مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

في البلاغة والتطرف

يبدو للوهلة الأولى أنّ العنوان فيه تصادم وتنافر بين مفهومين أساسين، وهما البلاغة، والتطرف. وربما يميل الظن إلى أنهما بعيدان عن التآلف والانسجام. كشفاً لهذا الغموض ومن أجل المساهمة في النقاش الدائر اليوم حول مفهوم البلاغة من جهة، وكيفية تفكيك خطاب التطرف من جهة ثانية، نقف بداية عند دلالة المفهومين ‘البلاغة والتطرف’، لعل هذا الوقوف يسعفنا – ما أمكن – في إيجاد وشائج الترابط  بينهما، ومحاولة فهم ظاهرة التطرف من زاوية بلاغية.
البلاغة تحيل على مجال معرفي أصيل يدرس جميع الممارسات الإنسانية، التي تؤثر بشكل متبادل في سلوك الناس وأفكارهم من خلال الاستخدام الاستراتيجي للغة (1). وهذه الممارسات تتصف بكونها رمزية تخترق الخطابات، والأيقوني، والإشاري.

 

يبدو للوهلة الأولى أنّ العنوان فيه تصادم وتنافر بين مفهومين أساسين، وهما البلاغة، والتطرف. وربما يميل الظن إلى أنهما بعيدان عن التآلف والانسجام. كشفاً لهذا الغموض ومن أجل المساهمة في النقاش الدائر اليوم حول مفهوم البلاغة من جهة، وكيفية تفكيك خطاب التطرف من جهة ثانية، نقف بداية عند دلالة المفهومين ‘البلاغة والتطرف’، لعل هذا الوقوف يسعفنا – ما أمكن – في إيجاد وشائج الترابط  بينهما، ومحاولة فهم ظاهرة التطرف من زاوية بلاغية.

البلاغة تحيل على مجال معرفي أصيل يدرس جميع الممارسات الإنسانية، التي تؤثر بشكل متبادل في سلوك الناس وأفكارهم من خلال الاستخدام الاستراتيجي للغة(1). وهذه الممارسات تتصف بكونها رمزية تخترق الخطابات، والأيقوني، والإشاري.

أما التطرف فيحيل على العنف في الفكر أو السلوك، ماديا كان أم معنويا، يقوم به فرد أو جماعة لها قناعات ثقافية – فكرانية ( أيديولوجية )، وتكون له انعكاسات ونتائج سلبية على الشخص في تصوراته للإنسان والوجود والميتافيزيقا. أو إن شئت قلت: التطرفُ هو الذهاب بالشيء إلى أقصى حدّ، وهذا يشمل الفكر كما يشمل اللباس والأكل وغيرهما. في ذات السياق يمكن الحديث عن تجليات التطرف ومظاهره، مثلا هناك تطرف ديني (  داعش وأخواتها)، وتطرف سياسي ( الجماعات السياسية المتطرفة )، وتطرف اجتماعي ( اللباس أو مجمل السلوك الاجتماعي )…إلخ.

من جملة الأسئلة التي  يمكنُ أن تساق في نطاق العلاقة بين البلاغة والتطرف الآتي : 

ما دور البلاغة في مواجهة خطاب التطرف ؟ 

وهل تستطيع تفكيك خطاب التطرف بالاعتماد على التراكم الذي حققته منذ نشأتها التاريخية الأولى؟

أليس تفاعل خطابات التطرف يدعو البلاغي إلى استثمار ما جاء في نظريات الخطاب والتواصل والسياسة والاجتماع والثقافة والمعلوميات من أجل فهم سليم لهذا الخطاب ؟

يمكنُ النظر إلى ‘ظاهرة التطرف’ كما تناولها الفكر الغربي من زوايا متعددة، تناولها مثقفون وسوسيولوجيون وسيكولوجيون، وفلاسفة معاصرون أيضاً، من أمثال جاك دريدا، ويورغن هابرماس، وجان بودريار…والقائمة طويلة. 

لكن التناول البلاغي لهذه الظاهرة، فضلا عن التناول اللغوي، ما يزال في بداياته البحثية الأولى(2). 

إنّ البلاغة بتحليلها لخطاب المتطرف إنما تقوم بواجبها الحضاري والمسؤول فضلا عن واجبها العلمي، خصوصاً وأنّ لها القدرة على تفكيك مثل هذه الخطابات وغيرها ( الكراهية والعنف والإرهاب ..). بمعنى آخر، إن البلاغة بوقوفها على تحليل خطاب التطرف لن تقف عند ما هو ‘حسن في الخطاب’، بل ستظهر للمتلقي أنّ ما يبدو حسناً في الخطاب يُوظف في اقناع المتلقي بفكرة أو أفكار أيديولوجية تدمر تماسك جسد المجتمع وانسجامه، فتصبح الاستعارة أو التشبيه مثلا، أو غير ذلك من الآليات البلاغية، خططا محبوكة لمغالطة المخاطب وخداعه.

من ثم، تصبح للبلاغة علاقة مباشرة مع الإيديولوجيا، والخطاب المغالط، والعنف وآلياته، من أجل فهم ‘خطاب المتطرف’، وهي بذلك ترتاد مناطق جغرافية جديدة في تاريخ البلاغة العربية المعاصرة، أو إن شئت قلت إنها بلاغة بالغة مقاصدها، حية تتفاعل مع الواقع(3).

يدفعنا هذا الكلام إلى القول بأن البلاغة علم يقوم على تفكيك الخطاب، وكشف هويته، ما دامت تتشكل في اللغة، وأغلب الظن أنها لا يمكنُ أن تكتشف قدراتها إلاّ من خلال مدّ جسور إبستيمية مع كل نظريات تحليل الخطاب المعاصرة : سيميائيات، وتأويليات، ونصّيات، وتفكيكيات، وتداوليات…وغيرها. 

هكذا، ربما، يمكنُ أن نساهم، كباحثين في حقل تحليل الخطاب، في فهم المعنى الذي تنتجه خطابات التطرف بكل أشكاله وأنواعه. من ثمة لا تبقى دراسة ظاهرة التطرف حبيسة قوالب معرفية جاهزة، أو أحكام قيمية مكرورة، أو تناول معرفي كلاسيكي، خصوصاً وأن ظاهرة التطرف تزداد كلّ يوم توغلا في المجتمعات، وتوحشا في أعماقها !.

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- بلانتان، ص:75. لا شكّ أن هذا التحديد يجعل البلاغة تخرج من الأسوار المعروفة ( البيان، والبديع، والمعاني)، ليس تقليلا من شأنها، ولكن تطويراً لآلياتها من داخل مجالنا التداولي الخصب والمنفتح على حقول معرفية أخرى في تحليل الخطاب كما سيأتي بيان ذلك.

2- لعلّ اليوم الدراسي الأخير ‘مداخل لغوية وبلاغية لفهم ظاهرة التطرف’ الذي نظمه مركز ابن أبي الربيع السبتي بآداب تطوان، يوم24 ماي 2017، يعتبر ‘يوماً أغرَّ ‘كما أشار إلى ذلك د.أحمد عبادي في كلمته، بالإضافة إلى أنه يعتبر على المستوى البحثي موضوعاً جديداً لم تتطرق إليه البلاغة العربية المعاصرة، رغم ما تمتلكه من آليات تخوّل لها تفكيك ظاهرة التطرف.

3- ما دامت تقوم على تنبيه الغافل بما في الخطاب من كلمات وإشارات توجه العقل إلى الانتحار بدعوى أنها هي ‘الحياة الحقيقية’.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق