مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةأعلام

علم في الذاكرة: عبد الملك البلغيثي من أعلام فاس (1322_ 1434هـ/1903_2012م)

بسم الله الرحمن الرحيم

 والصلاة والسلام على نبينا محمد

 وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إن ما يميز هذه الأمة تعدد علومها وفنونها الشرعية، وقد اعتنى العلماء منذ قرون بكل فن على حدة، وبذلك خدموا الشريعة الغراء كل في تخصصه، فحصل التكامل بين العلوم، فلا يمكن الاستغناء عن علم من علوم الشريعة.

وإن من أجل العلوم علم تراجم الرجال، الذي يتطلب سعة علم واطلاع، وعلم التراجم على أربعة أنواع:

النوع الأول: التراجم العامة؛ إذ قد اهتم العلماء بتراجم علماء جميع الفنون الشرعية، إما مرتبين على الطبقات، أو الحروف، أو تخصيص قرن من القرون بالذات.

النوع الثاني: التراجم الخاصة؛ إذ قد اهتم العلماء بتراجم رجال كل فن على حدة، ذلك أن علماء فن القرآن الكريم وعلومه عنوا بترجمة رجاله، وعلماء فن الحديث الشريف والسيرة العطرة وعلومهما اهتموا برجالهما، وهلم جرا، وصولا إلى فن الأدب وعلومه.

النوع الثالث: التراجم المعيَّنة؛ إذ قد اهتم العلماء بترجمة عالم واحد في كتاب، فيتناول بالدراسة حياته منذ ولادته إلى وفاته.

النوع الرابع: التراجم الذاتية؛ منهم من اهتم بترجمة نفسه، وهذا شائع عند العلماء، ليس رياء وإنما التحدث بنعمة الله عز وجل عليهم.

ومن هذا النوع الرابع، أورد في هذا المقال ما صنعه علم شامخ، وفاته المنية ليس بالزمن الطويل، إنه ابن العلامة المحدث، الأديب: أحمد بن المامون البلغيثي الفاسي (المتوفى عام: 1348هـ): الأديب الأريب المعمر العلامة عبد الملك البلغيثي.

  فقال رحمه الله تعالى: “ولدت بفاس سنة 1322هـ ، وبها نشأت و قرأت الكتاب العزيز على أساتذة أجلة، ثم لما ولي والدي عضوية الاستئناف بعاصمة الرباط، أصحبني معه فأتممته هناك، ثم لما ولي خطة القضاء بآنفا سنة 1333هـ  أدخلني مدرسة أبناء الأعيان، وبها قرأت على من كان بها من الأساتذة الفضلاء شيئا من العربية، والفرنسية، والحساب، والجغرافيا، ثم لما رجع والدي لفاس تحولت معه، وتلقيت منه دروسا في مواضيع مختلفة، ثم عاد لعضويته بعاصمة الرباط، فمكثت مدة الإقامة بتلك العاصمة، أحضر مجالس السادات الأعلام، وأقتطف من رياض معلوماتهم ما تشتهيه الأعين وتلذه الأرواح، فقرأت على الفقيه العلامة المحدث الشريف سيدي المدني بن الحسني الرباطي[1] فنونا أدبية، وعلى الأخص بعض معلقات العرب، كما قرأت عليه مختصر أبي الضياء خليل، وتحفة ابن عامر، وخلاصة ابن مالك، وعلى الفقيه العلامة المحقق الأديب سيدي محمد السايح الرباطي[2] قافية ابن الونان بشرحه، كما قرأت على غيرهم من علماء الحضرة الرباطية، وانتفعت بهم واغتنمت صالح أدعيتهم وفر الله جمعهم، ثم إن الوالد رعاه الله انتقل لمكناسة الزيتون سنة1341هـ  متقلدا خطة القضاء بها، فتحولت معه لها، واشتغلت بالقراءة عليه منقولا ومعقولا، وحديثا، وغير ذلك، وحضرت بها بالمدرسة الثانوية، وقرأت على أساتذتها ما أمكنني تحصيله من: الحساب، والتصوير، ومبادئ علوم العصرية، ثم انتقلنا لفاس سنة 1343هـ، وبها قرأت على مولانا الوالد[3] الصحيحين، والشفا، والأصول، والنحو، وغير ذلك كمختصر خليل، والمنطق، والسعد، وفنونا من الأدب، ثم قرأت على ابن عمنا الشريف العلامة المحدث مولانا عبد السلام بن عمر[4] مختصر خليل، وبعضا من همزية الإمام البوصيري، وعلى الفقيه العلامة المشارك شيخ الإسلام الشريف سيدي أحمد بن الخياط[5] رحمه الله، وعلى العلامة المحدث سيدي الفاطمي الشرادي[6] رحمه الله، وغيرهم من علماء الكلية القروية، كالمنعم العلامة المحقق سيدي بناني[7]، وعلى الشريف العلامة مولاي عبد الله بن إدريس العلوي الشهير بالفضيلي[8]، وعلى الفقيه المدرس مَحمد -فتحا- بن الكبير ابن الحاج[9]، وعلى الفقيه العلامة الفلكي الشهير سيدي مَحمد -فتحا- العلمي[10] كمية وافرة من علم التوقيت، وعلم الهيئة، وعلم التعديل والحساب، وكان كثير المساعدة معنا رغما على ما هو منوط به من الأشغال حتى إن جل هذه الدروس تلقيناها منه بمنزله أطال الله. هذه ترجمة حياتي منذ خرجت للوجود إلى يوم 5 محرم عام 1345هـ.

ثم إني منذ فرقت بين الشمال واليمين، وأنا أصبو إلى الأدب وأهله، حتى إني جمعت كمية وافرة من أدباء المغرب للقرن الرابع عشر، ضمنتهم في تأليف سميته: المنار[11]، ولا زال تحت يد التنقيح، وعن قريب يصدر بحول الله تعالى، كما أني شارع الآن في شرح مختصر الأفاردة، ذلك المختصر العجيب، الذي تحق معرفته على كل أديب، ولي ديوان شعر صغير[12]، وشرح على قافية ابن الونان مقتصرا فيه حل المفردات الغريبة”[13]. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقد ترك هذا العلم الفذ جملة من المؤلفات في فن الأدب ورجاله، فمن ذلك:

1-باقة شعر: مختارات من ديوانه، طبع على الحروف بالمطبعة العصرية بفاس، سنة 1366هـ، موافق سنة: 1947م في جزء صغير في 130 صفحة[14].

2-راح الأرواح: طبع بمطبعة السلام بفاس، سنة: 1983 في 196 صفحة[15].

3-كتاب المنار: جمع فيه كمية وافرة من أدباء المغرب مع مختارات من شعرهم في بداية القرن 14هـ/20م، حققه: الدكتور محمد حجي، وهو من منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا-المغرب، 1426/2005.

إن هذا العالم المعمر الأديب عبد الملك البلغيثي، لم يكتف في الأخذ عن شيوخه في فن الأدب وعلومه، بل ارتوى من معين فني الحديث الشريف والسيرة العطرة وعلومهما، من خلال قراءته صحيحي البخاري ومسلم، وكذا كتاب الشفا للقاضي عياض، على كبار العلماء المحدثين في الرباط وفاس، بدءا بوالده: العلامة المحدث الأديب أحمد بن المامون البلغيثي رحم الله الجميع.

وأختم هذا المقال بقصيدة وطنية، وهي ضادية نظمها في ذكر مزايا المغرب، ولها شهرة طارت كل مطار:

لست تلقى كالمغرب الفذ أرضا***ولو اجتزت الأرض طولا وعرض

كرمت منبتا وطابت هواء***ونعيما فليس يبرح غضا

يتناجى السحاب والأرز فيها***من تآخ يصافح البعض بعضا

يصدح الطير فيها بأناشيد***لها الوحش يركض ركضا

جنة من مناظر تلهم الشعر***بجو نقي من الصحو غضا

وغصون من الرياحين نشوى***نفضت نورها على الأرض نفضا

أين لبنان من نواح لإفران***إذا الأرز جاء يعرض عرضا

ذي بلادي ينهال منهال اعتزازي***نابض حبها من الروح نبضا

***************

هوامش المقال:

[1]- هو: محمد المدني بن الغازي ابن الحُسْني الرباطي (المتوفى عام: 1378هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له محمد حجي في معلمة المغرب (10 /3436-3437) مع مصادرها.

[2]- هو: أبو المواهب محمد العربي بن محمد بن محمد السايح المكناسي الرباطي (المتوفى عام: 1309هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له عبد العزيز بن عبد الله في معلمة المغرب (14 /4832-4833) مع بعض مصادرها.

[3]- هو: أبو العباس أحمد بن المامون بن الطيب البلغيثي، قال عنه ابنه عبد الملك في كتابه المنار (ص: 27): “لقد استقصيت في ترجمته التي جعلتها له بمناسبة طبعي لكتابه: تشنيف الأسماع في أحكام الجماع، جميع تآليفه والمناصب العالية التي تقلب فيها، وشيوخه المغاربة والمشارقة، مع ذكر من أجازوه شرقا وغربا”. وتنظر ترجمة الأب التي صنعها محمد حجي في معلمة المغرب (4 /1339-1340) مع مصادر الترجمة.

[4]- هو: أبو محمد عبد السلام بن عمر العلوي المدغري الفاسي (المتوفى عام: 1350هـ)، ترجم له غير واحد من العلماء، منهم: عبد الملك في كتابه المنار (ص: 83_91).

[5]- هو: أبو العباس أحمد بن محمد بن عمر ابن الخياط الزكاري الفاسي (المتوفى عام: 1343هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له محمد حجي في معلمة المغرب (12 /3888-3889) مع بعض مصادرها، وكذا مقدمة تحقيق فهرسته الكبرى والصغرى (ص: 5_28).

[6]- هو: محمد الفاطمي بن محمد بن حمادي الفاسي (المتوفى عام: 1344هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له محمد حجي في معلمة المغرب (15 /3524) مع بعض مصادرها.

[7]- هو: عبد السلام بن محمد بن أحمد بناني الفاسي (المتوفى عام: 1347هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له عثمان بناني في معلمة المغرب (5 /1481) مع بعض مصادرها، إلا أن فيها: عبد السلام بن الحسن بن أحمد.

[8]- هو: عبد الله بن إدريس بن أحمد العلوي الفضيلي الفاسي (المتوفى عام: 1363هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له عبد المجيد بوكاري في معلمة المغرب (19 /6472-6473) مع مصادرها.

[9]- هو: محمد بن عبد الكبير ابن الحاج السلمي المرداسي الفاسي (المتوفى عام: 1378هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له جعفر ابن الحاج السلمي في معلمة المغرب (10 /3248) مع مصادرها.

[10]- هو: مَحمد بن محمد بن إبراهيم العلمي الفاسي (المتوفى عام: 1373هـ)، تنظر الترجمة التي صنعها له محمد حجي في معلمة المغرب (18 /6149-6150) مع بعض مصادرها.

[11]- طبع بتحقيق: محمد حجي، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا-المغرب، سنة: 1426 /2005.

[12]- طبع بعنوان: باقة شعر، على الحروف بالمطبعة العصرية بفاس-المغرب، سنة: 1366هـ.

[13]- الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج (2 /206_208).

[14]- دليل مؤرخ المغرب الأقصى لابن سودة (ص: 260)، معجم المطبوعات المغربية للقيطوني (ص: 40).

[15]- مقال بيبليوغرافيا الشعر العربي الحديث والمعاصر بالمغرب 1936-2000 لمحمد قاسمي.

***************

جريدة المراجع

الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 2005، عن مطبعة فضالة، المحمدية-المغرب، الطبعة الأولى: 1347 /1929.

بيبليوغرافيا الشعر العربي الحديث والمعاصر بالمغرب 1936_2000 لمحمد قاسمي، مقال نشر بموقع إتحاد كتاب المغرب.

دليل مؤرخ المغرب الأقصى لعبد السلام بن عبد القادر ابن سودة المري الفاسي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1418 /1997.

الفهرسة الكبرى والصغرى لأبي العباس أحمد بن محمد بن عمر ابن الخياط الزكاري الفاسي، تحقيق: محمد بن عزوز، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1426 /2005.

معجم المطبوعات المغربية لإدريس بن الماحي الإدريسي القيطوني الفاسي، تقديم: عبد الله كنون، اعتناء: عبد الوهاب بن إدريس القيطوني، مطابع سلا، سلا-المغرب، 1988.

معلمة المغرب لجماعة من الباحثين بإشراف: محمد حجي، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 1410 /1989.

المنار (مختارات من الشعر المغربي في بداية القرن 14هـ/20م) لأبي مروان عبد الملك بن أحمد بن المامون البلغيثي الفاسي، تحقيق: محمد حجي، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا-المغرب، الطبعة الأولى: 1426 /2005.

راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق