مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات محكمة

سلسلة فقه المقارئ 1: «مآخذ علم الكلام: تثوير وتثمير»

: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد، فإن للحرف القرائي الأثر البين، والتأثير الأجلى في شتى علوم التشريع: الوسائل والمسائل، فحيثما وليت وجهك تجد الحرف القرائي ركنا ركينا تأسيسا وتأصيلا، تدليلا وتعليلا، من معاجم اللغة إلى فقهها، ومن نحوها إلى صرفها، ومن علوم البلاغة إلى آدابها، وذيول أساليب البيان فيها: إذ ما نهض اللسان العربي وفروعه إلا بهذا الكتاب وحروفه، وما صينت هذه اللغة بأصواتها وبنية كلمها، وفواصل كلامها، ورائق نثرها إلا من خلال القراءات القرآنية متواترها وآحادها وشاذها، وما صفي اللسان من تمتمة المنطق، وعقلة اللسان وحبسته، ولفف الكلمة وطمطمتها،  ولكنة الكلام ولثغته، وغنة الإعراب وخنته، وفأفاة الخطاب وغمغمته إلا بتجويد حروفه ولحونه. وما نأت العربية عن كشكشة تميم، وكسكسة بكر، وطمطمانية حمير([1]).. إلا بحفظه صدرا وسطرا، والتمهر فيه وفي حروفه وعلومه.

 حتى إذا انتحيت التفسير ومدارسه، وقصدت الفقه وأحكامه، ورمت الأصول وقواعده،  وابتغيت العقيدة وكلامها، قضيت الأرب والنهمة، وألفيت اللماسة والبغية في أحرف القراءات مددا وإمدادا في التأسيس والتأصيل، والتدليل والتعليل، فلا غضاضة أن يجأر صاحب الإتحاف بالقول: «ولم تزل العلماء تستنبط من كل حرف يقرأ به قارئ معنى لا يوجد في قراءة الآخر، والقراءة حجة الفقهاء في الاستنباط، ومحجتهم في الاهتداء إلى سواء الصراط، مع ما فيه من التسهيل على الأمة»([2])

وإذ كان ذلك كذلك فما نبغي من هذه المدارسة للحرف القرائي وأثره في علم الكلام إلا التثوير لمسالك التأثير، والكشف عن مظان التثمير،  مع الإلماع إلى مناط المأخذ، وخفي المنزع، ولطيف المنتزع، على ما في صحبة الكتاب وعلومه، والقراءات وحروفها، وأهل القرءان وفقهائه، من غزير الفضل المروم، وجزيل الثواب المعلوم.. فقد روى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿خيركم من تعلم القرآن وعلمه﴾ وفي رواية الطبراني:﴿خيركم من قرأ القرآن وأقرأه﴾؛ وكان الإمام أبو عبد الرحمن السلمي التابعي الجليل يقول لما يروي هذا الحديث عن عثمان: «هذا الذي أقعدني مقعدي هذا» يشير إلى كونه جالساً في المجلس الجامع بالكوفة يعلم القرآن ويقرئه مع جلالة قدره وكثرة علمه، وحاجة الناس إلى علمه، وبقي يقرئ الناس بجامع الكوفة أكثر من أربعين سنة، وعليه قرأ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ولذلك كان السلف رحمهم الله لا يعدلون بإقراء القرآن شيئاً([3]). وما الدراية عن ذلك ببعيد.

وبعد فقد مهد لما بين المقصود بكلمة تبغي وجيز الفسر والشرح لما سطر من الكلم في عنونة هذه السلسة: «فقه المقارئ: مآخذ علم الكلام تثوير وتثمير»

– أما كلمة «فقه» فترتد في معناها الحسي الذي هو دأب العرب في إطلاقها الأول إلى معنى الشق والفتق، قال ابن الأثير: «واشتقاقه من الشق والفتح» ([4]) ، وإنما مثله في ذلك مثَل أخويه بالنسب معنى: «الشرح والتفسير»: فالأولى: كلمةٌ دلت في أصلها على «الفتح والبيان» قال: الليث: «الشرح والتشريح: قَطعُ اللحم عن العضو قطعا، وكلُّ قطعة منها شرحة»، والثانيةُ: دلت بأصالتها على الكشف والفصل، ولذلك قال ابن الأعرابي: «الفسر: كشفُ ما غطي»، وقال الليث: «التفسرة: اسم للبول الذي يَنظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على علة العليل» فهذا تحليل وتفصيل حسي أُخذ منه قولُهم « وكلُّ شيء يُعرف به تفسيرُ الشيء ومعناه فهو تفسرتُه» ([5])

فهذا جذم معنى هذه الكلمات، ومأرزها في الإطلاق العربي الأول، ثم استُعملت كلمةُ «فقه» على سبيل من التوسع في لازم المعنى وما يتفصى من خلال إعماله، وذاك ما أومأ إليه ابن فارس بقوله: «الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك  الشيء والعلم به» ([6]وهو من باب إطلاق سببٍ على مسبب به ؛ إذ الإدارك أو العلم ليس يحصل بالشيء  إلا من خلال شق وفتح له حسا أو معنى. وأوغل في التوسع من أعمله في الفطانة تسميةً وإطلاقا، كما في اللسان: «والفقه: الفطنة، قال عيسى بن عمر: قال لي أعرابي: شهدت عليك بالفقه، أي: الفطنة» ([7])؛ لأنها تلزمه، ولا يصح على التمام إلا بها، ومن ثمة كان الشق الحسي والتحليل المعنوي الخطأُ مع فرط غباوة بمنأى عن مسمى الفقه والتفقه.

ثم أصابه نوع من القصر اصطلاحا على الشق المعنوي دون الحسي، أعني تحليل الخطاب والنظرَ فيه إفرادا وتركيبا؛ إلغاءً لشطري معنى الكلمة من الاعتبار  عند الإطلاق، ثم كان لها ثانيةً حظ من  التصرف اعتبارا وإهمالا، وهو  تخصيص لمخصص؛ من جهة اعتبار النظر في خطاب التشريع حقيقةً شرعية، والنظرِ فيما سواه من الكلم حقيقةً لغوية، وفي الثالثة إمعان في التخصيص بالخطاب العملي([8])؛ ليندرئ ما عداه مما له وثيق الصلة بالعقيدة أو المقارئ وسواهما مما هو نظر في خطاب وتحليل له، وهكذا تدرجت هذه الكلمة من الشق الحسي، إلى التفكيك والتحليل المعنوي؛ فهما للخطاب، واستنباطا منه للأحكام؛ بذلا للوسع نظرا، واستفراغا للجهد ادراكا.

فالحاصل أن الكلمة «فقه» تدل على بذل وسع لفهم وإدراك خطاب الشرعة، على وفق ما تنزلت به من اللسان، مما يعتاده أهله، وتحذقه عامته، وإضافتها إلى المقارئ حينئذ إضافة تخصيص؛ لأنها تهمم بالحرف القرائي كشفا لدلالته، وتوفيقا بين ما يوهم الخلف من أوجهه.

 وبهذا ينفصل «فقه المقارئ» عن مفهوم الاحتجاج والاستشهاد والتعليل والتوجيه؛ لاختصاصه بخلف الدلالة([9])، وعموم الباقي في الدلالة والسواد واللغة، وكذلك السند، ولاختصاصه أيضا بفرش الحرف، وعموم الباقي في الفرش والأصول.  

ففقه المقارئ إذن بيان لدلالة الحرف، وتثميره في الأحكام، بينما «الاحتجاج» للمقرإ إبراز لقوته سندا وسوادا، دلالة ولغة، فرشا وأصولا، و«التعليل»  كالاحتجاج في التعميم، وقريب منهما مصطلح «التوجيه»؛ إذ هو ترشيد لوجه المقرإ في الدلالة واللغة والسواد، أما  «الاستشهاد» فاستئناس به لغة، بعد التأصيل والتقعيد غالبا.

– و«المقارئ» جمع مقرأ، وهو مصدر ميمي يرتد إلى معنى القراءة، وإن كان أوسع منها لشموله القراءة وعلومها، فالمقرأ اختيار للإمام شامل للقراءة وعلومها رسما وضبطا وقفا وابتداء، وسواها من علومها([10])

– و«المآخذ..»: جمع مأخذ وهو مفعل يرتد إلى الأخذ والانتزاع، وهو مصدر مكاني يوحي بانتزاع الأحكام والفوائد والمسائل الكلامية من المقرإ وعلومه؛ تفقها وتعليلا، استشهادا واحتجاجا.

و«علم الكلام» ذائع معهود، وقد يطلق عليه «علم النظر والاستدلال»؛ لقيامه على القول بوجوب النظر العقلي عند كثير من المتكلمين، واشتغاله بآليات الاستدلال العقلية على المسائل الإيمانية([11]) من خلال دراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان([12])، وحاصل موضوعه النظر في الإلهيات والنبوات والغيبيات.

فالسبيل في هذه المدارسة تعيين حرف الخلاف مع تبيينه وعزوه إلى أئمته والقرأة به، ثم تحرير خلفه مع تصنيفه قوة وضعفا، دلالة وإيماء، حتى إذا تمهد ما سلف صير إلى مآخذ علماء الكلام  فيه، مع بيان مسالك الأخذ ومهايع الانتزاع، وغايتنا من ذلك تثوير هذه المسائل ومفاتشتها، وتثمير الحرف القرائي، وبيان أثره وتأثيره في مذاهب علم الكلام، وطرائق مراجحاته.  

ومن أمثلة ذلك على سبيل من الإيجاز، قوله تعالى: ﴿هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت﴾ [يونس: 30] فقد قرأ حمزة والكسائي: ﴿تتلوا﴾ بتاءين. والباقون: ﴿تبلوا﴾ بالتاء والباء.  إلا أنه روي عن عاصم شذوذا: ﴿نبلوا كل نفس﴾ بالنون ونصب «كل»([13]).

فقراءة حمزة والكسائي لها وجهان:  الأول: أن يكون معنى قوله: «تتلوا» أي: تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار.  والثاني: أن يكون المعنى: أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى: ﴿اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا﴾ [الإسراء: 14] وقال: ﴿فأولئك يقرؤن كتابهم﴾ [الإسراء: 71]

 وأما ما روي عن عاصم شذوذا، فمعناها: أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت: نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، والمعنى: أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها، إن كان حسنا فهي سعيدة، وإن كان قبيحا فهي شقية، والمعنى نفعل بها فعل المختبر، كقوله تعالى: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾ [الملك:]

وأما القراءة المشهورة فمعناها: أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت([14]).

وحاصل ذلك تفقها أن الحرف الأول دل على تلاوة الأعمال أو اتباعها، وفيه من الفقه إثبات الجزاء ثوابا وعقابا، وأهمية العمل في ذلك سببا أو عوضا على خلاف بين المعتزلة والأشاعرة..

والثاني دل على الابتلاء؛ فيحمل على الحساب وما إليه من الوقوف بين يديه سبحانه، ففيه الدلالة عقيدة على إثبات اليوم الآخر وما فيه من مواقف تناقش في علم الكلام

فبهذا النحو تنحو هذه السلسة، وعلى مثل هذا المنوال تنسج، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل


([1]) ن فيما سلف من عيوب المنطق واللسان كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه: 2/306.

([2]) ن إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للشيخ أحمد بن محمد البنا الدمياطي: 1/74.

([3]) ن النشر في القراءات العشر للحافظ أبي الخير بن الجزري:1/3.

([4])

([5]) ن تهذيب اللغة للأزهري (فسر)، (شرح)، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس كذلك.

([6]) مقاييس اللغة: (فقه)

([7]) لسان العرب لابن منظور (فقه)

([8]) من خلال تعريفهم الفقه: « العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال».

([9]) غالبا، وإلا فقد تكون للسواد دلالة كقوله تعالى: «قال عذابي أصيب به من أشاء» فسوادها هكذا «اسا»؛ ولذلك احتجت بها المعتزلة؛ على أن الحرف من الإساءة لا من المشيئة..

([10]) ن غيث النفع للصفاقسي: 16.

([11]) ن بحث: ضرورة تحديث علم الكلام ومستوياته. د ياسين السالمي. مجلة إسلامية المعرفة عدد90، 2017.

([12]) ن ص 3 من: تلخيص كتاب تهافت الحكماء في رد مذاهب أهل الأهواء لأبي حامد الغزالي تأليف الشيخ محمد أمين الأسكداري (ت 1149) تحقيق محمد عبد القادر شاهين .

([13]) ن معجم القراءات:3/538.

([14]) ن مفاتيح الغيب للرازي:17/ 246، وقال في إتحاف فضلاء البشر 2/28: «واختلف في ﴿ تبلوا ﴾ فحمزة والكسائي وخلف بتاءين من فوق أي: تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها. أو المراد: تقرأ كل نفس ما عملته مسطرا في مصحف الحفظة؛ لقوله تعالى: ﴿اقرأ كتابك﴾ وافقهم الأعمش. والباقون بالتاء من فوق والباء الموحدة من البلاء أي: تختبر ما قدمت من عمل فتعاين قبحه وحسنه». ن البحر المحيط للزركشي:6/51.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق