مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

صيحة في سبيل العربية

 

تمهيد:
توالت الصيحات المدافعةُ عن اللغة العربية تباعا منذ عصور الانحطاط، والمنددةُ بما تعرضت له لغتنا من إهمال وتهميش من طرف أبناء جلدتها، والداعيةُ إلى نهضة العربية وثقافتها، وكان الشعر إلى جانب النثر في خدمة هذه الدعوة، فهذا حافظ إبراهيم يصيح بلسان العربية في قصيدته  «اللغة العربية تَنعى حظها بين أهلها» والتي نشرت سنة 1903م، قائلا:

تمهيد:

توالت الصيحات المدافعةُ عن اللغة العربية تباعا منذ عصور الانحطاط، والمنددةُ بما تعرضت له لغتنا من إهمال وتهميش من طرف أبناء جلدتها، والداعيةُ إلى نهضة العربية وثقافتها، وكان الشعر إلى جانب النثر في خدمة هذه الدعوة، فهذا حافظ إبراهيم يصيح بلسان العربية في قصيدته  «اللغة العربية تَنعى حظها بين أهلها» والتي نشرت سنة 1903م، قائلا:

رَجَعْتُ لنفْسِي فَاتَّهَمْتُ حَصَاتِي            وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَياتِي

رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَابِ وَلَيْتَنِي           عَقِمْتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي

وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي             رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتـِي

إلى أن يقول:

وأَسْمَعُ للكُتَّابِ في مِصْرَ ضَجَّة            فأعلَمُ أنَّ الصَّائِحِينَ نُعَاتِي

أَيَهْجُرُنِي قَومِي – عَفَا اللهُ عَنْهُمُ-           إلى لُغَة لَم تَتَّصِل بِرُوَاةِ؟

سَرَتْ لُوثَةُ الإفْرَنْج فِيهَا كَمَا سَرَى        لُعَابُ الأَفَاعِي فِي مَسِيلِ فُرَاتِ(1)

وهذا شوقي يحض على صيانة اللغة باعتبارها من أبرز مظاهر الهوية فيقول:

وصُنْ لغةً يحِقُّ لها الصِّيانُ              فخيرُ مظاهِرِ الأُمَمِ البَيَانُ

وكان الشعبُ ليس له لِسانٌ     غريباً في مواطِنِهِ مَضِيمَا

*   *   *

أَلم تَرَها تُنَالُ بكل ضَيْرِ    وكان الخيرُ إذ كانت بخيرِ

أَيَنطقُ في المشارقِ كُلُّ طيرِ  ويَبقى أَهلُها رَخَماً وَبُومَا(2)

وهذا علال الفاسي يصيح في المغرب الأقصى دفاعا عن العربية فيقول في قصيدته «اضطهاد لغة القرآن»:

إِلَى مَتَى لُغَة القُرآنِ تُضْطَهَدُ         وَيَسْتَبِيحُ حِمَاهَا الأَهْلُ والوَلَدُ

أَمَا يَرَونَ انَّهَا فِي الدَّهْر عُدَّتُهمْ        ومَالَهم دُونَهَا فِي الكَوْنِ مُلْتَحَدُ

وَلَنْ تَقُومَ لَهُم فِي النَّاسِ قَائِمَةٌ      أَو يَسْتَقِيم لَهُم فِي العَيْشِ مَا نَشَدُوا

فما أحوجنا إلى مثل هذه الصيحات في عصرنا الحديث !!!

والكلام المنثور في هذا الباب كثير ولا سبيل إلى حصره، وسنقصر الكلام في هذا السياق على كتاب «صيحة في سبيل العربية مقالات من أجل نهضة العربية وثقافتها»، يقول محرر الكتاب:” وإحدى أهم خلاصات هذا الكتاب: التنبيه إلى أن مصيبتنا في لغتنا تتضاءل دونها كل مصيبة […] وهذه الصيحة موجهة، بصورة أولية، إلى أصحاب القرار والتخطيط والتوجيه والتنفيذ في مجالات التعليم والإعلام والتشريع..” (3). 

مؤلف الكتاب:

ولادته:

وُلِد العلامة محمود محمد الطناحي – رحمه الله- عام 1935م، بمحافظة المنوفية بمصر.

حياته العلمية ومصنفاته:

جَلَس الطناحي في حياته العلمية إلى كبار المحققين للتراث العربي وتتلمذ على يديهم واغترف من بحر علمهم مثل الشيخ عبد السلام محمد هارون ومحمود شاكر وقد ” كان الطناحي من أحب تلاميذه ومريديه إليه، وأكثرهم ملازمة له، ومعرفة بعلمه، وإحاطة بمناهجه”(4)، إضافة إلى عبد الفتاح الحلو ومحمد محيي الدين عبد الحميد وفؤاد سيد، مما مكنه من اكتساب خبرة واسعة بتحقيق النصوص التراثية، وكذا بالخطوط العربية وتاريخها، فكان خير خلف لخير سلف كما يقال.  

وقد خدم التراث العربي والثقافة الإسلامية خير خدمة، يقول ابنه محمد الطناحي:” لقد كان – رحمه الله تعالى- عالما من جلة العلماء الباحثين المتعمقين في التراث الإسلامي، تحقيقا وتدريسا له وتعريفا به وانقطاعا إليه واستغراقا وبحثا فيه، خدم الثقافة الإسلامية خير خدمة من خلال موقعه العلمي المتميز أستاذا مبرزا في أعرق الجامعات العربية، وعضوا ومستشارا وخبيرا في أكبر الهيئات والمؤسسات الثقافية العربية، وكاتبا مدققا في أقدم المجلات الثقافية العربية وأشهرها، كما خدم – رحمه الله- الثقافة الإسلامية أيضا من خلال ما قدم إلى المكتبة العربية من مؤلفات وتحقيقات تبرز علما غزيرا واطلاعا وسيعا وثقافة متبحرة ومعرفة متنوعة، قَلَّ أن تجد لذلك كله نظيرا أو شبيها”(5).

وكان إلى ذلك من المنافحين عن حياض العربية بإخلاص ومعرفة واسعة(6)، فقد ” تمركزت حياته – رحمه الله- على محور اللغة … وهذا من منطلق إيمانه بأن اللغة هي وعاء الحضارة وكون الاهتمام باللغة – في كل مجال- بداية النهضة الحقيقية للأمة، وأس بنيانها كله”(7).

ولما كان الطناحي – رحمه الله- ذا خبرة واسعة بالمخطوطات العربية فقد تمكن من تحقيق مجموعة من عيون التراث العربي ونشرها وهي كالآتي:

1- « النهاية في غريب الحديث والأثر»، لمجد الدين ابن الأثير بالاشتراك مع الشيخ طاهر أحمد الزاوي، نشر سنة1963م.

2-  «طبقات الشافعية الكبرى»، لابن السبكي، بالاشتراك مع الدكتور عبد الفتاح الحلو، ونشر سنة 1964م.

3-  « العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» لتقي الدين محمد بن أحمد الحسنيّ الفاسي المكيّ [الجزء الثامن]، نشر سنة 1986م.

4- « كتاب الغريبين – غريبي القرآن والحديث -» لأبي عبيد الهروي  [الجزء الأول] سنة 1970م.  

5-«الفصول الخمسون»، لزين الدين أبي الحسن يحيى بن عبد المعطي، المشهور بابن معطي، وأصل الكتاب رسالة لنيل شهادة الماجستير، سنة 1976م، أشرف عليها الأستاذ عبد السلام هارون.

6- « تاج العروس من جواهر القاموس» للمرتضى الزبيدي، [الجزآن السادس عشر والثامن والعشرون].  

7- « منال الطالب في شرح طوال الغرائب» لمجد الدين ابن الأثير، سنة 1983م.

8- « أرجوزة قديمة في النحو» لليشكري، نشر ضمن كتاب «دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبي فهر محمود محمد شاكر بمناسبة بلوغه السبعين» سنة 1982م.

9- «كتاب الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب»، لأبي علي الفارسي، نشر سنة 1988م في جزأين.

10- « أمالي ابن الشجري» سنة 1992م في ثلاثة أجزاء.

11-« ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات»، لأبي عبد الرحمن السلمي سنة 1993م.

12-« أعمار الأعيان» لابن الجوزي سنة 1994م.

إلى جانب الكتب التي ألفها ومنها:

– «من أسرار اللغة في الكتاب والسنة: معجم لغوي ثقافي».

– «مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي» مع محاضرة عن التصحيف والتحريف.

– «الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم».

وكذلك الكتب التي قام بفهرستها ومن المأثور عنه أنه كان يقول: «الكتب بلا فهارس كنز بلا مفتاح» ومن بين هذه الكتب:

– « فهارس كتاب الأصول في النحو لابن السراج».

– « فهارس كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام».

 وبعد وفاته جمعت مقالاته وأبحاثه في أربعة مجلدات كبرى، بعنوانين مختلفين:

– «في اللغة والأدب: دراسات وبحوث» في مجلدين، منشورات دار الغرب الإسلامي سنة 2002م.

– « مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي، صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب» في مجلدين أيضا، منشورات دار البشائر الإسلامية سنة 2002م. 

وفاته:

توفي يوم الثلاثاء السادس من ذي الحجة عام 1419هـ،  الموافق للثالث والعشرين من شهر مارس عام 1999م.

أصل الكتاب:

أصل هذا الكتاب كما ذكر محرره خمس مقالات وبحثان للدكتور محمود الطناحي؛ فالكتاب ليس من تأليف هذا الأخير وإنما هو من عمل المحرر أحمد عبد الرحيم الذي ارتأى جمعَ هذه المقالات وهذين البحثين في مؤلف واحد تحت عنوان «صيحة في سبيل العربية»، لكونها تدور في فلك واحد كما سيظهر عند الحديث عن مضمون الكتاب، وهو السبيل إلى النهوض بالعربية من خلال رصد مظاهر ضعف الأجيال المتأخرة في علوم العربية خاصة ما يتعلق بقواعد علم النحو، مع كشف الأسباب المؤدية إلى ذلك واقتراح حلول ناجعة وكفيلة بحل هذه الأزمة أو هذه المصيبة كما يحلو للبعض أن يسميها، وقمينة بترسيخ العربية في نفوس الناشئة وألسنتها.

يقول المحرر بعد حديثه عن المواد التي جمعها في الكتاب:” إن هذين البحثين وهذه المقالات الخمس أو السبع تفصيلا جديرة بنشرها في رسالة مستقلة، لتطبع وتعمم على جامعاتنا وأهل الإعلام والصحافة وعموم المثقفين، لعلها تسهم بما فيها من رؤية صائبة، وتحليل رصين، وخطوات عملية منهجية في علاج هذا الانحدار المرعب الذي تهوي إليه ثقافتنا وآدابنا عبر الإعلام.. ومكتوبا، ومرئيا، ومسموعا”(8).

عنوانه:

ذكرنا سابقا أن أصل هذا الكتاب مجموعة من المقالات والبحوث التي كتبها الطناحي – رحمه الله – في جرائدَ ومجلاتٍ ولم يجمعها في كتاب معين، وإنما هذا العمل من صنع المحرر الأستاذ أحمد عبد الرحيم. 

وقد جعل المحرر عنوان الكتاب مقسما إلى قسمين، عنوان رئيسي وهو « صيحة في سبيل العربية»، وعنوان فرعي يظهر على الغلاف بخط أصغر من خط العنوان الرئيسي الذي كتب بخط كبير وهو «مقالات من أجل نهضة العربية وثقافتها»، والعنوان الرئيسي قريب من عنوان أولى هذه المقالات المختارة، وخيرا فَعَل المحرر لأن عنوان هذه المقالة دال على ما في الكتاب كلِّه كما سيتبين عند الحديث عن مضمون الكتاب.

وتدل مادة “صيح” في «لسان العرب» على ما يلي:” صيح: الصِّياحُ: الصوتُ؛ وَفِي التَّهْذِيبِ: صوتُ كُلِّ شَيْءٍ إِذا اشْتَدَّ. صاحَ يَصِيحُ صَيْحة وصِياحاً وصُياحاً، بِالضَّمِّ، وصَيْحاً وصَيَحاناً، بِالتَّحْرِيكِ، وصَيَّحَ: صَوَّتَ بأَقصى طَاقَتِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ”(9). 

وما أحسب الطناحي –رحمه الله – إلا أراد هذا المعنى؛ أي أن يُصَوِّتَ بأقصى طاقته دفاعا عن اللغة العربية، ومن أجل النهوض بها وبعلومها وبثقافتها، وأن ينبه الأجيال القادمة إلى مسؤوليتهم إزاء لغة القرآن الكريم، فهل هناك من مجيب؟؟!!!

مضمونه:

ينقسم هذا الكتاب إلى خمس مقالات وبحثين وهي كالآتي:

المقالة الأولى: صيحة من أجل اللغة العربية [ هل يتحول التراث العربي إلى ألغاز وطلسمات]:

أشار الطناحي في بداية هذه المقالة إلى التدني الذي وصل إليه خريجو أقسام اللغة العربية في جامعاتنا في العقود الأخيرة وتأثيراته في اللغة العربية، وفي تراثنا العربي، فضلا عن الأخطاء اللغوية والنحوية وآثار كل ذلك في تلاوة القرآن العزيز؛ لأن القضية كما قال:” قد صارت دينا يُغْتَال وشريعة تُنْتَهَك”(10).

وقد أرجع الطناحي أسباب هذا الخلل إلى ما يتلقاه طلبة العربية في كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات من أمشاج من قواعد النحو والصرف، وكذا إلى هجر الكتاب القديم وهو وعاء العلم ومستودع التراث ورَدُّ ذلك إلى التيسير والتسهيل، يقول:” وكان من أخطر الأمور رد ذلك إلى التيسير والتسهيل والتخفيف على الناشئة، ولقد مضينا في التيسير والتسهيل خطوات وخطوات حتى انتهينا إلى هذا الذي نشكو منه ونضيق به، ونسأل الله السلامة منه!” (11).

ويعرض المؤلف في هذا السياق نماذج من كتب المتقدمين من مختصرات ورسائل موجزة في النحو والصرف تثبت أن فكرة التيسير على الناشئة كانت ظاهرة بينة في فكر النحاة الأوائل ليدفع بذلك تهمة صعوبة وغموض الكتب القديمة أو ما شابه ذلك.

ومن أخطر ما سجله الطناحي في هذا الموضوع اقتران تعليم النحو من خلال المذكرات والمختصرات بالطعن على أئمة النحاة والإزراء بتصانيفهم، وغياب المنهجية في تآليفهم، ومحاكمتهم إلى مناهج غربية ظهرت بعدهم بقرون.

كما يعرض في هذه المقالة المسيرة الضخمة التي كان يقطعها الطلبة في جيله وقبله وبعده بقليل في تعلم النحو من خلال الكتاب القديم، يقول:” فهؤلاء جميعا قد تعلموا النحو من خلال الكتاب القديم، على هذا السياق، وبذلك الترتيب: التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية – تنقيح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري- قطر الندى وبل الصدى- شذور الذهب في معرفة كلام العرب كلاهما لابن هشام- شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك- أوضح المسالك على ألفية ابن مالك لابن هشام، شرح الأشموني على ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان عليه.

وبهذه المسيرة الأصيلة الضخمة استطاع أساتذتنا وزملاؤنا أن يفقهوا النحو ويبرعوا فيه، ثم يكتبوا مذكراتهم ومختصراتهم، وأيضا نقدهم للفكر النحوي. ولو أنهم تربوا من أول أمرهم على المذكرات، وتعلموا من المختصرات؛ لما فقهوا، ولما برعوا، ولما كتبوا نحوهم                « الكافي» و« الشافي» و« الصافي» و«الوافي»!”(12).

ونبه أيضا على أنه لا ينبغي أن يلتفت إلى ما يقال من أن هذا عيث في اللغة العربىة أن تعتمد على الحفظ الأصم الأعمى لأن هذا أمر معروف في سائر اللغات، يقول:” وما دخل علينا البلاء، واستبد بنا الضعف، إلا يوم أن هجرنا هذه الضوابط الكلية، ونفرنا من الحفظ، واجتوينا النصوص .. ثم غرقنا في البحث النظري، الذي أسلمنا إلى التجريد والمطلق!” (13)، ويقترح الطناحي – رحمه الله- العودة إلى جيل المتون فيقول:” ولا سبيل لنا إذا أردنا صلاح الحال وإصلاح الألسنة ، إلا إحياء جيل المتون والحفظة، وذلك لن يكون إلا بالعودة في تدريس النحو إلى الكتاب القديم والنص التراثي، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها”(14).

المقالة الثانية: الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية:

تحدث الطناحي – رحمه الله- في هذه المقالة عن المستوى المتدني من علوم العربية قراءة وكتابة وعن الفجوة الواسعة بين النظرية والتطبيق أو بين المحفوظ والملفوظ سواء في القرآن أو الحديث، ومثال ذلك عنده النحوي الذي يضبط قواعد النحو ” فإذا أخَذَ في كلام أو أَدَارَ قلمه على بيان، خلَّط واعتسفَ وأخطَأ”(15).

وقد شدد المؤلف أيضا على ضرورة الحفظ، إيمانا منه بأن موضع الضعف أو الخلل أو العجز ناشئ عن اطراح الحفظ وهجر النصوص وإهمال التطبيق، مقابل الإسراف في النظريات يقول:” إن الإسراف في النظريات والمناهج هو الذي أضعف إحساس أبنائنا بالعربية الأولى، وهو الذي أورثهم العجز الذي يأخذ بألسنتهم وأقلامهم ، فلا يستطيعون قولا ولا بيانا”(16).

كما أكد أن من الجوانب التي أهملت جانبَ النصوص أو الحفظ، يقول:” فإنه يشيع في أيامنا هذه كلام عجيب، يُبغِّض إلى طالب العربية « الحفظَ» ويزهده فيه، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل « الحفظ» مقابل« الفهم»، وأن الطالب الذي يحفظ «صمام» وغير قادر على الفهم والاستيعاب”(17)، مشيرا إلى أن طبيعة تعلم العربية تقتضي حفظ كثير من النصوص لتثبيت القواعد والتمكين للأبنية والتراكيب في ذهن طالب العلم، على أن من فوائد الحفظ أنه مكن طائفة من عباقرة العربية العميان أن يسجلوا لنا هذا القدر الضخم من المعارف الإنسانية أمثال أبي العلاء المعري وابن سيده والإمام الترمذي والشاطبي المُقرئ إضافة إلى طه حسين في العصر الحديث.

وقد استشهد الطناحي في هذا السياق بما ذكره العلامة ابن خلدون في كتابي «العبر» و«المقدمة» عن ضرورة الحفظ وكثرته من أجل تحصيل ملكة الكلام العربي ويدخل في ذلك “حفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم، من القرآن والحديث وكلام السلف، ومخاطبات فحول الشعراء في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم.. حتى يتنزل، لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم”(18).  

يرد الطناحي في الفصل الثاني من المقالة الثانية المعنون بـ ” هل الحفظ مطلوب” على الذين يشترطون للحفظ الفهم لأن الإلحاح بالحفظ الدائم المستمر – في نظره- مما يمهد للفهم لا محالة، واستدل على أهمية الحفظ في العملية التعليمية بالمنظومات الكثيرة في اللغة والنحو والفرائض والقراءات لضبط القواعد وتثبيت الأحكام، وإلى جانب هذه المنظومات المطولة توجد كذلك مجموعة من الأبيات الشعرية لضبط القاعدة وترسيخها إلى جانب الضوابط النثرية، يقول الطناحي:” فالحفظ وسيلة ضبط وإتقان ينبغي أن تراعى من أول درجة من درجات سلم التعليم. ولا تشفقوا على الصغار والناشئة.. فإن فيهم خيرا كثيرا”(19).

وقد أكد أيضا أنه يجب أشد الوجوب أن نشد أبناءنا إلى القرآن الكريم باعتباره كتاب عربية وبيان وأن يكون اختيارنا لآياته في مقرر « القراءة والنصوص» قائما على تلك الآيات التي تنمي الحس اللغوي والنحوي عند التلاميذ؛ لأن النصوص التراثية وأعلاها كلام ربنا – عز وجل- وسيلة ضبط وإتقان إذا اعتنينا بها قراءة وحفظا.

المقالة الثالثة: الكتب الصفراء والحضارة العربية:

يرد الطناحي في هذه المقالة على الذين تهجموا على ” الكتب الصفراء” وهو الوصف الذي ورد في كلام الأستاذ حجازي والدكتور العراقي في مقام الذم والسخرية بحيث صار استعمال هذا الوصف مرادفا للأدب الغث والفكر الهزيل المتخلف.

ويعرض الطناحي في هذا الصدد تاريخ ” الورق الأصفر” مشيرا إلى أن تراثنا كله جاءنا في الورق الأصفر مثل تفاسير القرآن الكريم، ودواوين السنة المطهرة وغيرها من أمات الكتب العربية.

ومن مزايا الورق الصفر التي ذكرها الطناحي طبع كتاب أو كتابين بهامش الكتاب الأصلي أو بآخره إن كان له صلة بالكتاب الأصلي، فضلا عن ارتباط الورق الأصفر عند عارفي الكتب وجامعيها بجودة التصحيح وكمال الإخراج.

المقالة الرابعة: البيان .. والطريق المهجور:

ذكر الطناحي في هذه المقالة أن من أَجَلِّ نِعَم الله على عباده نعمة البيان، وأنه لا ينبغي أن يكون المراد بالبيان مجرد الكشف عما في النفس لقضاء الحاجات واتصال مصالح العباد، لكن المراد بالبيان الإحسان في تأدية المعاني، يقول:” ووجوه الإحسان في تأدية المعاني كثيرة، ومنادحها واسعة، ولا يكاد يظفر بها إلا من وهب لطافة الحس، وخفة الروح، ورحابة النفس، والارتياح والطرب لمظاهر إبداع الله عز وجل في هذا الكون، وما بثه في ملكوت السموات والأرض، وما أجراه على ألسنة خلقه”(20).

وذكر أيضا أن العرب أمة بيان وفصاحة، ولغة العرب معينة على ذلك، ولقد تجلّت هذه الأخيرة على ألسنة الشعراء والخطباء شعرا شجي النغم، ونثرا حلو الوقع، ثم كان مجلى هذه اللغة العزيزة كلام الله عز وجل، ثم ما ألقاه ربنا على لسان نبيه من جوامع الكلم” فصاحة صافية المورد، وبلاغة عذبة المشرع، ومنطقا صائب الحجة”(21).

يعرض الطناحي في هذه المقالة أيضا تاريخ البيان العربي الجاري على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين وقصائد الشعراء، والذي أصل له الجاحظ في « البيان والتبيين» وابن قتيبة في «عيون الأخبار» إلى جانب كتب الأمالي والمجالس والمختارات.

ينتقد المؤلف أساليب الكتاب ومن ينتسبون إلى الأدب في زمنه والتي أصبحت تدور في فلك ألفاظ مستهلكة إلى جانب الغموض المظلم الذي يَكُدُّ العقل، ويكون مجلبةً للغم والكآبة، يقول المؤلف:” إن كثيرا مما يكتب الآن لا صلة له بالعربية إلا صورة الحروف والأبنية من الأسماء والأفعال! أما روح العربية وآمادها الرحبة الواسعة؛ فلا تجدها في أسلوب مما تقرأ، ولا كلام مما تسمع!” (22). 

وقد رد الطناحي – رحمه الله- سر التردي في الكتابة ومجافاة حسن البيان والإعراض عن جمال العبارة إلى أسباب خمسة وهي:

أولا: ذهاب الكِبار بالموت أو بالملل أو بالمصانعة. 

ثانيا: قلة المحصول اللغوي عند الكتاب وقد رد هذا الأمر إلى قلة القراءة وضعف الزاد، يقول:” وليس يخفى أن قلة المحصول اللغوي، والعجز عن التصرف في الكلام، إنما يرجعان إلى قلة القراءة وضعف الزاد. فالأديب لكي يكتب أدبا عاليا جميلا لا بد أن يكون على صلة لا تنقطع بالقراءة، وأن يجعل من يومه نصيبا مفروضا للمراجعة والاستزادة، فـ « الإبداع» – كما يقال في هذه الأيام!- لا بد له من مدد، والمدد ليس له إلا طريق واحد، هو القراءة الرشيدة المستمرة، ثم التأمل”(23).

ثالثا: تسويغ العجز باصطناع نظريات تمهد له وتسانده.

رابعا: اقترن بتسويغ العجز عن جمال البيان السخرية منه والإزراء بقائله.

خامسا: الكسل والإخلاد إلى الراحة.

المقالة الخامسة: النحو العربي.. والحمى المستباح:

أكد الطناحي سلطان النحو على اللغة وعلى الفكر والفن معا إضافة إلى أنه إبداع، يقول:” نعم .. النحو إبداع، ولا يعرف هذا إلا من قرأ القرآن الكريم قراءة تبصر وإحسان، ثم أطال النظر في كلام العرب: نثرها وشعرها، وصبر نفسه على قراءة الكتب والسير في دروبها، وحمل تكاليف العلم وأعباءه”(24).

وقد أشار الطناحي إلى مهاجمة بعض القدامى النحو والنحاة وضيقهم به مثل أبي حنيفة الصوفي، لكن الطناحي أرجع ذلك إلى ضعف الهمم وقصور الخطى، ومِثْل الفرزدق الذي سَخِرَ من قواعد النحو، وابن الراوندي الذي أوثر عنه طعن في النحو ونقض على النحويين، لكنه انتهى إلى أن قول الفرزدق وقول سواه من الشعراء الذين أظهروا سخطهم على النحو وقواعده إنما هو من باب المعابثة والاستطالة بالذكاء، أو أنها سخرية بالنحاة لا بالنحو.

يذهب المؤلف إلى أن النحو نحوان: « نحو الصنعة» و« نحو التراكيب»؛ ” فالأول: هو النظام والقواعد والتعريفات والقوالب، وما صحب ذلك كله من العلة والعامل. ولبعض خلق الله الحق في أن يضيقوا بالنحو على هذا الوصف؛ لأن فيه أحيانا ما يكد الذهن ويصدع الرأس[…] ولكنه على كل حال علم ينبغي أن يعرف ويحاط به.

والنحو الثاني: « نحو التراكيب»، وهو الذي اتكأ على النظام، وانطلق منه إلى إدراك العلائق بين أجزاء الكلام […] والنحو بهذا الوصف لا يصح أن يطعن فيه أو ينتقص منه؛ لأن الطاعن فيه منتقص للعربية كلها، ذاهب عنها جميعها”(25).

وقد استعرض الطناحي في هذه المقالة بداية التأليف النحوي عند العرب في القرون الثاني والثالث والرابع؛ تلك القرون التي ظهر فيها النحو ظهورا بينا على ساحة الفكر العربي، وأخذ الاهتمام به أشكالا كثيرة، تآليف في النحو خالصة، وأعاريب للقرآن الكريم، وكتبا في توجيه قراءاته والاحتجاج لها، ثم تجلى الاهتمام بالنحو أيضا في شروح الشعر الجاهلي والإسلامي، وقد عنيت هذه الشروح عناية فائقة بالنحو.

ومن وراء ذلك كله كان هناك مظهر رابع للاهتمام بالنحو وهو تلك المجالس التي كانت تعقد بين عالمين أو أكثر من علماء النحو واللغة، وقد عرفت بـ ” المجالس النحوية”.

وبَيَّنَ كذلك أن الاهتمام بالنحو كان متزامنا مع النهضة العامة التي كانت آخذة في النمو والاتساع في علوم العرب وفنونها، وقد صور لنا الطناحي في هذا السياق صورا من العلاقة التي كانت تجمع بين النحاة والشعراء.

كما تصدى للرد على ما ذكره الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في حق ابن منظور وابن هشام حيث جعلهما آيتين من آيات الضعف، ومظهرين من مظاهر الانحطاط، مستشهدا بالدلائل القاطعة على خلاف ذلك.     

فلولا ما صنعه ابن منظور وابن هشام ومن إليهما من اللغويين والنحاة والعلماء الذين عاشوا في القرن الثامن – وهو العصر المملوكي الموسوم بالتخلف والانحطاط-  من أعمالهم الموسوعية، لضاع علم كثير ولضعفت ذاكرة الأمة العربية ضياعا؛ فابن منظور صاحب أول معجم عربي كبير وهو « لسان العرب» وهو أحد معالم حضارتنا العربية، وقد ألفه ابن منظور لغايات منها الغاية القومية والوطنية ” وباعثها الغيرة على العربية والعصبية لها، بعد أن اطرح بعض الناس الحديث بالعربية وهجروها إلى اللغة الأعجمية، وهي التركية في ذلك الزمان”(26).

أما ابن هشام فهو الذي تعمق في مذاهب النحاة ونظر فيها بتروٍ واستقصاءٍ، ثم أحسن عرضها ومناقشتها في مصنفاته الكثيرة وعلى رأسها كتابه الشهير « مغني اللبيب عن كتب الأعاريب»، وقد استشهد الطناحي على صحة كلامه بكلام ابن خلدون وشوقي ضيف؛ حيث جعلاه محيِيَ صناعة النحو في العصور الوسطى بعدما كادت تؤذن بالذهاب، وقرين سيبويه وابن جني، وهما ما هما بين أعلام العربية.

أما الأبحاث فهي كالآتي:

1- استثمار التراث في تدريس النحو العربي:

بَيَّنَ الطناحي في بداية بحثه أن النحو أول علم عربي صُنِّفَ فيه، فصار بذلك ملاك العربية وقوامها، يقول:” وقد صار النحو بهذه المثابة إماما لكل فن، ومقدما على كل علم. وأصبح التقصير فيه، والإخلال بقواعده، وإهمال ضوابطه.. مجلبة للنقص، ومدعاة للإزراء. وصار مرتكب ذلك منقوص الحظ من الكمال، مشنعا عليه في كل مكان”(27)، وهو أيضا إمام كل علم وأساسه، يقول:” وهكذا كان النحو – منذ أن عرف- إمام كل علم، وأساس كل بناء، وتوشك معرفته أن تكون فرض عين على كل من انتسب إلى العربية، أو كتب فيها حرفا”(28). 

تشغل المصنفات النحوية في المكتبة العربية مكانا ضخما جدا، ونَبَّه المؤلف إلى أن النحو لا يوجد في كتبه المصنفة فيه فقط بل هو موجود في المكتبة العربية كلها،  وقد عرض في بحثه هذا النهجَ الذي كان يسلكه الأولون في تعلم النحو وتعليمه والمتمثل في القراءة على الشيخ مؤلف الكتاب نفسه، أو من يقوم مقامه علما وبصيرة، ثم ما يكون بعد ذلك من حفظ المتون والمنظومات، والعكوف على الشروح وإدامة النظر فيها، ومفاتشة أهل العلم عن طريق المدارسة والمذاكرة، فيما سمي بمجالس العلماء ومناظراتهم.

وحين أخذ التعليم شكله الحديث في أوائل القرن العشرين، ووضعت المناهج لتدريس مختلف العلوم برزت طائفة من كتب النحو القديمة تدرس من خلالها هذه المناهج، يقول الطناحي:” ولقد تخرج الجيل العظيم من نحاة ولغويي مصر والبلدان العربية الأخرى من هذه المدرسة: مدرسة النصوص والكتاب القديم، وهو ما أسميه « جيل المتون والحفظة»”(29). 

وفي هذا السياق تحدث عن تعليم النحو والعربية في مصر من خلال الكتاب القديم أو الكتاب الحديث المؤسس على الكتاب القديم، والماضي في طريقه؛ حيث كان الطلاب في كليات اللغة العربية يتصلون بالكتاب القديم اتصالا وثيقا.

وقد رد الطناحي أسباب ضعف هذا الجيل في النحو والعربية إلى أسباب أربعة:

أولها: هجر الكتاب القديم.

ثانيها: طغيان المناهج الغربية في درس النحو واللغة، وما تبع ذلك من جرأة على النحو وسخرية بالنحاة.

ثالثها: الاشتغال بالنظرية واجتواء التطبيق.

رابعها: إهمال جوانب ضرورية في تعليم النحو والعربية.

ففي هجر الكتاب القديم تحدث عن أن شواهد النحو واللغة يجب أن تنتزع من مصادر أربعة: القرآن الكريم وحديث سيدنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] وكلام العرب وأمثالها والشعر، على أن الأثر الضخم للشاهد التراثي إنما كان للقرآن الكريم تثبيتا للقاعدة اللغوية والنحوية وتمكينا لها في النفس.

ومن الجوانب الضرورية التي أهملت: ضبط الأبنية من أسماء وأفعال، ومعلوم أن المعاني تختلف باختلاف ضبط بنية الفعل والاسم، يقول:” إن ضبط الأبنية باب من أبواب العربية، ينبغي تعهده والعناية به، وليس من الأمور الشكلية كما يزعم بعض الناس”(30). ومن الجوانب التي أهملت أيضا في تعليم النحو والعربية مخارج الحروف وصفاتها.

2- لغتنا المعاصرة .. والثقة الغائبة:

أقام الطناحي بحثه هذا على تأكيد الثقة باللغة المعاصرة، ومَهَّدَ لذلك ببيان قِدَمِ اللغة العربية، وهي إلى قدمها تعد اللغة الوحيدة التي حافظت على خصائصها الصوتية والصرفية والمعجمية والدلالية، وإنما حافظت على خصائصها تلك لأنها لغة عقيدة، ارتبطت بالدين ارتباطا شديدا، وكان لنزول القرآن الكريم بها أثر ضخم في تثبيتها في عقول الناس وجريانها على ألسنتهم – كما يقول المؤلف-.

وقد تعرضت  اللغة العربية شأن سائر اللغات لشيء من التطور في أصواتها ودلالتها وشيوع بعض التراكيب في وقت وانحسارها في وقت، وفي هذا السياق أكد عدمَ وجود فرق بين عربية الشعر الجاهلي وعربيتنا الآن إلا في بعض الغريب واستشهد على ذلك بشعر لامرئ القيس وشعر للأضبط بن قريع السعدي.

فقد أورد الطناحي – رحمه الله- ثلاثة أبيات لامرئ القيس من قصيدتين مختلفتين وهي قوله في القصيدة الأولى:

وَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً!        وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا!

وقوله في قصيدة ثانية:

أُرَانَا مُوضِعينَ لأَمْر غَيْبٍ            ونُسْحَر بالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ

وقوله أيضا من نفس القصيدة:

وَقَدْ طَوَّفْتُ بالآفاقِ حتى              رضيتُ من الغَنِيمَة بالإِيَابِ

وقد شرح الطناحي – رحمه الله- كل بيت على حدة، وعلق على الأبيات الثلاثة بقوله:” فأي فرق بين كلام امرئ القيس هذا، الجاهلي، وبين كلامنا؟”(31).

أما بالنسبة للأضبط بن قريع السعدي فقد أورد قصيدته الشهيرة في كتب الأدب وهي:

لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمومِ سَعَه                 وَالمُسيُ وَالصُبحُ لا فَلاحَ مَعَه

فَصِلْ حِبَالَ البَعِيد إِنْ وَصَلَ الـ         حَبْلَ واقْصِ القَرِيبَ إِنْ قَطَعَه

وخُذْ مِنَ الدَّهْرِ مَا أَتَاكَ بِهِ                مَنْ قَرَّ عَيْناً بِعَيْشِهِ؛ نَفَعَه

لَا تَحقِرَنَّ الفَقِيرَ.. عَلَّكَ أَنْ             تَرْكَعَ يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَه

قَد يَجمَعُ المالَ غَيرُ آكِلِهِ                وَيَأكُلُ المالَ غَيرُ مَن جَمَعَه

قد يَرقعُ الثَوبَ غَيرُ لا بِسِهِ            وَيَلبسُ الثَوبَ غَيرُ مَن رقعَه

يقول الطناحي – رحمه الله- معلقا على هذه الأبيات:” فهذا شعر شجي النغم، عميق الحكمة، يتولج في القلب تولجا، وينصب في السمع انصبابا. وليس فيه من اللفظ الغريب علينا، إلا قوله « لا فلاح»، وهي هنا بمعنى البقاء.. يقول: والمساء والصباح رائحان وغاديان، لا يبقيان على حال”(32).

والمعنى الذي أرده المؤلف – والله أعلم- هو تأكيد قُربِ لغة هذا الشعر المستشهد به – والذي يعود إلى العصر الجاهلي – من لغتنا المعاصرة في حروفها وأفعالها وأسمائها وجموعها ومصادرها. 

خلافا لما يذهب إليه بعض المستشرقين حيث قَسَّمُوا العربية إلى لغة تراثية ولغة معاصرة، يقول:” إن هذا الصدع في جدار اللغة العربية، وتقسيمها إلى لغة تراثية ولغة معاصرة، إنما شقه بعض المستشرقين الذين اشتغلوا بتراثنا منذ القرن السابع عشر، أو قبله بقليل.. فهم يميزون دائما بين مستويين للفصحى، يسمون الأول « العربية القديمة»، ويسمون الثاني « العربية المعاصرة». ثم يتحدثون عن مستوى ثالث هو « العربية المنطوقة»، ويعنون بها « العامية»”(33).

ومن الظواهر التي عالجها الطناحي في بحثه هذا ظاهرتا الانحرافات الصوتية والانحرافات النحوية، وكذا ما يتصل بتأصيل بعض المفردات والتراكيب؛ فالانحرافات الصوتية هي أبرز ما ترمى به لغتنا، وأكثر ما ترى هذه الظاهرة في اللغة المنطوقة، وقد أتى الطناحي على شواهد كثيرة من ذلك.

وفي حديثه عن الانحرافات النحوية عرض الطناحي أيضا أمثلة يسيرة مما تتجاوز فيه لغتنا المعاصرة القاعدة النحوية النموذجية، مع التماس وجه صوابها من لهجات القبائل أي لغاتها، أو استعمالات العلماء الفصحاء، وهي نماذج مما يشيع في لغتنا المعاصرة، ويظنه الناس مخالفا لكلام العرب واستعمالاتها، وإنما هو ماض في طريق العربية، آخذ في بعض وجوهها، يقول:” وأنبه إلى أن المقصود من طلب وجه الصواب لهذه الاستعمالات هو تأكيد عربيتها، وأنها ليست وليدة « التطور» النحوي أو اللغوي، و « التأثر بإيقاع الحياة السريع»، و « التأثر بالاتصال الأوروبي». وليس المراد تسويغ الانحراف، أو تجاوز القاعدة الأساسية العامة”(34). 

أما ما يتعلق بتأصيل بعض المفردات والتراكيب فقد استشهد على ذلك بأمثلة تشيع في لغتنا المعاصرة من مفردات وتراكيب يستوحش منها المتشددون، لأنهم لا يرونها في النصوص القديمة، أو لم تسجلها المعاجم اللغوية أو سجلتها ولم يلتفت إليها، فظُنَّت من العامية. لكن الطناحي – رحمه الله- عَمِلَ على ردها إلى أصولها الفصيحة، كما عمل على رد الفكرة القائلة بأن اللغة العربية المعاصرة في مصر بوجه الخصوص مليئة بمفردات وتراكيب من اللغة القبطية القديمة، مستشهدا بمجموعة من الأحاديث الصحيحة والأشعار القديمة.

وإذا كان  الطناحي – رحمه الله- قد أقام بحثه على تأكيد الثقة باللغة المعاصرة وأنها لم تبتعد عن العربية الأصيلة فإن هناك أمرين أساسيين وقف عندهما ونبه عليهما:

الأمر الأول: أن مما يعيب لغتنا المعاصرة المكتوبة الآن هو تجافيها عن حسن البيان وجمال العبارة.

الأمر الثاني: أنه في مجال لغتنا المعاصرة المنطوقة ينبغي ونحن نسَوِّغها ونردها إلى أصولها العربية الصحيحة، أن ننتبه إلى مستويين من تلك اللغة المعاصرة المنطوقة: أولهما هو ما يحافظ على معجم اللغة الفصحى مع تجاوزات صوتية أو نحوية، وثانيهما هو لغة العامة التي يمارسها الحرفيون والصناع والباعة، ويلجأ إليها المثقفون أحيانا حين يتعاملون مع هذه الفئات. 

أهم القضايا النقدية في هذا الكتاب:

عندما يتحدث الطناحي في هذا الكتاب فإنه يتحدث من موقع الأستاذ والمدرس الذي احتكَّ بالتلاميذ والطلاب وخَبَرَ أساليبهم في الكتابة وكذا طريقة تفكيرهم، وموضع الضعف والخلل في كل ذلك، لا من موقع الكاتب فقط، لذا فإن هذه المقالات والأبحاث تدل على حس نقدي كبير وغيرة على ثوابت الهوية العربية أكبر، ومن أبرز القضايا النقدية التي يمكن تسجيلها ما يلي:

– إن ضعف هذا الجيل في النحو والعربية له آثاره في تلاوة القرآن الكريم، وهنا يكمن الخطر العظيم أو المصيبة كما يسميها الطناحي. 

– العودة إلى ما يسميه الطناحي « جيل المتون والحفظة»، ويقصد به مدرسة النصوص والكتاب القديم. 

– أهمية الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية وتثبيت القواعد.

–  العودة إلى تدريس النحو من خلال الكتاب القديم.

– من أسباب ضعف الناشئة في العربية اطراح الحفظ وهجر النصوص القديمة وإهمال التطبيق.

– للنحو سلطان على اللغة والفكر والفن، وهو ملاك العربية وقوامها.

– للإعراب أثر في توجيه المعنى وفي تحديد الدلالة وفي الفصل بين المعاني، ومن هنا تكمن أهميته.

– ضعف الطلاب في النحو والعربية لا يمكن رده إلى ضعف الطالب وحده، لكن يمكن رده أيضا إلى المعلم [ يقصد الطناحي – كما ذكر- المعلم الضعيف الذي لا يقف ضعفه عند حدود تقصيره في عرض المادة وتثبيتها في أذهان التلاميذ، بل يتعدى ذلك كله إلى إعطاء المعلومات الخاطئة، والتوجيه المضلل! وهذه هي المصيبة الكبرى] (35) والتي تهون عندها كل مصيبة. 

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1.  ديوان حافظ إبراهيم 1/242- 244.

2.  الشوقيات  4/157- 158.

3.  مقدمة تحرير كتاب « صيحة في سبيل العربية» ص:18- 19. 

4.  محمود الطناحي عالم العربية وعاشق التراث ص:15.

5.  مقدمة كتاب « محمود الطناحي ذكرى لن تغيب» ص:7- 8.

6.  كلمة للدكتور أحمد محمد الخراط في مقاله ” وهوت لبنة أخرى”،  منشور ضمن كتاب « محمود الطناحي ذكرى لن تغيب» ص:22.

7.  ” الرحيل الهادئ” مقال لأحمد عبد الرحيم، منشور ضمن كتاب « محمود الطناحي ذكرى لن تغيب» ص:13.

8.  مقدمة تحرير كتاب « صيحة في سبيل العربية» ص:18.

9.  لسان العرب 8/311.

10.  صيحة في سبيل العربية ص:66.

11.  صيحة في سبيل العربية ص:68.

12.  صيحة في سبيل العربية ص:71.

13.  صيحة في سبيل العربية ص:75.

14.  صيحة في سبيل العربية ص:79.

15.  صيحة في سبيل العربية ص:82.

16.  صيحة في سبيل العربية ص:83.

17.  صيحة في سبيل العربية ص:84.

18.  صيحة في سبيل العربية ص:87، العبر، (تاريخ ابن خلدون) 1/771.

19.  صيحة في سبيل العربية ص:92.

20.  صيحة في سبيل العربية ص:108.

21.  صيحة في سبيل العربية ص:111.

22.  صيحة في سبيل العربية ص:118.

23.  صيحة في سبيل العربية ص:124.

24.  صيحة في سبيل العربية ص:140.

25.  صيحة في سبيل العربية ص:146.

26.  صيحة في سبيل العربية ص:166.

27. صيحة في سبيل العربية ص:188.

28.  صيحة في سبيل العربية ص:191.

29.  صيحة في سبيل العربية ص:197.

30.  صيحة في سبيل العربية ص:243.

31. صيحة في سبيل العربية ص:277.

32. صيحة في سبيل العربية ص:278.

33. صيحة في سبيل العربية ص:280.

34.  صيحة في سبيل العربية ص:298- 299.

35.  صيحة في سبيل العربية ص: 262.

*******

المصادر والمراجع:

–  ديوان حافظ إبراهيم، ضبطه وصححه وشرحه ورتبه أحمد أمين بك وأحمد الزين و إبراهيم الأبياري، الطبعة الثالثة سنة 1948م، منشورات المطبعة الأميرية بالقاهرة.

– الشوقيات، لأمير الشعراء أحمد شوقي، راجعه وضبطه الدكتور يوسف الشيخ محمد البقاعي، منشورات دار الكتاب العربي سنة 2013م.

– صيحة في سبيل العربية مقالات من أجل نهضة العربية وثقافتها، للدكتور محمود محمد الطناحي، تحرير وتعليق أحمد عبد الرحيم، الطبعة الأولى 1435هـ/ 2014م، منشورات أروقة للدراسات والنشر.

– لسان العرب، لابن منظور، الطبعة السادسة سنة 2008م، منشورات دار صادر، بيروت.

– محمود الطناحي ذكرى لن تغيب، إعداد محمد محمود الطناحي، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م، منشورات دار القلم، دمشق.

– محمود الطناحي عالم العربية وعاشق التراث، أحمد العلاونة، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م، منشورات دار القلم، دمشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق