مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

فاطمة الزهراء رضي الله عنها، سيدة نساء العالمين. (الحلقة الأولى)

 

 

 

إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

سيدة نساء العالمين في زمانها، رابعة بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد.

لقد شاء الله أن يقترن مولد فاطمة في السنة الخامسة قبل المبعث بقليل بالحادث العظيم الذي ارتضت فيه قريش (محمداً) حكما لما اشتد الخلاف بينهم حول وضع الحجر الأسود بعد تجديد بناء الكعبة، وكيف استطاع عليه الصلاة والسلام برجاحة عقله أن يحل المشكلة وتغمد سيوف الحرب بين قبائل مكة.

واستبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمولدها، وتوسم فيها البركة واليمن، فسماها فاطمة، ولقبها بــ (الزهراء). وكانت تكنى أم أبيها([1])، وكانت رضي الله عنها شديدة الشبه لأبيها صلى الله عليه وسلم.

وترعرعت فاطمة في بيت نبوي رحيم، يكلؤها بالرعاية والسهر على تربيتها لتأخذ قسطا وافرا من الأدب والحنان والتوجيه النبوي الرشيد، وممَّا تتمتع به أمها السيدة خديجة رضي الله عنها، من صفات زكية وسجايا حميدة.

وبذلك نشأت على العفة الكاملة، وعزة النفس، وحب الخير، وحسن الخُلق، متخذة أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، المثل الأعلى لها، والقدوة الحسنة في جميع تصرفاتها.

وما كادت الزهراء تبلغ الخامسة من عمرها، حتى بدأ التحول الكبير في حياة أبيها، بنزول الوحي عليه، وأحست من الوهلة الأولى بأعباء الدعوة، وشاهدت والدتها تقف إلى جانب أبيها وتشاركه في كل ما يواجهه من أحداث عِظام وخطوب جسام.

وشاهدت العديد من مكائد الكفار لأبيها العظيم فتمنت لو استطاعت أن تفديه بحياتها وتمنعه من أذى المشركين. ولكن أنَّى لها ذلك وهي في عمرها الصغير!.

وكان من أشدِّ ما قاسته من آلام في بداية الدعوة ذلك الحصار الشديد الذي حُوصر فيه المسلمون مع بني هاشم في شِعْبِ أبي طالب، حتَّى أثَّر الحصار والجوع في صحتها فبقيت طوال حياتها تعاني من ضعف البنية.

وما كادت الزهراء الصغيرة تخرج من محنة الحصار المُهْلِك، حتى فوجئت بوفاة أمها خديجة رضي الله عنها، فامتلأت نفسها حزنا وألماً وأسى.

ووجدت نفسها بعد وفاة أمها أمام مسؤوليات كثيرة وضخمة نحو أبيها النبي الكريم وهو يمر بظروف قاسية في سبيل الدعوة إلى الله، وخاصة بعد وفاة عمّه أبي طالب، وزوجته الوفية خديجة رضي الله عنها.

فما كان من فاطمة إلا أن ضاعفت الجهد وتحمّلت الأحداث في صبر محتسبة الأجر عند الله، ووقفت إلى جانب أبيها لتقدم له العوض عن أمها، أغلى الأمهات، وأكرم الزوجات، ولذلك كانت تُكنى بأم أبيها.

ولما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة لمست الدور العظيم الذي قام به علي بن أبي طالب بالمخاطرة في نفسه ليفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام في فراشه ليوهم شباب قريش. ثم تمهل رضي الله عنه ثلاثة أيام في مكة ريثما أدى عن النبي المهاجر الودائع التي كانت عنده للناس([2]).

وبقيت فاطمة وأختها أم كلثوم في مكة إلى أن أرسل النبي صلى الله عليه وسلم، صحابيا لإحضارهما. وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة للبعثة، وقد بلغت فاطمة عامها الثامن عشر. ورأت هناك في المدينة المهاجرين وقد اطمأن بهم المقام، وذهبت عنهم وحشة الاغتراب، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم، بين المهاجرين والأنصار. واتخذ رسول الله من علي رضي الله عنه أخا([3]).

وبعد أن تزوج رسول الله من السيدة عائشة رضي الله عنها تقدَّم كبار الصحابة لخطبة الزهراء بعد أن كانوا يحجمون عن ذلك سابقاً لوجودها مع أبيها وخدمتها إياه.

تقدَّم لخطبة الزهراء أبو بكر وعمر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتذر في رفق بالغ([4]).

ثم تقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليخطب إلى رسول الله ابنته فاطمة. فقال رضي الله عنه:

مالي من شيء، ثم ذكرت صلته، وعائدته فخطبتها إليه.

فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:

«وهل عندك شيء؟»، فقلت: لا يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: فأين درعك الحُطَمِيَّة التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟

فقلت: هي عندي يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: «فأعطها إياها»([5]).

وانطلق علي مسرعاً وجاء بالدرع، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يبيعها ليجهز بثمنها العروس. واشترى الدرع عثمان بن عفان رضي الله عنه بأربعمائة وسبعين درهماً، وسلَّم عَلِيٌّ الثمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعها عليه الصلاة والسلام إلى بلال ليشتري ببعضها طيباً وعطرا، ثم يدفع الباقي إلى أم سلمة رضي الله عنها لتشتري جهاز العروس.

ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم صحابته فأشهدهم أنه زوَّج ابنته فاطمة من علي بن أبي طالب على أربعمائة مثقال من فضة على السنة القائمة والفريضة الواجبة، وختم خطبة الزواج بمباركة العروسين، والدعاء لهما بالذرية الصالحة، ثم قدَّم إلى الضيوف من الصحابة الكرام وعاء فيه تمر.

وفي ليلة زفاف الزهراء إلى فارس الإسلام علي بن أبي طالب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم سلمة أن تمضي بالعروس إلى دار علي رضي الله عنه والتي جهزها لسكناهما طالباً أن ينتظراه هناك.

وبعد صلاة العشاء ذهب إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا بماء فتوضأ منه، ثم أفرغه عليهما، وقال:

«اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما» ([6]).

وفرح المسلمون بزواج الزهراء من الإمام علي رضي الله عنه، وجاء حمزة –عم محمد صلى الله عليه وسلم- وعم علي رضي الله عنه- بكبشين فنحرهما وأطعم الناس في المدينة.

ولم يمض عام على الزواج المبارك حتى أقر الله عين الزهراء وعيون من يحبونها فوضعت الحفيد الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (الحسن بن علي) في السنة الثالثة من الهجرة ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، فرحا كبيراً فتلا الأذان في مسمعه، ثم حَنَّكه بنفسه وسماه الحسن. وأماط الأذى عن رأسه وتصدَّق على الفقراء بزنة شعره فضة.

وما إن بلغ الحسن من العمر عاماً حتى وُلِدَ بعده (الحسين) في شهر شعبان سنة أربع من الهجرة([7]).

وتفتح قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لسبطيه الغاليين (الحسن والحسين) فقد رأى فيهما امتداداً لحياته الخاصة على هذه الأرض، فغمرهما بكل ما امتلأ به قلبه الكبير من حب وحنان.

ولما نزلت الآية الكريمة: (إنَّما يُريد الله ليُذهب عنكم الرِّجْس أهل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرا)([8]) كان النبي صلى الله عليه وسلم، عند أم سلمة رضي الله عنها، فدعا عليا وفاطمة والحسين والحسن فغطاهم بكساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال:

«اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»([9]).

وتتابع الثمر المبارك فولدت الزهراء في العام الخامس للهجرة طفلة أسماها جدها صلى الله عليه وسلم، (زينب). وبعد عامين من مولد زينب وضعت طفلة أخرى اختار لها الرسول صلى الله عليه وسلم، اسم (أم كلثوم).

وبذلك آثر الله فاطمة الزهراء بالنعمة الكبرى، فحصر في ولدها ذرية نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وحفظ بها أشرف سلالة عرفتها البشرية([10]).                                                                                                                         

العبر والدروس المستخلصة من القصة:

1-  فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، ذات الأصل الطيب، والفرع الطيب؛ فمثلها (كشجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء تُوتي أكلها كل حين بإذن ربها)([11]).

2-  بالإلهام الرَّبَّاني، ورجاحة العقل تُحَلُّ المعضلات وأعقد المشكلات.                               

3-  الاستبشار والفرحة بالمولود، ذكراً كان أو أنثى من باب شكر الهبة الإلهية، والعطية الربانية؛ لقوله تعالى: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور)([12]).

4-  مشروعية جواز الجمع بين الاسم والكُنية واللقب للشخص الواحد

5-  (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه)([13]).

6-  كثرة المصائب وتوالي المحن لم تؤثر في النفوس المومنة الصابرة.

7-  البرور بالوالدين، وخاصة في الأوقات الحرجة، يُعَدُّ من أعظم الصفات وأحسنها.

8-  الزوجات الصالحات يستوجبن المحبة والتكريم في الحياة، والتذكر والدعاء والترحم بعد الممات.

9-  المخاطرة بالنفس والروح من أجل الرسول، صلى الله عليه وسلم، غاية الجود وقمة الجهاد.

10- التآخي في الله عز وجل، من خصائص الإسلام، وهو أعلى درجة المحبة والإيثار.

11- رُخْصُ المهور من سماحة الإسلام وتيْسيره. وخير النساء: أرخصُهُنَّ مهراً، وأقلُّهنَّ مؤونة([14]).     

12- مشروعية الدعاء للعريسيْن بالبركة والتوفيق والذرية الصالحة.

13- الحسَن والحُسين ريْحانتا النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنته فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.                                                                                      

والحمد لله رب العالمين

 


([1]) أسد الغابة 6/ 220، سير أعلام النبلاء 2/ 119، الإصابة 14/ 87.

([2])  السيرة النبوية لابن هشام 2/ 99.

([3])  السيرة النبوية لابن هشام 2/ 109، الاستيعاب 3/ 1098، أسد الغابة 4/ 87، الإصابة 7/ 275. وانظر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» في: سنن الترمذي، باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم الحديث: (3720)، ج: 6/ 80، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 109، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: 2/ 147، حاشية السندي على سنن ابن ماجه، باب فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: 1/ 58.    

([4])  طبقات ابن سعد 8/ 19. والحديث بنصه كما هو في سنن النسائي، كتاب النكاح، باب تزويج المرأة مثلها في السن، رقم: (3221) ص: 498، وفي مستدرك الحاكم، رقم: (2762) 2/ 199، وفي الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، رقم: (6948) 15/ 399، من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، قال: «خطب أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها صغيرةٌ، فخطبها عليٌّ فزوَّجها منه». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في مشكاة المصابيح، رقم: (6104): صحيح الإسناد 3/ 1723. وعلق شعيب الأرنؤوط على الحديث وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم. ويرى الدكتور بدر العمراني أن هذا الحديث ضعيف لا يصح، وخبره منكر؛ وذلك في كتابه: (بين الزهراء والصِّدِّيق رضي الله عنهما حقيقة وتحقيق) ص: 51.

([5])  طبقات ابن سعد 8/ 20، ومسند أحمد، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم: (603) 2/ 41.

([6])  طبقات ابن سعد 8/ 21، والإصابة 14/ 92.

([7])  لمزيد المعرفة بترجمة حياة الحسن والحسين رضي الله عنهما، انظر ترجمتهما في: صحيح البخاري، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما 5/ 26، وصحيح مسلم، باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما 4/ 1882.

([8])  سورة: الأحزاب، من آية: 33.

([9])  انظر: مسند أحمد، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3061) 5/ 178، وصحيح مسلم، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (2424) 4/ 1883، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، رقم: (3558) 2/ 451.

([10]) القصة من كتاب: نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لمؤَلِّفَيْه: محمود مهدي الإستانبولي، ومصطفى أبو النصر الشلبي، ص: 143- 148.  

([11]) سورة: إبراهيم، من الآيتان: 24، 25.   

([12]) سورة: الشورى، من آية: 49.   

([13]) سورة: الأعراف، من آية: 58.   

([14]) كما في الحديث الشريف: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة». مسند أحمد، رقم: (25119) 42/ 54.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق