مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

عالمية الخصوصية في الخطاب القرآني

العالم والعالمون: الوحدة أم التنوّع؟

يستعمل النصّ القرآنيّ مجموعتين من المصطلحات تتضافر فيما بينها لنسج مفهوم العالميّة: مجموعة ترتبط بالنسيج المجتمعيّ وما كان سائدا عند العرب من أعراف ومؤسسات. تفضي هذه المصطلحات في جملتها إلى دلالة مباشرة على أنّ الرحمة الإلهية شاملة للناس جميعا في قدرتهم على التحرّر من الشرك. أما المجموعة الثانية فتعتبر تأسيسيّة ورمزيّة إذ ترتبط بالأصل والمآل المشترَكين للإنسان. يلتقي هذان الصنفان من المصطلحات القرآنيّة ضمن منظومة انبنى عليها مفهوم العالميّة في القرآن.

يتميّز هذا المفهوم بأنّه يعبر عن استعداد شامل للناس جميعا من أجل القطع مع الوثنيّة معتقدا وتصوّرات. كما يستحضر، خاصّة عن طريق بعض الأعلام التي يعتمدها الخطاب القرآني، غاية القطيعة مع الشرك. تصبح العالميّة، من جهة، التعبير عن قابليّة الجميع للاستجابة للرحمة الإلهية ومن جهة ثانية القدرة على التجسد في واقع الناس ومجريات الأحداث. يمكن القول، بعبارة أخرى، إنّ عالميّة الإسلام ضمن المنظومة القرآنيّة تقوم على مبدأين:

  1. وحدة الأصل الإنساني التي تعني التأكيد على أنّ الناس جميعا مهما كان اختلافهم يرجعون إلى أصل واحد. نستشفّ هذه القاعدة في أكثر من آية من مثل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [سورة النساء/الآية: 1].
  2. الحضور الإلهيّ في التاريخ المتمثل في العناية الموصولة التي تتابع صيرورة العالم و”تتدخل” فيها عند الاقتضاء. صرّح بذلك القرآن الكريم في أكثر من مناسبة خاصّة في الردّ على منكري النبوّة من المشركين. ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا﴾ [سورة الجن/الآية: 7]. ذلك ما جعل كلام الله حيا بمعالجته لواقع الأمة الناشئة فيكون سبحانه في تعاليه عن كلّ شئ غير مهْمِل لأيّ شيء، وبخاصّة الإنسان المرتبط بعهد الله المتبوئ به لمكانة السيادة.

من خلال هذين المبدأين اللذين يمثلان توجها تأسيسيّا لم يكن للعرب خاصة في الشمال عهد به… ومن  خلال سبعة مصطلحات لها تطورها الدلالي، انتظم الحقل المفاهيميّ للعالميّة. ذلك الحقل الذي لم يتحوّل آليا إلى مستند مرجعي في مسألة العالميّة.

تتكوّن المجموعة الأولى من المصطلحات المفاتيح من أربع عبارات، هي:

أ. الناس: هي أكثر العبارات ورودا في النصّ القرآنيّ (241 مرّة) وهي موّزعة بنسب متقاربة بين آيات مكيّة وأخرى مدنيّة. تستعمل أحيانا اسم جنس لكل البشر وعندئذ تكون لفظة ذات دلالة عامة وأقرب لما ذهب إليه ابن منظور حين ذكر أنّها جمع لكلمة إنسان[14]. لكننا نجد استعمالين آخرين يخصّصان المعنى العام؛ الأوّل: مجازيّ يكون إشارة إلى قوم مخصوصين لا يراد تحديدهم فيورّي عن ذكرهم صراحة باستعمال ما يسميه البلغاء إطلاق الكلّ وإرادة الجزء. عندئذ تستعمل كلمة الناس ويقصد بها المهاجرون والأنصار كما تعني في آية أخرى المنافقين [سورة البقرة/الآية: 8] أو بني إسرائيل [سورة آل عمران/الآية: 21] أو قبيلة بني ثقيف [سورة البقرة/الآية: 168]. ذهب علقمة (ت.62/681) أنّ لفظة الناس مع النداء “يا أيّها” تكون مؤشرا على أنّ الآية مكيّة وأنّ المقصود بالخطاب عموم أهالي مكّة. وفسّر مجاهد (ت.104/724) آية ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[البقرة:213] بقوله: إنّ الناس تعني آدم لأنّه أصل النسل[15] .

انحسر الاهتمام بهذا التنوّع في استعمالات العبارة لصالح الدلالة العامة فأصبحت شاملة لبني آدم قياسا على القاعدة الأصوليّة العبرة بعموم اللفظ.

الاستعمال الثاني: يحقق به النصّ القرآنيّ حركة مفهوميّة لعبارة الناس تخرجها عن الإطلاق الذي فرضه عليه عموم المفسرين فتحيل القارئ إلى ضرب من الخصوصيّة العربيّة القديمة. في هذا الصدد يمكن الاستشهاد بخمس آيات تتضافر في التأكيد على ما سجله أصحاب السير من مشاغل اجتماعيّة وثقافيّة كانت بارزة قبيل ظهور الإسلام في مكّة وما جاورها.

آية ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ وآيات أخرى [سورة اَل عمران/الآية: 68] و[سورة يونس/الآية: 31] و[سورة هود/الآية: 118] و[سورة الزخرف/الآية: 33]،  تلجأ كلّها إلى عبارة الناس في إطار تأسيس رؤية قرآنيّة لمستقبل الأمّة هي في جانبها الشكلي استعادة للرؤية العربيّة الشماليّة للتوحّد الاجتماعي مصاغة صياغة جديدة.

لشرح هذه الحركة المفهوميّة ينبغي التذكير بما عرفه الضمير العربيّ القديم منذ القرن الخامس الميلادي من تشرذم العشائر العربيّة التي كانت تجمّعت في القرن الرابع حول قريش باعتبار انتسابها لأب مشترك والتفافها حول الكعبة رمزها الموحد. نتج عن هذه الأزمة أن فقدت الثنائيّة التي سادت عهودا والقائمة على مركزيّة قريش أو (نحن) بالنسبة إلى ما عداها أو (الناس)، كل أهميتها.

ما حرص عليه الخطاب القرآنيّ هو استعادة الثنائيّة (نحن/الناس) ضمن حقل جديد. لذلك أصبحت (نحن) تعني المنتمين للتوحيد والناس هم ما سواهم من المشركين. بهذا الانزلاق في الدلالة تأسست وجهة جديدة للتقويم منقطعة عن رابطة قرشية تشرذمت إذ لم تتمكن من مواكبة تحوّل مكّة من قرية كبيرة محاطة بقرى أصغر إلى مدينة مركزية[16].

مصطلح الناس في استعماله الثاني يرتبط بتحوّلات اجتماعيّة هامة عرفتها مكّة، وكانت مصحوبة بصراعات دامية بين الأحلاف والأحياء أثبتت أكثر فأكثر أنّ الروابط القديمة اهترأت وأنّ قريشا لم تعد على شيء، وأنّ وحدة القوم تتطلّب أكثر من الإيلاف وأكثر من الجدّ الجامع… لذلك كانت نبوّة محمد عليه السلام في جانبها الاجتماعي الثقافي تأسيسا جديدا للجذر القديم متجاوزا روابط الدم والمكان والتجارة إلى آفاق جديدة لا تقطع مع الماضي في جانب، بل تمكّن “أمّ القرى” من أن تنمو وتستمرّ. 

ب. العالمين: تحتلّ هذه العبارة المرتبة الثانية بعد لفظة الناس فيما يتصل بمفهوم العالميّة وأكثر ورودها في السور المكيّة: 49 مرّة على جملة 73 وأكثر ما وردت فيه هو تركيب “ربّ العالمين” (42 مرّة). اختلف القدامى اختلافا كبيرا في تفسيرها و تحديد طبيعتها فهي عند البعض اسم لا مفرد له مثل قوم أو رهط وتعني جميع الخلق وكلّ الموجودات [سورة الشعراء/الآية: 23]، بينما هي عند من يجعل لها العالم مفردا كلّ من يعقل من الإنس والجنّ والملائكة والشياطين. يذهب بعض الصحابة المطّلعين على اليهوديّة إلى جعلها مرادفة للدنيا وإشارة إلى وجود عوالم عديدة لا تحصى وأنّ دنيا الناس هي إحداها. ما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد هو أنّ النظر في سياقات الآيات التي وردت فيها هذه اللفظة ينتهي بنا إلى حقلين اثنين: الأوّل تغطّيه ثلاث آيات فقط كان استعمال “العالمين” فيها عامّا يرادف عموم الناس [سورة الاَعراف/الآية: 80] و[سورة الشعراء/الآية: 165] و[سورة العنكبوت/الآية: 28]. أمّا الثاني فتشمله الحالات الثمانية والخمسون التي تصبّ كلّها في مسار واحد هو تمجيد الذات الإلهية وإبراز عظيم قدرتها. يتمّ هذا التركيز من خلال تنوّع في مجالات الاستعمال: فمن استعراض لملكوت السماوات والأرض وما فيه من التسخير [سورة الاَعراف/الآية: 54] و[سورة غافر/الآية: 64] إلى الكشف عن بعض مظاهر جلاله يوم القيامة [سورة الزمر/الآية: 75] و[سورة العنكبوت/الآية: 6]؛ ومن الاستشهاد بمن اصطفاهم الله من الأنبياء والأمم [سورة البقرة/الآية: 131] و[سورة الاَنعام/الآية: 86] إلى الإعراض على من كفر وتجبّر [سورة ءال عمران/الآية: 97] و[سورة الاَنعام/الآية: 162]. إذا أضفنا إلى هذه الوجهة الكونيّة لاحظنا أن عبارة “العالمين” لم ترد في القرآن إلا في صيغة الجمع مما يرجّح أنّها لا تعني فقط العقلاء من المخلوقات إنّما كلّ الموجودات في ما سوى الله.

لذلك أمكن القول إنّ “العالمين” عبارة ذات قيمة عقائديّة متميّزة خاصة في تركيبها مع لفظة “ربّ”، فهي تجلّي وحدة الله وتنزيهه مقابل مفهوم الألوهيّة الوثنيّ والقبليّ السائد عند العرب، وإزاء المفهوم القوميّ الذي كان يعتزّ به خاصة اليهود في الجزيرة [سورة البقرة/الآية: 122] و[سورة الاَنعام/الآية: 86].

جاءت هذه العبارة إذن متساوقة مع مبدأ وحدة الأصل الإنساني ولإعادة تأسيس ثنائية نحن/الناس إنقاذا للنسيج الاجتماعي الثقافي العربي على أساس قيمة جديدة هي تضامن الموحدين أو عالميّة التوحيد.

يتضّح من كل هذا الجانب العقدي لعالميّة القرآن، أنّها تعني أنّ الله الغنيّ عن المخلوقات أراد أن يكون قريبا من الإنسان مستجيبا له حريصا على هدايته كما قضى أن يكون للعالَم وجهة ومعنى دائمان.

ما تؤديه عبارة العالمين من وظيفة دلاليّة في هذه الاستعمالات جميعا يظلّ واحدا: إثبات الحضور والتعالي الكاملين إزاء سائر المخلوقات وفي كل الأزمنة والأمكنة. على أساس هذا التعالي الكامل تنسحب القداسة من أرجاء الكون كلّه وتنفتح أمام الإنسان كلّ السبل ليرسي علاقات موضوعيّة مع العالم ويبقى بعد ذلك الحضور الإلهي المتواصل الدعامة الأقوى للإنسان ذلك الكائن المهيّأ للنموّ بذاته.

جـ. الأمّة: هي العبارة الثالثة التي اعتمدها المفسرون لإرساء مفهوم للعالميّة هو أكثر مسايرة للواقع السياسيّ الإمبراطوريّ الذي انخرط فيه المسلمون، وأبعد عن طبيعة الرؤية الإنسانية التي يكشفها الخطاب القرآنيّ والذي تبرزه الحركيّة المفهوميّة الملحوظة في عبارات اعتمدها القرآن مطوّعا إياها في الوجهة التوحيديّة التي يريد.

يستعمل النصّ القرآنيّ عبارة “أمّة” جمع “أمم” بوفرة (64 مرّة) وفي سياقات ثلاثة كلّها تحمل فكرة الوجهة والقصد وهي الفكرة التي نجدها في الجذر أ.م.م. الذي اشتُقت منه العبارة.

تُستَعمل الأمّة في مستوى أوّل بمعنى المجموعة الكبيرة من الناس أو الطائفة من الجنّ أو الفصيلة من الحيوانات [سورة الاَعراف/الآية: 38] و[سورة الأحقاف/الآية: 8] و[سورة القصص/الآية: 3] و[سورة الاَعراف/الآية: 164] و[سورة الحج/الآية: 67] و[سورة المائدة/الآية: 66] فهي تدلّ على كلّ تجمّع يحمل خصائص محدّدة توحّده وتميّزه عمّا عداه وهو ما أتاح لهذه العبارة أن تمتدّ دلالتها لتدلّ على الفترة من الزمن [سورة الاَعراف/الآية: 34] و[سورة يونس/الآية: 49] و[سورة هود/الآية: 8]؛ وكأنّ تصنيف الكائنات يجعل لكلّ منها حدّا يحدّه في الزمن لا يمكنه أن يتجاوزه.

يظلّ هذا الاستعمال الأوّل التصنيفيّ قائما حتّى عند الحديث عن أحوال الناس يوم القيامة [سورة البقرة/الآية: 83] متيحا بذلك المجال لاستعمال ثان يقع فيه الدفع بفكرة التمايز بين المجموعات وما يترتب عليها من حدود زمنيّة إلى مدى أبعد تكتسب فيه الأمّة معنى الطريقة باعتبار أنّ وراء كلّ تجمّع قاسما مشتركا [سورة الزخرف/الآية: 22] و[سورة الأحقاف/الآية: 18] و[سورة الجاثية/الآية: 28]. هذا التوسّع في الدلالة يجعل التعدّد في الموجودات يحمل في ثناياه عناصر التوحّد؛ فسواء أفسرنا الأمّة، كما ذهب سعيد بن جبير بخصوص آية: 118 من سورة هود، بأنّها تعني أهل الدين الواحد أم أنّها الشريعة [سورة المائدة/الآية: 18] أم أنّها الرجل الجامع للخير الذّي يعلّم الناس [سورة النحل/الآية: 120]، فإنّ ما ينبغي التركيز عليه هو أنّ الأمّة تحقق التنوّع اللازم للحياة وتحقق أيضا الاشتراك في ثوابت قارّة [سورة النحل/الآية: 93] و[سورة الحج/الآية: 34] ذلك أنّ وراء الأشباه والأضراب مذهبا جامعا ينظّم استمرارها.

بعد هذين المستويين نجد درجة ثالثة تتعلّق بالأمّة التي تكوّنت حول الرسول والتي يستعمل لها القرآن نعوتا مختلفة فهي أمّة وسط وأمّة مسلمة وأمّة واحدة وخير أمّة [سورة البقرة/الآية: 143-128-231] و[سورة آل عمران/الآية: 110]. تؤدي جملة هذه الأوصاف إلى أن أفضليّة هذه الأمّة يتمّ بتحقق جملة صفات اكتسابيّة يعتبر أغلب المفسرّين أنّ أوّلها إقامة العدل.

ما يمكن الانتهاء إليه من هذه المستويات الثلاثة لمصطلح الأمّة هو أنّ الخطاب القرآنيّ يقرّ بأنّ التصنيفات المميّزة لكلّ تجمّع تحمل خصوصيّة كلّ منها وقيمة وجوده وحدود تلك القيمة. ليس هناك   إذن ما يدعو إلى القضاء على تلك الفوارق باعتبار أنّ تلك المجتمعات البشريّة، على اختلافها، تحمل معنى تميّزها. لا يعني هذا أنّ لا تفاضل بين الأمم بل إن مصدر التفاضل يمكن أن يرجع إلى نسبة تحقق قيمة العدل على يد الأمّة التي تريد أن تكون خير أمّة. ذلك كان رأي من قال بضرورة الإبقاء على التنوّع ولزوم الاعتبار بالآيات المؤكّدة على استمراره [سورة المائدة/الآية: 48] و[سورة هود/الآية: 118] و[سورة النحل/الآية: 93]. في حين تبنى آخرون، خطابا تمجيديّا متجاهلين البناء المتدرّج لمصطلح الأمّة وعلّقوا على أفضليّة أمّة محمّد على الأمم [سورة آل عمران/الآية: 110] بقولهم مخاطبين المسلمين: إنّكم “تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتّى يدخلوا الإسلام”[17]. يفضي الانضواء في هذا التمشّي الأخير إلى تجاهل قيمة أخرى للعالميّة القرآنيّة التي تعني حماية التنوّع وتكامل الخصوصيّات وتناسقها.

د. القرية: إذا كانت لفظة “العالمين” في الخطاب القرآنيّ تنطلق من بعد كونيّ لتؤسس مضمونا عقديّا وثقافيّا وتفضي إلى رؤية مختلفة للإنسان ومعنى مغاير للعالم فإنّ لفظة القرية، جمع قرى، (المذكورة 56 مرّة) تعرض إلى مستوى آخر هو عالم البشر في حراكهم الجمعي منظورا إليه من نفس الزاوية المميّزة للخطاب القرآنيّ: زاوية العلاقة بين الإنسان والله. القرية القرآنيّة إمّا ظالمة (39 مرة) وإمّا مباركة (7مرات) وهي أيّا كان أمرها لا يمكن أن تخرج عن دائرة العدل الإلهيّ: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [سورة الأنعام/الآية: 131]. هو العدل الذّي تصوّره أحيانا مشاهد الغضب الإلهيّ المسلّط على بعض القرى ولكنّه بالأخصّ العدل الذّي يتّضح من إرسال الرسل إليها [سورة الأعراف/الآية: 94-101] وما كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم إلا تجسيدا لهذه العناية الموصولة: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [سورة الاَنعام/الآية: 92].

المؤكّد أنّ مفهوم النبوّة كان جديدا على الذهنيّة العربيّة المكيّة خاصّة[18]، وهو في اتّصاله بالعدل الإلهيّ إنّما يرمي إلى تأسيس مفهوم مغاير للألوهيّة مقارنة بما كان سائدا من معتقدات لدى عرب الشمال. ثمّ إنّ الخطاب القرآنيّ يتوصّل من وراء هذين المفهومين الجديدين، محليّا، إلى إبراز إنسان مختلف أساسُ الجدّة فيه هو إحساسه بالمتعالي القريب وإدراكه لمسؤوليّته فيما يفعل.

الملاحظ من هذه العلاقة التكامليّة والتاريخيّة بين النبوّة والتوحيد ومسؤوليّة الإنسان أنّها تترسّب من خلال قراءة تركيبيّة للآيات التي تتحدّث عن الأمم السابقة في علاقتها بأنبيائها وبمصير بعض “القرى الظالمة”؛ هذا ما يجعلنا نعتبر أنّ مصطلح القرى شديد الارتباط بالخصوصيّة العربيّة الشماليّة لأنّه انصّب على معالجتها وتجاوزها. لكن ذلك لم يمنع المفسّرين القدامى من أن يتّجهوا الاتّجاه المعاكس فيتجاهلوا هذه الوشيجة العربيّة الكامنة في مصطلح القرية وما تحمله من عناية لتلك الرابطة المحليّة التي يستدعي تجاوزها وإعادة تركيب عالمها.

ما اعتنى به المفسرّون هو ظاهر الترابط بين مصير القرى جميعها وما يؤدّي إليه من فهم إمبراطوري للعالميّة مقتضاه أنّ جميع الناس قد خلقوا ليكونوا مدعوين ومستعدين للدخول في الإسلام. عن طريق تعميم دلالة عبارة قرية وإهمال مقتضيات السياق الذّي وردت فيه وقع تهميش الخصوصيّة العربيّة وما يرتبط بها من حراك، كلّ ذلك من أجل شموليّة تتناسب مع واقع المسلمين السياسي. لا أدلّ على ما نقوله ممّا ذهب إليه القرطبيّ مثلا في تفسيره للآية: 92 من سورة الاَنعام والآية: 7 من سورة الشورى، إذ يشرح تكليف الرسول بإنذار أمّ القرى وما حولها بأنّ رسالته لجميع الآفاق وسائر الخلق[19]؛ رغم أنّ ظاهر اللفظ ومقتضى السياق لا يفيد ذلك.

هكذا تحكّم الواقع السيّاسيّ الإمبراطوريّ الذّي انخرط فيه المسلمون بعد خروجهم من جزيرتهم في إضفاء دلالات على النصّ لا يسمح بها استعمال اللفظ.

إذا نظرنا إلى هذه المصطلحات الأربعة من جهة تكاملها فيما بينها ومن جهة ترابطها مع مبدأ التنوّع والاختلاف ومن جهة ثالثة مع الغاية التصوّريّة للكون ومكانة الإنسان فيه وطبيعة علاقته بالله، إذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الجوانب تعذّر التوصّل إلى مفهوم يسعى إلى إلغاء خصّوصيّات الأمم الأخرى بحجّة أفضليّة أمّة محمّد وقدسية كلّ جهاد من أجل نصر دعوته. مع ذلك فإنّ ما رسّخه المفسّرون القدامى كان مبنيّا على توجّه مغاير ساعدهم على إرسائه فهم خاصّ للمجموعة الثانية من العبارات المكوّنة من ثلاثة أسماء لشخصيّات تاريخيّة رمزيّة: إبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام.

يعرض النص القرآني إلى إبراهيم عليه السلام في 69 موضعا تتوزّع بنسب شبه متساوية بين ما تنزّل بمكّة (32 آية) وما تنزّل بعد الهجرة بالمدينة (37 آية). بهذا الحضور يمكن أن نعتبر شخصيّة إبراهيم محوريّة في كامل البنية القرآنيّة رغم أنّ ثلاثة ملامح أساسية تتوزّعها. هناك من جهة إبراهيم الباحث عن الحقيقة والملاقي من أجلها كلّ أنواع العنت مع أهله وقومه. ثم هناك الأب المؤسّس للحنيفيّة المتجاوزة للمذهبيّات الضيّقة المستبعدة للآخرين عن العناية الإلهية. وراء وجه الباحث عن الحقيقة ووراء الجذع الحنيفيّ يرسم الخطاب القرآنيّ وجهة ثالثة هي وجهة إبراهيم الخليل، القريب من الله المتسائل عن قدرته المحكّم عقله في استعراض ملكوته. لا شكّ أنّ هذه الملامح القرآنيّة لشخصيّة إبراهيم ليست كلّ الملامح التّي كانت له في التصوّر اليهوديّ مثلا. لكنّ الوحي اختار منها ما رآه أشدَّ مناسبة مع دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وظروف قومه ومع الآفاق التّي يريد الوحي أن يفتحها أمام الحسّ الدينيّ والوعي الإنسانيّ[20].

يمثّل نوح عليه السلام بعد إبراهيم وجها ثانيا من الوجوه التّي يعتمدها الخطاب القرآنيّ لمعالجة مسألة العالميّة. إذا نظرنا إلى نوح في البناء القرآنيّ رأيناه يقدّم في الآيات المدنيّة القليلة التّي يذكر فيها (8 مرّات) مبدأ الحنيفيّة دين الفطرة الذّي يضع على خطّ واحد كلّ الأنبياء الداعين إلى التوحيد والذّي يرفض استبعاد أيّ جماعة بشريّة من الرحمة الربّانيّة. كذلك وفي عدد قليل آخر من الآيات نجد في نوح صورة للرسول المؤسس الذي تجتمع حوله الأمة الطاهرة مندفعة لبناء حياة جديدة[21]، لكن جلّ الآيات الأربع والثلاثين التي يذكر فيها نوح إنما تبرزه نبيّا صابرا على عناد قومه وتكذيبهم.

نجد في هذه الصورة تكاملا مع صورة إبراهيم وتوكيدا على ما ورد فيها من معان؛ ففي الصورتين مراعاة لسياق الأحداث وتحدّياتها كما كان يجلّيها واقع النبض الجديد للجزيرة العربيّة في مواجهة دعوة الرسول وخاصّة في مواجهة قاعدة وحدة الأصل الإنسانيّ التّي يرفضها مشركو مكّة رغم أنّها حتميّة لإخراج أمّ القرى من أزمتها القاتلة. هذا المعنى لم يكن ليخفى على القدامى من المفسّرين فكانوا يصرّحون في أكثر من مناسبة أنّ الغرض من إيراد هذا الجانب من قصّة نوح أو إبراهيم هو تسلية الرسول. ما لا يتناوله القدامى هو دلالة هذه المماثلة بالنسبة إلى علاقة النبوّة بالماضي والحاضر؛ بعبارة أخرى هل أنّ من مهام النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم تصحيح صورة الماضي بقطع النظر عن الحاضر الذّي يخترقه الوحي ويحياه الرسول أم أنّ من مهّامه تغيير الحاضر باستعادة جوانب من الماضي تُعتمد بقدر متطلّبات الحاضر وبحسب المقصد الإلهيّ من الرسالة؟ لا شك أن الاقتصار في تفسير الإحالات على مقاطع من دعوة نوح وإبراهيم بمسألة تسلية الرسول قد غيّب من مهامّ النبي موقعه التاريخي بين ماض ممتد وواقع ضاغط وضرورة التركيب بينهما وبين توجهات الوحي.   

ندرك أهميّة هذه المسألة حين نعالج الشخصيّة الثالثة، شخصيّة آدم.

إذا قصرنا النظر على ما نصّ عليه القرآن من ذكر لآدم رأينا أنّ الآيات الخمس والعشرين المتحدّثة عنه تتوزّعها ثلاث لوحات أساسيّة:

– خلق آدم من تراب [سورة آل عمران/الآية: 59].                                  

– آدم في الجنّة ووقوعه في المعصية [سورة الأعراف/الآية: 19] و[سورة طه/ الآيات: 115-117-120-121].

– استخلاف آدم وتوابع ذلك في ذرّيته [سورة البقرة/الآيات: 31-33-37] و[سورة الأعراف/الآيات: 27-31-35] و[سورة يس/الآية: 60].

اعتنى المفسّرون القدامى بذكر تفاصيل متعدّدة عن أبي البشر وأوّل الأنبياء كما سجّلوا الاختلافات بين علماء الحديث حول خلقه من طين وإقامته في الجنّة ثمّ الخروج منها إلى الأرض. كانوا في ذلك كما كانوا بخصوص نوح وإبراهيم خاضعين للسنّة الثقافيّة السائدة في شمال الجزيرة ومنطقة العراق والشام حول هذه القصّة المؤسسة. لذلك انصبّ اهتمام المفسّرين القدامى في شرح قصّة آدم وقصص نوح وإبراهيم على جوانب التوثيق التاريخيّ في حين كان امتناع النصّ القرآنيّ عن كلّ سرد تتابعيّ أمرا واضحا. كان الحرص القرآني قائما على الانتقاء المقصود مثبتا أنّ هذه الشخصيّات تحمل قيما نموذجيّة هي أكثر تأثيرا في الواقع من لو أنّها كانت متجهة إلى التدقيق التاريخيّ الحدثيّ. رغم ذلك فإنّ هذه القصّة مكّنت الذهنيّة العربيّة الشماليّة من اكتساب فكرة جديدة عن إنسان كونيّ ضارب في القدم وممتدّ في أنحاء الأرض متجاوز للإنسان المقيَّد بأفق إله القبيلة، وللإنسان المنحسر بفرديّته المطموسة بعشائرية طاغية[22].

يمكن الآن أن نوضّح الغائيّة من استحضار شخصيّات إبراهيم، نوح وآدم. إنّه تأسيس رؤية كونيّة في فضاء ثقافيّ كان معزولا عن سياق أمميّة التوحيد. ما أظهره الوحي في الوجوه الرمزية الثلاثة هو تأسيس متكرّر للعقيدة التي لا ينبغي لمجموعة بشريّة أن تُستبعد منها. هو في نفس الوقت استجابة لسياق اجتماعيّ كان في أشدّ الحاجة إلى أواصر لا تتنكّر للماضي ولكنّها تؤسس على قواعد جديدة وآفاق أكثر اتساعا. بعبارة أخرى يمكن القول إنّ الوجوه الثلاثة تلبّي بالوحي متطلبات عالم عربِ الشمال للخروج بهم من أزمتهم الاجتماعيّة القيميّة الخانقة إلى أفق دينيّ حضاري مغاير لما كان معروفا لديهم ولما كان سائدا لدى جيرانهم من الموحّدين: يهودا ونصارى.

تلك هي الحنيفيّة التّي أرساها الرجال الثلاثة، إنّها تجاوز لعوامل الإقصاء المختلفة التّي كانت ترزح تحتها أمّ القرى وما حولها باسم الإله الواحد الذّي أصبح أقرب لإله قومي لا يعدل بين البشر؛ بهذا المعنى تصبح عالميّة الرجال الثلاثة متناسبة إلى حدّ كبير مع الخصوصيّة العربيّة التّي استدعتها؛ فلا غرابة إن لم نجد التطابق الذّي يحرص عليه البعض بين ملامح الثلاثة في القرآن وملامحهم في العهد القديم. مثل ذلك التطابق لا يمكن أن يطالب به إلاّ أحد رجلين: إمّا رجل يعتبر أنّ العناية الإلهية لا تتجلّى إلاّ مرّة واحدة أو لقوم دون سواهم، وإمّا رجل يعتبر أنّ الوحي إذا تنزّل في عالم الناس فإنّه سيكون إطلاقيّا لا يعتني بسياقهم التاريخي والاجتماعيّ.

ما تبديه الحنيفيّة القرآنيّة من خلال ملامح الوجوه الثلاثة المؤسّسة هي التوحيد في أفق عالميّ متحرر من الصيغ الطائفية المحدودة القامعة، لكنه توحيد يتقبّل في نفس الوقت الاعتبارات التاريخية ويتفاعل معها. إنه ذلك التوحيد الذي تفاعل وظل كذلك مع تعدديّة أوضاع الأمم المختلفة السابقة والمتبيّن لأبرز خصوصيّاتها من أجل إنجاز هويّة ساعية إلى رضاء الله. ذلك يعني، في كلمة، حضور الحقّ في عالم الثقافة الخاص.

من ثَمّ أمكن القول إن الحنيفيّة هي “الاستعلاء” إزاء الطائفيات بالحرص على بقاء تنوّع التجارب الإيمانية باعتبار أنّ هذا التنوّع هو الذّي يمكّن من دفع مختلف الهويّات الثقافيّة لأن تحقق ذاتها بالانخراط التدريجي في أممية التوحيد. هذا التعدد الذي يعتبر من أفضل الطرق لارتقاء الإنسان بنفسه أيا كان موقعه أو ماضيه يحقق للحنيفيّة مزيدا من التوهّج والفاعلية.

هذا التصوّر الذّي أرسته الوجوه الثلاثة يجعلنا نعتبر التعدديّة الثقافيّة صيرورة للتوحيد الذي لا يسعى إلى إلغائها بل لا يتحقق إلا بها وبتوسيع آفاقها. يتأكّد هذا المعنى عندما نربطه بالمصطلحات الأربعة الأولى المتّصلة بمفهوم العالميّة. فقد ساهمت تلك المصطلحات، كما حاولنا أن نبيّنه آنفا، في تحوّل المفاهيم العربيّة وذلك بفضل الاستعمال المتدرّج والمتناسق الذّي أقامه الخطاب القرآنيّ. كان الهدف من هذا التطوير الدلالي هو إعادة تأسيس للضمير الدينيّ العربي وتغيير البنى الاجتماعيّة التيّ يرتكز عليها؛ كل ذلك تجسيدا للتوحيد حين يخترق الثقافة فيصيغ منها هوية جديدة ويزيد بذلك تألّقه.

من ثَمّ كانت المصطلحات السبعة قد حققت تكاملا دلاليا قصد بناء رؤية جديدة للكون ومكانة مختلفة للإنسان، وكان البعد العالميّ لهذه الرؤية يعتمد على فهم مغاير للتاريخ والعالم؛ فهمٍ وثيق الاتصّال بحاجيّات الأمّة الناشئة وتجربتها الوجوديّة والروحيّة. هنا يكمن سرّ قوّة التمشّي القرآنيّ؛ فهو تمشّ يقوم على ثنائيّة الحركة التّي تركّب بين طاقات الحاضر والماضي وبين إمكانيات الوحدة والتعدّد وبين أبعاد الوحي والتاريخ.

هي الحركة التّي يمسك بأطرافها المتعدّدة صاحب الرسالة الذّي تنصهر في وعيه وحسّه ووجدانه آليّة التمشّي القرآني الجدليّة مولّدة وعيا جديدا للحقيقة الأبديّة. هذا ما يصفه هشام جعيّط أدقّ وصف حين يقول محدّدا طبيعة النبوّة بأنّها سموّ “الرسول فوق البشريّة العاديّة حيث يقيم في ذاته ثمّ يموضع تجربة الإلهيّ المنسابة، السطحيّة عند الآخرين، لكنها الحاضرة، لا محالة، بما يكفي ليتلاقى معها الإنسان  وحتّى يتجدّد هذا التلاقي كلّما ولد وعي في العالم”[23].

هي النبوّة، ذلك الوعي الإنسانيّ المكتسب الذّي يبدع نفسه عبر” ذهاب و إياب مُجَدْلَنٍ بين داخل الوعي وما وراء العالم”..”[24].

مثل هذا التصور الجديد للنبوّة ما كان له من قاعدة يمكن له أن يعتمد عليها في الماضي ضمن وسط ثقافيّ لا يفكّر في ترابط الوحي مع نموّ التاريخ الإنسانيّ ولا في الصلة بين عالم الرسول الثقافي وبين وعيه النبويّ؛ أي لا يولي عناية للخصوصيات المحليّة في رسم أفق ثقافي جديد للعالميّة.

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية
Science

د. احميده النيفر

أستاذ التعليم العالي بجامعة الزيتونة، تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق