مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات وأبحاث

شواهد من مقامات الحريري في كتب البلاغة الحلقة الثانية

 

سادسا: رد العجز على الصدر( التصدير):وهو في الشعر أن يكون أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين، أو الملحقين بهما في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو آخره أو صدر الثاني(1)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الحرامية(ص:526):
فمَشغوفٌ بآياتِ المثــــــاني                                   ومفْتونٌ برَنّاتِ المثـــــــــــــــــــاني
وممن استشهد به القزويني في إيضاحه(2) في معرض حديثه عن رد العجز على الصدر إلى جانب شواهد شعرية كثيرة.
وهذا بيت ذكره العلوي أيضا في «الطراز» في باب رد العجز على الصدر وهو” أن تكون الموافقة بينهما في الصورة دون المعنى، مثاله ما ورد في الحريريات  :
فمَشغوفٌ بآياتِ المثــــــاني                                   ومفْتونٌ برَنّاتِ المثــــــاني
فالمثاني الأول هو آيات الفاتحة، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة، والمثاني الثاني هو ما يثنى من الأوتار”(3).
واستشهد به السبكي أيضا في باب رد العجز على الصدر حيث قال:” ومثال السابع وهو ما كان الصدر منه في آخر المصراع الأول وهما متجانسان قول الحريري “البيت” وعلق على الشاهد بقوله:” المثاني الأولى القرآن والآخر جمع مثنى وهو آلة من آلات اللهو”(4)، كما ذكره التفتازاني في «المطول» وشرحه(5).
وأورده العباسي في «معاهد التنصيص»(6) على أن الشاهد فيه مجيء المتجانس الآخر في آخر المصراع الأول، كما أورده السيوطي في «شرح عقود الجمان» (7)واكتفى بإيراده فقط دون التعليق عليه، وذكره أيضا المرشدي في «شرح عقود الجمان»(8)، وعلق عليه الصعيدي في «بغية الإيضاح» وقال:” وهذا الشاهد فيما يكون المتجانس الآخر في آخر المصراع الأول”(9).

سادسا:

رد العجز على الصدر( التصدير):

وهو في الشعر أن يكون أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين، أو الملحقين بهما في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو آخره أو صدر الثاني(1)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الحرامية(ص:526):

فمَشغوفٌ بآياتِ المثاني                 ومفْتونٌ برَنّاتِ المثـاني

وممن استشهد به القزويني في إيضاحه(2) في معرض حديثه عن رد العجز على الصدر إلى جانب شواهد شعرية كثيرة.

وهذا بيت ذكره العلوي أيضا في «الطراز» في باب رد العجز على الصدر وهو” أن تكون الموافقة بينهما في الصورة دون المعنى، مثاله ما ورد في الحريريات  :

فمَشغوفٌ بآياتِ المثاني                   ومفْتونٌ برَنّاتِ المثاني

فالمثاني  الأول هو آيات الفاتحة، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة، والمثاني الثاني هو ما يثنى من الأوتار”(3).

واستشهد به السبكي أيضا في باب رد العجز على الصدر حيث قال:” ومثال السابع وهو ما كان الصدر منه في آخر المصراع الأول وهما متجانسان قول الحريري “البيت” وعلق على الشاهد بقوله:” المثاني الأولى القرآن والآخر جمع مثنى وهو آلة من آلات اللهو”(4)، كما ذكره التفتازاني في «المطول» وشرحه(5).

وأورده العباسي في «معاهد التنصيص»(6) على أن الشاهد فيه مجيء المتجانس الآخر في آخر المصراع الأول، كما أورده السيوطي في «شرح عقود الجمان» (7)واكتفى بإيراده فقط دون التعليق عليه، وذكره أيضا المرشدي في «شرح عقود الجمان»(8)، وعلق عليه الصعيدي في «بغية الإيضاح» وقال:” وهذا الشاهد فيما يكون المتجانس الآخر في آخر المصراع الأول”(9).

سابعا:

الترصيع:

جعل الحريري مقاماته على جانب عظيم من ضروب السجع التي ابتدعها ابتداعا وخرجها في أسلوب بليغ، كان الهدف منه تعليم الناشئة وتدريبها على الإنشاء والكتابة بطريقة محكمة، ومن ضروب هذا السجع الترصيع، وهو عبارة عن مقابلة كل لفظة من صدر البيت أو فقرة النثر بلفظة على وزنها ورويها، وهو مأخوذ من مقابلة ترصيع العقد(10)،وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الصنعانية (ص:18):” وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ، ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ”.

ولعل أول من استشهد به ابن الأثير في «المثل السائر» في سياق حديثه عن الترصيع، وذكر وجه الاستشهاد فيه وحلله وفصله بقوله:” فمما جاء من هذا النوع منثورا قول الحريري في مقاماته: «فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه» ؛ فإنه جعل ألفاظ الفصل الأول مساوية لألفاظ الفصل الثاني وزنا وقافية؛ فجعل يطبع بإزاء يقرع، والأسجاع بإزاء الأسماع، وجواهر بإزاء زواجر، ولفظه بإزاء وعظه”(11).

ومما يلاحظ من كلام ابن الأثير قبل هذا النص المثبت أعلاه نبذه لهذا النوع من الطلاوة – على حد تعبيره- لما فيه من تعسف وتكلف كبيرين، واستنكاره وجود الترصيع في كلام الله تعالى لما هو عليه من زيادة التكلف. 

ثم ذكره القزويني بعد ذلك في إيضاحه(12) وجعله من شواهد باب الترصيع أيضا، كما ذكره في «التلخيص»(13) والترصيع عنده أن يكون ما في القرينتين أو أكثر مثل ما يقابله في الأخرى في الوزن والتقفية، ثم استشهد به السبكي في باب السجع، إلا أنه اشترط كون هذا الشاهد من باب الترصيع أن يكون أوله “يطبع” بقوله:( وهذا يصلح أن يكون مثالا لما حصل الترصيع فيه في جميع القرينتين إن قدرنا أولهما “يطبع”)(14)، فإن قدر أوله “فهو” لم يكن من باب الترصيع بل من باب السجع المتوازي، لتوازي الفاصلتين وعدم تقابلهما.

وعلى خلاف ابن الأثير فالسبكي إلى جانب القزويني يجيزان أن يكون الترصيع موجودا في كلام الله تعالى ونجدهما  يكثران  من شواهد القرآن الكريم في هذا الباب. 

كما استشهد به ابن حجة الحموي في باب ذكر الترصيع(15) إلى جانب شواهد من القرآن الكريم ومن الشعر، لكنه اكتفى بذكره فقط دون التعليق عليه أو شرحه، وقد شرحه ابن عربشاه في «الأطول» شرحا مفصلا فقال:” ونعم المثال في الترصيع جميع ما في الفقرة الأولى مما له مقابل في الثانية يوافق مقابله في الوزن والتقفية”(16)، وأورد هذا الشاهد أيضا المرشدي في «شرح عقود الجمان» وعلق عليه بقوله:” ولو قال فيه بدل الأسماع؛ الآذان لكان أكثر ما في الثانية موافقا لما يقابله من الأولى لا جميعه”(17).

يتبين أن البلاغيين يجمعون على أن كلام الحريري في مقاماته من أهم شواهد الترصيع التي جاءت في الكلام المنثور لذلك غالبا ما يكتفون بشاهده المنثور في هذا الباب إلى جانب الشواهد القرآنية والشعرية الكثيرة، وإن كانت قد غفلت عنه بعض كتب البلاغة كـ«المصباح» مثلا؛ بحيث أورد ابن الناظم مثالا على الترصيع في الكلام المنثور من كلام الخطيب –رحمه الله-. 

ثامنا:

القول في الحقيقة والمجاز:

وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الطيبية (ص:349):

وأقْري المَسامِعَ إمّا نطَقْتُ             بَياناً يقودُ الحَرونَ الشَّموسا

  في سياق حديث القزويني عن أقسام الاستعارة باعتبار المستعار وعن القرينة عندما تكون في المفعولين الأول والثاني ذكر هذا الشاهد في إيضاحه(18)، كما ذكره السبكي مقرونا بكلام القزويني دون إضافة أو تعليق أو شرح(19).

استشهد به صاحب «الطراز»(20) في معرض حديثه عن الحكم الثالث لبيان محل الاستعارة ومكانها، وبين أن الاستعارة في هذا الشاهد إنما دخلت في الأفعال  كما أنها وقعت من جهة مفعولاتها وهذا ما ينطبق على الشاهد أعلاه.

كما أثبته الصعيدي في «بغية الإيضاح»(21) وعلق عليه وشرح موضع الشاهد فيه وهو “وأقري المسامع” فقد استعار القرى لإلقاء البيان في الآذان بقرينة نسبته إلى مفعوليه. 

تاسعا:

التضمين :

هو أن يضمن الشعر شيئا من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء خوفا من أن يظن به السرقة، بذكر ما يدل على نسبته لقائله، فإن كان مشهورا، فشهرته تغنى عن التنبيه(22)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الزبيدية (ص:366): 

على أني سأُنشِدُ عندَ بيْعي             أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا

وهذا بيت ذكره القزويني في التلخيص وعلق عليه في «الإيضاح»(23) بقوله:” المصراع الأخير قيل هو للعرجي وقيل لأمية ابن أبي الصلت وتمام البيت ( ليوم كريهة وسداد ثغر )، وقد أثبته البغدادي في خزانته للعرجي من قصيدة قالها في حبسه منها:

كَأَنِّي لم أكن فيهم وَسِيـطًا                وَلم تَكُ نسبتي من آل عَمْرو

أضاعوني وَأي فتى أضاعوا               ليَوْم كريهة وسداد ثغر(24)

وفي باب ذكر التضمين ذكر السبكي هذا الشاهد وعلق عليه بقوله:” فقد نبه على تضمينه بقوله: أنشد، فإن الإنشاد إنما يكون لشيء قد سبق نظمه”(25)، يرى ابن عربشاه في «الأطول»(26) أن المصراع الأول لغلام عرضه أبو زيد على البيع والثاني للعرجي الشاعر عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان  ( رضي الله عنه)وقيل لأمية بن أبي الصلت، إلا أن البغدادي كما قلنا سابقا أثبته للعرجي.

ولنا أن نقول إن الحريري احترم شرط التضمين من خلال تنبيهه على تضمينه للمصراع الأخير من شعر شاعر آخر والدليل على ذلك قوله “سأنشد” بدلا من قوله مثلا “سأقول”.

عاشرا:

التشريع:

وهو أن يأتي الشعر على ضربين فتكون لكل من أبياته قافيتان، يصح المعنى في الاقتصار على الأولى منهما وفي زيادة الثانية عليها(27)، وأشار السيوطي في «شرح عقود الجمان» إلى إبداع الحريري واختراعه لهذا النوع من النظم الذي يسمى التشريع بقوله:

ومنه تشريع بأن يبنى على                   قافيتين البيت كل قد حلا

وهو الذي أبدعه الحريري             ووسمه التوأم ذو التحرير(28)

وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الشعرية (ص:225):

يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها             شرَكُ الرّدى، وقَرارَةُ الأكدارِ

وهذا الشاهد ذكره ابن الأثير في «المثل السائر»(29) وسماه “التوشيح” بدلا من التشريع،  وذكر أن هذا النوع من المحسنات البديعية لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم وحسنه منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البراعة. وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا، وليس من الحسن في شيء- على حد تعبيره-.

واستشهد به بعد ذلك ابن الناظم في «المصباح»(30) في الفصل الذي خصه بالحديث عن ” فيما يرجع إلى الفصاحة اللفظية” ومن ضروبها التشريع ثم ذكر في هذا السياق بيت الحريري إلى جانب بيتين للأخطل.  

وممن ذكر هذا الشاهد أيضا الخطيب القزويني في إيضاحه وتلخيصه(31) واقتصر عليه شاهدا في  هذا الباب لكنه اكتفى بذكره فقط ولم يعلق عليه أو يشرحه. وذكره صاحب «الطراز» أيضا، وسماه بالتوشيح نقلا عن ابن الأثير وعلق على البيت بقوله:” فقوله شرك الردى، بيت كامل على بحر مخصوص، وإذا أضفت إليه قوله وقرارة الأكدار، كان شعرا وكان من بحر آخر”(32).

ونجد هذا الشاهد عند معظم شراح التلخيص، وأولهم السبكي(33)، والمراد بالتشريع عند هذا الأخير أن يكون البيت على وزنين يصح أن يكون كل منهما بيتا مستقلا كقول الحريري:  

يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها            شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ 

ثم ذكره الخلخالي في «مفتاح تلخيص المفتاح»(34)وجعله شاهدا على التشريع أيضا، واستشهد به ابن حجة الحموي أيضا في خزانته(35) في باب ذكر التشريع وبَيَّنَ أن البيت من قصيدة كاملة معروفة في مقاماته من ثاني الكامل وتنتقل بالإسقاط إلى ثامنه. وأورد هذا الشاهد أيضا التفتازاني في «المطول»، وعلق عليه بقوله:” فهذه الأبيات كلها من الكامل إلا أنها على القافية الثانية من ضربه الثاني، وعلى القافية الأولى من ضربه الثامن”(36)؛ ويقصد بالضرب الثاني ضرب العروض الأولى المقطوع ووزنه (فعلاتن)، وبالضرب الثامن الضرب الثالث من العروض الثالثة المجزوءة، وهو الضرب الصحيح ووزنه (متفاعلن).

وقد بَيَّنَ الصعيدي في «بغية الإيضاح»(37) أن وجه الشاهد فيه أنه يمكن أن يركب من مجزوء الكامل فيقال:

يا خاطب الدنيا الدنيـ                      ية إنها شرك الـردى

دار متى ما أضحكت                       في يومها أبكت غـدا

غاراتها لا تنقضي                           وأسيرها لا يفتـدى 

وذكره السيوطي أيضا في «شرح عقود الجمان»(38) وجاء البيت شاهدا عنده على الإسقاط الذي يكون من آخر النصف الثاني، كما استشهد به المرشدي مع كثير من التفصيل والشرح والتحليل(39). واستشهد به العباسي أيضا في «معاهد التنصيص»(40) في باب التشريع، وجعل هذا الضرب من النظم متكلفا زائدا لأنه راجع إلى الصناعة لا إلى البلاغة والبراعة.

والحق أن هذا النوع من المحسنات البديعية عند الحريري كان مقصودا لذاته وليس مطبوعا، وقد أتى به الحريري ليدل على ألمعيته وقوة ذكائه وسرعة خاطره ويقظة ذهنه، غير أن البلغاء جعلوه من الضرب المتكلف الزائد البعيد عن الفصاحة كل البعد، وليس مقياسا للذكاء كما أراده الحريري.

أحد عشر:

الاقتباس:

وهو أن يضمن نثره أو شعره ما وقع في القرآن أو السنة موزونا لا على أنه منه(41) أي لا على وجه يشعر بأنه من القرآن أو السنة، ويكثر في مقامات الحريري هذا الضرب من البديع،  ونعرض لشواهد الاقتباس في المقامات كالتالي: قوله في المقامة الحلوانية (ص:30) :”فلم يكُنْ إلا كلَمْحِ البَصَرِ أو هُوَ أقرَبُ. حتى أنْشَدَ فأغْرَب”.

وهذا القول استشهد به كل من القزويني(42) والسبكي(43) وابن حجة الحموي في معرض حديثهم عن الاقتباس، يقول ابن حجة الحموي في الخزانة “واعلم أن الاقتباس على نوعين نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه كقول الحريري «فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب حتى أنشد فأغرب» فإن الحريري كنى به عن شدة القرب”، وأضاف الحموي أن الاقتباس في قول الحريري أعلاه من جهة النقصان لأنه أسقط لفظة “هو”  من كلامه إذ الآية الكريمة لفظها كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ “(44) وفي كلام ابن حجة الحموي ضرب من الصحة لا خفاء فيه، إذ الله تعالى يقول في سورة النحل(الآية: 77): (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وجعله السيوطي أيضا من شواهد الاقتباس في النثر(45). 

وأضاف القزويني شاهدا آخر في باب الاقتباس(46) وهو قوله في المقامة القطيعية (ص:240) : “أنا أُنَبّئُكُمْ بتأويلِه، وأميّزُ صَحيحَ القوْلِ منْ عَليلِهِ”، وتبعه في ذلك ابن حجة الحموي(47)، وأضاف هذا الأخير شاهدا آخر وهو قول الحريري في المقامة الرازية (ص:208):” فطوبى لمَنْ سَمعَ ووَعى، وحقّقَ ما ادّعى، ونهى النّفْسَ عنِ الهوَى، وعلِمَ أنّ الفائِزَ منِ ارْعَوى، وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى، وأنّ سعيَهُ سوفَ يرى”، ويرى ابن حجة الحموي أن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن بل الناثر هو الذي يقتبس كالمنشئ والخطيب؛ لذلك جاءت كل شواهده حول الاقتباس من النثر ومن ذلك شواهد الحريري في مقاماته.

ومما انفرد به القزويني في هذا الباب استشهاده بقول الحريري في المقامة الإسكندرية (ص:95):” وكِتْمانُ الفَقْرِ زَهادَةٌ، وانتِظارُ الفَرَجِ بالصّبرِ عِبادَةٌ “، ونبه على أنه لفظ الحديث (48)، إلا أن الحديث موضوع كما تدل على ذلك كتب الحديث، غير أن القزويني- رحمه الله- لم يتنبه إلى هذه القضية، ولعل لهذا السبب لم تستشهد به كتب البلاغة التي جاءت بعد القزويني. 

 ومن شواهد القزويني في باب الاقتباس من مقامات الحريري  قوله في المقامة العمانية (ص:414):” قُلْنا شاهَتِ الوجوهُ، وقبُحَ اللُّكَعُ ومَنْ يرْجوهُ”، ونبه على اقتباسه من حديث للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول القزويني:” فإن قوله شاهت الوجوه لفظ الحديث فإنه روي لما اشتدت الحرب يوم حنين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء فرمى بها في وجوه المشركين وقال شاهت الوجوه أي قبحت”(49)، وذكر هذا الشاهد السبكي أيضا في «عروس الأفراح»(50) كما ذكره السيوطي أيضا في «شرح عقود الجمان» بعد قوله:

  مِنْ ذَاكَ الِاقْتِبَاسُ أَنْ تُضَمِّنَا                  مِنَ الْقُرَانِ وَالْحَدِيثِ مَا عَنَى

عَلَى طَرِيقٍ لَيْسَ مِنْهُ مِثْلما                   قَالَ الْحَرِيرِيُّ وَلَمَّا دُهِمَــا

قُلْنَا جَمِيعًا شَاهَتِ الْوُجُوهُ                وَقُبِّحَ اللُّكْعُ وَمَنْ يَرْجُــوهُ(51)

ولا بد من التنبيه على أن السيوطي يعتبر الاقتباس مما يتصل بالسرقات، ومن الشواهد التي انفرد بها السيوطي في باب الاقتباس قول الحريري في خطبة المقامات (ص:15):” ثمّ إذا كانَتِ الأعْمالُ بالنِّيّاتِ. وبها انْعِقادُ العُقودِ الدِّينِيّاتِ”(52)، ويمكن القول بأن هذا الشاهد من اقتباسات الحديث في النثر.

اثنا عشر:

الحذف:

هو في مصطلح علماء البيان عبارة عن التجنب لبعض حروف المعجم عن إيراده في الكلام(53)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الحلبية(ص:495):

أعْدِدْ لحُسّادِكَ حدّ السّلاحْ                  وأوْرِد الآملَ وِرْدَ السّماحْ

وهذا بيت استشهد به العلوي في «الطراز» في سياق حديثه عن أنواع التفنن في الخط وضروب التوسع فيه، ومن ذلك الإضافة إلى النقط بأن تكون الكلمات المتوالية مُعَرَّاةً كلها من النقط، فجعل العلوي بيت الحريري شاهدا على ذلك، وهو بيت تخلو كل حروفه من النقط، كما أورد العلوي شاهدا من مقامات الحريري على ما أتى به في المقامة السمرقندية (ص:285) من تجنب النقط،  وهي خطبته التي مطلعها ” الحمدُ للهِ الممْدوحِ الأسْماء، المحْمودِ الآلاء، الواسعِ العَطاء”، وفي خطبة أخرى في المقامة الواسطية (ص:299) والتي مطلعها:” الحمدُ للهِ الملِكِ المحْمودِ، المالِكِ الوَدودِ، مُصَوّرِ كُلّ موْلودٍ، ومآلِ كلّ مطْرودٍ”(54).

ومن ضروب هذا الحذف أيضا أن تكون جميع الكلمات منقوطا كل حرف منها، واستشهد العلوي على ذلك ببيت من مقامات الحريري حيث قال في المقامة الحلبية (ص:497):

فتَنَتْني فجنّنَتْني تجَنّي                     بتَجنٍّ يفْتَنّ غِبَّ تجَنّي

وقد أورد ابن حجة الحموي في باب ذكر الحذف الخطبة المهملة التي أجمع الناس على أنها نسيج وحدها وواسطة عقدها، ونشير هنا إلى أن الحموي أورد هذه الخطبة كاملة وأورد معها أيضا ما نسجه المتأخرون على منوالها. وعلق عليها بقوله :” رحم الله أبا القاسم الحريري، أتى في عاطل هذه الخطبة بالسهل الممتنع، ولكن ألجأته ضرورة العاطل، في مواضع، إلى الإتيان بألفاظ تفتقر إلى الحل” (55)،وقد عمل ابن حجة الحموي على تفسيرها في هذا الموضع.

ولا بد من الإشارة إلى أن التفتازاني أورد هذا الشاهد في «المطول» على أن وجه الشاهد فيه الإتيان بكلام يكون كل من كلماته متصلة الحروف وسماه بالموصل، وجعله أيضا من الضرب الذي يرجع التحسين فيه إلى الخط دون اللفظ(56). 

وممن جمع هذه الشواهد كاملة من المتأخرين العباسي في «معاهد التنصيص»(57) إلى جانب شواهد شعرية كثيرة تدل على شيوع هذا الضرب من المحسنات بين الأدباء، ويرى العباسي أن هذا النوع من الكتابة مما يختبر به الأدباء أفكارهم ويشحذون به قرائحهم من التزام حروفٍ جميعُها مهملة أو جميعُها معجمة أو لا تنطبق معها الشفتان إلى غير ذلك من التفننات، وأورد العباسي شاهدا آخر من مقامات الحريري يدخل في هذا الباب وهو قوله في المقامة الحلبية أيضا (ص:498):

اِسْمَحْ فبَثُّ السّماح زين                ولا تُخِبْ آمِــلاً تضَيّفْ

ولا تُجِزْ رَدَّ ذي ســؤالٍ                فنّنَ أم في السّؤالِ خفَّـفْ

ولا تظُنّ الدّهورَ تُبقـي                  مالَ ضَنينٍ ولوْ تقَشّفْ

واحلُمْ فجفنُ الكرامِ يُغضي              وصَدرُهمْ في العَطاء نفنَـفْ

ولا تخُنْ عهْـدَ ذي وِدادٍ               ثبْتٍ ولا تبْغِ ما تزيَّــفْ

ويرى ابن الأثير(58) أن ما أورده الحريري في مقاماته من تلاعب لفظي أي إيراد خطبة كل كلماتها معجمة وأخرى كل كلماتها مهملة، ورسالة مكونة من كلمات حرف مهمل وتاليه معجم(الرقطاء) لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة، وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة، وألفاظه مستكرهة غير ملائمة لأخواتها خلافا لعلم البيان الذي يعني الفصاحة والبلاغة في الألفاظ إلى جانب المعاني، وهذا ما ذهب إليه التفتازاني أيضا وجعل هذا النوع من التحسين من ضروب التكلف(59)، إلا أن الحريري كان حريصا على إيراد مثل هذا التلاعب اللفظي البلاغي في مقاماته ليبرهن على براعته في فني الشعر والنثر معا، ولكي تروق أهل عصره وتنال مقاماته استحسانهم وإعجابهم. 

ثلاثة عشر:

بيان الإيجاز بالقصر:

عرفه العلوي بالذي تزيد فيه المعاني على الألفاظ وتفوق(60) وشواهده من مقامات الحريري قوله في المقامة القهقرية (ص:170): “استِعْمالُ المُداراةِ يوجِبُ المُصافاةَ”، وقوله أيضا(ص:171):” ملَلُ الخلائقِ، شَينُ الخلائقِ” وقوله(ص:171) :”والتِزامُ الحَزامَةِ، زِمامُ السّلامَةِ” وقوله:” تطلُّبُ المثالِبِ، شرُّ المَعايِب” ِ، وقوله: “عندَ الأوْجالِ، تتفاضَلُ الرّجالُ”(ص:172).

وكل هذه الشواهد أتى بها العلوي في «الطراز»(61)، وذكر أن هذا الضرب من الإيجاز لا يكاد يوجد إلا على القلة في كلام الفصحاء باستثناء القرآن الكريم الذي يوجد فيه الكثير من هذا الكلام، والعلة في ذلك – حسب العلوي- أنه حاز معظم البلاغة.

أربعة عشر:

التشبيه:

هو دلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى(62) وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الحلوانية (ص:28):

يفترُّ عن لُؤلُؤٍ رطْبٍ وعن برَدٍ               وعن أقاحٍ وعن طلْعٍ وعن حبَبِ

أشار إلى هذا البيت ابن حجة الحموي في خزانته في باب ذكر الالتفات ولكنه لم يصرح به؛ حيث قال: “ولقد أنصف الحريري في المقامة الحلوانية عند إيراد البيت الجامع لمشبهات الثغر”(63).

إلا أن العباسي استشهد به في باب التشبيه، وذكر أن وجه الشاهد في هذا البيت تعدد طرف المشبه به، فقد جرى تشبيه الثغر عند الحريري بخمسة أشياء وهي ( لؤلؤ- برد- أقاح- طلع- حبب).

وأضاف العباسي شاهدين اثنين يدخلان في باب التشبيه أولهما قوله في المقامة الحلوانية أيضا(ص:30):

سألتُها حينَ زارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِها الـ              قاني وإيداعَ سمْعي أطيَبَ الخبَرِ

فزَحزَحَتْ شفَقاً غشّى سَنا قمَــرٍ          وساقَطَتْ لُؤلؤاً من خاتَمٍ عطِــرِ

 وثانيهما قوله في  نفس المقامة (ص:30): 

وأقبَلَتْ يومَ جدّ البينُ في حُلَلٍ                   سودٍ تعَضُّ بَنانَ النّادِم الحَصِرِ

فلاحَ ليْلٌ على صُبْحٍ أقلّهُــما                  غُصْنٌ وضرَّسَتِ البِلّورَ بالدُّرَرِ

وجعل العباسي هذين البيتين من محاسن التشبيه من غير أداته(64). ومن الملاحظ أن شواهد الحريري في كتب البلاغة غالبا ما تدخل في باب البديع، اللهم بعض الشواهد التي تبقى محصورة في باب التشبيه كما أوردها المتأخرون من أمثال العباسي في «معاهد التنصيص» أما في كتب البلاغة القديمة فلا نكاد نجد فيها شواهد من  مقامات الحريري إذ تبقى قليلة إلى منعدمة؛ والعلة في ذلك كما قلنا سابقا أن اهتمام الحريري كان ينصب على المحسنات البديعية أكثر من وسائل المعاني والبيان، مسايرة لروح عصره الذي كان البديع سمته. 

خمسة عشر:

القلب:

هو أصناف منها التبديل، وهو عكس الكلمات في الترتيب، ومنه قلب البعض، ومنها قلب الكل، ومنها المجنح، وهو أن يكون أحد الطرفين من البيت أو المصراع قلبا للآخر، ومنها المستوى وهو أن يقرأ طردا وعكسا(65)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة المغربية(ص:161):

أُسْ أرْمَلاً إذا عَرا           وارْعَ إذا المرءُ أسا

وهذا بيت استشهد به ابن الناظم في «المصباح»(66) وجعله من القلب المسمى بالمستوي،  بالإضافة إلى شاهدين من كتاب الله تعالى، وهما” كل في فلك” و ” ربك فكبر”، ويرى ابن الناظم أن هذا النوع صعب المسلك قليل الاستعمال، واستشهد به العلوي في «الطراز» في باب المستوى أيضا وهو قليل نادر صعب المسلك، وعر المرتقى لا يكاد يأتي به إلا من أفلق في البلاغة، وتقدم في الفصاحة (67). وتبعه في ذلك ابن حجة الحموي أيضا وعلق عليه بقوله:” وهذا النظم أيضا لا يخفى أنه يتجافى عن الرقة بغليظ لفظه”(68)، وأورده المرشدي أيضا وجعله من النوع الصعب المتكلف(69)، كما استشهد به العباسي في «معاهد التنصيص»(70) وذكر تسمية الحريري له بما لا يستحيل بالانعكاس وهو أن يكون عكسُ البيت شطرُه كطرده. 

وأضاف صاحب «الطراز» شواهد أخرى من المقامات تدخل في باب القلب منها قول الحريري في المقامة المغربية أيضا(ص:160): “كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ”، وقوله كذلك: “منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ”، وقوله أيضا:” سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ”، وعلق على هذه الشواهد بقوله:” وأعجب الحسن في هذه الأمور أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فعند هذا تروق وتحسن، فأما إذا جاءت على العكس من هذا نزل قدره ولم يكن معجبا كل الإعجاب”(71)، وأضاف ابن حجة الحموي شاهدين آخرين أوردهما في باب ما لا يستحيل بالانعكاس، وهي قول الحريري في نفس المقامة(ص:159): ” ساكِبُ كاسٍ” وقوله(ص:161):” لُذْ بكلّ مؤمّلٍ إذا لمّ وملَك بذَلَ”، وعلق على الشواهد بقوله:” قلت هذا الكلام الذي زاد الحريري في عدة كلماته صحيح التركيب في طرده وعكسه ولكن لم يخف على الحذاق وأصحاب السجايا الرقيقة أن التكلف طوق جيده بطوق العقادة “(72).

ولنا أن نقول إن شواهد الحريري في هذا الباب غير مطبوعة كما أن التكلف ظاهر عليها ؛ وذلك بغية تحصيل البديع، والملاحظ أن كلام الحريري في هذه الشواهد يخلو من معان حقيقية لأن الاهتمام كان ينصب على الخدع اللفظية على حساب المعنى والفكر، الذي لم يوله الحريري أي اهتمام لكنها في المقابل تروق معاصريه وتثير إعجابهم.

ـــــــــــ

الهوامش: 

1- المصدر نفسه ص:329.

2- المصدر نفسه ص:330.

3-الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز2/307. 

4- عروس الأفراح2/297.

5- المطول ص:692.

6- معاهد التنصيص ص:342.

7- شرح عقود الجمان للسيوطي، ص:340.

8- شرح عقود الجمان للمرشدي، ص:175.

9- بغية الإيضاح 4/652.

10- خزانة الأدب وغاية الأرب2/409.

11- المثل السائر 1/259.

12- الإيضاح ص:331.

13-التلخيص في علوم البلاغة ص:107.

14- عروس الأفراح2/300.

15- خزانة الأدب وغاية الأرب2/409.

16-الأطول2/474.

17 – شرح عقود الجمان للمرشدي، ص: 181.

18- الإيضاح ص:255.

19- عروس الأفراح2/174.

20- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز1/200.

21- بغية الإيضاح3/505-506.

22- الإيضاح ص:353، عروس الأفراح2/334.

23- الإيضاح ص:354.

24-خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب1/99.

25- عروس الأفراح2/335.

26-الأطول2/513.

27-المصباح ص:201.

28- شرح عقود الجمان ص:353.

29- المثل السائر 2/341.

30- المصباح ص:201.

31- الإيضاح ص:335، التلخيص ص:65.

32- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز3/61.

33- عروس الأفراح2/306.

34- مفتاح تلخيص المفتاح2/725.

35- خزانة الأدب وغاية الأرب1/266.

36- المطول ص:703.

37- بغية الإيضاح4/662.

38- شرح عقود الجمان للسيوطي، ص:354.

39- شرح عقود الجمان للمرشدي، ص:354.

40- معاهد التنصيص ص:352.

41- شرح عقود الجمان ص:373.

42- الإيضاح ص:350.

43- عروس الأفراح2/332.

44- خزانة الأدب وغاية الأرب2/456-457.

45- شرح عقود الجمان ص:376.

46- الإيضاح ص:350.

47- خزانة الأدب وغاية الأرب2/459.

48- الإيضاح ص:352.

49- المصدر نفسه.

50- عروس الأفراح2/332.

51- شرح عقود الجمان ص:372.

52- المصدر نفسه ص:377.

53- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز3/157.

54- المصدر نفسه.

55- خزانة الأدب وغاية الأرب2/448-450.

56- المطول، ص:707.

57- معاهد التنصيص ص:355.

58- المثل السائر2/334.

59- المطول، ص:707.

60-الطراز2/100.

61-المصدر نفسه 2/102-103.

62- الإيضاح ص:188.

63- خزانة الأدب وغاية الأرب1/137.

64- معاهد التنصيص ص:163.

65-المصباح ص:216.

66- المصدر نفسه ص:217.

67- الطراز3/86.

68- خزانة الأدب وغاية الأرب2/37.

69 – شرح عقود الجمان للمرشدي، ص: 187.

70- معاهد التنصيص ص:351.

71- الطراز3/85-86.

72- خزانة الأدب وغاية الأرب2/36

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق