وحدة الإحياءدراسات عامة

سؤال التسخير الكوني للإنسان.. رؤية مقاصدية

 إن الأمة التي تُرك فيها القرآن الكريم كمعجزةٍ خالدة ومنهج حياة مستمر، قادرةٌ أن تستلهم منه مصادر قوتها وعلاج مشكلاتها، ولن تعجز آيات الكتاب ودلالاته الباهرة في إرشاد البشر وتعريفهم بطريق النجاة والفلاح، مهما كان حجم التغيرات في الحياة الإنسانية، ودون الحاجة إلى إنزال الكتب أو إرسال الرسل، كما كان الحال قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا المقصد الكلي القرآني خاطب الإنسان بكل جوانب التأثير فيه، عقله وروحه، ووجدانه وغرائزه، وبأسلوب لاهب نافذ يخترق أعماق النفس البشرية، لهذا أعجب من تكرار القرآن طلب التفكر في الآيات بعد الكثير من الأوامر أو النواهي، إلاّ من أجل استلهام معاني تلك الأوامر وفهم دلالاتها في الحياة.

أطرح في هذا البحث فكرة السؤال حول التسخير الذي ورد في عدة آيات في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَنْهَارَ. وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (إبراهيم: 34- 35). وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءَلاَيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 12). وقوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ، كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج: 35ن). وغيرها من الآيات الكثيرة والمتنوعة.

وهذا السؤال طرحته يوماً من الأيام على طلابي في الجامعة، لماذا يُسخَّر للإنسان كل ما في الكون؟ وما فائدة إخبار الله تعالى لنا بهذه المخلوقات العظيمة جداً، والهائلة جداً، والبعيدة جداً، لنُخبر بأنها خلقت مسخّرة لنا؟! وما مغزى هذا الأمر؟ وكيف نفهم معنى هذا الأمر الرباني المتعلق بالكون العظيم من حولنا؟ ولماذا استخدم تعبير التسخير هنا دون غيره من المصطلحات الآمرة بالنظر والتفكر المجرد؟

 لقد شعرت معهم بأن هذا السؤال خروج نحو متاهة الكون الساحرة، بل أخذني الشعور بما يتجاوز طبيعتنا الأرضية وغفلتنا الدنيوية، لينقلنا نحو عالم آخر من التكريم والعلو الاستخلافي، إنه يبصرنا بمهمتنا الكبرى في تحويل هذه المسخَّرات الباهرة لتكون عوناً لنا في عمارة الأرض وبنائها وحسن الإقامة فيها.

لا أعتقد أن هذا التطويع الذي تكاثر ذكره في آيات عديدة في القرآن الكريم؛ إلاّ شاحذ رئيس نحو اكتشاف نواميس الكون ومعرفة مجالات التسخير فيه، وكيفية خدمة الإنسان بذلك. وعقلٌ يُخاطب بهذا الأمر الدقيق البالغ في تحديد مهامه الصالحة والإصلاحية وعدم تضييع وقته في مجالات لا تفيد؛ ينبغي أن يتفتق بالمخترعات والمكتشفات الحياتية التي تسهل عليه البناء، والحصول على الغذاء، وبلوغ السماء، وتوفير الرخاء، وقطع المفاوز، وتيسير المصاعب، وتقليل المخاوف، وغيرها مما يشغل بني الإنسان ويرهقه في حياته.

هذا الخطاب الذي حاول أسلاف الأمة أن يجيبوا عنه من خلال حركة الكشوف والمخترعات بعد القرن الهجري الثاني، أُحبط بخطاب ساخر يقلل من شأنها ويستخفّ من جدواها، ويخرج الأوامر الربانية من معناها نحو انكسار كاذب يزهد في الدنيا بدون تمييز، ويحث على الخمول الفارغ من غير تأثير.

إنّ أي حركة تجديد أو إحياء ديني تُهمل هذا السؤال التسخيري، وتحذّر منه تحت ستار الذم للدنيا والإقبال على الآخرة، هو ارتكاس تبعي يُضيّع المسلم من دنياه وأخراه معاً، ويهمش وحدانية الله بأن لا يبقى الكون له سبحانه، ويُترك شأن الاستخلاف لغير عباد الله المصلحين. هذا السؤال التسخيري يفتح أبواباً من الأسئلة الموجهة لعلماء الأمة وفقهائها عن أسباب هذا التهميش والتناسي لتلك الأوامر، ويشعل المزيد من سؤالات المآزق التي سببت تردّي الأحوال وضعف الأفعال الناهضة والمجددة لكثير من المجالات؟

وما لم نعدّ جواباً عملياً يخرج المسلم من وهن التخلف ورهبة الإقدام من التطوير، وإلاّ فالخسارة لا تقتصر على الدنيا فقط، بل حتى في الحصاد الأخروي كذلك، لِما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “يُؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظنّ أنّك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني[1]“، وهذا يعني أن السؤال يشمل ما سخّره الله للإنسان ولم يستفد منه؛ فالتقصير في الانتفاع مما سخّر الله تعالى صفة من يكذّب بلقاء الله يوم القيامة ولا يهتدي إلى وحدانيته. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ اَوْ اَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).

المطلب الأول: سؤال التسخير الكوني للإنسان

1.  سؤالات الفكر اللاهبة

ليس هناك أقوى في التأثير الفكري وخلق مشاريع التغيير الإنساني من حراك الأسئلة اللاهبة التي يثيرها الفلاسفة والمفكرون بحثا عن إجابات مقنعة للعقل وصامدة أمام مواجهات النقد والتقويم والمراجعة لصواب الجواب وصحة معطياته، لما مضى من أقوال ومعارف.

لهذا لا نعجب من استعمال القرآن الكريم لأسلوب التساؤلات في كثير من مواضع الإيمان الكبرى بإثارة الإستفهام عن حكمة الخلق وكنه الخالق وإمكان البعث وحتمية المصير الأخروي، كما كان للأنبياء ذات الدور في إقامة الحجج على أقوامهم بالسؤال اللاهب الذي لا يطفئه سوى برد اليقين والبرهان، مثل قول إبراهيم كما حكاه الله تعالى عنه: ﴿قَالُوا ءآنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِئالِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْئلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنبياء: 62-64).

 لذا يمكن اعتبار السؤال الفلسفي في القرآن من أهم مصادر الإثبات والبرهنة العقلية على حقائق الوجود التي تتطلب أدلة وحججا ظاهرة، يفهم ذلك من قولة تعالى: ﴿ويجْعلُون لِما لا يعْلمُون نصِيبًا مِمّا رزقْناهُمْ، تاللّهِ لتُسْئَلُنَّ عمّا كُنْتُمْ تفْترُون﴾ (النحل: 56). وقوله تعالى: ﴿وجعلُوا الْملائِكة الّذِين هُمْ عِندَ الرّحْمنِ إِناثًا، أشهِدُوا خلْقهُمْ، ستُكْتبُ شهادتُهُمْ ويُسْئلُون﴾ (الزخرف: 18). وقوله تعالى: ﴿سلْهُمْ أيُّهُمْ بِذلِك زعِيمٌ﴾ (القلم: 40)؛ ففي هذه الآيات يطلب الحق، سبحانه، الجواب العلمي لتلك الافتراءات الجاهلية من خلال سؤالهم عن تلك المعتقدات وفحصها ونقدها بمسلمات العقل ونواميس الواقع المشهود، والتي سوف تنهار من العقول الجامدة الخامدة لضعف البرهان الاستدلالي الذي تقوم عليه.

 والقرآن الكريم كثيرا ما يستشهد بسؤالات الفكر في عدد من مواضع  الاستدلال على خلق الكون بصورة متكررة تثبت أن هذا التكرار إنما جاء ليقرر منهجية النظر العلمي المتوافق مع موازين الكون وسنن الحياة الثابتة، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والاَرْض ليقُولُنّ الله، قُلِ الْحمْدُ لِلّهِ، بلْ اَكْثرُهُمْ لا يعْلمُون﴾ (لقمان: 24). وفي قوله: ﴿ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والاَرْض وسخَّر الشّمْس والْقمر ليقُولُنّ اللهُ، فأنّى يُوفكُون﴾ (العنكبوت: 61). وقوله: ﴿ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والاَرْض ليقُولُنّ الله، قُلْ اَفرآيْتُمْ ما تدْعُون مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ اَرادنِي الله بِضُرٍّ هلْ هُنّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أوْ اَرادنِي بِرحْمةٍ هلْ هُنّ مُمْسِكاتُ رحْمتِهِ، قُلْ حسْبِي الله، عليْهِ يتوكّلُ الْمُتوكِّلُون﴾ (الزمر: 36).

هذه المنهجية التساؤلية التي يتلقاها المسلم من القرآن، وقررها سلف الأمة خصوصا في علم أصول الفقه وما تفرع عنه من علوم الجدل والحِجاج، كانت من المحرمات لدى بعض الأمم واتباع الأديان الأخرى، خصوصا في أوروبا خلال القرون الوسطى، التي كبّلت أذهان المتعلمين والمتفلسفين أن يطرحوا أسئلتهم لنزال العقول وجواباتها على إشكالات الدين والسياسة والأخلاق، وما انفكت تلك القيود إلا من خلال معارك التغيير التي قادها بيكون وسبينوزا وديكارت ولوك وفولتير، ربما نحو الضد المتفلت على ماضي الاستبداد والتخلف[2].

 والمتأمل في واقعنا الإسلامي المعاصر يشهد غيابا واضحا وتهميشا متعمدا لثقافة التساؤل حتى في أشكالها البسيطة حول القضايا المعرفية السائدة، فضلا عن إثارة الأسئلة المزمنة حول خطابنا الفقهي والسياسي وإشكالاته الحضارية الراهنة، والواقع يشهد أن هناك أسبابا تقف وراء هذه الحالة من الحنق المتعمد للسؤال خصوصا الفلسفي منه، ولعل من أهمها: الضيق النفسي من التساؤل حول عدد من موضوعات التراث الإسلامي والإرث الإنساني عموما ومدى التصالح أو التعادي معه فيما لا يصادم ثوابت الدين القطعية، كذا الوجل من طرح التساؤلات الحياتية التي تثير الرقابة والمحاسبة على المؤسسات الرسمية، واعتبار ذلك كله مواجهة وتحدي وإعلان حرب، تتطلب الردع اللازم لهذه الجرأة التي ستوصف بالخروج والتمرد، وبالتالي الوأد المبكر لمستقبل التساؤلات المشروعة للفكر الحر.

 وقد يقودنا هذا إلى سبب آخر؛ يُحجم السؤال العقلي فيه من الانطلاق بسبب المناخ المعرفي الذي لا يحفل بكثرة السؤال، إما بتضييق وقته في نهاية كل لقاء ثقافي لا يسع إلا أن يستمع المتلقي دون جدال، وإما بالسخرية والحنق واتهام كثير السؤال بالحُمق والخَرَق، بينما يكون الثناء والاعجاب لسريع الجواب ولو خالف قوله واضحات الصواب.

 ومن الأسباب المؤثرة لهذه الظاهرة، حالة اليأس والإحباط بسبب سوء الأحوال العامة والتدهور الحضاري لمكانتنا بين المجتمعات المعاصرة؛ ما يؤدي إلى الإحجام عن التساؤل، حيث يفقد المحبط الحيوية الذهنية، كما يفقد روح الانفتاح والتفاعل التي كثيراً ما تتمظهر في التساؤل، فتؤول الأمور إلى السكون التام وانتظار المصير المحتوم. كما أن لجفول الوعي الإسلامي في وقت مبكر من تاريخ هذه الأمة من (الفلسفة) بسبب تجاوز بعض فلاسفة المسلمين للعديد من الأصول الدينية والتماهي بالنقل والترجمة دون فحص وتمحيص، أدى ذلك إلى ضعف صناعة المفاهيم لدينا، وإصابتنا بقصور في عدد كبير منها، وحين يتضاءل مفهوم ما عن المستوى الذي ينبغي أن يبلغه، ينحط مستوى العمل ورد الفعل؛ مما يجعل الانحدار نحو القاع أمراً مقبولاً أو غير مستنكر، ومن ثم فلا يثار حوله أي تساؤل. إن حاجتنا لثقافة السؤال تعني الثورة وعدم الاستجابة لراية الاستسلام للجوابات الجاهزة والمعلبة من دهور، إن العقل التساؤلي يفجر بشكل ذري تساؤلاته اللاهبة في كل اتجاه، إنه يبحث عن الإقناع العلمي والرسوخ المعرفي والجديد الفكري، ويقود المجتمع نحو حراك حضاري يشعل جذوة النور في كثير من الزوايا المظلمة ويستنطق الكثير من الأفواه الصامتة الباحثة عن التغيير المنشود، وفي البدء كان السؤال؟!

2.  علاقة الإنسان بالكون

يذكر الجرجاني أنّ الكون هو: “عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم” وبعبارة أخرى: الكون هو كلّ وجود ما عدا وجود الله سبحانه ممّا خلقه وصيّره للإنسان مسخّرا. من المفيد أن نبيّن أنّ الإنسان قد احتل المرتبة الأولى في صدر الكون، فبعد أن كان يطوف متعبّدا حول كثير من الموجودات، فعبد الشمس والقمر، والشجر والحجر…، أصبحت كلّ المخلوقات تطوف لأجله؛ فهو المخلوق الخليفة في الأرض، المكلّف بالنظر في أحوالها، وتسخير ما فيها من موارد، والاستدلال بها على خالقها.

إنّ الكون وموجوداته ليست مستقلّة عن الإنسان ووجوده، بل إنّ الكون لم يوجد إلا من أجل الإنسان، فهو قد أعدّ لاستقباله، واستمرار وجوده، تبعاً لذلك، رهين الوجود الإنساني، وبينهما وحدة في التكوين؛ فالإنسان ليس إلا متكونا من نفس العناصر التي تتكون منها الموجودات الجامدة والحسية. وبينهما كذلك وحدة الكيفية والتركيب؛ إذ ركبت الموجودات كلّها بكيفية التزواج، كما يثبته قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات: 49). وقد جاء التعبير القرآني رائعا في دلالته على الوحدة الجامعة بين الإنسان والنبات والجماد في الترابط التكويني بينها؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْاَرْضِ نَبَاتًا﴾ (نوح: 17). كذلك بينهما وحدة في النظام؛ فوحدة السببية تبدو في أنّ جميع الموجودات بما فيها الإنسان خاضعة في نشوئها واستحالتها لعلل وأسباب. ووحدة الحركة التي تبدو فيما عليه الكائنات من حركة تغيّر مستمر، بحيث لا يثبت منها شيء على حال واحدة. لكن هذا الجزء المشترك في الطبيعة المادية لا يقتضي التساوي بينهما، ففي التفاضل القيمي يبقى الإنسان متميزا على الكون تميّز استعلاء ورفعة. لذلك يظهر الإنسان في علاقته مع الكون من خلال خصائص عدة أذكر منها ثلاثا:

أولا: مهمة القيادة وطبيعة الانقياد

يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا اَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ (لقمان: 19).

 يقول أبو السعود في تفسيره: “والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكونُ كذلك، بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غيرِ أن يكونَ له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً أو مَعَاداً، وإما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ من الكائناتِ مسخرةٌ لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ، وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى[3].”

ثانيا: تماثل التكوين وثقل التكليف

بما أن الخلق واحد ومصدره واحد من الله تعالى والإنسان مرجعه من الأرض، لكنه حُمّل تبعة ثقيلة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان، لذلك هو المكلف بالعناية والمحافظة ومنع الفساد قال الله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْاََرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءَلاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 12). قال ابن عاشور: “أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية، فهي وإن كانت مننا يحق أن يشكرها الناس فإنها أيضا دلائل إذا تفكر فيها المنعم عليهم اهتدوا بها، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورة قبلها من قوله: ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْاَرْضِ ءلاياتٍ لِلْمُومِنِينَ﴾ (الجاثية: 2) وإنما أخرت عنها؛ لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم، ثم عقبت بالتنبيه على أنها أيضا دلائل على تفرد الله بالخلق[4].”

ثالثا: تمام الامتنان وحسام الامتحان

ففي آية لقمان يظهر عظيم الامتنان من الله تعالى للإنسان بهذا التسخير، ويظهر عظيم الحساب والإستدلال بامتحان غير المسلم بهذا التسخير، يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره: “معنى (سَخَّرَ لَكُمْ) لأجلكم لأن من جملة ذلك: التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها. والخطاب في (أَلَمْ تَرَوْا) يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال[5].”

إنّ حديث القرآن عن خلق الإنسان يظهر أنّه قطب الرحى في تراجع الموجودات إليه تراجع تقدير وحكمة، “وإضافة إلى هذه القطبية التكوينية تتحقّق في الإنسان، كمظهر استعلاء، قطبية معرفية تتمثل فيما خصّ به من استيعاب معرفي للكائنات، فهو مهيأ بوسائله الإدراكية لأن ينقل العالم الخارجي في صورته الكمية والكيفية إلى عالمه الداخلي، فيصبح هذا الكائن الصغير يحمل في ذاته ذلك العالم الكبير، وتحصل له من ذلك خاصّة القوامة والإشراف على سائر الكائنات”. وبما أنّ الإنسان هو محور الكائنات أو الكائن القطب، فإنّ له وظائف ومهمّات يتحتّم عليه القيام بها.

المطلب الثاني: مقاصد التسخير الكوني للإنسان

1. تسخير الكون للإنسان في مجال الاعتقاد

إن حقيقة مركز الإنسان في الكون والمهمة التي أناطها الله بالإنسان ومهمة الأمة الإسلامية بين الأمم هي قضايا اعتقادية لا نجد لها أثرأً في كتب العقيدة، وكذلك قضية تسخير الكون للإنسان واستثمار الكون والانتفاع بمرافقه وتسخير مقدراته لبناء الحياة في اتجاه تحقيق الخلافة ابتداءً بالتدبر والتفكر لتحصيل العلم وانتهاءً بالاستثمار التطبيقي النفعي لذلك العلم، والرفق بالكون للحفاظ عليه من الفساد والتدمير، فهي قضايا اعتقادية ليس لها كذلك في كتب العقيدة اهتمام أو ذكر معتبر. والقضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها يندرج ضمن مفردات العقيدة؛ إذ أن جحود الأحكام الشرعية والتكذيب بها يفضي إلى الانحلال من الإيمان وانتقاضه.

وهذه القضايا جميعاً وكثير مما يتصل بها ليس غائبة عن دائرة الوعي الإعتقادي فحسب، بل إنها تتعرض، في الوقت نفسه، لتحديات كبيرة من قِـَبل الثقافة الغربية بمذاهبها الفكرية وامتداداتها في الفنون والآداب والقانون والسياسة. فضلاً عما تتعرض له عقيدة الحاكمية من هجوم مباشر من المذهب العلماني وأنصار القانون الوضعي.

وحينما يضاف هذا التحدي لما حصل من انسحاب كثير من مفردات العقيدة من الوعي العقدي في أذهان المسلمين، فإن الأمر يُخشى أن يؤول إلى انحراف عقدي أفدح على صعيد التصديق الإيماني وعلى صعيد الأثر العملي معاً.

وبعد ترشيد الفهم للعقيدة ومفرداتها لابد من ترتيب هذه المفردات لتحديد حجم الاهتمام بها وأقدار حضورها في الوعي ومدى استخدامها في الإيقاظ والتوجيه والدفع، وذلك ضمن رؤية كلية وفهمٍ للاعتبارات العملية في واقع الأمة وحاجاتها في مواجهة التحديات المعاصرة. فالتحديات القديمة والاعتبارات التاريخية والنزاعات بين الفرق والمذاهب لا تصلح معياراً لتحديد حجم الاهتمام والحضور لأية قضية؛ إذ أن أكثرها لم يبق منه اليوم شيء ذو قيمة عملية واقعية[6].

فعلاقة الإنسان، إذن، انبنت على توافق وانسجام، بين الإنسان والكون، فلا يحقّ للإنسان الإساءة إلى الكون، وتدميره. إنّ الجانب الأقسى الذي شرعه الإسلام وهو العقوبات والحدود، أو حتى الجهاد في سبيل الله، ما شرعه إلا للمحافظة على عمارة الأرض واستقرارها، وبتر يد العابثين بها وبأمن الناس فيها من المفسدين، قال أبو حيان: “الفساد ضدّ الصلاح، وهو معاندة الله في قوله: ﴿واستعمركم فيها﴾ (هود: 60) والفساد يكون بأنواع من الجور والقتل والنهب والسبي، ويكون بالكفر”، فكلّ أولئك وسائل للمحافظة على عمارة الكون.

وإذا كان هذا الإنسان هو النواة في عملية الإعمار، فلا شكّ أنّ الاعتداء عليه بالقتل إفساد لها، ولضمان هذا النواة سليمة آمنة شرع الوحي إزهاق روح كلّ من يحاول إفساد هذه النواة،  كما شهد بذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الاَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 178)، فمن دواعي تقوى الله إقامة حدود ما شرع وأنزل؛ لأنّ ذلك يبعث على الحياة، لا على الهلاك. لقد طالب بمجاهدة قوى الظلم والظلام في الأرض، فالكفرة قوة ظلامية تدمّر الكون وتفسد حياة الإنسان فيه: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52) وإنّ القرآن لم يأمر بمجاهدة الكافرين والمنافقين إلا بعد أن بيّن من سلوكهم ومعتقداتهم ما كان سببا لتدمير حياة الإنسان على الأرض، وهدم مهمّة إعمار الأرض على أسس صحيحة.

 إنّ هذه الطاقة الهائلة في النفس البشرية تتحوّل إلى “قوة تدميرية عمياء، وطاقة هدم مرعبة، إذا ما نجمت فيها جرثومة التمرّد والنزق والجموح، وعصفت بها رياح الهوى الهوج المحرّكة لنيران رغباتها المجنونة، وشهواتها العارمة، فتحرق هذه النار كلّ سبب يصلها بالله تعالى، فلا تلبث بعد ذلك، أن تتنكر لخالقها وبارئها، وتنزع الى عصيانه، وترغب في الانفلات من مسؤوليات الإيمان، وتكاليف الإسلام”. وهو ما بدا واضحا في ضوء نصوص الوحي في سلوك المنافقين والكافرين، فتدمير الإنسان، فكرا وسلوكا وقيما وعقائد، هو تدمير حقيقي للكون، وإعمار الإنسان بالإيمان أمان لعملية الإعمار وسلام لها.

2.  تسخير الكون للإنسان في المجال الفقهي

أ‌. علم الفقه وغياب علم العمران

علم العمران البشري من العلوم الإنسانية التي أدت إلى نقلةٍ نوعيةٍ في كتابة التاريخ، وكان شرف هذا الكشف وتأسيس هذا العلم منسوباً لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون المتوفى سنة 808ﻫ، وذلك في مقدمة مؤلفه التاريخي المشهور “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. ولم يكن لهذا العلم الجديد مزيد بحث وتصنيف أو شرح وتعريف ممن جاء بعده من علماء المسلمين، حتى بعض تلامذته (كالمقريزي) أو من جاء بعده بقليل (كابن الأزرق) فقد عرفوا أهمية فكر ابن خلدون التاريخي، غير أنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما اكتشفه شيخهم من علم.

ـ أما في العصر الحديث فقد ذاع هذا العلم واشتهر مكتشفه وتوالت بعده المصنفات والنظريات الغربية التي أثمرت فهماً إنسانياً لطبائع المجتمعات وأثرها في تاريخ الأمم والشعوب، وكان أشهرهم بحثاً وتقصياً هو (دوركايم) مؤسس علم الاجتماع الحديث وقبله (اوغست كونت) الذي بدأه من خلال الحديث عن الفيزياء الاجتماعية، ثم أطلق عليه لقبه الخاص (السوسيولوجيا) والذي انسحب بعد ذلك كعَلَمٍ عليه في الغرب والعالم أجمع، يقول توينبي المؤرخ البريطاني الشهير عن ابن خلدون والدور العلمي لمقدمته: “قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة للتاريخ هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان[7].”

ـ أما عن فلسفة ابن خلدون حول علمه الجديد (العمران البشري) فقد قال عنه  ابن خلدون، أنه: “ذو موضوع هو؛ العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحول لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً[8].” وقد قام ابن خلدون بتحرير الأساسات المنطقية لكل علم برهاني،؛ إذ يَعدُّ اكتشافه من هذا القبيل، الذي لم يسبق إليه أحد، فأخذ يقرر في بداية المقدمة أسس المناطقة في التعريف بالعلوم البرهانية، وأنها مبنية على الأركان الأربعة التالية: الموضوع، والأعراض الذاتية، والمسائل، والمقدمات.

ـ ويرى ابن خلدون “أنه شرح فيه من أحوال العمران والتمدّن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، وما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها[9].”

ـ ثم قال في بيان غايته: “وهو علم يحوّل غاية المؤرخ من سرد الأخبار وتصيّد الغرائب إلى السعي إلى فهم الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على البعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال[10].”

ـ وهذا المنهج من النظر في تحليل واقع المجتمعات، ودراسة أسباب التغير والتبدل في أحوال الفرد والجماعة، يعتبر من أعظم مصادر العمل الإصلاحي لأي مجتمع يُراد تغيير ظروفه وعلاج أزماته، ولعل عُزلة ابن خلدون في قلعة ابن سلامة في الجزائر بعد نكباتٍ عدة شهدها في الأندلس والمغرب العربي قد قادته لتلمس المخارج ومراجعة طبائع العمران وتأثيرها على بني الإنسان.

ـ والحقيقة أن الغرض من سوق مقدمة تعريفية لعلم العمران الخلدوني هي من أجل ذكر العلاقة بين ما اكتشفه ابن خلدون من أثر الطبائع والأحوال وفهم الاجتماع الإنساني إلى تحويل هذه المؤثرات والمفاهيم إلى آليات عمل ومشاريع بناء وعمارة للأرض تسهم في صياغة فعلٍ إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل، لهذا كان الأليق بعلم العمران أن يُربط بعلم الفقه للتعريف بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الواجب المراد فعله أو الندب إليه، أو المحرم المراد اجتنابه أو التنزه عنه.

فالداعي الأساس من إيراد هذا الموضوع؛ هو إعادة الربط بين الفقه الحامل للعمل؛ وبين المفهوم المجتمعي المبيِّن لطريق العمل الصحيح؛ من خلال إدراك طبيعة التغيير، وفهم مجالات الإصلاح المنشود والعمران الحضاري المطلوب؛ وفق كل الأحوال والظروف التي يعيشها الفرد المسلم في العصر الحاضر.

ـ و(فقه العمران) هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى عمارة الأرض وبنائها، وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتها.

ـ وللأسف فأن الغفلة عن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به فحسب؛ بل تجاوز إلى إلغائه وإنكاره أحيانا من فقه شريعتنا الغراء واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية؟!، وهذا ما جعل الهوّة كبيرة بين تاريخٍ مضى برزت فيه أنواع العلوم والمعارف المختلفة، وازدهرت فيه مناحي العمران والبناء، و تاريخٍ تفنن في تحقير الدنيا نظرياً، واقتات على فتات الأمم الأخرى واقعاً عملياً. ومن أجل إثارة الذهن المسلم في إعادة نصاب هذا الفقه من العمل والبيان في أفعال المكلفين.

ب‌. الصناعة الفقهية والتأثير في الحضارة الإنسانية

ـ هناك ارتباط تبادلي بين مفهومي الصناعة والفقه، فدلالات اللفظين تجمع بين حقيقة الإتقان المهاري والتصميم المعرفي والإنجاز الواقعي في خدمة الإنسان، فصناعة الفقه من أهم أدوات العمل على عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها واستغلال نواميسها وقوانينها في البحث عن الجديد من المخترعات والمكتشفات؛ فالفقه الذي لا يدل على طاعة أو ينهى عن معصية، أو ينظّم سلوكاً ويعالج أزمة، أو يحفّز على مصلحة مشتركة، فهو فقه خامد لا يحمل جذوة التغيير السنني الذي وضعه الله في الحياة.

ـ ومن جميل ما قرأت في بيان العلاقة الوثيقة بين الصناعة والفقه ما ذكره جملة من الفقهاء الأصوليين، منهم الإمام الفتوحي في (شرح الكوكب المنير)[11] الذي عَدّ الصناعة مصطلحاً مرادفاً للعلم، وكذا الإمام ابن رشد الحفيد في كتابه المختصر (الضروري في علم الأصول) عندما تكلّم عن صناعة الفقه والأصول؛ ورأى أنها تحَصُل مِن تعاطي القوانين والأحوال التي تسدّد الذهن نحو الصواب، كالعلم بالدلائل وأقسامها، وفي أي حالٍ تكون الدلائل وفي أي حال تنتفي، وفي أي المواضع يُحمل الشاهد على الغائب وفي أيها لا يُحمل، ثم قال: “وهذه فلنسمّها سباراً وقانوناً، فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحسّ في مالا يؤمن أن يغلط فيه[12].”

ـ والإمام ابن خلدون في مقدمته توسّع في مفاهيم الصناعة وذكر مجالاتها، وأكّد على “أن الصناعة هي مَلَكة في أمر عملي فكري، وبكونه عملياً هو جسماني محسوس، والأحوال الجسمانية المحسوسة؛ نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل؛ لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والمَلَكَة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته، وعلى نسبة الأصل تكون المَلَكَة. ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم، فالمَلَكَة الحاصلة عن الخبر وعلى قدر جودة التعليم ومَلَكَة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة[13].” فالإمام ابن خلدون يمرّر قوانين الصناعة على الفكر، وبحسب المدخلات الجيدة والصحيحة يكون المُخرج كذلك.

ـ وما سبق ذكره من استعمالٍ لمفهوم الصناعة وإدخاله في الفقه، يفتح لنا أبواباً من المنتجات التي يدخّرها الفقه الإسلامي، وهذا يحتاج إلى فقهاءٍ مهرة يحسنون الصناعة ويحولون النصوص إلى منتجات ومبتكرات تعيد للفقه دوره الحيوي في خدمة الإنسان والرقي بمجتمعه.

ـ والدليل على دعوى هذا الدور الفقهي في نهضة المجتمع وتطوير الحياة الإنسانية؛ تلك الإسهامات المباركة التي حولت نصوص الوحي المحدودة في ألفاظها والواسعة في دلالاتها إلى تشريعات كثيرة ودقيقة تستوعب تفاصيل حياة الناس، وتنظّم شؤونهم المالية والاجتماعية والسياسية؛ على قدرٍٍ من تحقيق المصالح وتكميلها، ومرونة واقعية تتأقلم مع المتغيرات الزمانية والمكانية، ويكفي أن نتناول مصنفاً فقهياً، لنجد فيه آلاف الأحكام والتشريعات السديدة. أضف إلى هذا أن الصناعة الفقهية نجحت في رسم منهج أصولي يعتمد على الاستنباط العقلي، وفهم الدلالات اللغوية والتنزيل الواقعي للنصوص، وهذا المنهج يعتبر ثورة تقدمية في الصناعة الفقهية حتى على مستوى الفكر الإسلامي بصورة عامة؛ لجمعه بين المناهج العقلانية والجدلية والإثبات التجريبي على الواقع المتغير!!

ـ كما أن هناك دور تفاعلي قام به الفقه الإسلامي مع معطيات الطبيعة ومكنوناتها المكنوزة؛ ربما لم يظهر بوضوح في المصنفات الفقهية ولكنه أنتج محاولاتٍ رائدة في علوم الجبر والهندسة والطب والفلك والطيران وغيرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ أذكر بعض الإسهامات العلمية التي حققها فقهاؤنا الأوائل من خلال تطوير الأحكام الفقهية إلى مشاريع كبرى[14]؛ أسهمت بالتالي في كشف أعظم المخترعات العلمية؛ فالإمام البتَّاني أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان (ت 317ﻫ)، قد أنشأ مرصدًا فلكيَّا عُرِف باسمه، وقد كان لأعماله جانب نظري يتمثل في قراءة مؤلفات الفلكي اليوناني بطليموس وانتقائها بطريقة علمية، وَوَضع كتابًا في حركة النجوم وعدّدها، وقد ظل يُدرَّس في أوروبا حتى عصر النهضة العلمية في أوروبا، وله أبحاث تجريبية عملية بلغت منتهى الدقة والارتقاء والتقدم العلمي من واقع مشاهداته الفلكية، وحدد أبعد نقطة بين الشمس والأرض، وحسب مواعيد كسوف الشمس وخسوف القمر، واتبع في ذلك منهجًا شبيهًا بالمنهج العلمي الحديث، مما جعل الأوربيين يعدُّونه من أعظم علماء الفلك في التاريخ.

ـ وهذا أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش الزُّرْقَالي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، ونشأ في طليطلة بالأندلس، وأنشأ فيها مراصد فلكية عديدة، واخترع جهاز الإسطرلاب الفلكي لقياس اتجاهات الرياح وسرعتها وتحديد الليل والنهار، مما أدهش علماء أوروبا، وقد استفاد من مؤلفاته العالم الأوروبي الفلكي كوبرنيكس الذي حرص على الاستشهاد بآراء أبي إسحاق في جميع مؤلفاته. والفرغالي الذي ألف كتابًا ظل مرجعًا اعتمدت عليه أوروبا وغربي آسيا سبعمائة عام. أما في علوم الرياضيات فيعتبر العلامة محمد بن موسى الخوارزمي (توفي 232ﻫ) صاحب الفضل الأكبر في معرفة خانات الآحاد والعشرات والمئات، وفي معرفة الزوجي من الفردي في الأعداد، وفي معرفة عمليات الكسور العشرية، واستخدامها في تحديد النسبة بين محيط الدائرة، وقطرها مما لم تعرفه أوروبا قبله، ولم يكن الخوارزمي وحده هو البارز في هذا المجال، بل كان هناك علماء كثيرون وضعوا مؤلفات في الحساب والجبر مثل: أبي كامل شجاع بن أسلم المصري، ووسنان بن الفتح الحرَّاني، والكندي، ومحمد بن الحسن الكرخي صاحب كتاب الكافي في الحساب، فأضافوا إليها الكثير، وابتكروا نظريات هندسية جديدة، فجددوا وأضافوا في المساحات والأحجام، وتحليل المسائل الهندسية، وتقسيم الزوايا، ومحيط الدائرة وكيفية إيجاد نسبة محيط الدائرة إلى قطرها مما سهل لهم أمورًا كثيرة في فنون العمارة والزخارف الإسلامية، وقد كان في مقدمة علماء المسلمين في الهندسة الحسن بن الهيثم وأبو جعفر الخازن، وغيرهم كثير.

ـ وهنا أتساءل كيف حصل الانفصام بين علوم العبادة والعمارة واتسعت الشقّة حتى كونت أجيالاً من الفقهاء المتأخرين الذين يرفضون بل ويحاربون تلك العلوم الطبيعية؟! بينما كنا نقرأ في تراجم أكثر الفقهاء الأوائل كالغزالي والجويني والرازي والقرافي وابن رشد أنهم كانوا يتقنون الطب والفلك والهندسة ويزاوجون بينها وبين علوم التفسير والحديث والفقه توظيفاً لمقاصد الشرع في تعبيد الناس لله عز وجل.

والحقيقة أن حالة الفقه المعاصرة هي حالة مرضية قد تقلّصت دوائره المؤثرة حتى أصبح فقهاً لا يمتّ لواقعنا بصلة، ولولا ضرورة البحث في مشكلات الطب والاقتصاد التي فرضت نفسها على فقهائنا المعاصرين وجعلت قيم الفقه على محك الصلاحية والمصداقية لما تحرك الفقهاء ولما ولدت المجامع الفقهية، وأعتقد أن تلك الحركة الفقهية المُعالِجة للنوازل الجديدة جاء أكثرها كردود فعلٍ للظروف والتساؤلات الملحّة من الناس، وليس الفقه المعاصر هو الذي اقتحم أغوارها وأسس ميدانها، ولذلك تأتي أكثرها على هيئة بحوث فردية أو قرارات مجمعية سنوية، في مقابل مئات الكليات الشرعية ومئات الألوف من الفقهاء القابعين خارج الزمن، والذي يُنتظر منهم دورًا يليق بشرف العلم الذي يدرسونه، والمطالبة هنا بدور أمثل للفقه؛ ليس خروجًا عن متطلبات الفقه الذي أسّسه السلف وطوّره الخلف حتى القرن  التاسع الهجري؛ بل هو الواجب الحقيقي والتجديدي للتحضر الإسلامي المنشود، والعودة بالفقهاء إلى مراكز البحث والوقوف صفا واحد في معامل التجريب مع قرنائهم في العلوم الطبيعية الأخرى من أجل عودة تصحيحية لفقه العمران بعد خروجه من كنف العلوم الإسلامية.

ج‌. مقصد عمارة الأرض في الشريعة الإسلامية

ـ أن الله تعالى خلق الإنسان في الحياة الدنيا لغايتين: عبادته سبحانه كما شرع، وعمارة أرضه كما أمر، والإمام الرّاغب الأصفهاني اعتبر (عمارة الأرض) أحد مقاصد ثلاثة أساسية خُلق لها الإنسان، وهي العبادة والخلافة والعمارة[15]. وكان الخطاب القرآني يرتكز على مفاهيم وأشكال العبادة أكثر من تركيزه على آليات العمارة، وذلك أن العبادة تلبستها صور عديدة من الشرك والانحراف أدت إلى فساد الحرث والنسل، ولأن في صحتها وقوامها المطلوب قواماً للحياة ومعاشاً للناس، ثم إن عمارة الأرض تتوافق مع ما جبل الله تعالى الإنسان عليه من حب التملك والتنافس والتكاثر، فهو يحتاج إلى الاعتدال في طلبه والامتثال في عمله ولا يصلح حاله إلا بشرع مسدّد ووحي ملزم يهذّب طبعه من الانحراف والتجاوز. ولا يعني ذلك أن القرآن قد أهمل الطلب أو نفاه؛ بل قد جاء في أكثر من أية تعزيز القيام بالعمارة، كقولة تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْاَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 29).

ـ وقد قال البيضاوي في تفسيرها: “والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم، عليه الصلاة والسلام، لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم[16]“، وقال ابن عاشور مؤكداً معنى العمارة: “فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي[17].”

ـ وقال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْاَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61).

ـ قال الطبري مؤكداً معنى العمارة في الآية: “(واستعمركم فيها)، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها[18]” وقال البيضاوي:” (واستعمركم فِيهَا) عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها[19]“، فالإنشاء من الأرض هو في خلق آدم من الأرض؛ لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال تعالى: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءَامِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ (الشعراء: 146-148) ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الْاَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾ (الأعراف: 73)، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه (واستعمركم فيها ).

ـ والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الإعمار؛ أي جعلكم عامرين لها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض[20].

ـ فمقصود هذه الآيات وغيرها واضح الدلالة في بيان مقصود العمارة من خلق الإنسان، وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به، وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله: ” (واستعمركم فيها) يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية[21]“، وذهب بعض المفسرين كالقرطبي إلى وجوبه كما نقل عن بعض السلف في قوله: “قال زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها..

قال ابن عربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب[22]، وليس هذا التكليف خارجا عن مفاهيم الطلب كما زعم البعض، بل دلالة العمل الإعماري واضحة المعنى ولا تخالف مفهوم العمارة الإيمانية؛ لأنها ثابتة و واجبة في كل أفعال الخلق منذ التكليف سواء عملوا في معاشهم أو معادهم، فصرف المعنى عن العمارة الدنيوية مخالف لسياق الآيات و تفسير الأئمة.

ـ فعمارة الأرض بما يحقق حسن السير فيها والقيام بمعاشها واحتياج الخلق منها يعتبر من أعظم مقاصد التشريع الذي جاءت بالدلالة عليه جزئيات الشريعة وكلياتها، وقد حكى هذا المقصد العام من التشريع غير واحد من علماء الفقه والأصول، ومنهم الإمام ابن عاشور في قوله:” إنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوهٍ جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعْي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كَدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية[23].”

ـ ويقول الشيخ علال الفاسي: “المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع[24].”

ـ فعمارة الأرض بالبناء والصناعة والزّراعة والانتفاع بما في باطنها من معادن وخيرات مطلوب من النّاس عامّةً، ومن المسلمين خاصّةً، فهو من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض، قال الإمام الغزالي: “فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم[25].”

ـ ولذلك كان قصد عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، من ضرب الخراج وعدم تقسيمه على الغزاة؛ أن تبقى الأرض عامرةً بالزّراعة فأهلها أقدر من الغانمين على ذلك لتوفّر الخبرة والقدرة على الزّراعة، ولذلك قال في أهلها: يكونون عمّار الأرض فهم أعلم بها وأقوى عليها.

ـ وقد سلك عمر، رضي الله عنه، في ذلك مسلك النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، حينما فتحت خيبر وصارت الأرض والأموال المغنومة تحت يده، ولم يكن له من العمّال ما يكفون عمارة الأرض وزراعتها، دفعها إلى أهلها على أن يزرعوها ولهم نصف ثمرتها، وبقيت على ذلك طيلة حياة النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، وحياة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.

ـ فالعمران المدني في حياة الناس ليس هامشياً أو بعيداً عن مراد الشرع؛ بل جاء في أعظم مقاصد الدين، ولا ينبغي للمكلف أن يكون مقصوده مخالفا لمقصد الشارع، وهذا يقتضي أن العمل والبناء والزراعة و الصناعة وصنوف التعمير هي من مقاصد الشرع الحنيف المطلوبة من عموم المسلمين[26].

د. مصالح الخلق في عمارة الأرض

ـ إن الخلافة التي جعلها الله للإنسان في الأرض من أجل أن يصلح ولا يفسد، بل وليحذر من سبيل المفسدين، فقد دل على ذلك قوله تعالى: ﴿ولقد اَهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليومنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الاَرض من بعدهم لننظر كيف تعملون﴾ (يونس 13-14).

ـ فالآية نصت على أن سبيل الاستخلاف والبقاء وعدم الهلاك؛ هو في البُعد عن كل صور الظلم والإجرام كما جاء في وصف الهالكين في الآية، فتبين أن مصالح الخلق لا تجري وفق قوانين الاستبداد، وعمارة الأرض لا تكون إلا بتحقيق هذه المصالح وتنقية الأرض من كل صور الظلم والجريمة، لهذا كانت وصية الأنبياء لبعضهم: ﴿اَخلُفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ (الأعراف: 142)؛ فالأرض التي تقوم على التخلف والجهل والضعف هي المناخ الملائم لنمو الإفساد والاستبداد، ولا يتصور دعوة الأنبياء إلا وقد انتشلت الناس نحو التطهير العقدي والظهور المدني الذي به تُحفظ حياتهم وتتحقق مصالحهم الدنيوية.

ـ كما يجب الإشارة أن هناك طلب تشريعي توجه للأمة كلها، دون أمر الأفراد بأعيانهم، بالقيام بمصالح الخلق وهو ما يطلق عليه (فروض الكفايات) وهو كما عرّفه ابن عبد السلام: ” أن المقصود لفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه[27]“. ولا شك أن عمارة الأرض من أهم تلك المطالب العامة لضرورتها في حياة الخلق، وقد عدّ الإمام الشاطبي فروض الكفايات العامة من الضرورات اللازمة التي لابد من القيام بها لصالح معاش الناس، وذلك بعد أن عدد بعض هذه الفروض، قال: “وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام[28]“، وانخرام النظام من أعظم مفاسد الأمم والمجتمعات.

ـ وقال الإمام القرافي: “أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أهم فروض الكفاية “([29]) فالتعمير والبناء وإصلاح أحوال المجتمع هي فروض عامة لا تسقط إلا بالقيام الكافي بهذا المطلوب، وإلا أَثِمَتْ الأمة بتركها هذا الواجب العام، والناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى حجم النقص والتقصير الكبير في واجب عمارة الأرض وضياع حضارتهم، خصوصاَ في المجالات المدنية؛ كالصناعات والتقنيات الدقيقة ومجال الاتصالات وتقنية المعلومات ومجال المكتشفات الطبية والعلمية المختلفة، ولا أظن أحداً يخالف في أهميتها للمسلمين، وقد نص أكثر من إمام على وجوب العمل لتغطية الاحتياج العام في هذه المجالات وغيرها، ومنهم الإمام الزركشي في قوله: “الحِرَف والصناعات وما به قوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة، وما لابد منه حتى الحجامة والكنس، وعليه عمل الحديث “اختلاف أمتي رحمة للناس” ومن لطف الله، عز وجل، جبلت النفوس على القيام بها، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا ولم يحك الرافعي والنووي فيه خلافا[30].”

المطلب الثالث: تنزيل جواب التسخير على واقع المجتمعات الإسلامية

يتصل هذا المظهر بالمظهر السابق، لكن لأهميته جعلناه مستقلا، فالسنن التسخيرية واقعة ضمن السنن الإلهية ذات الصلة بالكون. إنّ تسخير ما في الكون هو أحد مهامّ الإنسان في الحياة، ويعني البحث في وجوه الانتفاع ممّا ذلّله الله تعالى للإنسان في الكون وتطويعه وتوظيفه بالعمل الدؤوب الهادف، فإنّ العمل ركن من أركان الشخصية المؤمنة، وبدونه تسقط دعامة مهمّة من دعائم هذه الشخصية، وينعكس سلبا على الإيمان من حيث مصداقيته في أرض الواقع. وممّا يستند إليه العمل  ويتوافر فيه تلك الدّواعي الإنسانية من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وإطعام جائع، وسدّ حاجة فقير… فضلا عن الدواعي الاقتصادية بطلب الرزق وكسب العيش، فالموجّه الحقيقي للعمل والمرشد له هو الدّين الذي عدّ الواعي الإنسانية مطلبا أساسيا، ومقصدا ضروريا للعمل الصالح. وبهذا العمل المنهجي الهادف تستطيع الأمّة أن تثوّر كنوز الأرض وأسرارها؛ لتحقّق أهدافها، وتؤدّي واجباتها.

لقد كان تسخير الكون للإنسان لأجل وجوده، وقد بُني الكون بالقدرة الإلهية على قوانين كميّة وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء، فكأنّما هو صنع لاستقبال الإنسان، فتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إعداد الكون كمّيا؛ ليناسب وجود الإنسان، وتسخير الليل والنّهار إشارة إلى إعداده كيفيّا لذلك. كذلك سخّره لاستمرار الحياة الإنسانية؛ فقوانين الكون مذللة لاستقبال الوجود الإنساني ولحياته وسيرورتها، ولتحقيق غايتها.

لقد سخّر الله تعالى للإنسان كثيرا من المظاهر الكونية، فقد سخّر له الشمس والقمر، والليل والنّهار، والفلك والأنهار والبحار، كما في قوله تعالى: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَنْهَارَ. وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اليْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (إبراهيم: 34-35). وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 12). وسخّر الإبل على بدانتها مقارنة بحجم الإنسان كما في قوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ، كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج: 35).

من هذه الآيات يلحظ المتدبّر أنّ كلّ ما في عالم الشهادة مسخّر للإنسان، ليس هناك شيء محظور يحرم على الإنسان اكتشافه أو التفكير فيه، أو تذليله لمصلحته، أو البحث فيه ودراسته. لقد وضع القرآن الإنسان أمام حوافز أو تحدّيات كثيرة ليكتشف ما أودع الله تعالى فيه من طاقات كامنة، ولتظهر محوريته في عالم الكون.

إنّ تسخير كلّ تلك المظاهر الكونية والمخلوقات لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب، بل يلمح البقاعي غرضا آخر له، فيقول: “كلّ ذلك، التسخير، ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخّرة إلى المسخّر القاهر فوق عباده”؛ فالتسخير يقود إلى مبدأ التوحيد الأعظم الذي هو ثمرة هذا الإعمار الواعي للكون، ولأنّه نعمة تذكّر بالمنعم سبحانه وأنّه واحد أحد.

إنّ استثمار ما سخّره الله تعالى يعدّ من فروض الإعمار، وهو تكليف يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث: “يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظنّ أنّك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني”يعني: ألم أجعلك رئيسا مطاعا، ففي الحديث إشارة إلى أنّ التقصير في الانتفاع مما سخّر الله تعالى صفة من يكذّب بلقاء الله يوم القيامة ولا يهتدي إلى وحدانيته.

إنّ كلّ هذه المسخّرات ينبغي أن تكون عونا للإنسان في أداء مهامّه في الأرض، لا أن تكون عبئا له تبعات ثقيلة عليه. وبعبارة أخرى، ينبغي أن يكون التسخير بابا عظيما من أبواب الشكر والثناء والحمد لله ربّ العالمين، والتصدّيق بما جاء به الوحي من هداية وإرشاد. بناء على هذا، فقد يقول قائل: إنّ أبناء الثقافات الأخرى قد أحسنوا استثمار ما في الكون، واستطاعوا أن يقطعوا أشواطا بعيده في اكتشاف أسراره، وتذليل سبل العيش الرغيد للإنسان، والتفنن في توفير وسائل الراحة وسبل السعادة؟

والجواب: أنّ هذا صحيح، ولقد استطاعوا أن يحقّقوا ما لم يخطر على بال القرون الأولى، وسوف يتوقع منهم أن يقطعوا أشواطا أخرى في استثمار ما في الكون، برّه وبحره وجوّه. كلّ هذا حقّ لا مرية فيه، وقد تفوّقوا على المسلمين بفارق هائل، وما ذلك إلا للأزمات العديدة التي يعيشها العقل المسلم المعاصر، لكن، مع ذلك كلّه، لا يمكن أن تكون قراءة هذه الأمّم لكتاب الكون قراءة صحيحة؛ لأنّها، بكلّ وضوح، قراءة منقطعة عن أهم مصادر المعرفة وهو كتاب الوحي، بعيدة عن هدايته، فهي قراءة عوراء للكون، وهي قراءة سطحية لظاهر الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم معرضون. وهذا يؤدّي إلى مفاسد كثيرة على صعيد الأخلاق والقيم والسلوك، فلن يورث هذا الاستثمار حياة عادلة للنّاس، بل تسود حياة هؤلاء شريعة الغاب، فيزداد الفقير فقراً، والغنيّ ثراء، ويأكل القويّ الضعيف، وتلتهم الأقلية المتنفّذة حقوق الأكثرية الكادحة الغافلة.

ولقد تحوّلت هذه القراءة، في ظلّ انعدام توجيه الوحي، إلى تدمير لموارد الطبيعة، واستنزاف بشع لخيراتها، واعتداء صارخ عليها، واغتصاب بشع لحقوق الأجيال القادمة وما لها من حقّ في هذه الموارد، ليشبع إنسان هذه الثقافة نهمه وجشعه وطمعه، ويحرم الأجيال القادمة من الحياة الآمنة. خذ مثلا دخول المواد الكيميائية عنصرا أساسيا في صناعة المواد الغذائية، وما جرّ إليه ذلك من انتشار أمراض عديدة كالسرطان. إنّ الإنسان الجشع يرغب بانتاج زراعي هائل بأقلّ كلفة، وأقلّ جهد، وأفحش ثمن، ولو كان ذلك على حساب حياة النّاس!! إنّه يرغب بإنتاج زراعي في المختبرات. إنّ الوحي يقرر أنّ حفظ النفس واحد من مقاصد الإسلام الكبرى؛ لذلك لا يمكن التعامل مع الكون بهدف الإضرار؛ لأنّه لا ضرر ولا ضرار.

مدى هامشية السؤال النهضوي في الخطاب الإسلامي المعاصر وانعاكس ذلك على مشاريع التجديد والتغيير الراهنة، ولعلي أعرضها من خلال النقاط التالية:

أولا؛ تأتي أغلب انجازات الصحوة وتأثيرات الحركات الإسلامية في مجالات مقاومة حملات التغريب، ورد محاولات التشكيك بقيم الإسلام وتعاليمه، وقد قُدِّمت خلال أكثر من ثلاثة عقود مشاريع رائدة في ذلك، ولكن هذا النتاج جاء في مقابل تجييش المجتمع في خنادق المواجهة لصد تلك الحملات، حتى لو اختفت مبررات تلك المعارك من ساحات جيل اليوم، إلا أن هذا الجيل بقي يستلهم الحذر والقلق الشديد إزاء كل المنتجات الغربية كحالة واحدة صلدة لا تقبل التفكيك أو إعادة النظر.

 ولكن معطيات العصر وثوراته التقنية والتواصلية فتحت الأجواء المغلقة للوافد الثقافي والاجتماعي الغربي مما جعل فكرة التخندق تثبت سذاجتها واستحالتها في آنٍ واحد، وبالتالي برزت تساؤلات عدة طرحها جيل الشباب اليوم حول موقفهم من الغرب والاستفادة من المنتجات الفكرية والفلسفية لعصر النهضة الأوروبية، ومدى التعاون مع مؤسساته المدنية، وهل نجسّر القيم الأخلاقية التوافقية كمشتركات حضارية للحوار والتفاهم، إلى غيرها من التساؤلات التي لا يزال الخطاب الإسلامي المعاصر يبحث عن مخرج يتجاوز فيه هذه الأزمة وليس حلولا واقعية تبعث جدواها في نفوس وعقول متلقيه.

ثانيا؛ هذه الصراعات المتكررة والمفتعلة استنزفت كثيرًا من طاقات الحركات الإسلامية، وأدّت إلى تغوّل الجانب السياسي على طبيعة أدبيات واهتمامات هذه الحركات، وأصبح الخطاب الأيديولوجي هو المهيمن على تفكير أبنائها، وغابت مسألة النهضة والحضارة عن طبيعة الوظيفة الاجتماعية، وإذا سألت بعض أبناء الحركات الإسلاميّة عن رؤيته لطبيعة الأزمة الحضاريّة التي تعيش فيها الأمّة أجابك أنّ السبب هو البعد عن الإسلام، ثمّ إذا سألته عن طريق الخروج من التخلّف أجابك: أنّ الإسلام هو الحل، لكنّك إذا سألته كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ وأين؟ أجابك بلغة إنشائية وعظية، بعيدة عن لغة البرمجة وحسن صناعة الحياة وتوظيف قيم الإسلام في النهوض والعمران وتنمية البلدان.

ثالثا؛ مشروعات النهضة هي برامج عمل تقتضي البناء والتغيير مهما كلف الأمر، ولكن بعض التيارات الإسلامية لجأت إلى مبدأ السهولة (الذي قاله مالك بن نبي) الذي يجذب أصحاب النوايا الطيبة والفئات المخدرة المستكينة، ومن ثمَّ يستعاض عن متطلبات الحركة بوهج الشعارات وصراخ المطالبات العاجزة بالحقوق والحريات، بحيث يرضى الضمير المسلم بذلك الاشتعال الوقتي ثم يعود كل شي كما سبق دون تغيير، إنها أشبه بالمشاريع الصوتية المدغدغة لعواطف الجمهور، والقليل منها ينفذ إلى العقول ولكن من غير بناءٍ فكري عميق ينظم الذهن ويدفع الفكر للحراك المجتمعي الراشد.

رابعا؛ إن انتهاج طريق التكوين التربوي في الإصلاح مهم على مستوى الصلاح الفردي دون التغيير المجتمعي الذي يتطلب كل القوى والفئات بقدر مشترك من التوافق العام على الأهداف وليس على معايير مثالية من الاصطفاء. إن مهمة الإصلاح تستوجب العمل على أساسات التغيير الثلاث: إصلاح التفكير والتعبير والتدبير، والجانب التربوي يصب في علاج التعبير القولي والعملي بتهذيب النفس والسلوك الإنساني، في مقابل التقصير في علاج مشكلات التفكير العقلي والتدبير المعاشي. لذلك يُلحظ أن الجماهير المتأثرة بالخطاب التعبيري التهذيبي مذهلة من حيث الإقبال والكثرة، ولكن عند حصول أي مواجهة فكرية مع عقله أو تحدي واقعي لمثالياته بسبب انفتاح أو تعدد للثقافات والهويات، فإن قلقا وتخبطا يحصل للفرد يلجئه للانكفاء والانعزال أو الذوبان والتلاشي في الغير دون مقاومة.

خامسا؛ تعمد بعض التيارات الإسلامية إلى التخويف والتحذير من الأطروحات الفكرية، أو من ممارسات النقد والتقويم الذاتي، مع تهميش متعمد لقضايا الوعي الحضاري والنهضوي، تحسبا منها أن هذا الصنيع من أجل التماسك والبقاء وحماية الجموع من التفرق عند اختلاف الآراء، بينما هو نخر صامت داخل بنية التنظيمات قد يؤدي للفناء؛ لأن حاجة الواقع طاغية على مثاليات الخطاب، ومناقشة تلك المستجدات وبسطها للحوارات المفتوحة في الهواء الطلق ضرورة معاصرة يستحيل معها إنتاج القوالب الموحدة إلا أن تكون قد تجمدت أو غُيِّبت.

سادسا؛ تتجه بوصلة الخطاب الإسلامي، في كثير من الأحيان، للبحث عن أعداء من أجل التخندق للمواجهة، ظنا أن افتعال المعارك يضمن انكفاء الأتباع والجماهير نحوهم، وعدم التمرد والتماهي في الغير من المخالفين، ولذلك تكتسب المخالفة دائما المفاصلة و تكتسي ثوب القدسية، هذه الركيزة حاضرة في كثير من أدبيات الخطاب الإسلامي بالتخويف والتحذير من العدو العلماني أو الطائفي أو الإسلامي المتساهل. هذا النوع من التترس الانعزالي وإضفاء التفرد بالحق والغيرة على الدين بهذه المقاومة الخادعة، هي أشبه بالمواجهة التي يفتعلها مصارع الثيران مع الثور الهائج الذي ينسى عدوه القاتل ويتجه بجهده وحربه على تمزيق القطعة الحمراء التي يراها تتراقص أمامه باستفزاز، إنه يناطح و يهاجم خيالا لا حقيقة، إنه ينهك قواه ويبذل مجهوده في ميدان آخر لا يريده، والمتأمل في كثير من صراعات الإسلاميين يجدها لا تخرج عن هذا التسطيح، بينما عدو الجهل والتخلف والاستبداد واستلاب الهوية وتنمية الوطن، قضايا ثانوية وأحيانا هامشية في خطابهم الإصلاحي؟!

سابعا؛ الخطاب الإسلامي المعاصر عاطفي في التأثير وسطحي في التحليل، وقد يضحي الفرد المسلم بالنفيس عند التنفيذ إلتزاما بحيثيات هذا الخطاب، وفي المقابل نجد أدواته في التغيير، عادة ما تكون بسيطة وهشة عند التناول مع حدّة وشدة في المضي لها، لذا يتعامل مع المواقف والأحداث من خلال فهم ماضيها التاريخي، أو من وجهها المقابل او موجتها الأولى أحيانا، وواقع الصومال في حربه الطويلة غير المبررة شرعا وعقلا دليل على هذا النقص في الخطاب الديني المعاصر، وأفغانستان أيضا في خلافاتهم السياسية حول قضايا هامشية في الأولوية حولت البلاد إلى مخيمات نازحين، وعصابات للمخدرات، ومقابر للنفايات، وشتات للملايين من الشباب، بينما الوعي المقاصدي والحضاري يكاد لا يوجد في خطاب قيادات العمل المسلح ولا حوار سوى للبندقية والمدفع، والعراق وفلسطين ليست بعيدة عن هذا التطبيق، وهو ما يفسر السبب في الافتقار الشديد للمراكز البحثية والدراسات العلمية والاحتكام المعرفي لمناهج التوثيق والتحليل في رصد الظواهر والتعامل معها.

هذه بعض الرؤى والتأملات في واقع خطابنا الإسلامي المعاصر، لعلها أن تعيد بوصلة الاتجاه للمسار الصحيح قبل فوات الوقت وذهاب السائر.

الهوامش


[1].  رواه الترمذي وقال حديث صحيح 4/618 رقمه: 2428.

[2]. انظر: بول هازار، أزمة الوعي الديني، ص149-191.

[3]. تفسير أبو السعود، 5/298.

[4]. التحرير والتنوير، 25/357.

[5]. التحرير والتنوير، م، س، 21/116.

[6]. انظر: عبد المجيد النجار.

[7]. الجابري، فكر ابن خلدون العصبية والدولة، ص130.

[8]. ابن خلون، المقدمة، 1/33.

[9]. المرجع نفسه، 1/70.

[10]. المرجع نفسه، 1/32.

[11]. انظر: 3/44.

[12]. الضروري في علم الأصول، ص1.

[13]. مقدمة ابن خلدون، 1/226.

[14]. فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية، دكتور عز الدين فرج، تاريخ ضائع (التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه) تأليف. مايكل مرجان.

[15]. انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص31- 32.

[16]. تفسير البيضاوي، 1/64.

[17]. ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/208، ولابن القيم في كتابه “مفتاح دار السعادة، 1/151 كلام مفيد وتفصيل رشيد حول خلافة الله في أرضه.

[18]. تفسير الطبري، 15/368.

[19].  تفسير البيضاوي، م، س، 3/103.

[20].  التحرير والتنوير، 7/163. والمعنى اللغوي في العمارة أو الاستعمار يراد به عمارة الأرض بالزرع والحرث والبناء وهو قول كثير من أئمة اللغة، ومنهم ابن فارس حيث يقول: “من الباب عِمارة الأرض، يقال عَمَرَ الناسُ الأرضَ عِمارةً، وهم يَعْمُرُونها، وهي عامرة معمورةٌ. وقولهم: عامرة، محمولٌ على عَمَرتِ الأرضُ، والمعمورة من عُمِرت. والاسم والمصدر العُمْران: واستَعمر الله تعالى الناسَ في الأرض ليعمرُوها. والباب كلُّه يؤول إلى هذا.” معجم مقاييس اللغة، 4/114.

[21]. الجصاص، أحكام القرآن، 3/378.

[22]. تفسير القرطبي، 9/56.

[23]. التحرير والتنوير، م، س، 2/449.

[24]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص41-42.

[25]. المستصفى، 1/483.

[26]. د. عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص61– 83.

[27]. العز بن عبد السلام، قواعد الإحكام، 1/69.

[28]. الموافقات، 2/180.

[29]. القرافي، الفروق، 4/92.

[30]. الزركشي، المنثور في القواعد، 3/35، السيوطي، الأشباه والنظائر، 2/251.

Science

د. مسفر بن علي القحطاني

أستاذ مشارك بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
المملكة العربية السعودية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق