ذكر من كونه مقروءا مسموعا محفوظا مكتوبا حقيقةٌ أو مجاز؟ قلت: إن أريد به المعنى القديم فلا شك أن الوصف بما ذكر مجاز عقلي من إسناد ما للدال إلى المدلول، وإن أريد به الملفوظ وتسميته قرآنا حقيقة أيضا على الصحيح، فوصفه بأنه مقروء ومسموع حقيقة، وبأنه محفوظ ومكتوب مجاز عقلي، وإن أريد به الألفاظ المتخيلة في الذهن أو نقوش الكتابة وتسمية كل منهما قرآنا مجاز، فوصف الألفاظ المتخيلة بأنها محفوظة حقيقة، وبأنها مقروءة ومسموعة ومكتوبة مجاز، ووصف النقوش بأنها مكتوبة حقيقة، وبأنها مقروءة ومسموعة ومحفوظة مجاز، فإطلاق صاحب جمع الجوامع أن هذه الصفات كلها حقيقة لا مجاز اعترضه اللقاني، ونقل عن شرح المقاصد ما يشهد لما فصلناه. هذا وذهب العضد إلى أن المعنى في قول مشايخنا كلام الله معنى قديم في مقابلة العين لا في مقابلة اللفظ، فمرادهم أن القرآن اسم للفظ والمعنى شامل لهما وهو مع ذلك قديم، لا كما زعمت الحنابلة من قدم اللفظ المؤلف المرتب الأجزاء، فإنه بديهي الاستحالة، بل بمعنى أن اللفظ القائم بالنفس ليس مرتب الأجزاء في نفسه كالقائم بنفس الحافظ من غير ترتب الأجزاء وتقديم البعض على البعض، والترتيب إنما يحصل في التلفظ والقراءة لعدم مساعدة آلاته، أما اللفظ القائم بذات الله فلا ترتيب فيه، حتى أن من سمع كلام الله سمعه غير مرتب الأجزاء، لعدم احتياجه إلى الآلة، قال السعد: “وهذا أحسن لمن يتعقل لفظا قائما بالنفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة أو المتخيلة المشروط وجود بعضها بعدم البعض، ونحن لا نتعقله”. هذا ونقل عن داوود الظاهري أن القرآن محدث وليس بمخلوق، ونسب للبخاري، فكأنهما اقتصرا على ما ورد إطلاقه في آية: (ما ياتيهم من ذكر من ربهم  محدث)[ سورة الأنبياء، الآية: 2.]، وكان أول ظهور القول بخلق القرآن أيام الرشيد، إلا أن الرشيد لم يقل بذلك، وكان الناس فيه بين أخذ وترك، فلما ولي المامون حمل الناس على ذلك في سنة وفاته، ولما مرض عهد لأخيه المعتصم وأوصاه أن يحمل الناس على ذلك ففعل، وضرب الإمام أحمد على القول به، وسجنه ثمانية وعشرين شهرا، ثم توفي المعتصم فولى ابنه الواثق، فأظهر ذلك وامتحن به، وقتل عليه أحمد بن نصر الخزاعي، ونصب رأسه إلى المشرق فدار إلى القبلة، فأجلس رجلا معه رمح، فكان كلما دار الرأس إلى القبلة أداره إلى المشرق، ورئي أحمد بن نصر المذكور في النوم، فقيل له: ما فعل الله بكّ؟ قال: غفر لي ورحمني إلا أني كنت مهموما منذ ثلاث من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فأعرض بوجهه الكريم عني، فغمني ذلك، فلما مر الثالثة قلت: يا رسول الله لِم تعرض عني، ألست على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: حياء منك إذ قتلك رجل من آل بيتي. وروي عن المهتدي والد الواثق أن أباه رجع عن ذلك  بمناظرة وقعت بين يديه في المسألة بين شيخ سُني وبين أبي داوود، فلم يمتحن بعدها أحدا إلى أن مات، ولما ولي المتوكل أخو الواثق بعهد منه سنة اثنين وثلاثين ومائتين رفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة وأمر بنشر الآثار النبوية، وأعز أهل السنة، فخمدت المعتزلة، وكانوا قبلُ في قوة ونماء، ولم يكن على الملة الإسلامية شر منهم، وأمر بإحضار الإمام أحمد فأكرمه، وأعطاه عطايا فلم يقبلها.

ثم اعلم أنهم يطلقون أن المعنى القديم مدلول القرآن وغيره من الكتب، وفي ذلك تسامح، والحق كما للعبادي وغيره أن مدلول القرآن بعض متعلقات المعنى القديم، وكذا التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، فالمعنى القديم ليس مدلول القرآن، بل هما دالان اجتمعا في الدلالة على معاني القرآن، وزاد المعنى القديم بمدلولات لا تتناهى؛ لأنه متعلق بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات كالعلم، ولذا قال تعالى: (قل لو كان البحر مدادا) الآية[ سورة الكهف، الآية: 109.] ، (ولو أنما ما في الأرض من شجرة أقلام) الآية [سورة لقمان، الآية: 27]، فكلماته متعلقات كلامه وهي معلوماته، وهي غير متناهية، وماء البحار وأقلام الشجر متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي قطعا، ولما تسامحوا في قولهم إن المعنى القديم مدلول ألفاظ القرآن بنوا على ذلك أن مدلول القرآن قديم، وناقشهم القرافي في شرح الأربعين بأن مدلولات القرآن منها القديم كمدلول: (الله لا إله إلا هو)[ سورة البقرة، الآية: 255]، والحادث كمدلول: (إن فرعون علا في الارض) [سورة القصص، الآية: 4]، ولو تنبه لتسامحهم لم يناقشهم من هذه الحيثية.

ثم الكلام الأزلي صفة واحدة لا تكثر فيها كسائر صفات المعاني، فإن قيل: أليس الكلام يتنوع إلى أمر ونهي وخبر وغير ذلك، ولا يعقل خلوه عنها؟ قلنا: هذه الأقسام أنواع اعتبارية حاصلة بحسب المتعلقات المختلفة، فلا يتكثر الكلام في نفسه بكثرة متعلقاته، كما لا يتكثر العلم وغيره بكثرة متعلقاتها، فمن حيث تعلقه بشيء على وجه الاقتضاء لفعله يسمى أمرا، أو لتركه يسمى نهيا، أو على وجه الإعلام به  يسمى خبرا، وعلى هذا القياس، لكن اختلف هل هذه الأنواع الاعتبارية أزلية وإن لم يكن فيه مأمور ولا منهي ولا مخبر، لأن الله عالم بأنه سيوجد فيما لا يزال، فهو بمنزلة الموجود فيه، وعليه الأكثر، أو إنما يتنوع الكلام إلى هذه الأنواع فيما لا يزال عند وجود من تتعلق به، فيكون التنوع حادثا مع قدم المشترك بين تلك الأنواع؛ لأنها ليست أنواعا حقيقة كما مر، وعليه عبد الله بن سعيد بن كُلاب كرُمان أحد أئمة السنة قبل الأشعري.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 67-71. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

 


[1]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق