وحدة الإحياءقراءة في كتاب

فلسفة التحرر بين المرجعيات الوضعية ولاهوت التحرير قراءة في كتاب L’étique de la libération a l’ère de la mondialisation et de l’exclusion للمؤلف Enrique Dussel

يتميز الكتاب موضوع القراءة بكثافة دلالية فلسفية وسوسيولوجية ملفتة؛ حيث ننتقل مع المؤلف من ماهية الحياة ومفهوم الخير مع أرسطو، والرغبات الخالصة ونظرية المثل مع أفلاطون، إلى فلسفة القانون ومفهوم الأخلاق مع هيغل، وفلسفة القوة مع نيتشه، و مفهوم الإرادة والرغبة الميتافيزيقية مع ليفيناس، والعقل الأخلاقي مع كانط، ومفهوم الهيمنة مع أنطونيو غرامشي، ومفهوم اللاوعي مع سيغموند فرويد، ونقد العقل الأداتي والعقلانية الحديثة مع رواد مدرسة فرانكفورت، والاقتصاد السياسي ونقد النظام الرأسمالي مع كارل ماركس، ودور القيم الدينية في النظام الاقتصادي مع ماكس فيبر، والمجتمع المفتوح وأعداؤه مع كارل بوبر، وأركيولوجيا المعرفة مع ميشال فوكو… وهو في كل ذلك شديد الإصرار على إبراز علاقة العلم والمعرفة  العلمية بشرطها التاريخي والاجتماعي وسياقها الحضاري.. وعلى نقد العقل الأداتي رغم وعيه أن العقل الإستراتيجي/الأداتي يلعب دورا لا بديل عنه في الأخلاق[1]. وعلى كشف مختلف مظاهر اختلالات النظام الرأسمالي المعولم..

أولا: من الأخلاق الأنطولوجية إلى أخلاق التحرر

تعود التجارب التأسيسية لفلسفة التحرر، من وجهة نظر “إنريك ديسال” (Enrique Dussel)، إلى سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين بعيد اندلاع أحداث 1968؛ انطلاقا من أمريكا اللاتينية وليس من أوروبا، انطلاقا من مكسيكو وليس من باريز. فالأمر يتعلق، بالنسبة إليه، بتجربة تاريخية وحركة اجتماعية مختلفة ومتميزة لا تخلو من أبعاد أنطولوجية، غير أن الأنطولوجيا[2] كمبحث فلسفي، هاهنا، سرعان ما تم تسييسها.

لقد انتقل اهتمام “إنريك ديسال” من الأخلاق الأنطولوجية مع هيدغر إلى أخلاق التحرر من خلال التفكير في تيمة الفقر. وسعيا منه لتجاوز الإطار الاقتصادي الضيق وسع اهتمامه إلى جانب معاناة الفقير بمعاناة الضحية (Victime)[3].

لقد كان أول اتصال لـ”إنريك ديسال” بتيمة الفقر من منظور فلسفة التحرير انطلاقا من فلسفة “إيمانويل ليفيناس” (E. Levinas)، غير أنه لم يخف انحيازه في اختياره لمقاربة موضوعه انطلاقا من الإنسان الأمريكي/اللاتيني المضطهد (Opprimé). وفي هذا السياق، وإمعانا منه في تجاوز المركزية الغربية، استلهم مدونة حمورابي وأشاد بسلطتها المرجعية في الإعلاء من قيمة التحرر وإقرارها لمبدأ العدالة والإنصاف لكل من الأرملة واليتيم والفقير والغريب. كما ألمح إلى هذه الأبعاد التحررية في المرجعية القرآنية، والتجربة الحضارية الإسلامية.

وسرعان ما انصب تفكيره حول المرأة؛ حيث خصص المجلد الثالث من كتابه حول فلسفة التحرر سنة 1977  لموضوع تحرير المرأة، ومن تحرير المرأة انتقل إلى الانشغال بموضوع تحرير الطفل من خلال نظره النقدي الاستشرافي في المسألة البيداغوجية، ومنه إلى “تحرير الأخ” من منظور سياسي (La libération du frère).

لقد ارتبطت نشأة فلسفة التحرر واغتنت من خلال تفاعلها بحركة علمية أكاديمية نشيطة في الجامعات وبوجه خاص في الأرجنتين. وهي الحركة التي أمست أكثر تجدرا في التربة الأمريكولاتينية سنة 1973، وذلك بحضور كل من “ليوبولدو زيا” (Leopoldo Zea) و”سالازار بوندي” (Salazar Bondy).

وخلافا لهذا الأخير، الذي ظل يعتقد أن الفلسفة مستحيلة في عالم استعماري، حاجج “إنريك ديسال” بقوة على أن الفلسفة ممكنة، بل وضرورية في عالم استعماري، الأمر الذي جعل “سالازار بوندي” يلتحق بعد ثلاث سنوات من انطلاق مجموعة البحث في فلسفة التحرر بـ”بيونس آيريس” (Buenos Aires).

ذلك أن فلسفة التحرير تعد حصيلة جملة من اللقاءات العلمية والحلقات النقاشية التي جمعت مجموعة من المفكرين في الأرجنتين في بداية السبعينيات. كما تعد ثمرة محضنين مؤسسين؛ الأول بالمكسيك مع “ليوبولدو زيا”، والثاني في البيرو مع “أوغيستو سالازار بوندي”؛ حيث أسهما في تدشين نقاش نظري سنة 1968 حول إمكانية وجود فلسفة لاثينو أمريكية أصلية وخاصة.

غير أن النقد الموضوعي الذي يمكن توجيهه، هاهنا، يمكن استشكاله على الشكل التالي: إذا كان الخطاب الفلسفي خطابا عاما وكونيا ومجردا فلماذا هذا الإصرار على ربط فلسفة التحرير حصريا بأمريكا اللاتينية؟ ألا يستبطن هذا نوعا من التمركز المعكوس على الذات؟

لقد عرفت هذه الفلسفة زخما ملحوظا خلال السبعينيات، غير أن جانبا مهما من  روادها المؤسسين لم يواصلوا اهتمامهم وانخراطهم ضمن حركيتها بالفاعلية المطلوبة. ويعد صاحبنا “إنريك” من أكثرهم وفاء لها، واستمرارا في الاستشكال والتأمل في الواقع الكوني المعاصر انطلاقا منها، رغم وعيه بأنها تمثل مشروعا فلسفيا معقدا وصعبا غير أنه متجذر في التاريخ والحياة؛ ذلك أن فلسفة التحرر وأخلاق التحرر تعد، بالنسبة إليه، أخلاقا للحياة. والمسألة التي تنطرح بهذا الصدد هي مدى القابلية التجريبية لهذه الحياة[4].

رغم انتصار “ديسال” لمفهوم الشعب، إلا أنه ينفي بشده انتقاد “سوروتي” (Cerutti) له بالشعبوية؛ فهو لا يفترض التعارض بين مفهوم الشعب ومفهوم الطبقة، معتبرا أن مفهوم الشعب من السعة والشمول بحيث يستوعب كل الطبقات والشرائح الاجتماعية.

لا ينتصر “إنريك ديسال” لمفهوم الشعب على حساب مفهوم الطبقة (classe)، ولا يتخذ موقفا مناهضا من الماركسية بقدر ما يصدر عن موقف معرفي نقدي منها؛ حيث لم يستبعد، يوما، مفهوم الطبقة وإنما استدمجه ضمن مفهوم الشعب.

لقد أمضى “ديسال” عشر سنوات من النظر العلمي النقدي في الفلسفة الماركسية؛ حيث راجع كل نصوصها التأسيسية مراجعة نقدية شاملة، واكتشف إلى جانب أبعادها الاقتصادية المادية استبطانها لأبعاد إيديولوجية وثيولوجية كامنة. ومع ذلك فهو لم ينف يوما إفادته منها بل وتأسيسه عليها؛ بحيث ما كان له أن يبلور فلسفته في التحرير والتحرر إلا انطلاقا منها.

ومثلما أبدى تفهما للنقد الذي وجه إليه بخصوص تجاهله لموضوع “المثلية الجنسية”[5]، فقد تعامل بنفس الروح المعرفية مع الانتقاد الذي وجهه “كارل أوتو آبل” لفلسفته معتبرا أنها لم تضع أية مبادئ. ومع إقرار “ديسال” بصحة هذا النقد، إلا أنه لم يتحرج في تفسير الأمر بالطبيعة الفينومينولوجية لفلسفة التحرير وفي قيامها على المنظور الفلسفي لكل من هيدجر ولفيناس؛ ذلك أن الفينومينولوجيا[6] من وجهة نظره، لا تعنى بالمبادئ المعيارية وإنما تكتفي بالوصف (Elle decrit).

 أكثر من ذلك، فقد اعتبر أن من بين المراجعات النقدية الكبرى التي خضعت لها فلسفة التحرير تعد مراجعة “آبل” الأكثر فائدة وأهمية؛ من خلال إتاحتها الفرصة لمناقشة مواضيع ذات أهمية قصوى من قبيل؛ نظام الشرعنة، والمسألة السياسية وقضايا الديمقراطية. ومع ذلك، فقد دلل على أن منظور “آبل” رغم حرصة على البعد التطبيقي الإجرائي للمبادئ، إلا أن مقاربته تظل هي الأخرى عاجزة عن بلورة مبادئ ورؤى جديدة.

فبعد أن صاغ نظام الشرعية والمشروعية خلص إلى أن كل الأنظمة التاريخية معرضة للزلل. ومع أن “ديسال” لم يعترض على تقرير هذه الحقيقة، إلا أنه شدد، في الوقت عينه، على أن هذه القابلية للخطأ تترتب عليها، بكل تأكيد، مضاعفات سلبية عادة ما يعاني منها الضحية دون وعي منه. ومن هنا يراهن “ديسال” على تفكيك النظام برمته انطلاقا من معاناة الضحية.

وفي هذا السياق، يكشف كيف أن كل من “يورغن هابرماس” و”آبل” ينزعان إلى الخلط بين الصلاحية والحقيقة، الأمر الذي يفسر ارتهانهما لتصور توافقي للحقيقة خلافا لـ”ديسال” الذي يؤكد أنه يعتمد تصورا متماسكا للحقيقة  يعد بمثابة مدخل لسبر الواقع وتحليله وتفسيره سعيا لتغييره.

وفي هذا السياق أيضا يشدد على الاختلاف بين النزوع إلى الحقيقة والنزوع إلى الصلاحية، وبين النزوع إلى الصلاحية ونزوع الجدوى والقابيلية للتحقق. غير أن تمفصل المفاهيم الثلاثة السالفة يفضي إلى نزوع جديد هو نزوع أو منزع الخير والخيرية الذي لا يثيره أيا من “هابرماس” و”آبل”.

علما أن الخير، هاهنا، لا يتعلق بما هو مادي فحسب، وإنما بالتقاطع بين ما هو رمزي وشكلي، وما هو مادي، وما هو قابل للتحقق. لكن بغض النظر عن نزوعنا إلى الخير، فإن تصرفاتنا وأفعالنا، ما دامت محكومة بمحددات دنيوية تاريخية، فلا يمكن إلا أن تنتج عنها آثارا سلبية، وهو ما لا يسعهما تصوره لأنهما يجهلان مغزى المعاناة الجسدية[7].

وفي رده على سوروتي (Cerutti) الذي جزم في يقين؛ أن نظرية التبعية قد تم تجاوزها مثلما تم تجاوز فلسفة التحرير[8]، نفى “إنريك ديسال” أن يكون الأمر كذلك بأي حال من الأحوال؛ وفي هذا الإطار أعاد قراءة كارل ماركس لإفحام من يعتقدون أن نظرية التبعية لم تعد صالحة. وفي هذا السبيل حاول التدليل، في جل مؤلفاته، كيف أن هذه النظرية، التي تم اقتراحها بشكل صريح من قبل ماركس، لم يتمكن منظرو التبعية من فهمها واستيعابها[9].

لم يكتف المؤلف بالتدليل على صلاحية نظرية التبعية وإجرائيتها الوظيفية، وإنما اعتبر أنها الوحيدة القادرة على كشف مظالم العولمة واختلالاتها ومفارقاتها، وهو ما يفسر إمعانه في التمسك بها ومزجه بين فلسفة التحرير والفلسفة الماركسية متمثلة بشكل حصري في كتابات وتنظيرات ماركس بعيدا عن التحريفات الستالينية واللينينية وكذا تحريفات فريدريك إنجلز..

 ومع وعي “ديسال” الشديد بكون فلسفة التحرير ارتبطت، منذ نشأتها، في وعي الكثيرين، بلاهوت التحرير (La théologie de la libération)، إلا أنه يصر على ضرورة التمييز والفصل بينهما، فرغم التصادي الدلالي بينهما إلا أنهما مختلفين؛ فلاهوت التحرير يتصل بجماعة من المؤمنين، ويمثل خطابا موجها لهذه الجماعة على وجه التحديد، أما الفلسفة فتنبع من الفعالية العقلية، ومن إمكانية التفلسف باعتباره؛ (أي التفلسف) نظرا عقليا استدلاليا واستقرائيا للوجود وللحقيقة الاجتماعية يروم الفهم والتفسير. ولو أن وظيفة الفلسفة، في سياق فلسفة التحرير، تتجاوز السعي إلى الفهم والتفسير إلى التغيير؛ بحيث أن النظر العقلي التأملي والنقدي لا ينفك فيها عن النزوع المستمر إلى تغيير الواقع التاريخي رفعا لشتى مظاهر الظلم، والاضطهاد، والاستغلال، والاستعلاء، والتمركز على الذات، والاستلاب..

وفي سياق دفاعه عن “ليفيناس”، في مواجهة من يلمزون في أصالته الفلسفية ويتهمونه بكونه ثيولوجيا، يكشف “ديسال” كيف أن هذا الاتهام إنما يصدر عن حقيقة كونه ساميا، منتقدا، بحدة، من يزعمون أن كل ما هو إغريقي يعد فلسفيا بالأصالة، وكل ما هو سامي يعد ثيولوجياً بالوراثة. وبالتالي يتعين استعادة التاريخ برمته لإثبات العكس؛ فمع أن “ليفيناس” يعد ساميا، إلا أنه  أول من وظف الخطاب السامي وجعل منه فلسفة متكاملة[10].

ولأن فلسفة التحرير ترتبط أشد ما يكون الارتباط بالجماعة، وتقوم على حوار استدلالي خطابي وشعبي، فلا يسعها إلا أن تستند على بيداغوجيا القهر لـ”باولو فريري” (Paulo Freire)، وهي البيداغوجيا التي تعد مناقضة لفلسفة جون جاك روسو.

فخلافا لإميل (Emile) الذي وجد نفسه طفلا يتيما بلا أب ولا أم، مجبرا على الخضوع خضوعا تاما وسلبيا لتعليمات وصيه، فإن “فريري” (Freire) ليس يتيما، فهو ابن لأب وأم وينتمي إلى شعب له ثقافة كفيلة بإيقاظ وعيه السياسي ووعيه الحضاري.

وفي هذا الإطار يخلص “ديسال” إلى أن فلسفة التحرير تُماهي فكر “باولو فريري”Paulo Freire من الوجهة البيداغوجية أكثر من ذلك، فهو يعتبر أن التيار المرتبط (بفريري) قد وظف مؤلفه حول البيداغوجية الأمريكولاتينية التي يعرض فيها ويبلور بعض مبادئه الفلسفية، (La pédagogie de l’opprimé).

ومن الإسهامات المعرفية الهامة التي قام بها “ديسال” نقده للعقلانية النقدية (rationalisme critique) لكل من آبل وهابرماس. وبمقتضى هذا النقد، فقد أبرز كيف أن (كارل أوتو آبل) يتحدث عن مبادئ ولا يتحدث عن مؤسسات أو ممارسات، وبناء عليه فقد اقترح (ديسال) أن يتم الانطلاق من مجموعة من المستويات؛ مستوى المبادئ، ومستوى المؤسسات، ومستوى الممارسة والفعل الأخلاقي.

إذن، فنحن بصدد ثلاثة مبادئ بدل مبدأ واحد؛ يتعلق الأمر بالمبدأ الشكلي، والمادي والقابلية للتحقق؛ فالمبدأ الذي بلوره “الضحية” يعد مبدأ ماديا  فحواه أن  عدم قدرتي على العيش والحياة تجعل من النسق أو النظام الذي يمنعني من ذلك نظاما غير عادل، وهو  ما يبرر هدم هذا النظام والإجهاز عليه، مثلما أن هذا النظام غير ناجع لأنني ضحيته وهنا تنبعث جملة من المشاكل، تقتضي إعادة النظر في مشروعية النظام من خلال توافق جديد. وفي هذا السياق يعتبر “ديسال” أن “آبل” لم يستعمل إلا مبدأ واحدا من المبادئ الستة التي تشكل فلسفة “ديسال” التحررية والأخلاقية.

ثانيا: فلسفة التحرر بين الماركسية ولاهوت التحرير

يحتل سؤال الأخلاق مكانة مركزية في فكر “ديسال”؛ فالمبدأ الأخلاقي لإنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة[11]، فضلا عن دوره في المجال العام،كفيل بمساءلة وتمحيص الثقافة هي الأخرى أخلاقيا من خلال التساؤل عن مقاصدها ومآلاتها وغاياتها وقيمها.

 ففي السياسة تخضع المبادئ الأخلاقية لمجموعة من الحقول، كما لدى (بيير بورديو) Bourdieu  حيث تحول المبدأ الأخلاقي إلى مبدأ معياري تبعا لكل حقل. كما يسهم المبدأ المعياري في تحديد ماهية السلطة، والفعل السياسي والبناء المؤسسي، وبهذا فهو ينظم السياسة برمتها، ويرتقي إلى مستوى المبدأ الناظم للحياة، ومبدأ الصحة والصلاحية وإضفاء المشروعية، والجدوى  الاستراتيجية (La faisabilité Stratégique).

 وهكذا نخلص مع “ديسال” إلى أن السياسة تمثل الدليل الأمثل على فلسفة الأخلاق بينما تختزل السياسة لدى “أبل” إلى مجرد تطبيق إجرائي للمبادئ؛ يتعلق الأمر بنظام ناجز مسبقا يطبقه على الليبرالية بينما (ديسال) يُخضع المبدأ الأخلاقي للحقل السياسي ويعيد تحديد جميع المعطيات ضمن سياسة قوية (politique forte) لا صلة لها بالليبرالية[12].

وفي هذا الإطار، يحاول “ديسال” بلورة مفهوم لـ”الخير” و”الجيد” بشكل يرنو إلى تجاوز مختلف مظاهر القصور التي اعترت جل التحديدات الفلسفية الحديثة للمفهومين مع كل من مور، وشيلر، وهوسرل، وهابرماس، ورولز[13]. وهو هنا يصدر عن التمييز بين الممكن وغير الممكن من الوجهة الأخلاقية[14]، وبين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية انطلاقا من “ماكس فيبر” [15] Max Web، وأخلاق المناقشة مع يورغن هابرماس[16].

مع أنه يؤسس ويدعو وينتصر للديمقراطية إلا أن الأمر لا يتعلق بديمقراطية ليبيرالية وإنما بديمقراطية محايدة غير مضافة (sans adjectif) وهكذا أمست الأخلاق تتحدد لدى (ديسال) بطريقة تجريدية لا يتعلق الأمر بتطبيق المبدأ الأخلاقي في حقل إمبريقي، ما دام ينتمي لمستوى تجريدي (Niveau abstrait) بحيث لا يوجد فعل أخلاقي في ذاته (Acte éthique en soi)  وإنما توجد مجموعة من الحقول التطبيقية في السياسة، والاقتصاد، والعائلة، والرياضة..

لقد شكلت فكرة توجيه التفكير الفلسفي الأمريكو لاتيني بعيدا عن مدار الفكر الغربي، بالنسبة إلى ديسال، رهانا استراتيجيا. وهو التفكير الذي انطلق من التأكيد والدفاع عن حياة الآخر، وهي الحياة التي طالما عمل النظام التوتاليتاري على تجاهلها وإلغائها.

لقد سبق أن أوضحت للفيلسوف إنريك ديسال في مائدة مستديرة أدارتها الدكتورة أسماء لمرابط بالرابطة المحمدية للعلماء أن فكرة الاستقلال الفلسفي التي يدافع عنها بقوة تجد ما يقابلها في الفكر العربي الإسلامي المعاصر بشكل جلي لدى كل من حسن حنفي في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” وطه عبد الرحمان في كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، وقد حاولت أن أبرز بوجه خاص أطروحة حسن حنفي.

وهي الأطروحة التي تنطلق من التدليل على أن “الاستغراب” هو الوجه الآخر والمقابل بل والنقيض من “الاستشراق”؛ فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب) يهدف “علم الاستغراب”، إذن، إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر. فمنذ الاستشراق القديم الذي نشأ واكتمل في عنفوان المد الاستعماري الأوروبي لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب المستعمرة أخذ الغرب دور الأنا فأصبح ذاتا واعتبر اللاغرب هو الآخر فأصبح موضوعا. فالاستشراق القديم يعني رؤية الأنا الأوروبي للآخر اللاأوروبي، علاقة الذات الدارس بالموضوع المدروس. وكان نتيجة لذلك أن نشأ لدى الأنا الأوروبي مركب عظمة من كونه ذاتًا دارسًا كما نشأ لدى الآخر اللاأوروبي مركب نقص من كونه موضوعًا مدروسًا.

 أما في “الاستغراب” فقد انقلبت الموازين، وتبدلت الأدوار، فأصبح الأنا الأوروبي الدارس بالأمس هو الموضوع المدروس اليوم كما أصبح الآخر اللاأوروبي المدروس بالأمس هو الذات الدارس اليوم. وبالتالي تحوّل جدل الأنا والآخر من جدل الغرب واللاغرب إلى جدل اللاغرب والغرب. وهكذا فإن مهمة علم “الاستغراب” تتمثل، من وجهة نظر حسن حنفي، في “فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس. مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب، لغة وثقافة وعلما، مذاهب ونظريات وآراء، مما يخلق فيهم إحساسا بالدونية، وقد ينقلب إلى إحساس وهمي بالعظمة. وليس هذا إلا رد على مركب العظمة الدفين في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عنصرية ثقافية، لا صريحة أو ضمنية”[17].

فإذا كان “الاستشراق” هو دراسة الحضارة الإسلامية من باحثين ينتمون إلى حضارة أخرى ولهم بناء شعوري مخالف لبناء الحضارة التي يدرسونها فإن “الاستغراب” هو العلم المقابل بل والمضاد له. وبذلك يزول الخطر الماثل من اعتبار الحضارة الأوروبية مصدر كل علم، وما سواها من حضارة تعيش عليها، وتنتظر منها المذاهب والنظريات. لقد خلق هذا الموقف انحراف الحضارات اللاأوروبية كلها وانحسارها عن واقعها، وبترها من جذورها، والارتباط بالحضارة الأوروبية، والدخول في فلكها باعتبار أنها الحصيلة النهائية للتجربة البشرية. ويستمر حسن حنفي في بلورة أطروحته بلغة هيكلية مفادها أن كل حضارة أصبحت مغتربة خارج نفسها، مرتبطة بشيء آخر سواها، وبالتالي فإن مهمة هذا العلم الجديد إنما تكمن في إعادة الشعور اللاأوروبي إلى وضعه الطبيعي، والقضاء على اغترابه، وإعادة ربطه بجذوره القديمة، وإعادة توجيهه إلى واقعه الخاص من أجل التحليل المباشر له، وأخذ موقف بالنسبة لهذه الحضارة التي يظنها الجميع مصدر كل علم، وهي في الحقيقة حضارة غازية لحضارة أخرى ناشئة نشأة ثانية أو تعيش عصر إحيائها ونهضتها.

مهمة علم “الاستغراب”، إذن، تتمثل في القضاء على المركزية الأوروبية، (Eurocentrisme)، وبيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة. “مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء، ودور النشر الكبرى، ومراكز الأبحاث العلمية، والاستخبارات العامة. مهمته القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي يتوحد بها الغرب، ويجعلها مرادفة لثقافته، وهي الثقافة التي كل شعب أن يتبناها حتى ينتقل من التقليد إلى الحداثة. فالفن فنه، والثقافة ثقافته، والعلم علومه، والحياة أساليبه، والعمارة طرازه، والعمران نمطه، والحقيقة رؤيته. مع أن الثقافات بطبيعتها متنوعة، ولا توجد ثقافة أم، وثقافات أبناء وبنات. ومن هنا أتت عمليات المثاقفة التي تحدث عنها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية والتي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي أو التبادل الثقافي أو التثقيف وهي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب الجديدة والأنماط الأخرى للتقدم”[18].

وبعد ذلك تساءلت: ألا يعبر هذا الاستبدال للأدوار على محض عملية ذهنية تتم على مستوى التجريد الفكري والنظري، وأن أيلولة الذات الدارسة إلى ذات مدروسة، والذات المدروسة إلى ذات دارسة ليست مسألة “إرادوية”، مهما بلغت عبقرية الدارس سواء أكان فردا أو نخبة، وإنما تحتاج إلى دورة حضارية كاملة، وتحول تاريخي عميق وشامل في البنيات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية، والتقنية؟ وبالتالي فما ينطبق على “علم الاستغراب” ينطبق على “فلسفة التحرر؟

وفي نفس المناسبة سألته مسجلا أن القارئ لمشروعكم الفلسفي يلحظ وجود تقاطع قوي بين فلسفتكم ولاهوت التحرير ذي المرجعية المسيحية من جهة أولى، وبين فلسفتكم وبين الفلسفة الماركسية والفلسفة النقدية مع مدرسة فرانكفورت من جهة ثانية. ألا يطرح لديكم هذا الأمر أي نوع من أنواع الالتباس أو التناقض؟

ليؤكد أن هناك، فيما وراء الاختلافات والتباينات الظاهرة بينها، التقاء عميق من حيث النزوع النقدي والسعي إلى التجاوز والرغبة في التغيير الذي يطبعها جميعا ولو بدرجات متفاوتة، وهو نزوع لا يخلو من يتوبيا، فضلا عن استبطان الفلسفة الماركسية لبنية ثيولوجية عميقة.

كما ينتابنا شعور طاغ في مستوى من مستويات نقد “ديسال” الجذري للمركزية الغربية وللنظام الرأسمالي، وللظاهرة الاستعمارية بأن فلسفة التحرر توشك أن تغدو مواجهة فلسفية وحضارية شاملة، بل وفلسفة للانتقام[19].

رغم تأثر “إنريك ديسال” بفكر كل من مارتن هيدجر وليفيناس، فقد تناول بعمق وأصالة مسألة الكائن التي سبق لهذين الأخيرين أن طرحاها. فسعيا منه للتميز عن الفكر الجدلي الغربي، فقد اقترح اعتماد المنهج التحليلي (La méthode analytique) وهي المنهجية التي مكنته من التحكم والإمساك ليس فقط بتلابيب الواقع المدروس وإنما بطرح الأسئلة الحقيقية والمطابقة. وفي هذا السياق فقد خلص إلى أن مسألة الآخر لا تنطرح بطريقة فردية فحسب وإنما بطريقة جمعاتية (communautaire). وهي المقاربة التي مكنته من تجاوز الطرح المغلوط والمزيف لظاهرة الفقر، والنظر إليه باعتباره ظاهرة كثيفة وبنيوية (Masssif et structurel).

وضمن هذا الأفق يعد تحرير الشخص الفقير ومد يد العون والمساعدة إلى المحتاج الملهوف، من وجهة نظره، المعيار المطلق لأخلاق التحرير (Le critère absolu de l’éthique de la libération [20]). يتعلق الأمر، هاهنا، بتحرير شامل لا يندرج ضمن أي برنامج سياسي مخصوص. غير أن “ديسال” يشدد على أن هذا التحرير لن يكون ناجعا ودائما إلا إذا كان صادرا عن الشخص الفقير، كما يؤكد أن الضحية فقط هو من يستطيع تقدير قيمة وثمن الحرية.

فأخلاق التحرير لا تسعى إلى كفالة الحياة الكريمة للإنسان الفقير فحسب، وإنما تعمل على الاعتراف به كإنسان قادر على أخد مصيره بيده، وبهذا نتلافى السقوط في الأبوية ومنطق الصدقة و”الإحسان”، وهذا الاعتراف يمكنه من الأيلولة كائنا قادرا على بناء علاقات إنسانية حقيقية قائمة على العدالة والاحترام المتبادل بين الذات والآخر، وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن نسجل مدى عمق وغنى النزعة الإنسية التي يصدر عنها “ديسال”، ومدى إيمانه بالغيرية التي بمقتضاها تغدو العناية والاهتمام بالآخر مسؤولية مستقلة سابقة عن كل قرار[21].

 والفضاء الأمثل لتبلور مثل هذه العلاقات يتمثل في الجماعة؛ حيث يلتزم الأعضاء بالتعاون والتآزر في جو من الوئام والاحترام المتبادل بناء على وعي ذاتي يعبر عن نضج كل فرد وارتقائه في كنف الجماعة،  حيث تبدو أهمية وضرورة تشكيل جماعات التواصل الخاصة بالضحايا كنتيجة مباشرة للوعي بواقع التهميش[22]. وحيث ينخرط الأفراد ضمن مسار تحررهم انطلاقا من إيمانهم؛ وهو إيمان نقدي متين وصلب (Une foi critique et solide).

ومن هنا تنبع الحاجة الماسة إلى بلورة فكر أخلاقي ينافح عن الحقيقة الإنسانية في مواجهة شتى أنماط وأضرب الزيف والاستلاب والاستغلال والقهر خاصة في أمريكا اللاتينية حيث الصراع الإنساني مستميت ودائم من أجل الوجود والبقاء.

إذا كانت الأخلاق القائمة (La morale etablie) تبرر شتى أضرب السيطرة على الآخر وتهميشه وإلغاء وجوده، فإن الأخلاق الثيولوجية لـ”ديسال” تعلمنا بأن تحرير الضحايا يعد من المعايير التي تمكننا من الخلاص؛ ذلك أن التضامن الملموس والمسؤول ( La solidarite concrete et respectueuse ) مع شخص الضحايا يجد قبولا واستحسانا من طرف كل من يعتقدون ويتطلعون إلى عالم أفضل[23].

لقد بلور المؤلف قراءة نقدية جذرية، وهي القراءة التي لم تسعفه فقط في إحداث قطيعة مع محددات النظام القائم، وإنما مكنته من الغوص عميقا والإمساك بجذور واقع الظلم الممأسس. وفي هذا الإطار فقد جهد إلى وضع أساس نظري لفلسفة التحرير من خلال جدلية قهر/تحرر في السياق الأمريكولاتيني، وهو ما شكل عنصرا مؤسسا لفكره في تجاوز لكل أنماط التمركز الاصطفائي على الذات.

وهو الفكر الذي يتمحور حول واقع الإنسان المقهور والمهمش والمسحوق بفعل المعاناة الناتجة عن التدبير المختل للشأن العام للجماعة ومصالحها المشتركة[24]، وضمن هذا المنظور فإن جعل الحياة الإنسانية ممكنة يمثل المعيار الأساسي لمنظوره الأخلاقي[25]. ولأن أخلاق التحرير، لدى ديسال، تعد أخلاق حياة بامتياز، فما أن تتعرض إلى التهديد حتى تغدو أخلاقا نقدية انطلاقا من أفق الضحايا ورهاناتهم[26].

وفي هذا الإطار، ينطلق من فرضية أساسية تعتبر أن السياق الأمريكولاتيني يفرض كيفية جديدة للنظر الفلسفي والثيولوجي، بحيث من المستحيل التفلسف حول شخص مجرد، وكذلك من المستحيل صياغة خطاب ثيولوجي حول إله لا يعبأ ولا يشعر بالمعاناة الإنسانية. ومن هنا حمله على الآلهة الزائفة وإيمانه بالإله الحق.

تنطلق أخلاق التحرر لدى “ديسال” من المحددات والظروف التي تحكم حياة الناس في الأطراف وهم يعانون الحرمان والقهر والخوف. ولمواجهة هذا الوضع ما فتئ يدعو إلى اجتراح ممارسة تحررية تمكنهم من الانعتاق.

لا يعد مفهوم التحرر مفهوما ثابتا ومركزيا في أعماله فحسب، وإنما يكتسي بعدا تاريخيا؛ ذلك أن التحرر، بالنسبة إليه، يتعين أن يتم في التاريخ. مثلما أن تحرر الشخص الفقير يعد مبدأ مطلقا وكونيا ما دام هناك دوما أشخاص في حاجة إلى التحرر، ولذلك فقد فضل مفهوم الضحية على الفقير بفعل ما يستبطنه من أبعاد معيارية كونية، وهكذا فإن تحرير الضحية أمسى يمثل الركيزة الأساسية لفكره[27].

لقد فتح اكتشافه لأعمال الفيلسوف المكسيكي “ليوبولد زيا” Leopoldo Zea)) آفاقا جعلته يقتنع بإمكانية انخراط أمريكا اللاتينية في التاريخ العالمي انطلاقا من واقع فقرها. وانسجاما مع هذا التصور تكتسي حياة الشخص الفقير أهمية وقيمة قصوى لدى “ديسال” لدرجة أن  وجود الله وحضوره يتحددان بمدى تحقق الحياة الكريمة للشخص الفقير. وهذا الربط يجعل من أخلاق التحرر ثيولوجيا أساسية، مثلما يتحدد حضور إله الحياة ((Dieu de la vie في التاريخ من خلال القدرة على إنتاج وتنمية حياة كل فرد في كنف الجماعة[28].

ينطلق “ديسال” من السياق الأمريكولاتيني ليسلط الضوء على الخطابات والممارسات الأخلاقية الكبرى التي تخدم، من وجهة نظره، النظام القائم وتضمن بقاءه واستمراره، الأمر الذي يقتضي تغييرا جذريا (changement radical) يكشف حدود الوعي الأخلاقي لهذا النظام القائم.

وفي مواجهة شتى مظاهر الفقر والحرمان والتهميش والقهر حيث صراع الطبقات المستضعفة في أمريكا اللاتينية لا يكاد يكف من أجل البقاء، يشدد ديسال على وضع قيمة الحياة الخاصة بكل عضو من أعضاء الجماعة فوق كل اعتبار. وفي هذا الإطار تغدو الجماعة بمثابة الفضاء الأنسب لإنتاج وإعادة إنتاج الحياة وتنميتها وتطويرها[29].

يدلل الباحث (ديليس سيجور)  Délèce Séjourعلى أن “ديسال” يحاول إبراز العلاقة المتعالية القائمة بين أخلاق التحرر وبين إرساء “مملكة الله” من خلال جملة من المسارات التاريخية، وهنا تندرج فلسفته، كما سلفت الإشارة، ضمن لاهوت التحرير[30].

يبرز “ديسال” كيف أن الأخلاق القائمة عبارة عن نظام شمولي جائر يمعن في سحق الآخر وإلغاء وجوده، وبالتالي فإن التأمل التحليلي (réflexion analytique) في هذا النظام الجائر انطلاقا من مفهوم الغيرية (l’altérité) في بعدها الجوهري، يعد مرحلة أساسية في تفكيره.

فبالنسبة إليه، لم يقتصر الأمر على مجرد رسم مسار تاريخي للأخلاق من خلال لحظاتها الفارقة عبر العصور، أو من خلال مظاهر تقهقرها في بعض الثقافات، وإنما سعى إلى فهم وظيفتها في نمو كل فرد باعتباره كينونة اجتماعية، كما حذر من تصنيم الحقائق والقوانين والقيم[31].

وفي هذا السياق نجده ينتقد بشدة الدعوة إلى الفصل بين الاقتصاد والأخلاق؛ مميزا بين (léthique) و(Morale)؛ فالمفهوم الأول يحيل إلى الممارسة (La pracxis)، باعتبارها فعلا وعلاقة مع الآخر كشخص مقدس ومطلق (comme persone saint et absolu)، وهي الممارسة التي تعمل على اكتشاف الشخص الفقير وتحريره، كما يشير إلى كيفية الفعل والاستجابة، وكيفية احترام الآخر وخدمته؛ فما هو أخلاقي بمعنى (Ethique) لا يقاس بالمعايير الأخلاقية (Morales)؛ علما أن “الآخر” يشير في فلسفة “ديسال” إلى الشخص الفقير والمضطهد والمظلوم والمهمش المقصي الذي يوجد مستلبا خارجا النظام الاجتماعي العام. غير أنه سرعان ما يعود في مفارقة لا تخلو من التباس وتناقض ليخلص إلى أن الأخلاق بمعنى (Ethique) تتميز ببعدها التاريخي والنسبي بينما تتميز الأخلاق بمعنىMorale بكونها مطلقة ومتجاوزة للتاريخ[32].

الهوامش


[1]. Enrique Dussel, L’Etique de la libération a Léré de la mondialisation et de L’exclusion , Op Cit, p:91.

[2]. الأنطولوجية Ontology أو علم الوجود، أحد مباحث الفلسفة، وهو العلم الذي يدرس الوجود بذاته، الوجود بما هو موجود، مستقلاً عن أشكاله الخاصة، ويُعنى بالأمور العامة التي لا تختص بقسم من أقسام الوجود، الواجب والجوهر والعرض، بل تعمم على جميع الموجودات من حيث هي كذلك، وبهذا المعنى فإن علم الوجود معادل للميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة metaphysique. فهو نسق من التعريفات الكلية التأملية في نظرية الوجود عامة. وكان أرسطو في القرن الرابع ق.م، أول من أدخل مفهوماً عن مثل هذه النظرية التي عنى بها العلم حول أعم قوانين الوجود “علم الوجود بما هو موجود”.

يعود مصطلح الأنطولوجية إلى أصل يوناني من onto وتعني الوجود، وlogie أي العلم. وقد ورد هذا المصطلح أول مرة سنة 1613، في القاموس الذي ألفه رودولف غوكلينيوس Rudolf Goclenius. وأول من استخدم هذا المصطلح عنواناً لكتاب هو كريستيان فون وولف (1679-1754) hristian Von Wolff، في القرن الثامن عشر. ولا تكمن صعوبة تحديد مجال الأنطولوجية في حداثة المصطلح وحدها وإنما ترجع إلى الشكوك التي ترافق كلمة الوجود منذ أن استخدمها بَرمنيدس Parménide وقد حاول أفلاطون أن يبحث عن الوجود الثابت والخالد في المُثُل ideas، مضحياً بالوجود الحسي المتغير والزائل. ومع أن أرسطو لم يوافق أفلاطون على التجريد الذي تتصف به المُثُل فإنه ربط كأستاذه الوجود بالمعرفة، بل أصبح تعريف الوجود لديه مدخلاً لكل علم ممكن.

إن مصطلح “الوجود” طارئ على الفكر العربي الإسلامي، ذلك أن “فعل الكون” غير موجود في اللغة العربية كما هي الحال في اللغات الهندية الأوروبية. وقد شاع استخدام “الوجود” ومشتقاته في علم الكلام. لذلك ظهرت لدى الكندي محاولة لاشتقاق كلمة من أصل عربي لترجمة كلمة الوجود هي “الأيس” مقابل “الليس” وهو العدم. ومع الفارابي دخل مصطلح الوجود بقوة إلى الفلسفة العربية-الإسلامية، وترسخ فيما بعد مع ابن سينا، حتى شاع وانتشر وأصبح في كتب المتكلمين، من أمثال الجويني في كتابه “الإرشاد”، مرادفاً للفظ الجلالة الله. انظر:

 http://www.arab-ency.com

[3]“.Mon projet est à la fois strictement philosophique et exclusivement latino-américain”,De la philosophie de la libération, Entretien avec Enrique Dussel, réalisée par: Fatima Hurtado,in, Chahiers des ameriques Latines: philosophie de la libération et tournant décolonial, EDITEUR: IHEAL Éditions, ANNÉE D’ÉDITION: 2009, COLLECTION: Cahiers des Amériques Latines Deuxième série, p:39.

[4]. Enrique Dussel, L’Etique de la libération a Léré de la mondialisation et de L’exclusion. Traduit par Albert Kasanda Lumembu, Préface de Jacobin Wilke, L ‘Hamarttan, Paris,2002, p:81.

[5]. مع أن “ديسال” اعترض بشدة على من انتقده بالشعبوية، إلا  أن وجه المفارقة أنه لم يبد أي تحفظ على من انتقدوا موقفه من المثلية الجنسية؛ معتبرا أن هجوم “أوفيليا شوت” (Ofelia Schutte) عليه بهذا الصدد يعد عادلا تماما؛ معتبرا أنه باستبدال (L’homosexualité)  الذي لا يخلوا من وصم بمفهوم (L’autoérotisme) سوف ينحل الإشكال لتغدو المثلية بمثابة (Altérité autoérotique) Ibid, p: 40.

[6]. الفينومينولوجيا أو الظاهراتية؛ مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كمنطلق للمعرفة من خلال ما تمثله هذه الظواهر في الخبرة الواعية للمجتمعات. ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل هذه الظواهر وأساس معرفتنا بها. غير أنها لا تدعي إدراك الحقيقة المطلقة والمجردة سواء في “الميتافيزيقا” أو في العلم، بقدر ما تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم.ومع ان إرهاصاتها تعود إلى هيجل إلا أن مؤسسها الحقيقي هو إدموند هوسرل، تلاه فلاسفة آخرون أمثال: هايدجر، وسارتر، وميرلو بونتي، وبول ريكور الذي يعد من أبرز رمزها المجددين.

[7]. moi j’ ai une conception forte de la vérité ; comme un accès a la réalité. De la Philosophie de la libération; Entretien avec Enrique Dussel. P: 41.

[8].” La théorie de la dépendance a été dépassée , et avec elle la philosophie de la libération”, p 41.

[9] . من قبيل:

Teotonio dos santos, Maurio Marini, Cardoso..

[10]. Entretien avec Enrique Dussel, réalisée par: Fatima Hurtado,in Cahiers des Amériques Latines, Op Cit, p:42.

[11].” principe éthique de production, de reproduction et de développement de la vie”, Enrique Dussel,” L’Etique de la libération..” Op cit, p:38.

[12]. Karl Otto Apel, Discussion et responsabilité. II. Contribution à une éthique de la responsabilité. Traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz, Revue Philosophique de Louvain  Année 2001  Volume 99  Numéro 1  pp. 139-142.

[13]. Enrique Dussel, L’Etique de la libération a Léré de la mondialisation et de L’exclusion , Op Cit, p:113. Le bon ou le bien n’est d’aucune manière indéfinissable comme le pensait G.Moore, ni la simple incarnation des valeurs (comme pour Scheler ou Husserel), ni simplement le valide normatif d’Apl ou de Habermas ou le juste de Rawls: c’est quelque chose de très précis et complexe.

[14]. Ibid.  p:93.

[15]. Ibid.  p:112.

[16]. Ibid.  p:113.

[17]. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، (1412ﻫ/1992م)، ص16-24.

[18]. المرجع نفسه، ص25-29.

 [19] . On a le sentiment, dans un niveau de votre critique au centre occidentale, L’Égocentrisme, L’Eurocentrisme, que la philosophie de libération risque de devenir  une stratégie de lutte et  de confrontation totale. Comment évitez l’élision probable que la philosophie de libération ne soit pas une philosophie de vengeance !؟  

 [20] Délèce Séjour, L’éthique théologique de la libération d’Enrique Dussel: une réponse à la morale dominatrice, p 106.

[21]. Enrique Dussel, L’Etique de la libération a Léré de la mondialisation et de L’exclusion, Op Cit, p:156.

[22]. Ibid.  p:178.

[23] Ibid, p 106 -107.

[24].Ibid, p: 3-4.

[25]. Rendre la vie humaine possible est pour Dussel le critère fondamental de son éthique matérielle de la vie.

 [26]. Enrique Dussel, L’Etique de la libération a Léré de la mondialisation et de L’exclusion, Op Cit, p:199.

[27]. Ibid. p:138.

[28] Délèce Séjour, Op.cit, p 6.

[29]. L’étique de la libération a l’ère de la mondialisation et de l’exclusion, Traduit par Albert Kasanda Lumembu, Préface de Joachim Wilke, LHarmattan, Paris,2002, p17-18.

[30].Ibid, p7.

[31].Ibid, p11-9.

[32]. “tout ce qui est moral, (on se réfère à la morale comme système vécu) est relatif au système lui-même en tant que totalité concrète VOIR: Enrique Dussel, Éthique communautaire, Paris, Du Cerf, 1991, p. 106.

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق