مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

عبر من حادثة الإفك

ذ/ نافع الخياطي

روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ … قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ، وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي، أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يَثْقُلْنَ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا.

فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ، وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ يَدَهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ.

وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيّ بْنِ سَلُول، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ: مُتَبَرَّزُنَا، لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ، أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا!؟ قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.

ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ، فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟ فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ الْعَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُول، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ، وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ، وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي

.
قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي؛ إِذْ اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ. فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ، لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ؛ إِذْ قَالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).

ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا؛ أَنْ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ، احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: )إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ( الْآيَاتِ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ-: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا إِلَى قَوْلِهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ.

حديث الإفك، حدث عظيم في تاريخ الإسلام، وحدث خطير في تخطيط من روَّج له، من الكذابين والمرجفين، قصد إشاعة الفتنة في البيت النبوي، وبين صفوف المسلمين، ومحاولة التشكيك في الرسالة المحمدية، والطعن في عِرض رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطيبات الطاهرات، العفيفات أمهات المؤمنين، وفي مقدمتهن عائشة الصديقية، رضي الله عنهن جميعا.

ونسِيَ الأفَّاكون الظالمون أن الله لهم بالمرصاد (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون)([1])، يُخَيِّب ظنهم، ويفضح دسائسهم، ويكشف ظلام أفكارهم الخبيثة، وأفعالهم الرَّديئة الشنيعة بنور الحق.

ولم يعلموا أن الله عز وجل سمَّى نفسه نوراً (الله نور السموات والأرض…)([2])، وسمّى كتابه العزيز نوراً: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا)([3])، وسمى نبيَّه محمداً، صلى الله عليه وسلم نورا، وشريعته التي جاء بها نوراً: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)([4]).

وبسبب حادثة الإفك الأليمة، أنزل سورة من سور القرآن، تسمى: “سورة: النور”؛ لتحوّل ظلام الكذابين وبهتانهم إلى لوحات مشرقة من النور الإلهي الشامل الممتد، الذي يُظهر الحقيقة الناصعة (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد)([5])، ويُبرِّئ عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، في وحْيٍ يتلوه المومنون الصادقون، المنتفعون بتلاوته، وتوحيده، وأحكامه، ومواعظه، آناء الليل، وأطراف النهار، إلى ما شاء الله تعالى.

سورة: “النور” مدنية، وآياتها: 64 آية. نزلت بعد سورة: “الحشر”، وتضمنت عدة أحكام، وآداب إسلامية رفيعة الشأن، منها: أحكام القذف، والقاذف، والمقذوف، والشهادة.

كما تضمنت الغاية القصوى في الاعتناء بعائشة، رضي الله عنها، والكرامة لها، والتشديد على من قذفها.

“وقد خرَّج حديث الإفك: البُخاري ومسلم، وغيرهما. واختصارهُ: أن عائشة، رضي الله عنها، خرجت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في: “غزوة بني المُصْطَلِق”؛ المسماة أيضا: “غزوة المُرَيْسِيع”، فضاع لها عِقد، فتأخرت على التماسه، حتى رحَل الناس، فجاء رجلٌ يقال له: “صَفوان بن المعطل”، فرآها، فنزل عن ناقته، وتنحَّى عنها حتى ركبت، وأخذ يقود الناقة، حتى بلغ الجيْش، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا، فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال رجال، رَمَوْا أهلي، واللهِ ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجُلا، ما علمتُ عليه إلا خيرا، وسأل جارية عائشة، فقالت: واللهِ ما علمتُ عليها إلا ما يعلم الصَّائغ على تِبْرِ الذهب الأحمر…”.

وقد كان من جملة العصبة التي روَّجت حديث الإفك: عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول: رأس المنافقين، وحَمْنَة بنت جحْش، ومِسْطَح بن أُثاثَة؛ ابن خالة أبي بكر الصديق، وحسّان بن ثابت، في رواية، وقيل إنه لم يكن مِنهم.

وقوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسِ بوهُ شرّاً لكم، بل هو خير لكم…)([6]). قال الإمام ابن جُزَيّ الكَلْبي في كتاب: (التسهيل…):

“والخيْر في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرْية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المُفْترين”.([7])

وحديث الإفك يشتمل على دروس وعبر كثيرة، لا يمكن حصرها، ولو خُصصت لها مؤلفات، ومصنفات بعينها. فمنها- مثلا-:

1ـ الدلالة القاطعة على نبوة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، حيث ظنَّ بأهله خيراً، والتزم الصَّبر، حتى يأتي الوحي من السماء، وفي انتظاره حُكْمَ ربه لمدة شهر كامل، أعظم دلالة على نبوَّته.

2ـ وجوب التمسك بالصبر في الشدائد كلِّها، وانتظار الفرج الذي وعد الله به المومنين، ولنا القدوة الحسنة في نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وخاصة في فتنة الناس؛ بعضهم لبعض: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)([8]).

3ـ وجوب المحافظة على أعْراض المومنين والمومنات، وزجر، وردع من يحاول العبث بحرمة الناس جميعا، ولاسيما من خصَّهن الله عز وجل بالثناء عليهن في قوله:

(إن الذين يرمون المحصنات، الغافلات، المومنات، لُعِنُوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)([9]).

4ـ وجوب التثبت، عند سماع الأخبار الخطيرة، والامتناع عن نقلها- إن كانت مما يجوز نقله- تطبيقا لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)([10])، وقوله: (لولا إذ سمعتموهُ ظن المومنون والمومنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين)([11]).

5ـ شدَّة وقْع الظُّلْم على النفوس الأبيَّة البريئة، مثل عائشة، رضي الله عنها، حيث قالت: “فظللت ثلاثة أيام، لا يرقَأُ لي دَمْعٌ، ولا أكْتحل بنوم، ولا يغمض لي جفنٌ، حتى ظننت أن كبدي سينْفطِرُ من شدة البكاء”.

6ـ جرت سنة الله في خلقه أن الأخيار يُبتلوْن بالأشرار، لكنِ النصر في النهاية يكون لمن احتسب وصبَر.

7ـ توعَّد الله الظالمين المعتدين بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.

8ـ يجب التعاون- فيما بين الناس- على الخير ونشر الفضائل، ويَحْرُم التعاون- فيما بينهم-  على نشر الشر والفواحش والرذائل؛ لقوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة…)([12]).

9ـ كثير من الأمور التي يعيشها الإنسان يوميا قد يحسبها هيِّنة؛ لا حرج فيها، وهي من عظائم الأمور عند الله تعالى: (…إذ تَلَقَّوْنَهُ بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيِّناً وهو عند الله عظيم)([13]).

10ـ وجوب التيقُّن بأن المصائب والمحن، يكفر الله عز وجل بها للمومن الصابر، السَّيِّئات، ويرفع لهُ بها الدرجات.

11ـ وجوب التعامل مع المنافقين، المتقلبين في أقوالهم، وأفعالهم، وولاءاتهم بحذر شديد؛ لأنهم كانوا وسيبقون دائماً خطراً على الأفراد والجماعات.

12ـ وجوبُ نشر الأخلاق الإسلامية النَّبيلة في المجتمع؛ كالعفو والصَّفح، والإيثار، والرحمة، وخاصة على الأقارب، وإن أساءوا؛ كما صفح أبو بكر، رضي الله عنه، وعفا عن “مِسْطح” الذي خاض في حديث الإفك، فقطع عنه النفقة والإحسان إليه حتى نزل قوله تعالى:

(ولا ياتل أولوا الفضل منكم والسَّعَة أن يوتوا أولي القربَى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)([14]). فقال أبو بكر: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى الإحسان إلى مِسْطَح، وكفَّر عن يمينه.     

13ـ تتجلى في الحدود، والتعزيرات، قيمة المحافظة على أرواح الناس، وأعْراضهم، وأموالهم، لقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)([15]).              

 


([1]) سورة: إبراهيم/ 42.

([2]) سورة: النور/ 35.

([3]) سورة:النساء/ 174.

([4]) سورة: المائدة/ 15ـ 16.

([5]) سورة: ق/ 37.

([6]) سورة: النور/ 11.

([7]) كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل؛ لابن جزي الكلبي؛ ط. دار الكتب العلمية، ج: 2/ ص: 84ـ 85.

([8]) سورة: الفرقان/ 20.

([9]) سورة: النور/ 23.

([10]) سورة: الحجرات/ 6.

([11]) سورة: النور/ 12.

([12]) سورة: النور/ 19.

([13]) سورة: النور/ 15.

([14]) سورة: النور/ 22.

([15]) سورة: البقرة/ 179.

read here married men who cheat
viagra were to buy viagra 100 pictures which is better bialis or viagra
dating a married woman how many men have affairs how many women cheat
mifepristone misoprostol pregnant on the pill prices for abortions
redirect link abortion pill process
prescriptions coupons click discount coupon for cialis
bystolic coupon 2013 bystolic generic alternative

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق