مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

شرح “موجز البلاغة” للدكتور محمد الحافظ الروسي

 

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
موجز البلاغة: في كلمة “الإيجاز” معنيان أولهما: الاختصار والتقصير. فمعنى أوجزته اختصرته وقصرته. وثانيهما: الإسراع والتخفيف. يقال: أوجز في كلامه، وكتابه، وفعاله، يوجز إيجازا إذا أسرع وخفف. وقد تداول جماعة من أهل اللغة والأدب حديثا لا سند له، ذكروا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير بن عبد الله البجلي: إذا قلتَ فأوجز، أي أسرع واختصر. وهو ما نجده في أول كتاب الكامل للمبرد، وعنه نقلوا، وليس عند أهل الحديث بشيء. 
والمقصود هنا جملة أمور هي:
أولا: إن هذا العمل لم يكن ابتداء، وإنما هو قائم على اختصار قواعد معروفة سابقة عن هذا التأليف. 
ثانيا: إن معنى “الوجيز” و”الموجز” واحد، غير أن الوجيز يدل على وجازة الكلام في نفسه، فهو من: وَجُزَ الكلامُ. والموجز يدل على ذلك، ويدل على معنى آخر زائد، وهو نسبة ذلك إلى فاعله الذي أوجزه، لأنه اسم مفعول من أوجز الكلامَ. ولعله لذلك اعتاد جماعة من القدماء تسمية كتبهم “وجيزا”، تواضعا منهم، رحمهم الله تعالى، وذلك كالمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (ت:546 هـ)، والمرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي (ت: 665هـ)، والوجيز في أصول الفقه للكراماستي (ت: 906 هـ)، والوجيز في الفقه لسراج الدين ابن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيلي (ت: 732 هـ)، والوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي الحسن الواحدي(ت:468 هـ)، وهو ثالث ثلاثة كتب في التفسير للواحدي، والآخران هما: البسيط والوسيط. وقد أخذ عنه الإمام الغزالي عنوان كتبه الثلاثة . واشتهر الوجيز للغزالي، وعرف عدد من العلماء بحفظه، حتى سمي أحدهم بالوجيزي لحفظه إياه، واعتنائه به، وهو جمال الدين أبو العباس الوجيزي(ت: 729 هـ). 
وقد فشا استعمال لفظ الموجز في عناوين الكتب عند المعاصرين كالموجز في تاريخ البلاغة لمازن المبارك، والموجز في قواعد اللغة العربية لسعيد الأفغاني، وموجز البلاغة للشيخ ابن عاشور. فلعلهم نظروا إلى الأمر من اعتبار آخر، وهو أن الموجَز يقتضي وجود كلام سابق في الواقع، أو في الذهن، يوجزه المتكلم، وأن الوجيز لا يشترط فيه ذلك، وإنما يُشترط فيه قلة اللفظ وكثرة المعنى لا غير. 
ثالثا: ذهب جمهور العلماء إلى أن الإيجاز والاختصار متحدان. وذهبت طائفة إلى أن الاختصار أعم. وذلك أن الاختصار لا يكون إلا بوجود حذف، ولا يشترط ذلك في الإيجاز. ومثاله إيجاز القصر الذي هو قصر اللفظ على المعنى، فهذا لا حذف فيه. وذلك كما في قوله تعالى:{إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي واتوني مسلمين}. جمع في أحرف العنوان، والكتاب، والحاجة، وإظهار الدين، وعرض الرشاد إلى المكتوب إليهم. وهذا رأي من يدخل المساواة في الإيجاز. 
ومن الفوائد الجليلة التي نجدها عند المؤلف في تفسيره لهذه الآية، ولا نجدها عند غيره، فهمه لمعنى “أنْ” في قوله تعالى:”أن لا تعلوا”. حيث ذكر أقوال العلماء في كونها لا تخرج عن أن تكون مصدرية ناصبة للمضارع، أو مخففة من الثقيلة، أو تفسيرية. ثم قال، رحمه الله تعالى:”ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية، ويخطر ببالي أن موقع (أَنْ) هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه. وأنها المخففة من الثقيلة. وقد رأيتُ في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح بــــ(أنْ) في ثاني خُطبة خطبها بالمدينة في «سيرة ابن إسحاق». وذكر السهيلي: أَنَّ الحمدُ، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن. ولكن كلامه جرى على أن حرف (إن) مكسور الهمزة مشدد النون. ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال لــــ(أنْ) المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى:{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} يونس: 10.
وقد اعتاد القدماء إذا قصدوا في تآليفهم الاقتصارَ على القضايا الكبرى في العلم الذي يؤلفون فيه، مع الاختصار، والإيجاز، والتقليل من الشواهد، والأمثلة، والتفريعات، أن يسموها وجيزا، وموجزا، واختصارا، وخلاصة، وتلخيصا. وقد بينا الفرق بين الوجيز والموجز، وبقي أن ندل على الفرق بين المختصر والتلخيص. إذ بينهما علاقة عموم وخصوص. فكل مختصر تلخيص، ولا عكس. وذلك أن كل مختصر فيه تقريب واختصار، فمعنى الاختصار إيجاز الكلام وحذف الفضول منه. وليس كل تلخيص مختصر، فإن التلخيص قد يبنى على التبيين والشرح. وهو أحد معنييه. يقال: لخصت الشيء ولحصته، بالخاء والحاء، إذا استقصيت في بيانه، وشرحه، وتحبيره. ومعنى قولهم: لخص لي خبرك، أي بينه لي شيئا بعد شيء. ومن كلام علي، رضوان الله عليه:”..حتى إذا ما ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل، قعد بين الناس قاضيا لتلخيص ما التبس على غيره..” أي: لتخليص. هذا في رواية، والرواية الأشهر: لتخليص. وقد يبنى التلخيص على التقريب والاختصار، فيكون معنى قولك: لخصت القول. اقتصرتُ فيه، واختصرتُ منه ما يُحتاجُ إليه.
وقد ذهب السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ في “عروس الأفراح”إلى المعنى الأول فذكر أن التلخيص والاختصار متنافيان، لأن الاختصار عنده هو تقليل اللفظ وتكثير المعنى، بينما التلخيص شرح، فهو عكس الاختصار، ومادته ترجع كلها إلى البسط.
ولعله كتب هذا الكلام وهو ينظر إلى تلخيص القزويني لمفتاح السكاكي، فقد كان موضوع تأليفه شرح كتاب الخطيب القزويني. وقد نص الخطيب في مقدمة كتابه أنه أضاف فوائد لم ترد عند السكاكي نقلها عن بعض الكتب، وزوائد من اجتهاده لا توجد في كتاب غير كتابه. وإن كنا مع ذلك لا نزعم أنه كان يفرق بين المصطلحين تفريق السبكي. فإنه وإن سماه تلخيصا، يصفه بأنه مختصر أيضا.وذلك في قوله: “ألفت مختصرا يتضمن ما فيه (أي ما في المفتاح) من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد..”وقد بين أن التلخيص عنده يقوم على أمرين هما: أولا: التجريد. أي تجريد الكتاب عما فيه من الحشو، والتطويل، والتعقيد. وثانيا: الإيضاح، والإضافة، وتسهيل الفهم. وهذا جامع بين معنيي التلخيص اللذين ذكرتهما. فإذا صح هذا فإنه يصعب تصور التنافي الذي ذكره السبكي، رحمه الله تعالى.
وهذا الذي أشار إليه السبكي مما غاب عن ذهن بعض الدارسين حيث وصفوا ما كتبه ابن رشد في “تلخيص كتاب الشعر” بأنه فهم غير سديد لما قاله أرسطو. ولا شك أن هناك كثيرا من الاختلافات الواقعة بين أقوال الرجلين. وقد وضع د. تشارلس بترورث ود.أحمد عبد المجيد هريدي في تحقيقهما لكتاب ابن رشد قائمة قابلا فيها بين نصوص الكتابين، وهي قائمة يسرا بها عمل الدارس الذي يريد الموازنة بينهما. غير أن السؤال الذي نضعه هو: هل هذه الاختلافات ناشئة عن سوء فهم من ابن رشد لأقوال أرسطو أم هي اختلافات مقصودة؟. والجواب أن هذه الاختلافات منها ما هو ناشئ عن سوء تصور للشعر اليوناني، وهو الشعر الذي يتحدث عنه أرسطو. ومن ذلك ترجمته للكوميديا بالهجاء، وللتراجيديا بالمدح، ومحاكاة الفعل التام بالمحاكاة التامة الفعل، والمنظر المسرحي بالنظر، الذي هو عنده إبانة صواب الاعتقاد، إلى غير ذلك من أمور. ومنها ما هو مقصود سببه طبيعة التلخيص. وهو الأمر الذي غفلوا عنه، فظنوا أنه كان محض مترجم، أو أنه كان مختصرا لكتاب أرسطو، وهو أمر غير صحيح. والله أعلم.
وأما مصطلح “الخلاصة” فالظاهر أنهم كانوا يستعملونه إذا لخص المؤلف مسائل علم من مصادره، أو من أكثر من كتاب. فلا يشترطون في الخلاصة أن تكون اختصارا أو تلخيصا لكتاب بعينه، وذلك ككتاب الحسين بن عبد الله الطيبي(ت:743هـ): الخلاصة في أصول الحديث، حيث لخصه من كتاب ابن الصلاح (ت: 643 هـ)، ومختصر النووي (ت: 676 هـ)، والقاضي بدر الدين ابن جماعة (ت: 733هـ). وكتاب أحمد بن حسن الرَّصَّاص(ت: 656هـ)، الذي سماه: الخلاصة النافعة بالأدلة القاطعة في فوائد التابعة. وهو في عقائد المعتزلة والزيدية. 
وقد استعمل بدر الدين ابن مالك(ت:672هـ) مصطلح “الخلاصة” في تسمية ألفيته في النحو، وهي مختصر الكافية الشافية الواقعة في ثلاثة آلاف بيت. فلما كان العصر الحديث استعمله الدكتور تمام حسان(ت:2011م) في باب جديد من أبواب التأليف وهو باب التطبيق، أو باب بيان قبول النظرية للتطبيق، وذلك في كتابه: الخلاصة النحوية، الذي جعله في تطبيق ما ورد في كتابه النظري: اللغة العربية معناها ومبناها. فكأنه جعل التطبيق خلاصة النظرية، خاصة مع اعتماده التركيز الشديد، وعدم اعتماد الشواهد إلا في أضيق الحدود.
واستعملوا مصطلحات أخرى في عناوين كتبهم دالة على الاختصار، وذلك كالتهذيب، والتنقيح، واللباب، والمحرَّر. وأشهرها التهذيب. وهو في أصله، كما في الكليات للكفوي،”عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله..”. غير أن ترداد النظر هنا يتنوع من ترداد نظر في كلام مؤلف سابق، إلى ترداد نظر في تهذيب إشكالات، أو قضايا، أو مسائل علم أو مذهب، يصبح بسببها التعقيب ضرورة، والزيادة في محلها مطلوبة، وتغيير الترتيب مقبولا. لذلك نجد الفقيه أبا سعيد بن خلف القيرواني الشهير بالبراذعي(ت:438 هـ)، يغير ترتيب مسائل المدونة، فيقدم ويؤخر، وذلك في كتابه التهذيب في اختصار المدونة، ونجد لابن حجر العسقلاني (773 ـ 852 هـ)زيادات على المِزِّي والحافظ المقدسي ، وذلك في كتابه”تهذيب التهذيب”الذي اختصر فيه كتاب الحافظ المِزِّي(654 ـ 742 هـ)”تهذيب الكمال”، وهو مختصر “الكمال في أسماء الرجال” للحافظ المقدسي الحنبلي(541 ـ 600 هـ). وقد اختصر ابن حجر، رحمه الله تعالى، كتابه هذا في”تقريب التهذيب”. وهو باب من أبواب التأليف في هذا الباب، وهو وضع مختصر للمختصر. وقد تتسلسل المختصرات جدا، وذلك كاختصار النووي لمحرر الرافعي في “المنهاج”، واختصار شيخ الإسلام زكريا “المنهاج” في “المنهج”، واختصار الجوهري “المنهج” في “النهج”. ومثال ذلك أيضا شرح الرافعي وجيز الغزالي بالعزيز، ثم اختصار النووي له في “الروضة”، واختصار ابن مقري “الروضة” في “الروض”، واختصار ابن حجر “الروض” في “النعيم”. واختصار السيوطي أيضا “الروضة” في “الغنية”. وهذه عناية بالغة بأمهات الكتب بيانا، وشرحا، وتلخيصا، وتعليقا، خصت بها هذه الأمة، وميزت طريقة معالجتها للقضايا، ونظرتها لأمهات المسائل زمنا طويلا.
والتهذيب تهذيبان: تهذيبٌ يقوم على تنقيح المذهب واختصاره، ومثاله كتاب “التهذيب في فقه الإمام الشافعي” للبغوي(ت: 516 هـ). قال عنه:” وهذا كتاب أنشأته بعون الله ـ جل ذكره ـ في “تهذيب مذهب الإمام المطلبي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي”.. 
وتهذيب يقوم على تنقيح المذهب لا غير، ومثاله كتاب الطوسي(385 ـ 460هـ)”تهذيب الأحكام”، فهو قائم على البسط، لأنه شرح لكتاب”المقنعة” للشيخ المفيد(336 ـ 413 هـ)، ومكمن التهذيب فيه أنه تهذيب لأحاديث الشيعة لما فيها من التعارض، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، على ما ذكره الطوسي نفسه في مقدمة كتابه.
وأقل من التهذيب استعمالا التنقيح، ومثاله كتاب”التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح” لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي(745 ـ 794 هـ). بناه على إيجاز العبارة ، والومْئ بالإشارة، وتجنب الإكثار الذي هو داعية الملال. أوضح فيه غوامض صحيح البخاري، منتخبا ذلك من أصح الأقوال وأحسنها. 
ومثله في قلة الاستعمال”المحرر”و”اللباب”. ومن ذلك المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي(481 ـ 541 هـ). ومحرر الرافعي الذي اختصره من وجيز الغزالي. وإن قيل: إن تسميته مختصرا لقلة لفظه، لا لكونه ملخصا من كتاب بعينه.
ثم “اللباب في علوم الكتاب” لابن عادل الدمشقي الحنبلي(ت: بعد 880 هـ). قال في مقدمته:” فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته “اللباب في علوم الكتاب”…ومثله”اللباب في شرح الكتاب” وهو لعبد الغني الغنيمي(ق: الثالث عشر الهجري) على المختصر المشتهر باسم”الكتاب” لأبي الحسين القدوري البغدادي (332 ـ 428هـ) في الفقه الحنفي.
البلاغة: مصدر “بَلُغَ”الرجل بالضم: إذا صار بليغا. وقد اختلفوا في حدها. وأقرب تلك الحدود إلى نفسي قولهم: هي أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما في نفسه. ويعتبر علماء المعاني البلاغة أخص من الفصاحة. فالفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط. يقال: كلمة فصيحة، ولا يقال بليغة. 
وبلاغة الكلام عندهم مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وبلاغة المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. والذي يقصده المؤلف هنا بموجز البلاغة: موجز علم البلاغة. فحذف المضافَ اختصارا لظهور المعنى، وأمن اللبس.
والمقصود بعلم البلاغة هنا علومها الثلاثة وهي: البيان، والمعاني، والبديع. وهو ما استقر عليه المتأخرون بعد السكاكي(ت: 626 هـ). وهو عند المتقدمين يشمل علوم النقد مجتمعة، فكل ما يلزم معرفته لإتقان صناعة الشعر، فهو عندهم من البلاغة. وهذه نظرة أشمل من الأولى وأوسع.

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

موجز البلاغة: في كلمة “الإيجاز” معنيان أولهما: الاختصار والتقصير. فمعنى أوجزته اختصرته وقصرته. وثانيهما: الإسراع والتخفيف. يقال: أوجز في كلامه، وكتابه، وفعاله، يوجز إيجازا إذا أسرع وخفف. وقد تداول جماعة من أهل اللغة والأدب حديثا لا سند له، ذكروا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير بن عبد الله البجلي: إذا قلتَ فأوجز، أي أسرع واختصر. وهو ما نجده في أول كتاب الكامل للمبرد، وعنه نقلوا، وليس عند أهل الحديث بشيء. 

والمقصود هنا جملة أمور هي:

أولا: إن هذا العمل لم يكن ابتداء، وإنما هو قائم على اختصار قواعد معروفة سابقة عن هذا التأليف. 

ثانيا: إن معنى “الوجيز” و”الموجز” واحد، غير أن الوجيز يدل على وجازة الكلام في نفسه، فهو من: وَجُزَ الكلامُ. والموجز يدل على ذلك، ويدل على معنى آخر زائد، وهو نسبة ذلك إلى فاعله الذي أوجزه، لأنه اسم مفعول من أوجز الكلامَ. ولعله لذلك اعتاد جماعة من القدماء تسمية كتبهم “وجيزا”، تواضعا منهم، رحمهم الله تعالى، وذلك كالمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (ت:546 هـ)، والمرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي (ت: 665هـ)، والوجيز في أصول الفقه للكراماستي (ت: 906 هـ)، والوجيز في الفقه لسراج الدين ابن أبي السَّرِيِّ الدُّجَيلي (ت: 732 هـ)، والوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي الحسن الواحدي(ت:468 هـ)، وهو ثالث ثلاثة كتب في التفسير للواحدي، والآخران هما: البسيط والوسيط. وقد أخذ عنه الإمام الغزالي عنوان كتبه الثلاثة . واشتهر الوجيز للغزالي، وعرف عدد من العلماء بحفظه، حتى سمي أحدهم بالوجيزي لحفظه إياه، واعتنائه به، وهو جمال الدين أبو العباس الوجيزي(ت: 729 هـ). 

وقد فشا استعمال لفظ الموجز في عناوين الكتب عند المعاصرين كالموجز في تاريخ البلاغة لمازن المبارك، والموجز في قواعد اللغة العربية لسعيد الأفغاني، وموجز البلاغة للشيخ ابن عاشور. فلعلهم نظروا إلى الأمر من اعتبار آخر، وهو أن الموجَز يقتضي وجود كلام سابق في الواقع، أو في الذهن، يوجزه المتكلم، وأن الوجيز لا يشترط فيه ذلك، وإنما يُشترط فيه قلة اللفظ وكثرة المعنى لا غير. 

ثالثا: ذهب جمهور العلماء إلى أن الإيجاز والاختصار متحدان. وذهبت طائفة إلى أن الاختصار أعم. وذلك أن الاختصار لا يكون إلا بوجود حذف، ولا يشترط ذلك في الإيجاز. ومثاله إيجاز القصر الذي هو قصر اللفظ على المعنى، فهذا لا حذف فيه. وذلك كما في قوله تعالى:{إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي واتوني مسلمين}. جمع في أحرف العنوان، والكتاب، والحاجة، وإظهار الدين، وعرض الرشاد إلى المكتوب إليهم. وهذا رأي من يدخل المساواة في الإيجاز. 

ومن الفوائد الجليلة التي نجدها عند المؤلف في تفسيره لهذه الآية، ولا نجدها عند غيره، فهمه لمعنى “أنْ” في قوله تعالى:”أن لا تعلوا”. حيث ذكر أقوال العلماء في كونها لا تخرج عن أن تكون مصدرية ناصبة للمضارع، أو مخففة من الثقيلة، أو تفسيرية. ثم قال، رحمه الله تعالى:”ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية، ويخطر ببالي أن موقع (أَنْ) هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه. وأنها المخففة من الثقيلة. وقد رأيتُ في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح بــــ(أنْ) في ثاني خُطبة خطبها بالمدينة في «سيرة ابن إسحاق». وذكر السهيلي: أَنَّ الحمدُ، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن. ولكن كلامه جرى على أن حرف (إن) مكسور الهمزة مشدد النون. ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال لــــ(أنْ) المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى:{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} يونس: 10.

وقد اعتاد القدماء إذا قصدوا في تآليفهم الاقتصارَ على القضايا الكبرى في العلم الذي يؤلفون فيه، مع الاختصار، والإيجاز، والتقليل من الشواهد، والأمثلة، والتفريعات، أن يسموها وجيزا، وموجزا، واختصارا، وخلاصة، وتلخيصا. وقد بينا الفرق بين الوجيز والموجز، وبقي أن ندل على الفرق بين المختصر والتلخيص. إذ بينهما علاقة عموم وخصوص. فكل مختصر تلخيص، ولا عكس. وذلك أن كل مختصر فيه تقريب واختصار، فمعنى الاختصار إيجاز الكلام وحذف الفضول منه. وليس كل تلخيص مختصر، فإن التلخيص قد يبنى على التبيين والشرح. وهو أحد معنييه. يقال: لخصت الشيء ولحصته، بالخاء والحاء، إذا استقصيت في بيانه، وشرحه، وتحبيره. ومعنى قولهم: لخص لي خبرك، أي بينه لي شيئا بعد شيء. ومن كلام علي، رضوان الله عليه:”..حتى إذا ما ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل، قعد بين الناس قاضيا لتلخيص ما التبس على غيره..” أي: لتخليص. هذا في رواية، والرواية الأشهر: لتخليص. وقد يبنى التلخيص على التقريب والاختصار، فيكون معنى قولك: لخصت القول. اقتصرتُ فيه، واختصرتُ منه ما يُحتاجُ إليه.

وقد ذهب السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ في “عروس الأفراح”إلى المعنى الأول فذكر أن التلخيص والاختصار متنافيان، لأن الاختصار عنده هو تقليل اللفظ وتكثير المعنى، بينما التلخيص شرح، فهو عكس الاختصار، ومادته ترجع كلها إلى البسط.

ولعله كتب هذا الكلام وهو ينظر إلى تلخيص القزويني لمفتاح السكاكي، فقد كان موضوع تأليفه شرح كتاب الخطيب القزويني. وقد نص الخطيب في مقدمة كتابه أنه أضاف فوائد لم ترد عند السكاكي نقلها عن بعض الكتب، وزوائد من اجتهاده لا توجد في كتاب غير كتابه. وإن كنا مع ذلك لا نزعم أنه كان يفرق بين المصطلحين تفريق السبكي. فإنه وإن سماه تلخيصا، يصفه بأنه مختصر أيضا.وذلك في قوله: “ألفت مختصرا يتضمن ما فيه (أي ما في المفتاح) من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد..”وقد بين أن التلخيص عنده يقوم على أمرين هما: أولا: التجريد. أي تجريد الكتاب عما فيه من الحشو، والتطويل، والتعقيد. وثانيا: الإيضاح، والإضافة، وتسهيل الفهم. وهذا جامع بين معنيي التلخيص اللذين ذكرتهما. فإذا صح هذا فإنه يصعب تصور التنافي الذي ذكره السبكي، رحمه الله تعالى.

وهذا الذي أشار إليه السبكي مما غاب عن ذهن بعض الدارسين حيث وصفوا ما كتبه ابن رشد في “تلخيص كتاب الشعر” بأنه فهم غير سديد لما قاله أرسطو. ولا شك أن هناك كثيرا من الاختلافات الواقعة بين أقوال الرجلين. وقد وضع د. تشارلس بترورث ود.أحمد عبد المجيد هريدي في تحقيقهما لكتاب ابن رشد قائمة قابلا فيها بين نصوص الكتابين، وهي قائمة يسرا بها عمل الدارس الذي يريد الموازنة بينهما. غير أن السؤال الذي نضعه هو: هل هذه الاختلافات ناشئة عن سوء فهم من ابن رشد لأقوال أرسطو أم هي اختلافات مقصودة؟. والجواب أن هذه الاختلافات منها ما هو ناشئ عن سوء تصور للشعر اليوناني، وهو الشعر الذي يتحدث عنه أرسطو. ومن ذلك ترجمته للكوميديا بالهجاء، وللتراجيديا بالمدح، ومحاكاة الفعل التام بالمحاكاة التامة الفعل، والمنظر المسرحي بالنظر، الذي هو عنده إبانة صواب الاعتقاد، إلى غير ذلك من أمور. ومنها ما هو مقصود سببه طبيعة التلخيص. وهو الأمر الذي غفلوا عنه، فظنوا أنه كان محض مترجم، أو أنه كان مختصرا لكتاب أرسطو، وهو أمر غير صحيح. والله أعلم.

وأما مصطلح “الخلاصة” فالظاهر أنهم كانوا يستعملونه إذا لخص المؤلف مسائل علم من مصادره، أو من أكثر من كتاب. فلا يشترطون في الخلاصة أن تكون اختصارا أو تلخيصا لكتاب بعينه، وذلك ككتاب الحسين بن عبد الله الطيبي(ت:743هـ): الخلاصة في أصول الحديث، حيث لخصه من كتاب ابن الصلاح (ت: 643 هـ)، ومختصر النووي (ت: 676 هـ)، والقاضي بدر الدين ابن جماعة (ت: 733هـ). وكتاب أحمد بن حسن الرَّصَّاص(ت: 656هـ)، الذي سماه: الخلاصة النافعة بالأدلة القاطعة في فوائد التابعة. وهو في عقائد المعتزلة والزيدية. 

وقد استعمل بدر الدين ابن مالك(ت:672هـ) مصطلح “الخلاصة” في تسمية ألفيته في النحو، وهي مختصر الكافية الشافية الواقعة في ثلاثة آلاف بيت. فلما كان العصر الحديث استعمله الدكتور تمام حسان(ت:2011م) في باب جديد من أبواب التأليف وهو باب التطبيق، أو باب بيان قبول النظرية للتطبيق، وذلك في كتابه: الخلاصة النحوية، الذي جعله في تطبيق ما ورد في كتابه النظري: اللغة العربية معناها ومبناها. فكأنه جعل التطبيق خلاصة النظرية، خاصة مع اعتماده التركيز الشديد، وعدم اعتماد الشواهد إلا في أضيق الحدود.

واستعملوا مصطلحات أخرى في عناوين كتبهم دالة على الاختصار، وذلك كالتهذيب، والتنقيح، واللباب، والمحرَّر. وأشهرها التهذيب. وهو في أصله، كما في الكليات للكفوي،”عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله..”. غير أن ترداد النظر هنا يتنوع من ترداد نظر في كلام مؤلف سابق، إلى ترداد نظر في تهذيب إشكالات، أو قضايا، أو مسائل علم أو مذهب، يصبح بسببها التعقيب ضرورة، والزيادة في محلها مطلوبة، وتغيير الترتيب مقبولا. لذلك نجد الفقيه أبا سعيد بن خلف القيرواني الشهير بالبراذعي(ت:438 هـ)، يغير ترتيب مسائل المدونة، فيقدم ويؤخر، وذلك في كتابه التهذيب في اختصار المدونة، ونجد لابن حجر العسقلاني (773 ـ 852 هـ)زيادات على المِزِّي والحافظ المقدسي ، وذلك في كتابه”تهذيب التهذيب”الذي اختصر فيه كتاب الحافظ المِزِّي(654 ـ 742 هـ)”تهذيب الكمال”، وهو مختصر “الكمال في أسماء الرجال” للحافظ المقدسي الحنبلي(541 ـ 600 هـ). وقد اختصر ابن حجر، رحمه الله تعالى، كتابه هذا في”تقريب التهذيب”. وهو باب من أبواب التأليف في هذا الباب، وهو وضع مختصر للمختصر. وقد تتسلسل المختصرات جدا، وذلك كاختصار النووي لمحرر الرافعي في “المنهاج”، واختصار شيخ الإسلام زكريا “المنهاج” في “المنهج”، واختصار الجوهري “المنهج” في “النهج”. ومثال ذلك أيضا شرح الرافعي وجيز الغزالي بالعزيز، ثم اختصار النووي له في “الروضة”، واختصار ابن مقري “الروضة” في “الروض”، واختصار ابن حجر “الروض” في “النعيم”. واختصار السيوطي أيضا “الروضة” في “الغنية”. وهذه عناية بالغة بأمهات الكتب بيانا، وشرحا، وتلخيصا، وتعليقا، خصت بها هذه الأمة، وميزت طريقة معالجتها للقضايا، ونظرتها لأمهات المسائل زمنا طويلا.

والتهذيب تهذيبان: تهذيبٌ يقوم على تنقيح المذهب واختصاره، ومثاله كتاب “التهذيب في فقه الإمام الشافعي” للبغوي(ت: 516 هـ). قال عنه:” وهذا كتاب أنشأته بعون الله ـ جل ذكره ـ في “تهذيب مذهب الإمام المطلبي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي”.. 

وتهذيب يقوم على تنقيح المذهب لا غير، ومثاله كتاب الطوسي(385 ـ 460هـ)”تهذيب الأحكام”، فهو قائم على البسط، لأنه شرح لكتاب”المقنعة” للشيخ المفيد(336 ـ 413 هـ)، ومكمن التهذيب فيه أنه تهذيب لأحاديث الشيعة لما فيها من التعارض، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، على ما ذكره الطوسي نفسه في مقدمة كتابه.

وأقل من التهذيب استعمالا التنقيح، ومثاله كتاب”التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح” لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي(745 ـ 794 هـ). بناه على إيجاز العبارة ، والومْئ بالإشارة، وتجنب الإكثار الذي هو داعية الملال. أوضح فيه غوامض صحيح البخاري، منتخبا ذلك من أصح الأقوال وأحسنها. 

ومثله في قلة الاستعمال”المحرر”و”اللباب”. ومن ذلك المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي(481 ـ 541 هـ). ومحرر الرافعي الذي اختصره من وجيز الغزالي. وإن قيل: إن تسميته مختصرا لقلة لفظه، لا لكونه ملخصا من كتاب بعينه.

ثم “اللباب في علوم الكتاب” لابن عادل الدمشقي الحنبلي(ت: بعد 880 هـ). قال في مقدمته:” فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته “اللباب في علوم الكتاب”…ومثله”اللباب في شرح الكتاب” وهو لعبد الغني الغنيمي(ق: الثالث عشر الهجري) على المختصر المشتهر باسم”الكتاب” لأبي الحسين القدوري البغدادي (332 ـ 428هـ) في الفقه الحنفي.

البلاغة: مصدر “بَلُغَ”الرجل بالضم: إذا صار بليغا. وقد اختلفوا في حدها. وأقرب تلك الحدود إلى نفسي قولهم: هي أن يبلغ الرجل بعبارته كنه ما في نفسه. ويعتبر علماء المعاني البلاغة أخص من الفصاحة. فالفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط. يقال: كلمة فصيحة، ولا يقال بليغة. 

وبلاغة الكلام عندهم مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وبلاغة المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. والذي يقصده المؤلف هنا بموجز البلاغة: موجز علم البلاغة. فحذف المضافَ اختصارا لظهور المعنى، وأمن اللبس.

والمقصود بعلم البلاغة هنا علومها الثلاثة وهي: البيان، والمعاني، والبديع. وهو ما استقر عليه المتأخرون بعد السكاكي(ت: 626 هـ). وهو عند المتقدمين يشمل علوم النقد مجتمعة، فكل ما يلزم معرفته لإتقان صناعة الشعر، فهو عندهم من البلاغة. وهذه نظرة أشمل من الأولى وأوسع.

 

 

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. بارك الله فيك استاذنا العزيز ومزيد من العطاء انشاء الله

  2. حفظكم الله استاذنا الفاضل والله كنا في امس الحاجة الى الفروق بين هذه المطلحات التي اعتمدها القدماء رحمهم الله

  3. بارك الله فيك استاذ نا الفاضل .وجزك الله خير الجزاء

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق