مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

«زكاة الفطر»

من كتاب المنتقى شرح موطأ مالك للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي الأندلسي المالكي (ت474هـ)

من تجب عليه زكاة الفطر:

(691) حدثني يحيى عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يخرج زكاة الفطر عن غلمانه الذين بوادي القرى وبخيبر.

(الشرح) : قوله كان يخرج زكاة الفطر عن غلمانه يريد أنه كان يخرج عنهم زكاة الفطر؛ لأنهم في ملكه، ونفقتهم واجبة عليه فالزكاة واجبة عليه عنهم. والأصل في ذلك حديث أبي سعيد الخدري: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام، الحديث.

( مسألة ): وإذا كان العبد لواحد فلا خلاف في ذلك فإن كان لجماعة فزكاة الفطر فيه واجبة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب فيه زكاة الفطر وكذلك إذا كان لاثنين عبدان مشتركان.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وهو: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام، وهذا عام في المشترك وغيره فيحمل على عمومه.

ودليلنا من جهة القياس: أن هذا من أهل الطهرة ومن هو له من أهل الفطرة واجد لها، فوجب أن تكون زكاة فطره واجبة أصله إذا كان لواحد.

( فرع ): وكيف يخرج عنه زكاة الفطر مالكاه عن مالك في ذلك روايتان روى ابن القاسم أنه يخرج كل واحد منهما عنه بقدر ملكه فيه وروى عنه ابن الماجشون يخرج كل واحد منهما عنه فطرة كاملة.

وجه رواية ابن القاسم : أن الفطرة تابعة للنفقة فلما كانت النفقة بينهما فكذلك الفطرة. ووجه رواية ابن الماجشون أن العبد محبوس في حق كل واحد منهما بدليل أنه محبوس بسببه في أحكام الرق إذا انفرد ملكه لحقه منه فكانت عليه فطرة كاملة كما لو ملك جميعه.

( مسألة ): وإذا ابتاع العامل العبيد بمال القراض فاختلف أصحابنا في إخراج زكاة الفطر عنهم فروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن زكاة الفطر عنهم على رب المال يخرجها من ماله وقال أشهب وأصبغ يزكي عنهم من مال القراض ويكون ما بقي هو رأس المال ، روى ذلك عنهما ابن حبيب.

وقد روى أشهب عن مالك ورواه ابن المواز وسحنون عن أشهب أن زكاة الفطر عنهم تخرج من مال العامل ثم تكون مراعاة فإن كان في المال ربح كان للعامل منها قدر حصته. وقال ابن حبيب: زكاة الفطر كالنفقة من الجملة وهو القياس؛ لأن زكاة الفطر عندنا تابعة للنفقة.

وجه رواية ابن القاسم أن رب المال يجب أن يخرج مما بيده الزكاة ؛ لأن مال القراض له فكانت عليه الزكاة ولا يملك العامل نصيبه من الربح إلا بالقسمة ، ووجه رواية ابن حبيب عن أشهب أن ذلك لا يجوز ؛ لأن زكوات الأموال ونفقاتها إنما حكمها أن تكون منها فهي وإن كانت تلزم رب المال فواجب أن تخرج مما بيد العامل ؛ لأن رب المال إذا أخرجها فهي زيادة في القراض بعد العمل فيه وذلك غير جائز.

ووجه رواية ابن المواز أن الزكاة واجبة على المال فإذا كان للعامل فيه حصة عليه من الزكاة بقدر ذلك وهذا مبني على أن العامل يملك حصته من الربح بالظهور.

( مسألة ): فإن كان نصف العبد حرا فعن مالك في ذلك ثلاث روايات روى ابن القاسم عنه أن على مالك النصف نصف الفطرة ولا شيء على العبد في الباقي وروى عنه أن على العبد من الفطرة بقدر ما عتق عليه وبه قال محمد بن مسلمة.

وروى عنه مطرف وابن الماجشون أن على من فيه بقية الرق جميع الفطرة.
وجه رواية ابن القاسم: أن الفطرة زكاة والزكاة غير واجبة على من فيه بقية رق فعلى من ملك منه بقدر حصته وتسقط عن حصة الحر زكاة الفطر لما ذكره.

ووجه ما قاله محمد بن مسلمة: أن الفطرة تابعة للنفقة فلما قسطت النفقة على الجزية والملك فكذلك الفطرة.
ووجه رواية مطرف: أنه محبوس في حق من له فيه ملك بأحكام الرق كلها وهذا من جملتها فوجب أن يلزمه جميع الصاع.

( فصل ): وقوله عن غلمانه الذين كانوا بوادي القرى وبخيبر يريد أنه كان يخرج عنهم زكاة الفطر وإن كانوا غيبا عن موضع استيطانهم بالمدينة وأن مغيبهم عنه لا يسقط عنه فيهم زكاة الفطر.

وحدثني عن مالك أن أحسن ما سمعت فيما يجب على الرجل من زكاة الفطر أن الرجل يؤدي ذلك عن كل من يضمن نفقته ولا بد له من أن ينفق عليه والرجل يؤدي عن مكاتبه ومدبره ورقيقه كلهم غائبهم وشاهدهم من كان منهم مسلما ومن كان منهم لتجارة أو لغير تجارة ومن لم يكن منهم مسلما فلا زكاة عليه فيه.

( الشرح): وهذا -كما قال- إن أحسن ما سمع في وجوب زكاة الفطر ما ذهب إليه وهو الذي قام الدليل عليه أن تجب عليه زكاة الفطر عن كل من تجب عليه نفقته وذلك على ضربين نفقة ثابتة بالشرع ونفقة ثابتة بالعقد.
فأما النفقة الثابتة بالشرع: فمن لزمته نفقته لزمته زكاة الفطر عنه ونحن نبين حكم النفقة ليتبين حكم الزكاة فيها فتجب على الرجل نفقة الولد الصغير المعسر ونفقة أبويه المعسرين وعلى الزوج نفقة زوجته وعلى السيد نفقة رقيقه.

فأما الأولاد فلا يخلو أن يكونوا صغارا أو كبارا فإن كان الولد صغيرا فلا يخلو أن يكون موسرا أو معسرا فإن كان موسرا فنفقته في ماله ، وكذلك فطرته وقال محمد بن الحسن نفقته في ماله وفطرته في مال أبيه.
ودليلنا أن كل من لا يلزم الأب الإنفاق عليه فإنه لا تلزمه الفطرة عنه كالكبير.

( مسألة ): وإن كان معسرا فالنفقة في مال أبيه وكذلك الفطرة وإن كان بالغا فلا يخلو أن يكون موسرا أو معسرا ، فإن كان موسرا فنفقته في ماله وكذلك فطرته وإن كان معسرا فلا يخلو أن يكون صحيحا أو زَمِناً.
فإن كان صحيحا فنفقته عليه ، وكذلك فطرته وإن كان زمنا فلا يخلو أن تكون الزمانة طرأت عليه بعد البلوغ أو قبل البلوغ ، فإن كانت بعد البلوغ فالنفقة عليه ، وكذالك الفطرة وإن كان بلغ زمنا فنفقته على أبيه ، وكذالك فطرته ؛ لأن النفقة لم تسقط عنه بالبلوغ ؛ لأن الزمانة تمنع الاكتساب كالصغر وهذا أحد قولي الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجب على الأب نفقة ولده الصغير ولا تجب عليه زكاة عن ولده البالغ زمناً.

والدليل على ما نقوله: أن هذا حق يجب فيه عن الصغير من ولده فجاز أن يحمله عن الكبير منهم كالنفقة .
( مسألة ): وأما نفقة الوالدين المعسرين فإنها تلزم الولد وإن كانا قويين على العمل وهذا إذا كانا زوجين فإن كان للأب زوج غير الأم فقال جمهور أصحابنا ورووه عن مالك : إن على الابن الغني النفقة على الأب وعلى زوجه وإن كانت غير أمه وقال المخزومي لا ينفق على زوجة أبيه إلا أن تكون أمه.

وقال ابن القاسم لا ينفق من نساء أبيه إلا على امرأة واحدة ومن خدمها إلا على خادم واحدة وأما الأم فإن تزوجها غير أبيه فنفقتها على الزوج فإن أبى الزوج أن يمسكها إلا بغير نفقة ورضيت الأم بذلك لزم الابن الإنفاق عليها ؛ لأنه إذا طلقها لزمته النفقة فلا فائدة له بذلك إلا الإضرار بها والعضل لها وزكاة الفطر في ذلك كله تابعة للنفقة وقال أبو حنيفة : ليس على الابن أن يخرج زكاة الفطر.

والدليل على ما نقوله أن هذا من أهل الطهرة يمونه من هو من أهل الفطرة ممن يجدها فكان عليه أن يؤديها عنه كالابن الصغير المعسر مع الأب الغني .

( مسألة ): وأما الزوجة فإنه يجب على الزوج الإنفاق عليها وزكاة الفطر عنها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري لا يخرج زكاة الفطر عنها وذلك في مالها.

ودليلنا أنها من أهل الطهرة يمونها بالشرع من هو من أهل الفطرة واجد لها فلزمه إخراجها عنها أصله الأمة .
( مسألة ): وعلى الزوج أن ينفق على خادمها وذلك أن المرأة لا تخلو أن تكون ممن تخدم نفسها أو ممن لا تخدم نفسها فإن كانت ممن تخدم نفسها فليس عليه إخدامها وإن كان لها خادم فنفقتها عليها ، وكذالك فطرتها وإن كانت ممن لا تخدم نفسها فهو مخير بين ثلاثة أحوال أن يكري لها من يخدمها أو يشتري لها خادمها يشغلها بخدمتها أو ينفق على خادمها.

وقيل : إنه مخير بين أربعة أشياء : ثلاثة تقدمت والرابع أن يخدمها بنفسه فإن اختار النفقة على خادمها كان عليه أن يؤدي عنها زكاة الفطر ؛ لأنها تابعة للنفقة بالشرع ، وكذالك إن كانت ممن يخدم بأكثر من خادم واحدة.
( مسألة ): وأما الرقيق فلا يخلو أن يكون ملكه تاما وتصرفه فيه ماضيا نافذا أو يكون قد عقد فيهم عقدا يمنع ذلك، فإن لم يتقدم له فيهم عقد فقد تقدم كلامنا فيه بما يغني، وإن كان له فيهم عقد يمنع ذلك فأحكامهم على ما تقتضيه تلك العقود ، والعقود في ذلك الرهن والإجارة والتدبير والاستيلاد والعتق إلى أجل والكتابة والإخدام فأما الرهن فإن زكاة الفطر فيه على مالكه الراهن له ؛ لأنه تلزمه نفقته ، وكذالك الإجارة.

( مسألة ): وأما التدبير والاستيلاد والعتق إلى أجل.
( مسألة ): وأما الكتابة فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما أن الزكاة على السيد . والثانية لا زكاة عليه.
وجه الرواية الأولى: أن ملكه ثابت عليه ، وإنما تزول يده بالكتابة وذلك لا يسقط عنه زكاة الفطر كالعبد الآبق.
ووجه الرواية الثانية: أن هذا عقد يسقط النفقة عن السيد فوجب أن تسقط زكاة الفطر عنه كالعتق البتل .

( مسألة ): وأما الإخدام فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون مرجع الرقبة بعد الخدمة إلى ملك. والثاني: أن يرجع إلى حرية فإن كان رجوعها إلى رق فاختلف أصحابنا في ذلك فقال ابن القاسم وابن عبد الحكم: النفقة وزكاة الفطر على من له الخدمة وقال أشهب ورجع إليه ابن القاسم : النفقة على من له الخدمة والزكاة على من له الرقبة.

وقال ابن الماجشون: إن كانت الخدمة تطول فالنفقة والفطرة على من له الخدمة، وإن كانت قصيرة كالوجائب والإجارة فالنفقة والفطرة على من له الرقبة.
وقال سحنون: طالت مدة الخدمة أو قصرت النفقة والفطرة على من له مرجع الرقبة.
وجه القول الأول: أن المنفعة خالصة للذي له الخدمة ؛ فلذلك كانت عليه النفقة ؛ لأننا لا نتحقق رجوعها إلى غيره والزكاة مانعة للنفقة الثابتة بالشرع.

ووجه قول أشهب: أن النفقة إنما تجب على من له الخدمة بسبب الخدمة ؛ لأنه لا حق له في الرقبة وذلك لا يوجب زكاة الفطر كما لو أخذها منه واشترط النفقة.

ووجه قول ابن الماجشون: أن الخدمة اليسيرة الغالب منها السلامة ورجوعها إلى من له الرقبة فكانت النفقة والفطرة عليه ؛ لأن النفقة إنما تجب على من له الرقبة وإن كانت الخدمة طويلة الأعوام الكثيرة فإنها لا يغلب على الظن سلامتها ورجوعها إليه فكانت النفقة على من يتعجل منفعتها ؛ لأن الظاهر أن الرقبة لا تزول عنه والفطرة تابعة للنفقة.

ووجه قول سحنون: أن النفقة إنما تجب على من له الرقبة بدليل أن من ابتاع رقبة كانت نفقتها عليه ومن ابتاع منفعتها لم يجب عليه ذلك فالنفقة تجب على من له الرقبة ، والزكاة تبع لها فإن يئس من رجوعها فليزل ملكه عنها بالعتق لتسقط عنه النفقة والزكاة .

( مسألة ): وإن كان العبد يرجع إلى حرية فقد قال مالك نفقته وفطرته على من له الخدمة ووجه ذلك أنه محبوس في الرق بسببه دون غيره فأشبه العبد الذي يملك رقبته.

( فصل ): وقوله: ومن كان منهم لتجارة؛ يريد أن العبد وإن كان للتجارة ولزمه في قيمته زكاة العين فإن زكاة الفطر ثابتة في رقبته وبهذا قال الشافعي.

( فصل ): وقوله ومن لم يكن منهم مسلما فلا زكاة عليه فيه، يريد أن من كان من عبيده أو ممن تلزمه نفقته غير مؤمن فإنه لا فطرة عليه بسببه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه إخراج الفطرة عن عبيده الكفار.
ودليلنا: أن هذا ليس من أهل الطهرة فلم يجب إخراج زكاة الفطر عنه ، أصله الأب الذمي الكافر الفقير فإنه ينفق عليه ولا يؤدى عنه الفطر.

قال مالك في العبد الآبق: إن سيده إن علم مكانه، او لم يعلم، وكانت غيبته قريبة، وهو يرجو حياته ورجعته، فإني أرى أن يزكي عنه، وإن كان إباقه قد طال، وأيس منه فلا أرى أن يزكي عنه.

( الشرح ): وهذا -كما قال- إن العبد الآبق على ضربين منهم من ترجى أوبته ومنهم من لا ترجى فمن رجيت أوبته فعليه أن يزكي عنه ، ومن يئس من أوبته فلا شيء عليه ؛ لأنه لا فائدة له في علمه بحياته، وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه. وقال الأوزاعي: إن كانت غيبته في بلاد الإسلام لزمته عنه الفطرة دليلنا أن هذا قد يئس منه فلم يلزم عنه زكاة الفطر كالذي صار في بلاد الحرب.

قال مالك: تجب زكاة الفطر على اهل البادية كما تجب على أهل القرى، وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس على كل حر، أو عبد ذكر، أو أنثى من المسلمين.

(الشرح ): وهذا -كما قال- إن زكاة الفطر تجب على أهل البادية وأهل الحاضرة وهم أهل القرى وجوبا سواء لما احتج به مالك من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها على كل حر أو عبد ولم يخص أهل حاضرة من غيرهم فوجب حمله على عمومه وهذا نص من مالك رحمه الله على قوله بصحة العموم واعتقاده الاحتجاج به ، وما ذكره من وجوب الزكاة هو قول جميع الفقهاء إلا ما يحكى عن الأصم وابن علية أنهما قالا : ليست بواجبة.

والدليل على ما نقوله قوله تعالى:﴿أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾. وقال مالك إن زكاة الفطر داخلة فيها وما قاله صحيح ؛ لأن اللفظ يصح بتأوله لها وهو من ألفاظ العموم فيجب أن يحمل على هذه الزكاة وغيرها إلا ما خصه الدليل.

مكيلة زكاة الفطر:

 (692) حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين.

(الشرح) : قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الناس يدل على وجوب هذه الزكاة خلافا لما حكي عن ابن علية والأصم ؛ لأن معنى فرض ألزم فصدقة الفطر فريضة واجبة ، وقال أبو حنيفة: هي واجبة وليست بفريضة ؛ لأن الفرض عندنا ما لا خلاف فيه والواجب فيه خلاف.
قال القاضي أبو الحسن: وهذا الخلاف في عبارة ومع هذا الذي قاله أبو الحسن فإن أبا حنيفة قد خالف أصله فجعل زكاة الخيل وزكاة التجارة فريضة ، والخلاف فيها أظهر من الخلاف في هذه المسألة.

وقوله: على الناس يقتضي الوجوب واللزوم فإن قيل معنى فرض زكاة الفطر قدرها فالجواب أن فرض في هذا الحديث لا يصح أن يراد به إلا أوجب ؛ لأن على يقتضي الإيجاب واللزوم ولا يجوز أن يكون بمعنى عن ؛ لأن الموجب عليه غير الموجب عنهم على أنه قد ورد من طريق صحيح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه لا يراد به قدر على أنا لو سلمنا ذلك وكان اللفظ يحتمل المعنيين لوجب أن يحمل عليهما إذ لا تنافي بينهما.

وقد اختلف قول مالك في زكاة الفطر ففي كتاب ابن سحنون من رواية ابن نافع عن مالك في قوله تعالى وآتوا الزكاة أنها زكاة العين والحرث والماشية وزكاة الفطر.

وروى عنه ابن نافع أيضا أنه سئل عن ذلك : فقال في زكاة الأموال قيل له فزكاة الفطر فقال هي مما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض وبه قال ابن كنانة فهي فرض على الوجهين وذلك يقتضي أن ما أوجبه صلى الله عليه وسلم ينطلق عليه لفظ الفرض.

( مسألة ): إذا ثبت ذلك فإن هذا حكم الغني فأما الفقير فإن كان عنده ما يخرج منه زكاة الفطر دون مضرة تلحقه لزمه إخراجه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يلزمه إخراجه حتى يكون له نصاب مال مائتا درهم.
والدليل على ما نقوله الحديث المذكور: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الناس وهذا عام ودليلنا من جهة القياس أن هذا حق في المال لا يزداد بزيادة فلم يفتقر إلى نصاب كالكفارة .

( فصل ): وقوله: من رمضان؛ اختلف أصحابنا في تأويل ذلك فقال بعضهم : إن ابتداء الفطر من آخر أيام رمضان ؛ لأنه في أول زمن من شوال وقال بعضهم هو الفطر يوم الفطر ؛ لأنه هو الفطر من رمضان وهو الذي يخالف حكم الصوم فيه وأما الفطر في أول ليلة من شوال فإنه ليس بفطر من رمضان ؛ لأنه لا ينافي صوم ما بعده .

( فصل ): وقوله: صاعا من تمر أو صاعا من شعير؛ ذكر لما يجوز إخراجه في صدقة الفطر ولا خلاف في جواز إخراج التمر والشعير في زكاة الفطر ، وأن المقدار المخرج منه هو صاع ، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه رطل وثلث فالصاع خمسة أرطال وثلث هذا مذهب أهل المدينة وإليه ذهب مالك والشافعي.

وقال أبو حنيفة: المد رطلان والصاع ثمانية أرطال.
والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك نقل أهل المدينة المتصل رواه خلفهم عن سلفهم وورثه أبناؤهم عن آبائهم أن هذا المد هو مد النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا احتج مالك رحمه الله على أبي يوسف بحضرة الرشيد ، واستدعى أبناء المهاجرين والأنصار فكل أتى بمد زعم أنه أخذه عن أبيه أو عن عمه أو عن جاره مع إشارة الجمهور إليه واتفاقهم عليه اتفاقا يوجب العلم.

ويقطع العذر كما لو أن رجلا دخل بلدا من بلاد المسلمين وسألهم عن مدهم الذي يتعاملون به اليوم والذي تعاملوا به منذ عام أو عامين وأشار إليه عدد كثير لوقع إليهم العلم الضروري كما وقع لأبي يوسف ؛ ولذلك رجع عن موافقة أبي حنيفة بغلبة الظن إلى موافقة مالك لما وقع له من العلم .

( فصل ): وقوله صاعا من شعير أو صاعا من تمر ، أو هاهنا على قول جماعة أصحابنا لا يصح أن تكون للتخيير وإنما هي للتقسيم ولو كانت للتخيير لاقتضى أن يخرج الشعير من قوته غيره من التمر مع وجوده ولا يقول هذا أحد منهم فتقديره صاعا من تمر على من كان ذلك قوته أو صاعا من شعير على من كان ذلك قوته .

( فصل ): وقوله: على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى؛ ذهب أصحابنا إلى أن على هاهنا بمعنى عن وقد تقدم بيانه ويؤيد ذلك أنه قال على كل عبد والعبد لا يجب عليه شيء من ذلك ، وإنما يجب على سيده عند هذا الذي ذكره فقهاء الأمصار وحكي عن داود أنه لا يجب على أحد إخراج الفطرة عن عبده وإنما يخرجها العبد نفسه.

قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: ويحتمل عندي وجها آخر وهو أن تكون على معناها على قول من قال : إن زكاة الفطر تجب على العبد ولكن يتحملها عنه السيد وأما على قول من قال إنها تجب على السيد ابتداء فإنه أيضا يحتمل أن يطلق هذا اللفظ ، وإن كان الغرم يلزم السيد دون العبد ؛ ولذلك يقال يلزمك على كل دابة من دوابك درهم وعلى كل ناقة من إبلك بحارسها درهم .

( فصل ): وقوله: من المسلمين؛ يقتضي اختصاص هذا الحكم بالمسلمين ؛ لأنه قيد الحكم بهذه الصفة ولم يطلقه والأصل براءة الذمة فيجب استصحاب ذلك حتى يدل الدليل على إشغالها بالشرع وعلى أن في الحديث ما يدل على اختصاص هذا الحكم بالمسلمين وانتفائه عن غيرهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج زكاة والزكاة إنما هي تطهير للمسلمين قال الله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فلا تعلق لها بالكفار ؛ لأنها لا تطهرهم ولا تزكيهم.

فإن قيل: إن التقييد بصفة الإسلام إنما حصل فيمن تجب عليه الزكاة لا فيمن تجب عنه ؛ ولذلك تكون طهرة وزكاة فالجواب أن التقييد ورد في الحديث بعد ذكر من تجب عليه ومن لا تجب فيجب أن تصرف إلى جميعهم ولو قلنا : إنها تنصرف إلى جميعهم دون بعض لكان انصراف ذلك إلى من تجب عنه أولى ؛ لأنه أقرب مذكور إلى هذه الصفة.

والناس بين قائلين قائل يقول : إن الصفات والتقييد والاستثناء ينصرف إلى جميع المذكور ، وطائفة تقول ينصرف ذلك إلى أقرب مذكور دون غيره ولا أحد يقول : إنها تنصرف إلى أبعد مذكور دون أقربه.
وجواب ثان وهو أن من تجب عليه حجة لنا إذا اعتبر الإسلام فيمن يجب عليه يلزم أن يعتبر فيمن يخرج عنه ؛ لأنه أحد نوعي من يتعلق به وجوب الزكاة.

(693) و حدثني عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.

(الشرح): قوله كنا نخرج زكاة الفطر يلحق عند أكثر أهل العلم بالمسند وهو مذهب مالك والشافعي ؛ لأن الصحابي إذا أخبر بفعل من الشرع وأضاف ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الحديث رواه داود بن قيس عن عياض بن عبد الله فقال كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فذكره فصرح برفعه فإذا كان الأمر المضاف مما يظهر ويتبين ولا يخفى مثله على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره وأقر عليه فإنه حجة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على المنكر ، وإخراج زكاة الفطر يكثر المخرجون لها والآخذون ويتكرر ذلك حتى لا يمكن أن يخفى أمرها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم فثبت أن الخبر حجة وأنه مسند.

( فصل ): وقوله صاعا من طعام والطعام في كلام العرب واقع على كل ما يتطعم ، ولكنه في عرف الاستعمال واقع على قوت الناس من البر وهذا يدل على أن إخراج البر في زكاة الفطر جائز وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء وقال بعض من لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر لا يجزئ إخراج البر في الزكاة وهذا خلاف لا يعتد به ؛ لأنه خلاف الإجماع.

والدليل على ما نقوله: حديث أبي سعيد هكذا كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير والطعام إذا أطلق توجه بعرف الاستعمال إلى البر، يدل على ذلك أن القائل اذهب بنا إلى سوق الطعام لا يفهم منه سوق الجزارين ولا سوق الزيت ولا سوق شيء من الأطعمة إلا البر.
فإن قيل : هذا اللفظ يستعمل في الشعير على حسب ما يستعمل في البر فالجواب أن مثل هذا لا ينطلق على سوق الشعير إذا انفرد وإنما ينطلق على سوق القمح ، والشعير على سبيل التبع للقمح ، وأما سوق الشعير إذا انفرد فإن هذا الاسم لا ينطلق عليه.

ووجه ثان أنه قال: صاع من طعام أو صاع من شعير فصرح أن المراد بالطعام غير الشعير كما بين أن المراد بالشعير غير ما بعده لما أورد بينهما لفظ التقسيم أو التخيير ولا يقسم الشيء في نفسه كما لا يخير بينه وبين نفسه.
فإن قيل فقد روى حفص بن ميسرة هذا الحديث عن زيد بن أسلم فقال كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر إن ذلك كان قوتهم الغالب في ذلك الزمان ولا يدل على أن اسم الطعام ينطلق عليه.

( مسألة ): إذا ثبت ذلك فإن زكاة الفطر تخرج من القوت وقد اختلفت الرواية عن مالك فيما يجزئ إخراجها عنه فقال مالك في المختصر يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته.
وروى عنه ابن القاسم في كتاب ابن المواز تؤدى من تسعة أشياء : القمح والشعير والسلت والأرز والدخن والذرة والزبيب والأقط والتمر زاد ابن حبيب العلس فجعلها عشرة.

وقال : إن أخرج الدقيق بريعه أجزأه ، وكذالك الخبز وقال أشهب : لا تجزئ إلا الأربعة التي في الحديث الشعير والتمر والزبيب والأقط إلا أن الشعير يدخل معه القمح والسلت ؛ لأنهما جنس واحد وهذه معان تبين القول في جواز إخراجها ثم تبين بعد ذلك صفة إخراجها.

فأما القمح فقد تقدم الكلام فيه والشعير ثابت ذكره في حديث أبي سعيد وقد انفرد عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر بقوله كان الناس يخرجون عن صدقة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب وليس السلت بمحفوظ في حديث نافع.
والذي يعول عليه في جواز إخراجه أنه حب من جنس القمح تجزئ فيه الزكاة كالشعير ، وأيضا فإن القمح والسلت والشعير جنس واحد أفضله القمح وأوسطه السلت وأدونه الشعير فإذا كان يجزئ إخراج الشعير وهو الأدون فبأن يجزئ إخراج القمح وهو الأفضل والسلت وهو الأوسط أولى وأحرى .

( مسألة ): وأما العلس فقد قدمنا اختلاف أصحابنا في إلحاقه بالقمح والشعير والسلت ، والكلام في إخراجه في زكاة الفطر مبني على ذلك فإن قلنا إنه من جنس القمح والشعير ألحق به على معنى الجنس وإن قلنا إنه من غير جنسه ألحق به بالقياس .

( مسألة ): وأما التمر فلا خلاف في كونه مجزئا وهو ثابت في حديث ابن عمر وفي حديث أبي سعيد وأما الزبيب فلا خلاف في جواز إخراجه بين فقهاء الأمصار وحكي عن بعض المتأخرين المنع من ذلك وهو محجوج بالإجماع قبله.
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور خبر أبي سعيد المتقدم وفيه أو صاعا من زبيب ومن جهة القياس أن هذه ثمرة تجزئ الزكاة في عينها وعند كمال نمائها تقتات غالبا فجاز إخراجها في زكاة الفطر .

( مسألة ): وأما الأقط فإن إخراجه جائز وللشافعي في ذلك قولان : أحدهما مثل قولنا والثاني أنه لا يجزئ.
والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: حديث أبي سعيد المتقدم وفيه أو صاع من أقط ودليلنا من جهة القياس أن معنى يجزئ فيه الصاع يقتات غالبا يستفاد من أصل تجب في عينه الزكاة فجاز إخراجه في زكاة الفطر كالحبوب .

( مسألة ): وأما الأرز والذرة والدخن فإنه لا يجوز إخراجها عند أشهب ويجزئ عند مالك.
وجه قول مالك ما قدمناه من أنه حب يقتات غالبا تجزئ في عينه الزكاة يوم تمامه فجاز إخراجه في الزكاة كالقمح والشعير ، ووجه قول أشهب أنه ليست من جنس المنصوص عليه فلم يجز إخراجها كاللحم .

( مسألة ): وأما القطاني الحمص والعدس والجلبان فهل يجزئ إخراج الفطرة منها أم لا قال مالك في المختصر يخرج من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك قوته وروى عنه ابن القاسم لا يخرج من القطاني قال ابن حبيب وإن كان قوته.
وجه القول الأول: أن هذا حب يقتات غالبا تجزئ في عينه الزكاة فجاز إخراجه في زكاة الفطر كالقمح والشعير.
ووجه الرواية الثانية: أن هذه حبوب تستعمل غالبا بمعنى التأدم وإصلاح الأقوات فلم يجز إخراجها في زكاة الفطر كالأبزار .

( مسألة ): وأما الدقيق فقد قال مالك لا يجزئ إخراجه وقال ابن حبيب إنما ذلك للريع فإذا أخرج بمقدار ما يريع القمح أجزأ وقاله أصبغ.
ووجه قول مالك أن زكاة الفطر مقدرة ومقدار الريع غير مقدر فلو جوزنا إخراج الدقيق بالريع لأخرجناها عن التقدير الذي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجبه إلى الحزر والتخمين الذي ينافي الزكاة ولكان لا يطلق على ما يخرج اسم صاع والنبي صلى الله عليه وسلم قد علق حكمها بهذا الاسم.
ووجه قول ابن حبيب أن يكون الصاع قد جرى في الحنطة ، ثم يطحن بعد ذلك فإن هذا لا يخرجه عن التقدير إلى الحزر والتخمين .

( مسألة ): وأما التين فقال مالك لا يخرج في زكاة الفطر وقد ترجح في المستخرجة وهذا على قوله : إن الزكاة لا تجزئ فيه وإن الربا لا يتعلق به وذلك أنه لم يره من الأقوات لما لم يكن بلد يقتات فيه.
قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: والصواب عندي أنه من الأقوات وأن تجزئ فيه الزكاة والربا ويخرجه في زكاة الفطر من يتقوته والله أعلم وأحكم .

( مسألة ): إذا ثبت ذلك فهذه الأقوات بعضها أرفع من بعض فعلى أهل كل بلد أن يخرجوا من غالب قوتهم وأكثر ما يستعمل في جهتهم ، فإن كان رجل يقتات بغير ما يقتات به أهل بلده فينظر فإن اقتات أفضل من قوتهم فالأفضل له أن يخرج من قوته.
فإن أخرج من قوت بلده أجزأه ؛ لأنه هو الذي يلزمه وما زاد على قوت الناس فإنما هو بمعنى الترفه والتفكه فليس عليه إخراجه وإن كان يقتات دون قوت الناس فلا يخلو أن يكون ذلك من عسر أو بخل فإن كان من عسر لم يلزمه غير قوته ؛ لأنه غير واجد لأكثر منه.

وإخراج الزكاة يتعلق بالوجود لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ، فإن كان يفعل ذلك لبخل لزمه أن يخرج زكاة الفطر من قوت الناس ؛ لأن حق الزكاة يتعلق بذلك فتقصيره هو في نفسه لا يسقط عنه الزكاة.
وقال ابن حبيب: الحنطة والشعير والسلت جنس واحد فمن أكل الحنطة وأخرج الشعير أو السلت أجزأه.
وجه قول مالك: أن هذه زكاة فإن تعلقت بنوع لم يجز أدون منه ، أصل ذلك من وجبت عليه زكاة حنطة لا يجزيه أن يخرج عنها حنطة رديئة.

ووجه قول ابن حبيب: قال القاضي أبو محمد ظاهر الحديث صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو تقتضي التخيير وهذا الذي حكاه القاضي أبو محمد فيه نظر ؛ لأن ابن حبيب لا يجيز التخيير من المذكور في الحديثين وإنما يجيز التخيير بين القمح والشعير وهو مذكور في الحديث وبين القمح والسلت وليس بمذكور في الحديث وأما التمر والأقط والزبيب المذكور ذلك في الحديث مع الشعير فلا نرى فيها التخيير.
قال ابن حبيب: وأما الستة الأصناف الباقية فليخرج من بدله فإن أخرج من عينه لم يجزه.

(694) وحدثني عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا.

( الشرح ) : قوله: كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر؛ لأنه كان قوته وقوت أهل بلده بالمدينة فلذلك كان يرى أن لا يجزيه غير التمر وكان يقتصر على إخراجه ويحتمل أنه كان يخرجه مع التمكن من الشعير ويقوت به ؛ لأنه كان يرى أن التمر أفضل منه وإن كان الشعير يجزيه وقد قال أشهب أحب إلي أن يخرج بالمدينة التمر.
ووجه ذلك أنه أفضل أقواتهم ؛ لأنه لا يكاد يقتات فيها إلا التمر أو الشعير وأما اقتيات القمح فنادر وإنما أخرج ابن عمر الشعير مرة واحدة إذا أعوزه التمر ، وكذالك رواه أيوب عن نافع أنه قال كان عبد الله يعطي التمر فأعوز أهل المدينة التمر عاما فأعطى شعيرا.

قال مالك والكفارات كلها وزكاة الفطر وزكاة العشور كل ذلك بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الظهار فإن الكفارة فيه بمد هشام وهو المد الأعظم.

( الشرح ) : وهذا كما قال إن الكفارات كلها غير كفارة الظهار إنما تخرج بمد النبي صلى الله عليه وسلم إما مد لكل إنسان وإما مدان على حسب ما أثبته الشرع.
وقوله : وزكاة العشور؛ إنما يريد أن اعتبار النصب إنما هو بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذالك زكاة الفطر الاعتبار بما يخرج إنما هو بالمد المذكور ، وأما الظهار فإن الكفارة فيه بمد هشام يريد هشام بن إسماعيل وقد اختلف أصحابنا في مقداره فمنهم من قال مدان إلا ثلثا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال مدان به وإنما قدر مالك كفارة الظهار به لما رأى أنه مقدار يجزي إلا أن الشرع ورد بمد هشام ؛ لأن الشرع قد كان قبل هشام وسيأتي الكلام على هذا الفصل في الظهار إن شاء الله تعالى.

وقت إرسال زكاة الفطر:

حدثني يحيى عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر: كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.

( الشرح ): قوله: كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده، يريد أنه كان يبعث بها إليه لتكون عنده إلى أن يجب خروجها فيخرجها عنه وذلك يقتضي أنه كان نصب لها الإمام أو من كان إليه الأمر رجلا يرسل إليه بها فتجتمع عنده حتى يضعها في وقتها حيث رأى.
قال مالك: وإذا كان الإمام عدلا فإرسالها إليه أحب إلي ؛ وذلك أن أهل الحاجة والفاقة إنما يقصدون الإمام ويطلبون منه لكونه بيت المال بيديه فإذا كان من أهل العدل فدفع هذه الحقوق إليه أولى ليضعها في نوائب المسلمين وما يعتريه من ضروراتهم ومواضع حاجتهم .

( مسألة ): فإن أخرجها من هي عليه دون أن يرسلها أجزأته ؛ لأنها ليست من الأموال الظاهرة التي يبعث إلى الإمام فيها وإنما هي إلى أمانة من يخرجها .

( مسألة ): ولا يرسل الإمام فيها من يطلب الناس بها كما يفعل في زكاة الماشية والثمار والحبوب وإنما ينصب لذلك من يثقه من أهل الدين والفضل فمن شاء أن يرسل إليه فطرته قبضها ومن ولي إخراجها لم يطلب منه شيئا ولا يجوز لمن وليها عن نفسه أن يخرجها قبل وقت وجوبها هذا المشهور من مذهب مالك.
وروي عن ابن القاسم إن أخرجها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه وبه قال أصبغ وهذا مبني على أن الزكاة يجوز إخراجها قبل وقت وجوبها وقد تقدم ذكره .
قال مالك: إنه رأى أهل العلم يستحبون أن يخرجوا زكاة الفطر إذا طلع الفجر من يوم الفطر قبل أن يغدوا إلى المصلى.
قال مالك: وذلك واسع إن شاء الله أن تؤدى قبل الغدو من يوم الفطر وبعده.

( الشرح ) : وهذا -كما قال- إنه يستحب أن يخرج زكاة الفطر بعد طلوع الفجر قبل الغدو إلى المصلى ، والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة.
ووجه ذلك: أن دفعها إلى المساكين في ذلك الوقت سبب إلى انتفاعهم بها ذلك اليوم وفطرهم بها وبذلك يستغنون عن التطوف في ذلك اليوم على الناس في المصلى ومنعا لهم من النظر عليها والانتفاع بها في أول يوم الفطر.

( مسألة ): واختلفت الرواية عن مالك في وقت وجوب زكاة الفطر فروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من آخر أيام رمضان وروى عنه ابن القاسم ومطرف تجب بطلوع الفجر من أول يوم من شوال.
قال القاضي أبو محمد وجماعة من أصحابنا: إنها تجب بطلوع الشمس من يوم الفطر قال أبو بكر بن الجهم وهذا هو الصحيح من مذهب مالك.
قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: هذا الذي ذكره القاضي أبو محمد وجماعة ممن رأيت كلامه على هذه المسألة ولأصحابنا بمسائل تقتضي غير هذه الأقوال كلها.
وجه رواية أشهب قوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان فأضافها إلى الفطر من رمضان وحقيقته أول فطر يقع في زمان شوال وهو بعد غروب الشمس من آخر أيام رمضان فوجب أن يكون ذلك وقت وجوبها.
ووجه رواية ابن القاسم: ما قدمناه قبل هذا أن الفطر من رمضان إنما ينطلق على الفطر الذي يخالفه صوم رمضان وينافيه وذلك فطر أول يوم من شوال وأما الفطر عند غروب الشمس فليس بمناف لصوم رمضان.
ومن جهة المعنى: أنه يستحب إخراج زكاة الفطر بعد طلوع الفجر وقبل الغدو إلى المصلى وهذا يدل على أنه لو كان أول وقت وجوبها عند غروب الشمس لكان ذلك وقت استحباب خروجها .

( فرع ): إذا ثبت ذلك فإن قلنا إن وقت الوجوب طلوع الفجر فمن ولد له مولود أو اشترى مملوكا قبل طلوع الفجر وجب عليه إخراج الزكاة عنه ، وإن مات له ولد أوباع عبده قال أشهب أو أعتقه أو طلق امرأته طلاقا بائنا أو احتلم ولده الذكر أو بني بابنته البكر قبل طلوع الفجر سقطت عنه زكاة الفطر ، وكذالك الأمر فيمن قال إن وقت الوجوب غروب الشمس.

وكذالك يجري حكم من أسلم في المشهور من قول مالك وأصحابه إلا أشهب فإنه قال لو أسلم قبل الفجر من يوم الفطر أو بعد الفجر من آخر يوم من رمضان فلا فطرة عليه ويستحب له ذلك ولو أدرك صيام يوم لزمته قال ابن حبيب هذا شاذ ولو وجبت بالصوم لسقطت عن المولود .

( فصل ): وقول مالك:«وذلك واسع أن يؤدوا قبل الغدو من يوم الفطر أو بعده»، يريد أنه لا يفيت الإخراج والأداء بالغدو إلى المصلى ؛ لأن وقت الأداء واسع وإن كان وقت الوجوب قد انقضى .

من لا تجب عليه زكاة الفطر:

حدثني يحيى عن مالك ليس على الرجل في عبيد عبيده ولا في أجيره ولا في رقيق امرأته زكاة إلا من كان منهم يخدمه ولا بد له منه فتجب عليه وليس عليه زكاة في أحد من رقيقه الكافر ما لم يسلم لتجارة كانوا أو لغير تجارة.

(الشرح ) : وهذا كما قال إنه ليس عليه زكاة في عبيد عبيده ؛ لأن عبيد عبيده ليسوا في ملكه وإنما يكونون في ملكه بعد أن ينتزعهم ، بدليل أنه لو أعتق عبيده لم يعتقوا بعتقهم ولكانوا ملكا لهم إلا أن يستثنيهم ولينتزعهم ولا تجب عليه نفقتهم فلا زكاة عليه فيهم ولا فطرة عليه في أجيره وإن التزم نفقته ؛ لأن نفقة الأجير ليست بلازمة بالشرع وإنما هي إجارة تشترط في العقد كما تشترط الزيادة من الإجارة وجنسها .
وقوله: ولا في رقيق امرأته؛ قد تقدم الكلام فيه.
وقوله: ولا زكاة عليه في رقيقه إذا لم يكونوا مسلمين لتجارة كانوا أو غيرها؛ لأنهم ليسوا من أهل الطهارة على ما تقدم ذكره وليست هذه الزكاة من زكاة الأموال فتجب فيهم عليه إذا كانوا للتجارة ، وإنما هي زكاة على وجه الطهرة لمن أخرجت عنه فسواء كانوا للتجارة أو لغيرها لم يخرج عنهم.

وإنما يختلف حكمهم إذا كانوا للتجارة أو غيرها في زكاة القيمة ، فإنهم إذا لم يكونوا للتجارة زكيت قيمتهم كسائر العروض والحيوان فلا يعتبر هناك إسلام ولا حرية وليست كذلك هذه الزكاة فإنها مختصة بالرقاب ؛ ولذلك لا يخرج عن غير بنى آدم وتخرج عن الأحرار فليست من زكاة الأموال وإنما هي من معنى طهارة بني آدم فمن كان من أهل الطهارة وهم المسلمون لزمته ولزمت عنه ، ومن لم يكن من أهل الطهارة لم تلزم عنه والله أعلم وأحكم.

كتاب المنتقى شرح موطأ مالك للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي (ت474هـ)، راجعه وخرجه: محمد محمد تامر، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة. الجز3/ الصفحات(269-287).

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق